معاينة south destruction

يد خفيّة
ضدّ شومبيتر: تدمير الجنوب غير الخلّاق

على الرغم من أن جوزيف شومبيتر قد صاغ مفهوم «التدمير الخلّاق» باعتباره جوهر ديناميات الرأسمالية، حيث تُفضي الابتكارات إلى تقويض البنى القديمة وفتح مساحات جديدة للتراكم والنمو، إلا أن هذا الوصف يحمل قدر لا بأس به من الاعتذارية والمركزية الأوروبية، فالتدمير في الرأسمالية ليس دائماً خلّاقاً، بل قد يكون في كثير من الأحيان مدمّراً بلا أي قدر من التخليق خصوصاً في أطراف النظام الرأسمالي. ففي حين تستطيع مراكز النظام الرأسمالي تحويل الأزمات إلى فرص لإعادة الهيكلة والابتكار، تعيش اقتصادات الجنوب العالمي التدمير في صورته الخام، من استنزاف للموارد، وتدمير نظامها البيئي وتهميش لقيمة عملها، فضلاً عن الحروب والصراعات الأهلية التي عادة ما تكون تجلّياً للصراع على الموارد، من دون أن يقترن ذلك باللحاق بـ «العاصفة الخلّاقة» التي تحدث عنها شومبيتر. 

تشكّل التحوّلات الخضراء هجيناً بين المنطق الاقتصادي الشومبيتري والكينزي  والنيوليبرالي. فمن خلال نشر التقنيات الخضراء الجديدة، تُجسّد هذه التحوّلات عملية شومبيترية للتدمير الخلّاق. ومن خلال توظيفها للاستثمارات العامة والدعم، وبرامج خلق فرص العمل لمعالجة الركود الاقتصادي، تُمثّل التحوّلات الخضراء أيضاً حافزاً كينزياً نموذجياً. وأخيراً، من خلال الحفاظ على علاقات التجارة الدولية الحالية غير المتكافئة - أو على الأقل تجاهلها - وصمتها إزاء الممارسات الاستخراجية غير الكربونية المدمّرة للبيئة، تُعزز سياسات التحوّل الأخضر التجارة النيوليبرالية وأنظمة الاستخراج في الاقتصاديات الطرفية.

يُمكّن هذا المنطق الثلاثي الدول ذات الدخل المرتفع من التخفيف من حدة الركود الاقتصادي، وأيضاً من إعادة تشكيل قاعدتها الاقتصادية بما يتماشى مع الأهداف البيئية والتكنولوجية المرتبطة بالمناخ، مع الحفاظ على موقعها في الاقتصاد العالمي.

هذا المنطق الثلاثي غير متكافئ مكانياً وإقصائي هيكلياً، ففي حين يعزّز عمليات التحفيز وخلق فرص العمل في إطار «الصفقة الجديدة الخضراء»، ويحشد الموارد العامّة لقيادة الابتكار في التكنولوجيا في الدول ذات الدخل المرتفع، تستبعد الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل من الآليتين. وبدلاً من ذلك، تنحصر في نموذج نيوليبرالي يتمحور حول العمالة الرخيصة، والأنشطة الاستخراجية ذات الدخل المنخفض، والأنشطة الاقتصادية والملوثة، والنمو الذي يقوده تصدير السلع كثيفة الموارد والعمالة.

تُحرم البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل ​​من المشاركة في «العملية العضوية» للتطوّر الرأسمالي، وتصبح مجرّد مسارح لاستقبال السلع الجديدة والابتكارات واستخراج المواد الخام اللازمة لتشغيلها

في الدول المرتفعة الدخل، عادةً ما تُقابل فترات الركود الاقتصادي بإنفاق عام موسّع يهدف - من بين أمور أخرى - إلى تطوير بنى تحتية تكنولوجية جديدة. ومن ناحية أخرى، يُفرض على البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل قسراً التقشّف مالي، وتحرير سوق العمل، وشروط استثمارية تبقي على موقعها الطرفي، وتمارس ضدّها ضغوطاً لخفض قيمة عملاتها للحفاظ على مزايا نسبية في القطاعات الملوّثة منخفضة القيمة المضافة. 

