
يد خفية
تناقضات الإنتاج والاستهلاك في زمن الفاشية
في بلدة دريسدن الريفية المؤيّدة لترامب في ولاية نيويورك، اعترض السكّان على إنشاء مصنع لتعدين البيتكوين بسبب الضوضاء والضرر البيئي التي تحدثه عملية التعدين. تكشف هذه الواقعة عن تناقض يتخلّل العلاقة بين مصالح القواعد الاجتماعية لليمين الشعبوي المؤيد لترامب ومصالح الرأسمالية التكنولوجية الكبرى. فهؤلاء السكان الذين دعموا دونالد ترامب، انطلاقاً من وعده بتمثيل «الناس العاديين» خصوصاً في الريف واستعادة «عظمة أميركا»، وجدوا أنفسهم فجأة في مواجهة مباشرة مع نتائج هذا التحالف بين اليمين الترامبي وشركات التكنولوجيا - بما فيها شركات تعدين العملات الرقمية - المدعومة ضمنياً بسياسات إلغاء القيود البيئية التي أقدمت عليها إدارة ترامب بشغف كبير. ما يجري في دريسدن ليس استثناءً، بل هو نموذج للكيفية التي تُعاد بها هندسة الريف الأميركي تحت شروط الرأسمالية الرقمية. المفارقة أن هذا يحدث في أماكن غالباً ما كانت تُقدّم بوصفها معاقل للتقاليد المحلية ولرفض «التحكم الفيدرالي»، لكنها تجد نفسها اليوم تحت وطأة شركات تعدين غامضة لا تُنتج سلعة ملموسة ولا تُشغّل يداً عاملة محلية، بل تستهلك الطاقة والموارد وتصدر الضجيج وتشكل تهديداً للصحة العامة.
في هذا السياق، لا يُمكن فصل تصاعد الغضب الشعبي في هذه البلدات عن التناقض البنيوي بين الخطاب الشعبوي الترامبي الذي يتغذّى على تمجيد الطبقة العاملة البيضاء والريف الأميركي من جهة، وتحالفه الضمني مع الرأسمالية التقنية المعولمة من جهة أخرى. فهذه الرأسمالية - كما في حالات شركات تعدين البيتكوين - لا تحتاج إلى قوى عاملة محلية، ولا تعبّأ بأثرها البيئي أو الاجتماعي، إنها رأسمالية شبحية بلا وجوه، تعيد تشكيل المجال الحيوي لهؤلاء السكان من دون أن توفّر لهم شيئاً سوى وعد كاذب بالسيادة المحلية ليجدوا أنفسهم أمام زحف لرأس المال الكبير، الذي لا ينتمي جغرافياً إلى أي مكان، لكنه يعرف كيف يوظّف السرديات السياسية المحلية لخدمة تراكمه المعولم.
وعد التفرد الزائف
تروّج الرأسمالية المعولمة عادة للتفرّد كواحدة من أهم وعودها وخصائصها. وترى الكثير من الرؤى اليسارية أن رأسمالية المرحلة المتأخرة وسّعت من نطاق الاختيار بشكل غير مسبوق، حتى ولو انتقدت طبيعة هذا التوسّع كونه يعتمد على اختيارات متمحورة حول الذات وتخضع لمنطق السوق والربح بغض النظر عن رفاه المجموع.
لكن عندما ندرك طبيعة الإنتاج الكبير والتقسيم الدولي للعمل وضرورة العمل وفقاً لاقتصاديات الحجم، يصبح حتى وعد التفرّد والاختيار في مرحلة الرأسمالية المتأخرة موضع شك. وكما جادل الباحث قطز تاج الدين في حلقة «وعد المقاطعة» من بودكاست يد خفية، تفشل العولمة الرأسمالية في الوفاء بوعدها بالتنوّع والتفرّد والتعبير عن النفس من خلال الاستهلاك، في مقابل التماثل المزعوم التي قدّمته الأنظمة الاشتراكية وفقاً لروايتها.
