Preview أقلّية «نسوية وتقاطعية» وأكثرية «رعائية»

خريطة الجمعيات النسائية
أقلّية «نسوية وتقاطعية» وأكثرية «رعائية»

58% من الجمعيات المُصنّفة «نسائية» في لبنان هي عبارة عن منظّمات غير حكومية ومجموعات دينية وقانونية وجمعيات تعمل في مجال تقديم الخدمات والأعمال الخيرية وتوفير الرعاية لذوي الإعاقة ودعم الشباب والمجتمعات المهمّشة، وما يربطها بالنساء هو أنها تقاد منهن فحسب من دون أن تكون معنية بالتعامل مع القضايا النسوية. ومن ضمن النسبة المتبقية (42%)، إذا أخذنا الجمعيات التي تزعم مناهضتها للنظام الأبوي والمنخرطة في مسار من التغيير الاجتماعي يضع قضايا النساء ضمن أولوياته بعيداً من المقاربات التي تعمل ضمن حدود يرسمها النظام، تنخفض نسبة الجمعيات «النسائية» من 42% إلى 16% فقط، أي أن 10 جمعيات فقط عدّت نسوية أو تقاطعية من بين الجمعيات المصنّفة «نسائية». 

أنواع المنظّمات الحقوقية النسائية والمنظمات التي تقودها نساء

هذا ما تعرضه البيانات التي جمعها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي (UNDP) في إطار عمله على إعداد خريطة للجمعيات النسائية في لبنان. وبحسب المنهجية المعتمدة في إعداد التقرير، فقد تمّ تصنيف الجمعيات والمنظّمات النسائية وفقاً لثلاثة معايير أساسية وهي أن تشكّل النساء ما لا يقل عن 50% من أعضاء مجلس إدارتها، وأن يتركّز عملها على دعم النساء سواء كانت هذه المهمّة مركزية أو هدفاً فرعياً، أو أن تعمل في مجال تقديم خدمات تستجيب للاحتياجات الإنسانية. ووفق هذا التصنيف الإشكالي جرى تحديد 64 جمعية ومنظّمة في لبنان تعنى بحقوق النساء أو تقودها نساء، وأجريت معها مقابلات لتجميع البيانات الوصفية اللازمة لرسم صورة عن أعمالها وحجمها ومهامها والأدوار التي تؤدّيها في المجتمع.

قيادات المنظمات النسائية

لوثة النيوليبرالية

حلّ مفهوم «التمكين» محل «العدالة» و«الحقوق»، وبات قياس واقع النساء محصوراً بوجودهن في مراكز قيادية وإدارية بمعزل عن مشاركتهن الفعلية في صنع القرار أو التأثير فيه، ولم يعد المشروع السياسي الذي تحمله الجمعيات وتناضل من أجله هو الأساس إنما نسبة تمثيل النساء فيها.

ومن المعروف أن منظّمات المجتمع المدني أو المنظمات غير الحكومية ليست ظاهرة جديدة، ولكن ما اختلف بين الجمعيات التي ظهرت في الفترة ما قبل النيوليبرالية، بين أربعينيات وسبعينيات القرن العشرين، وتلك التي نشأت في فترة ما بعدها هو تعريف هذه المنظمات، ففي حين كانت تُعدّ مجالاً سياسياً يعبّر عن مصالح الجماعة وفق مشروع سياسي، تحوّلت إلى وسيط يعمل على تقويض الدولة الاجتماعية وتشجيع عدم التحزّب. وبالفعل منذ تسعينيات القرن الماضي، حدث تطوّر في انتشار جمعيات ومنظّمات المجتمع المدني، التي حلّت في آنٍ مكان الأحزاب السياسية إنما من دون امتلاك مشروع سياسي للتغيير الاجتماعي، وأيضاً محل الدولة الاجتماعية وأخذت منها جزءاً من مسؤوليتها التقليدية عبر العمل على تأمين مصالح مجموعات وأفراد بدلاً من مصالح الجماعة ككلّ. وكما يسير هذا النمط في معظم لبلدان العالم، يسير أيضاً على لبنان.