بعبارة أخرى، لا تُمثل أزمة البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل فرصة للتدمير الخلّاق، بل آلية لإطالة أمد التبعية وتكثيف الاستخراج. وهذا يُرسّخ شكلاً من أشكال التبادل غير المتكافئ تكنولوجياً وبيئياً، حيث يُجبر التبادل الاقتصادي غير المتكافئ البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل على تصدير المزيد من مواردها الطبيعية وتدمير المزيد من بيئتها في مقابل تقنيات تُطورها البلدان المرتفعة الدخل.

التدمير الخلّاق والتوزيع الجغرافي غير المتساوي للتحوّل الأخضر

جادل الاقتصادي النمساوي، جوزيف شومبيتر، في كتابه الشهير «الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية»، بأن الرأسمالية لا تُعرّف بالتوازن أو الاستقرار، بل بـ «عاصفة دائمة من التدمير الخلّاق». ووفقاً له، لا يُوسّع الابتكار البنية الصناعية القائمة، بل يُزعزع استقرارها ويحلّ محلها. وجادل بأن «الرأسمالية ليست ثابتة، ولا يُمكن أن تكون كذلك». فالرأسمالية في حاجة دائمة إلى سلع وأساليب إنتاج وأشكال تنظيمية جديدة لا تُنافس القديمة على قدم المساواة، بل تُقوّضها وتُدمّرها، مُفسحةً المجال لجولات جديدة من التراكم والنمو.

تتجلّى هذه العملية بوضوح في التحوّلات الخضراء. فالدعم الحكومي، ونفقات البحث والتطوير، والاستثمار في البنية التحتية، والسياسات العامة تُغذّي صعود صناعات وسلع جديدة (مثل السيارات الكهربائية، ومستلزمات الطاقة المتجددة، وتقنيات العزل الحراري، إلخ) تُبشّر باستبدال نظيراتها كثيفة الكربون وتدميرها.

بمصطلحات شومبيتر، تُحرم البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل ​​من المشاركة في «العملية العضوية» للتطوّر الرأسمالي، وتصبح مجرّد مسارح لاستقبال السلع الجديدة والابتكارات واستخراج المواد الخام اللازمة لتشغيلها. 

في سيناريوهات العالم الحقيقي، لا تنشأ «الأسواق الجديدة» و«أساليب الإنتاج الجديدة» التي وصفها شومبيتر مكانياً داخل هذه الاقتصادات. بدلاً من ذلك، توفّر البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل ​​المواد الخام والعمالة الرخيصة ورأس المال البيئي الذي يتطلّبه التدمير الإبداعي الأخضر، ما يحصر صناعات البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل ​​في قطاعات منخفضة القيمة وكثيفة الموارد، مثل المنسوجات والتصنيع الزراعي، والإسمنت، وإنتاج الأسمدة، وتخضع كلها لضغط لتلبية معايير الاستدامة التي تُحدّد خارجياً وتتطلّب تكنولوجيا من البلدان الأغنى، وتركّز بشكل ضيّق على الانبعاثات فقط.

العامل الكينزي

بينما يصف التدمير الإبداعي الشومبيتري الديناميات التكنولوجية الكامنة وراء التحوّل الصناعي، تقدّم الكينزية الأساس المنطقي الاقتصادي الكلي لتدخل الدولة في أوقات الأزمات. وعلى غرار نظرية شومبيتر، انبثقت النظرية الكينزية من الرأي القائل بأن الأسواق لا تصحّح نفسها بنفسها وتتطلّب تدخلات خارجية، لا سيما في خلال فترات الركود الاقتصادي عندما يكون الإنفاق الحكومي ضرورياً لتعزيز الطلب وحماية الوظائف وتوجيه الاستثمار.

