معاينة usaid

كم إنسان سيموت بسبب وقف تمويل USAID؟

لطالما أدّت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) وظيفتها كسلاح من أسلحة الهيمنة والتدخّل، إلا أن تعليق أكثرية برامجها ومشاريعها في الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل يرتّب مخاطر كبيرة جدّاً، ما لم تتحرك هذه الدول لوضع سياسات وإنشاء مؤسسات تعوّض نقص التمويل وتؤمّن وصول جميع المحتاجين إلى الرعاية الصحية الأولية وخدمات الطبابة والاستشفاء والادوية واللقاحات المنقذة للحياة.

ففي هذا السياق، حذرت دراسة نُشرت في مجلة «ذا لانسيت» من أن  14.05 مليون إنسان في 133 دولة سيواجهون خطر الموت من الآن حتى العام 2030، إذا توقفت برامج معالجة فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز، والملاريا، والسل، والأمراض المدارية المهملة، وأمراض الإسهال، والتهابات الجهاز التنفسي، وصحة الأم والطفل، وسوء التغذية… ووفق هذه الفرضية، سيؤدي قطع التمويل بالكامل مع حلول العام 2026 إلى ارتفاع معدلات الوفيات التي كانت تساهم هذه البرامج في ضبطها.

عمد الباحثون في هذه الدراسة إلى تحليل البرامج والمشاريع الممولة من الوكالة الاميركية منذ العام 2001، وأوضحوا أن الاعتماد المفرط على المساعدات الخارجيّة لتمويل خدمات الصحّة، يأسر البلاد الفقيرة في حلقة مفرغة من التبعيّة ومخاطر جفاف التمويل في أيّ وقت.

infog

تقدير الكلفة البشرية

توصلت الدراسة إلى أن وقف تمويل USAID للبرامج الصحية قد يؤدي إلى 14.05 مليون حالة وفاة زائدة فوق حالات الوفاة المتوقّعة بين عامي 2025 و2030 فيما لو بقي تمويل هذه الوكالة قائماً كما كان. وقد تبلغ الخسائر السنوية ذروتها عند نحو 2.5 مليون حالة وفاة سنوياً اعتباراً من العام 2026. ويُتوقع أن يكون نحو ثلث هذه الوفيات (4.54 مليون) من الأطفال دون سن الخامسة، وهي الفئة التي شهدت أكبر تحسن في معدلات البقاء على قيد الحياة في خلال سنوات التمويل القوي.

ويُتوقع أن تتضرر النساء في سن الإنجاب بشكل غير متناسب بالمقارنة مع الرجال، نتيجة توقف برامج الصحة الإنجابية والوقاية من فيروس نقص المناعة المكتسبة التي كانت قد حققت مكاسب كبيرة للنساء سابقاً. 

أما جغرافياً، سيتركز العبء في حزام الدول ذات الدخل المنخفض والدخل المتوسط الأدنى في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى وفي جنوب آسيا، وهي المناطق نفسها التي حصلت على معظم مخصصات USAID الصحية في خلال العقدين الماضيين، حيث الإنفاق العام على الصحة أدنى بكثير من المعدل العالمي.

يمكن الاستنتاج من هذه الدراسة أن نقص التمويل هو مسبب مباشر للوفيات في البلاد الفقيرة. كما تُعد هذه الحالات أمثلة كلاسيكية على فشل منطق السوق في إدارة القطاع الصحّي: فالعلاجات موجودة، لكن استثمار الشركات في الأبحاث لخفض أسعار الدواء أو لابتكار أدوية جديدة في حالة الأمراض المدارية النادرة، تبقى متدنيّة. كما تنخفض القدرة الشرائية المحليّة من قبل الدول والأسر. وما أن تتوقف عمليات شراء المانحين للأدوية المضادة للفيروسات، أو الشباك المعالجة بالمبيدات، أو علاجات الأمراض المدارية، حتى تعجز الميزانيات الوطنية عن سد الفجوة، ويعود سعر العلاج مجدداً ليصبح حاجزاً فاصلاً بين الحياة والموت لملايين الناس.

كيف تصبح التبعيّة قاتلة

لنتخيّل أموال المساعدات مثل ماء يتدفق عبر نظام ريّ بالتنقيط: حين يكون التدفق ثابتاً تزدهر النباتات، وحين يتباطأ تذبل وتموت. هذا بالضبط ما لاحظه باحثو الصحة العامة وهم يرسمون بيانات العقدين المنصرمين: في الدول التي تلقت أكبر «جرعة تنقيط» من دولارات USAID الصحية، أي أكثر من 12 دولاراً للفرد سنوياً، انخفضت معدلات الوفيات الإجمالية بمعدلات أكبر بكثير من الدول التي تلقت تدفقات أقل. 

أكثر الفئات المعرّضة للخطر هنّ النساء في سن الإنجاب والأطفال الصغار جداً. ذلك لأن دولارات USAID كانت تموّل ركائز البقاء الأساسية: العلاج المضاد للفيروسات، والشباك المعالجة بالمبيدات، ولقاحات الأطفال، والعاملين الصحيين المجتمعيين الذين يؤمنون الولادات الآمنة ويعالجون الحمى قبل أن تصبح قاتلة… لقد عملت المساعدات هنا كستارة لفشل السوق التجارية وعجز الميزانيات المحلية. لكن هذه الآلية نفسها، التي وفرت مكاسب سريعة حبست الأنظمة الصحية في توازن هش. فعندما تكون الأموال الخارجية هي التي تشتري معظم الأدوية، وتدفع رواتب العاملين الصحيين، وتحافظ على برادات اللقاحات، يقل الضغط على الحكومات المحلية لرفع موازناتها الصحية، كما لا ترى شركات الأدوية جدوى في خفض الأسعار لأسواق تعتمد أصلاً على أموال المانحين. ومع الوقت لا تُفتح مصانع محلية، وتظل سلاسل الإمداد بيد المانحين. وعندما تتوقف المضخة الأجنبية ينقطع الماء، لكن النباتات ما زالت بحاجة إليه. فتغلق العيادات التي كانت تعتمد على ممرضات ذات الرواتب الممولة من الخارج، وتجف مخازن الأدوية، وسرعان ما ينعكس النجاح الذي تحقق بالأمس في تقليص وفيات فيروس نقص المناعة والملاريا ووفيات الأطفال والحوامل. هذه هي الدائرة الجهنمية للاعتماد على مساعدات غير مستقرّة: الأماكن التي استفادت أكثر هي أيضاً الأقل استعداداً للصمود عندما يتوقف التمويل الخارجي.