Preview us iraq oil

لماذا لا تزال الولايات المتحدة تتحكّم بإيرادات النفط العراقي؟

أوقف البنك المركزي العراقي في تموز/يوليو الماضي، جميع التعاملات الخارجية باليوان الصيني تحت ضغط مكثّف من الاحتياطي الفيدرالي الأميركي. جاء هذا الإيقاف بعد فترة قصيرة سمحت فيها بغداد للتجّار بالتعامل باليوان، في مبادرة تهدف إلى تخفيف القيود الأميركية الصارمة على وصول العراق إلى الدولار الأميركي.

على الرغم من أن التجارة المعتمدة على اليوان استثنت صادرات العراق النفطية التي بقيت بالدولار الأميركي، الا ان واشنطن اعتبرتها تهديداً لهيمنتها المالية على الدولة العراقية. ولكن كيف تمكّنت الولايات المتحدة من فرض سيطرة كاملة على سياسات العراق الماليّة؟

يعود الجواب إلى العام 2003 من خلال الآليات التي أسِّست بعد الغزو الأميركي غير الشرعي للعراق.

دافعت وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك مادلين أولبرايت بوقاحة عن العقوبات في مقابلة معها في العام 1996، مؤكدة أن الوفيات كانت «تستحق الثمن»

إرث «عملية حرية العراق»

منذ توقيع الأمر التنفيذي 13303 (EO13303) من الرئيس جورج دبليو بوش في 22 أيار/مايو 2003، حُوّلت جميع عائدات مبيعات النفط العراقي مباشرة إلى حساب في بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك.

إن الأمر التنفيذي رقم 13303 الذي يحمل اسم «حماية صندوق تنمية العراق والممتلكات الأخرى التي للعراق مصلحة فيها» يُجدّد سنوياً من كلّ رئيس أميركي، ومن ضمنهم جو بايدن في العام 2024. يمنح هذا الأمر التنفيذي السيطرة على عائدات النفط العراقي إلى الرئيس الأميركي، ويحدّ بالتالي من قدرة بغداد على التحكّم بمواردها وإيراداتها.

تعود جذور التبعيّة المالية للعراق تجاه الولايات المتحدة إلى تسعينيّات القرن الماضي. بعد غزو العراق للكويت في العام 1990، فرض قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتّحدة رقم 661 عقوبات اقتصادية صارمة لعزل العراق عن التجارة الدولية. وشلّت هذه العقوبات الاقتصاد العراقي على أثر تفاقم تأثيراتها بعد أن رفض الرئيس السابق صدام حسين الامتثال لمطالب الانسحاب.

السيطرة على مالية العراق

مدّد قرار مجلس الأمن رقم 687، الصادر في العام 1991 بعد حرب الخليج، هذه العقوبات واستحدث برنامج «النفط مقابل الغذاء» المثير للجدل. وعلى الرغم من أن البرنامج سمح للعراق بيع النفط مقابل سلع إنسانية مثل الغذاء والدواء، أدّت العقوبات إلى معاناة إنسانية هائلة، إذ توفي في خلال هذه الفترة أكثر من مليون عراقي، نصفهم من الأطفال. دافعت وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك مادلين أولبرايت بوقاحة عن العقوبات في مقابلة معها في العام 1996، مؤكدة أن الوفيات كانت «تستحق الثمن». 

أصبح الاحتلال الأميركي للبلاد واقعاً بعد غزو العراق وانهيار حكومة صدام. وفي ظل الوضع الراهن، قبل مجلس الأمن الدولي بالموازين الجديدة.

تصبح قوات الاحتلال وفقاً للقانون الدولي الإنساني - وفي هذه الحالة، الولايات المتّحدة وبريطانيا – مسؤولة عن رفاهية السكان الذين تحتلهم. لذلك صدر قرار مجلس الأمن رقم 1483 في 22 أيار/مايو 2003 لإنشاء السلطة المؤقتة التي يقودها التحالف كإدارة للعراق، وإنشاء صندوق تنمية العراق لإدارة عائدات النفط العراقية.

يتعيّن على وزارة المالية العراقية تقديم طلبات للحصول على الأموال إلى وزارة الخزانة الأميركية، التي تقوم بعد ذلك بالموافقة على هذه الطلبات أو رفضها بناءً على معاييرها الخاصة

تجدر الإشارة إلى أن القرار 1483 لم يذكر الاحتياطي الفيدرالي الأميركي كحارس للأموال العراقية، ولم يحدّد موقعاً لمقرّ أو حساب صندوق تنمية العراق. في الواقع، ينص القرار بشكل خاص على أن صندوق تنمية العراق يجب أن «يحتفظ به البنك المركزي العراقي»، ولكن قررت السلطة المؤقتة التي قادها بول بريمر بشكل أحادي احتضان الحساب في بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك.

سمح هذا القرار للحكومة الأميركية بالحفاظ على سيطرة صارمة على عائدات النفط العراقية. ومنذ ذلك الحين حتى اليوم، يتعيّن على وزارة المالية العراقية تقديم طلبات للحصول على الأموال إلى وزارة الخزانة الأميركية، التي تقوم بعد ذلك بالموافقة على هذه الطلبات أو رفضها بناءً على معاييرها الخاصة.

تُحدّد هذه التحويلات الشهرية من الدولارات الأميركية - التي تُنقل فعلياً إلى بغداد على متن طائرات في شحنات من النقود السائلة – قدرة العراق، البالغ عدد سكانه 40 مليون نسمة، على تأمين احتياجاته الأساسية مثل الرواتب والغذاء والدواء.