كان صانعو السياسات في دول الشمال العالمي صريحين بشأن الضرورة الكينزية للتمويل الأخضر. على سبيل المثال، قال الرئيس السابق للمجلس الأوروبي، شارل ميشيل، في العام 2021: «نحن بحاجة إلى استخدام تمويلنا العام بذكاء لكسب تأييد القطاع الخاص. التحول الأخضر هو استراتيجيتنا للازدهار».

في أسابيعه الأولى في منصبه، أكد الرئيس الأميركي السابق، جو بايدن، أن خطته للتعافي الاقتصادي تهدف إلى بناء بنية تحتية مناخية حديثة ومرنة «ومستقبل للطاقة النظيفة من شأنه أن يخلق ملايين الوظائف النقابية ذات الأجور الجيدة». وبالمثل، جادل الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل، جوزيف ستيغليتز، بأن «الصفقة الخضراء الجديدة ستحفز الطلب، ما يضمن استخدام جميع الموارد المتاحة؛ ومن المرجح أن يُبشر الانتقال إلى الاقتصاد الأخضر بطفرة جديدة. إن تركيز ترامب على صناعات الماضي، مثل الفحم، يُعيق التوجّه الأكثر عقلانية نحو طاقة الرياح والطاقة الشمسية. وسيتم خلق وظائف أكثر بكثير في مجال الطاقة المتجدّدة ما سيُفقد في الفحم».

ما يُقدّم أحياناً كصفقة خضراء جديدة ليس سوى شكلاً من أشكال «رأسمالية الكوارث» التي تستثمر الأزمات – سواء كانت بيئية أو عسكرية – لإعادة إنتاج علاقات القوة نفسها بدلاً من تفكيكها

الأمثلة على هذه الاتجاهات لا حصر لها، وقد صيغت التحوّلات الخضراء في البلدان المرتفعة الدخل باستمرار بمصطلحات كينيزية، وأبرزها صياغتها كـ «صفقة جديدة خضراء»، مستلهمة في ذلك «الصفقة الجديدة» الأصلية التي ساعدت في إخراج الاقتصاد العالمي من ركود العام 1929 عبر تحفيز الاستثمار في البنية التحتية العامة، وتوسيع دعم المزارعين، وسن الحد الأدنى للأجور.

وبناءً على هذا الإلهام، تبدو هذه الصفقة كفرصة اقتصادية ومشروع ضخم للإنفاق العام لإنعاش الاقتصادات الراكدة وخلق فرص العمل وتوسيع القدرة الإنتاجية المحلية، بدلاً من كونها مجرد إجراء لإقامة اقتصاد غير كربوني. 

في الأشهر الأخيرة، ومع صعود اليمين على جانبيْ الأطلسي، ومع تصاعد التهديد الروسي والصيني وما صاحبه من سباق تسلّح وتمديد ميزانيات الجيوش، بات واضحاً أن الكينزية الخضراء، التي لطالما قُدّمت كرافعة اقتصادية، تخسر مساحتها لصالح كينزية عسكرية. فالدولة التي كانت تستثمر في البنية التحتية الخضراء لخلق وظائف في قطاع الطاقة المتجدّدة، وفي دعم البحث والتطوير في تكنولوجيات مستدامة، أصبحت تعيد توجيه حزمها التحفيزية نحو صناعات السلاح والدفاع، لدرجة مناقشة تأثير الكينزية العسكرية بشكل واضح على النمو وخلق فرص العمل.