حجم المنظمات النسائية وميزانياتها

تكريس النهج التكنوقراطي والأدوار النمطية للنساء 

لا تقتصر إشكالية التصنيف هنا فحسب، إذ تشير بيانات برنامج الأمم المتحدة الإنمائي إلى أن غالبية أعمال هذه الجمعيات هي عبارة عن نشاطات تدريبية لبناء القدرات والأهلية المعرفية، وهو ما ينسجم مع المنطق التكنوقراطي في التنظيم وممارسة السياسة وصناعة القرار التي تقوم على بناء وهم المعرفة غير المسيّسة أو المعرفة المعزولة عن السياسة. 

أيضاً تنخرط هذه الجمعيات في تقديم الخدمات والمساعدات وتنظيم الأعمال الخيرية، وهو إن دل فعلى تكريس دور الرعاية المولج إلى النساء في إطار التقسيم الاجتماعي للأدوار بين الجنسين، وبالتالي إدامة الأدوار النمطية للنساء التي يفرضها النظام الأبوي من جهة، وتولي مسؤوليات يفترض بالدولة أن تؤدّيها ويساهم تجييرها إلى الجمعيات المدنية في تقليص حجم الدولة وتدخلها في تأمين مصالح المجتمع وحاجاته. وهذا ما يبرز بوضوح من خلال القضايا التي تهتم بها هذه الجمعيات، فالنسبة الأقل من اهتمامات الجمعيات المصنفة نسائية تتناول قضايا النساء ومناهضة العنف الممارس ضدّهن وتعزيز المساواة بين الجنسين، في حين يتركز الاهتمام الأكبر على قضايا مكافحة المخدرات ومساعدة الشباب ورعاية الأطفال وحمايتهم ومحو الأميّة ورعاية ذوي الإعاقة والاستقرار الاجتماعي والصحة النفسية والبيئة والتعليم وتأمين الأمن الغذائي.

التوزع المناطقي للمنظّمات النسائية

الامتيازات للقلّة 

يتبيّن أيضاً من البيانات التي جمعها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي أن 78% من الجمعيات المرصودة هي متوسطة الحجم وصغيرة، بمعنى أن عدد العاملين والمتطوّعين فيها لا يتجاوز 25 شخصاً وميزانيتها السنوية لا تزيد عن 500 ألف دولار. في حين أن النسبة الباقية هي إما كبيرة (8 جمعيات) ميزانيتها تتراوح بين 500 ألف دولار ومليون دولار سنوياً ويعمل فيها ما بين 25 و50 شخصاً، أو كبيرة جداً (6 جمعيات) أي أن ميزانيتها تتجاوز المليون دولار والعاملين فيها يزيدون عن 50 شخصاً. مع العلم أن 11 جمعية من أصل الجمعيات الـ14 الكبرى هي لبنانية في مقابل 3 جمعيات فلسطينية. 

أنواع المنظّمات الحقوقية النسائية والمنظمات التي تقودها نساء

وفي حين أن الوصول إلى الموارد البشرية والمالية يعد من المؤشرات الأساسية للقدرة على التأثير والإنتاج، يبقى هذا العامل مرتبطاً بالقدرة على الاستفادة من النظام القائم. فمن المعروف أن القيود المفروضة على تسجيل الجمعيات في لبنان كثيرة، وغالباً لا تسهل عملية التسجيل إلا بالنسبة للجمعيات المرتبطة بالنظام، أو بمعنى أقل حدّة بالجمعيات التي تؤدّي أدواراً تخدمه ولا تتحدّاه. وبالفعل أفادت ربع الجميعات التي جرت مقابلتها أنها في طور التقدّم بطلب التسجيل أو أنها مهتمة بذلك ولكنها لا تملك القدرة على تلبية المتطلبات اللازمة لذلك، ما يجعل القسم الأكبر منها يعمل بشكل غير رسمي وبعجز عن الوصول إلى موارد أكبر.