إبتزاز العراق

تؤخّر واشنطن أو تقلّل التحويلات المالية كلما شعرت بأن العراق لا يتماشى مع الأهداف الإقليمية الأميركية. على سبيل المثال هدّدت إدارة ترامب بتجميد وصول العراق إلى عائداته النفطية، بعد تصويت البرلمان العراقي على طرد القوات الأميركية عقب اغتيال قائد قوة القدس قاسم سليماني ونائب قائد الحشد الشعبي أبو مهدي المهندس في كانون الثاني/يناير 2020.

لا يزال الوضع المالي للعراق مأساوياً. على الرغم من تراكم عائدات النفط في بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، والتي تقدّر حالياً بحوالي 120 مليار دولار، يعاني العراق من ديون متزايدة تساوي هذا المبلغ.

على الرغم من تراكم عائدات النفط في بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، والتي تقدّر حالياً بحوالي 120 مليار دولار، يعاني العراق من ديون متزايدة تساوي هذا المبلغ

إن عدم قدرة البلاد على التحكم في أموالها الخاصة، منع إعادة الإعمار والتنمية على المدى الطويل، وأجبرها على الاعتماد على القروض الدوليّة. ومن المثير للسخرية أن العراق أصبح أيضاً واحداً من أكبر حاملي سندات الخزانة الأميركية، باستثمارات تصل إلى 41 مليار دولار في العام 2023.

بالإضافة إلى التحديات الاقتصادية، جُرّ العراق إلى الصراع الإقليمي المتصاعد في ظل الحرب المستمرة في غزة وتصاعد العدوان الإسرائيلي ضد لبنان. شاركت قوى المقاومة العراقية في الهجمات العسكرية ضد الأهداف الإسرائيلية تضامناً مع الفصائل الفلسطينية وحزب الله.

مشاركة العراق في هذا الصراع ليست معزولة. استهدفت الفصائل العراقية القواعد العسكرية الأميركية في العراق وسوريا بشكل منتظم، إذ تُعتبر هذه القوات قوى أجنبية غير قانونية تُقوّض سيادة العراق، وهذا ما ساهم في تصعيد أوسع جذب الفاعلين من مختلف أنحاء غرب آسيا.

الاحتلال الاميركي باقِ

أصبح العراق، على الأقل بشكل رسمي، غير محتل عند التوقيع على اتفاق «إطار التعاون الاستراتيجي» مع الولايات المتحدة في العام 2008، الذي يحدّد أن وجود القوات الأميركية مبني على طلب الحكومة العراقية.

باءت محاولات الأمم المتحدة لاستعادة السيطرة العراقية على مالية البلاد بالفشل إلى حد كبير. في العام 2010، طالب قرار مجلس الأمن رقم 1956 بإغلاق صندوق تنمية العراق بحلول 30 حزيران/يونيو 2011 على أبعد تقدير، ونقل جميع العائدات إلى الحكومة العراقية.

قد لا يكون العراق تحت الاحتلال الرسمي في الوقت الحالي، لكن آليات السيطرة المالية التي وُضعت بعد الغزو في العام 2003 لا تزال سارية

على الرغم من هذه التوجيهات القانونية الواضحة، لا يزال حساب صندوق تنمية العراق تحت السيطرة الأميركية في بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك، متجاهلاً قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. والأسوأ من ذلك، فإن الهيمنة المستمرة للولايات المتحدة على الموارد المالية للعراق زادت بشكل عميق الفساد والخلل الذي يعاني منه البلد.

إن إنهاء عمل مجلس المستشارين والمراقبة الدولي التابع للأمم المتحدة لصندوق تنمية العراق كان إحدى الطرق لإخفاء الفساد الهائل وسرقة الموارد من الفاعلين الأميركيين والعراقيين.

يمكن إلقاء اللوم على هذه السياسة في الفساد غير المسبوق الذي انتشر في جميع أنحاء العراق ومؤسساته. أدت المبالغ الضخمة من النقود السائلة التي تُنقل إلى البلاد شهريًا، والمبالغ الفلكية التي لا تخضع للمحاسبة والتي تختفي من مختلف الوزارات، بالإضافة إلى محلات صرف الدولار (البنوك) التي أنشأتها الجماعات السياسية التي ازدهرت إلى جانب قوات الاحتلال الأميركية، إلى تحويل العراق إلى واحد من أكثر البلدان فساداً في العالم.

إن اعتماد العراق على الولايات المتحدة للوصول إلى عائداته النفطية، إلى جانب ديونه المتزايدة، له آثار كبيرة على سيادته، بينما سيكون لمشاركته في الحرب الإقليمية أيضاً تداعيات على علاقاته مع الولايات المتحدة.

قد لا يكون العراق تحت الاحتلال الرسمي في الوقت الحالي، لكن آليات السيطرة المالية التي وُضعت بعد الغزو في العام 2003 لا تزال سارية. ولا تحدّ هذه الآليات من التنمية الاقتصادية للعراق فحسب، بل تجرّه أيضاً إلى صراعات جيوسياسية أوسع.

اليوم، يُمكن اعتبار كل من إدارة جو بايدن الأميركية والحكومة العراقية التي يقودها محمد شياع السوداني – التي لم تتخذ أي خطوات لتحرير الأموال السيادية للعراق – في حالة انتهاك لقرار الأمم المتحدة رقم 1956 الذي صدر في العام 2010.

نُشر هذا المقال في Internationalist 360° في 25 أيلول/سبتمبر 2024 كمصدر مفتوح.