هذه المفارقة تكشف أن منطق «التحفيز» الكينزي ليس محايداً، بل يمكن تعبئته إمّا من أجل اقتصاد أخضر يَعِد بتحول بنيوي، أو من أجل اقتصاد عسكري، وهنا يصبح السؤال الجوهري: هل تُعالج أزمة المناخ حقاً باعتبارها تهديداً وجودياً، أم أنها تُستغل كذريعة ظرفية حين تسمح موازين القوى بذلك، قبل أن تُزاح جانباً بالتدريج أمام منطق الحرب والتنافس العسكري؟

في هذا السياق، لا يبدو التحوّل من الكينزية الخضراء نحو الكينزية العسكرية مجرد مسألة ظرفية مرتبطة بالصعود اليميني بل انعكاساً لبنية أعمق في الرأسمالية المعاصرة. كما يشير كوهي سايتو، فإن الرأسمالية قادرة على التكيّف مع الأزمات البيئية من خلال «تسليع» الحلول الخضراء أو تهميشها حينما تتعارض مع أولوياتها التوسّعية. بمعنى آخر، ما يُقدّم أحياناً كصفقة خضراء جديدة ليس سوى شكلاً من أشكال «رأسمالية الكوارث» التي تستثمر الأزمات – سواء كانت بيئية أو عسكرية – لإعادة إنتاج علاقات القوة نفسها بدلاً من تفكيكها.

العامل النيوليبرالي

هذه الرؤية للتحفيز الأخضر إقصائية في جوهرها. فبينما تُوظِّف الدول المرتفعة الدخل الاستثمارات العامة لخلق أسواق وصناعات جديدة، تخضع الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل ​​لمنطق اقتصادي مغاير تماماً يُعطي الأولوية للتقشّف وخفض القيمة والاستخراج بلا هوادة، فضلاً عن النمو المدفوع بتصدير السلع الملوّثة وكثيفة الموارد. وبدلاً من الإنفاق المُعاكس للدورة الاقتصادية (counter-cyclical) على غرار الصفقة الجديدة، تخضع الكثير من الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل ​​لنظام تقشّف خانق، سواء فُرِضَ مباشرةً من خلال المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي أو بشكل غير مباشر من خلال أسواق الائتمان العالمية.

والنتيجة هي شكل من أشكال الكينزية الانتقائية، حيث يتوسّع الاستثمار العام في الشمال العالمي، بينما يُضبط في الجنوب العالمي. ويتجلّى هذا التناقض بشكل خاص في توفير التمويل الأخضر. فبينما تُقدَّم هذه الأدوات كاستراتيجيات لخلق فرص العمل والنمو في الشمال العالمي، فإنها غالباً ما تُقترن بمنطق المشروطية النيوليبرالية والسياسة المالية المُسايرة للدورة الاقتصادية (pro-cyclical)، أو التقشف، في الجنوب العالمي لدرجة المجادلة في بلدان الجنوب أن إلغاء الدعم قد يكون مفيداً للبيئة.

الجوانب البيئية العمياء في الجنوب العالمي

يُجسّد التبنّي الواسع لضرائب الكربون وأسواق الكربون (وأبرزها نظام تداول الانبعاثات في الاتحاد الأوروبي) مركزية الكربون في السياسات البيئية العالمية. تُعامل هذه الأدوات انبعاثات ثاني أكسيد الكربون - التي غالباً ما تمتد إلى «مكافئات ثاني أكسيد الكربون» - على أنها الضرر البيئي الرئيس، وربّما الأوحد، الذي يواجه عالمنا اليوم. غالباً ما يتجاهل هذا النهج قضايا بيئية محلية الطابع مثل ندرة المياه، وتدهور التربة، وإزالة الغابات، وسمية المياه والأرض، خصوصاً في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل. 

على سبيل المثال، يُركّز نظام تداول الانبعاثات في الاتحاد الأوروبي وبرامج الضرائب الوطنية بشكل ضيق على انبعاثات مكافئات ثاني أكسيد الكربون، ويوفّر ضماناتٍ محدودة ضد الأضرار البيئية الأخرى. يكمن خطر هذه المركزية الكربونية في أنها قد تُقلّل من الانبعاثات (حتى هذا الهدف  ما زال بعيداً من التحقق)، لكنها لا تزال تُفاقم ممارسات ضارة خطيرة أخرى، مثل فقداننا حوالي سدس مساحة الغابات على كوكب الأرض في القرن الماضي لإفساح المجال للزراعة المكثّفة لتلبية الطلب على المنتجات الغذائية التي يطلبها الشمال العالمي ولا يزرعها مثل الكاكاو والقهوة والأفوكادو والصويا وزيت النخيل. 

ما يُسمى بالتمويل الأخضر يُركّز أيضاً على الكربون بالقدر نفسه. فقد جاء في بيان صدر في العام 2019 عن اقتصاديين عالميين، من بينهم أمارتيا سين، وأنغوس ديتون، وريتشارد ثالر، وبول فولكر، بشأن ضرائب الكربون: «تُوفر ضريبة الكربون الوسيلة الأكثر فعالية من حيث التكلفة لخفض انبعاثات الكربون بالنطاق والسرعة اللازمين. ومن خلال تصحيح خلل معروف في السوق، ستُرسل ضريبة الكربون إشارة سعرية قوية تُسخّر اليد الخفية للسوق لتوجيه الجهات الاقتصادية الفاعلة نحو مستقبل منخفض الكربون».

وقد أظهر الرئيس السابق للمجلس الأوروبي، شارل ميشيل، درجة مماثلة من تركيزه على الكربون في الاستثمار الأخضر:

«إن اتباع نهج عالمي لتسعير الكربون أمر بالغ الأهمية لتعزيز الاستثمار الأخضر. إذا أردنا أن نكون في سلام مع الطبيعة، فعلينا استبعاد الكربون من نموذج أعمالنا. هذه هي الطريقة الوحيدة لتغيير المسار. إن الحفاظ على تكافؤ الفرص عالمياً أمرٌ أساسي. يجب أن نضع الحوافز المناسبة على المستوى العالمي. لأن تسرّب الكربون عبر اقتصاداتنا ضار. ولهذا السبب نعتزم إدخال آلية لتعديل حدود الكربون. هذا ضروري لضمان تكافؤ الفرص، ويجب أن يتوافق مع قواعد منظّمة التجارة العالمية. نحن مستعدون للعمل مع جميع شركائنا بشأن تسعير الكربون».

حذرت ورقة أجراها باحثون من مركز الأبحاث المشترك التابع للمفوضية الأوروبية من هذه المركزية الكربونية عند تقييم الأثر البيئي للصناعات الأوروبية. وجاء في ورقتهم البحثية الصادرة في العام 2023 عن «التصنيف البيئي للمنشآت الصناعية الأوروبية حسب السمية وإمكانات الاحتباس الحراري» والمنشورة في مجلة Nature: «نجادل بأن البصمة الكربونية للمنظّمات الصناعية لا يمكن استخدامها إلا كمؤشر لمخاطر تغير المناخ، وليس كمؤشر للأداء البيئي العام».

باختصار، يركّز التحوّل الأخضر بشكل كبير على انبعاثات الكربون باعتبارها المقياس الأهم للمسؤولية البيئية. وبينما تبرّر الحاجة المُلِحّة لتغير المناخ إزالة الكربون كأولوية عالمية، فإن التركيز الحصري على خفض الانبعاثات يدفع الأزمات البيئية غير المرتبطة بالانبعاثات في بلدان الجنوب العالمي إلى طي النسيان.  فهو يُخفي التدهور البيئي المحلي الذي يُشكل الحياة اليومية في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل. في معظم بلدان الجنوب العالمي، لا تقتصر التحديات البيئية الأكثر إلحاحاً ووجودية على الغلاف الجوي، بل تشمل التحديات الأرضية، مثل ندرة المياه والتلوث، وتدهور التربة، والتصحر، وإزالة الغابات، وفقدان التنوع البيولوجي، وتلوث الهواء. 

تُظهر النتائج البيئية الأخيرة أن البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل تتحمّل أعباء بيئية محلية هائلة بالمقارنة مع الدول الغنية، وهو ما يتجاهله تركيز السياسات العالمية على انبعاثات الكربون فقط. فلكل مليون يورو من الصادرات، تولّد هذه البلدان، في المتوسط، نحو 42.4 ضعف سمية المياه العذبة، و27.3 ضعف الضرر البيئي من الانبعاثات السامة، و5.6 ضعف الحموضة والتخصيب المفرط، و32.6 ضعف سمية الأراضي، في حين أن الفارق في انبعاثات الغازات الدفيئة محدود نسبياً (2.7 ضعف فقط). وفي حالة أفريقيا، تشير نتائج بحث أقوم به حالياً أن هذه الفجوات تتفاقم بشكل استثنائي، إذ تنتج الصادرات الأفريقية لكل مليون يورو حوالي 690 ضعف سمية المياه العذبة بالمقارنة مع البلدان المرتفعة الدخل، و538 ضعف الضرر البيئي للنظم البيئية، و13 ضعف الحموضة والتخصيب المفرط، و999 ضعف سمية الأراضي بالمقارنة مع صادرات الدول الغنية، مع أن الفارق في انبعاثات الغازات الدفيئة يبلغ 10.5 ضعفاً فقط. وهذا يشير بوضوح إلى أن التركيز على الكربون يخفي الأضرار البيئية الحقيقية التي تتحمّلها البلدان الأقل دخلاً، ويعزّز من التفاوتات البيئية إذ تتحمّل هذه البلدان الجزء الأكبر من الضرر البيئي، بينما تحقق حصة ضئيلة من القيمة الاقتصادية الناتجة عن هذه الصادرات.

بينما تبرّر الحاجة المُلِحّة لتغير المناخ إزالة الكربون كأولوية عالمية، فإن التركيز الحصري على خفض الانبعاثات يدفع الأزمات البيئية غير المرتبطة بالانبعاثات في بلدان الجنوب العالمي إلى طي النسيان

بعبارة أخرى، قد تُفاقم الأنشطة الصناعية التي تُقلل من كثافة الكربون لكلّ وحدة إنتاج الأعباء البيئية المحلية، وهي مفارقة يخفيها منطق الاستدامة المُركّز على الكربون. وهذا يمنح الدول المرتفعة الدخل اليد العليا من الناحية الأخلاقية من خلال الحفاظ على مظهر الريادة في السياسات الخضراء مع الحفاظ على استمرار محرّك النمو من خلال الاستعانة بمصادر خارجية للتكاليف البيئية للدول المنخفضة والمتوسطة الدخل. 

وغالباً ما تكون أهلية التمويل والاعتماد والوصول إلى التجارة مشروطة بمعايير انبعاثات لا تعكس الأولويات البيئية المحلية. ونتيجة لذلك، غالباً ما تُدفع الدول المنخفضة والمتوسطة الدخل ​​إلى أطر انتقالية تُلبي الأهداف البيئية الخارجية، بينما تُقوّض المرونة البيئية المحلية. يُفاقم تسليع الكربون من خلال التعويضات وتداول الانبعاثات هذه المشكلة، إذ يسمح للدول المرتفعة الدخل بـ «تخضير» اقتصاداتها نظرياً، من خلال استخلاص القيمة البيئية من البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل من دون إحداث تحوّل هيكلي. 

لتجنّب تعزيز هذه التفاوتات وتفاقمها، يجب إعادة تصوّر التحولات الخضراء ليس فقط كأداة شومبيترية للابتكار والنمو الاقتصادي في دول الشمال نظراً لسهولة التخلّي عن هذا الهدف من أجل أنماط مختلفة من التدمير الخلّاق والتحفيز بهدف النمو وخلق فرص عمل في الشمال مثلما هو الحال مع الكينزية العسكرية، بل كمنصّة للتحول الهيكلي عبر المناطق الجغرافية. كما يتطلّب ذلك تحدّي أنظمة الملكية الفكرية الحالية، والأنظمة المالية، وأولويات التمويل والمساعدات، وسياسات التجارة التي تحدّ من قدرة البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل على القيام بأشكالها الخاصة من التحوّل الإبداعي المتناغم مع بيئتها المحلية، والذي يكون أكثر قدرة على مواجهة التحديات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية المحلية والوطنية.