عندما تقرّر الرأسمالية أن تخون مبادئ الليبرالية المثالية - غير القابلة للتحقيق في أغلب السياقات - قد تفضل الرأسمالية الثورة الفاشية على الثورة الاشتراكية
في الواقع تفرض الرأسمالية المعولمة التنميط بشكل أكفأ وعلى صعيد أوسع عالمياً من خلال أنماط الإنتاج الاحتكاري والاستهلاك الرأسمالي، إذ يزيد عبر العالم تشابه أنماط الاستهلاك والحياة، فنجد مثلاً الهواتف المحمولة وقد أصبحت غالبيتهم غير قابلة للتمييز، وكذلك أنماط الأزياء والمنتجات الغذائية والأجهزة الكهربائية وحتى تصميمات المنازل والأثاث وتخطيط المدن وأحياء التسوّق وأشكال التواصل الاجتماعي، إلخ… الحقيقة أن التفرد - لمن يعتبره غاية - أصبح في مواجهة مباشرة مع أنماط الاستهلاك الموحّدة التي يفرضها رأس المال الكبير العالم وما ترتبط به من اقتصاديات الحجم الكبير.
وعد الفاشية الصغير وتحالفها الكبير
جادل بول سويزي في بداية أربعينيات القرن العشرين مع صعود النسخة الأصلية من الفاشية، أن التناقض الرئيس في الفاشية يكمن باعتمادها على صغار البرجوازيين كقاعدة اجتماعية رئيسة، لكنها لا تنفك أن تضطر للتعاون مع الرأسمالية الكبيرة عندما تدرك أن برنامجها غير قادر على حل مشكلات البرجوازية الصغيرة بعيداً من تأليب الرأي العام ضد الأجانب. هنا تقبل - وفقاً لسويزي - الرأسمالية الكبرى هذا التحالف على مضض من أجل السيطرة على التهديد الوجودي الحقيقي وهو حدوث ثورة اشتراكية، فعندما تقرّر الرأسمالية أن تخون مبادئ الليبرالية المثالية - غير القابلة للتحقيق في أغلب السياقات - قد تفضل الرأسمالية الثورة الفاشية على الثورة الاشتراكية.
يشبه هذا الوضع الحالي إلى حدّ كبير وصول حالة الحنق لدى الطبقات العاملة والبرجوازية الصغيرة حدود مرتفعة، وإعلان بعض جيوب الرأسمالية الكبرى بوضوح التخلّي عن مبادئها الليبرالية السابقة من خلال جنوحها نحو اليمين المتطرّف. بعبارة أخرى، تدعي جماعات اليمين المتطرّف تمثيل السكّان البيض من العمّال والبرجوازية الصغيرة، لكنها تتحالف تحالف ضروري مع الرأسمالية الكبرى بسبب إدراكها عدم قدرتها على حل مشكلات قاعدتها الاجتماعية الرئيسة عبر خطاب قشري يتمحور حول معاداة الأجانب ومناهضة مؤسسات الليبرالية. وفي الوقت نفسه، تتحالف بعض جيوب الرأسمالية الكبرى مع اليمين المتطرّف لتفادي سيناريو أسوأ بالنسبة إلى مصالحها وهو الصعود الاشتراكي.
لكن يكشف هذا التحالف عن تناقض أصيل بين مصالح الفئات العاملة والبرجوازية الصغيرة من جانب والرأسمالية الكبرى المعولمة من جانب آخر. ويعود هذا التناقض إلى الاعتماد المتزايد للأخيرة على الإنتاج الموسّع الكبير وشبكات الإمداد والتوزيع العملاقة لاحتكار السوق والاستفادة من اقتصاديات الحجم الكبير والتكنولوجيا الموفرة للعمل لخفض تكلفة إنتاج الوحدة وزيادة هوامش الربح ومن ثم معدّلات التراكم، ما يؤدي إلى القضاء على المنافسين، وخصوصاً الأصغر، والتخلّص كلما أمكن من العمّال، هذا بالإضافة إلى اعتمادها أيضاً - في ظل أزمة الربحية الممتدة - على انتزاع القيمة بوساطة الافتئات على حصة الأجور من الدخل القومي والتوسّع في تقديم الائتمان للطبقات الاستهلاكية، فضلاً عن اقتياتها المتزايد على الدخول الحكومية والمال العام. يجادل أيضاً أستاذ الجغرافيا والاقتصاد ديفيد هارفي أن كتلة الربح بالنسبة إلى رأس المال أهم من معدله، فحتى لو انخفض المعدل، يضمن التوسّع الكبير والاحتكار المتزايد أن الكتلة مازالت تنمو، وسيأتي هذا التوسّع بالضرورة على حساب الأعمال الأصغر.
يبرز تناقض آخر خاص فيما يخص استهلاك التكنولوجيا، خصوصاً وأن غالبية الرأسمالية الجانحة للفاشية هي رأسمالية تكنولوجية. وعلى الرغم من أن اليمين المتطرّف يدّعي تمثيل الطبقات العاملة والبرجوازية الصغيرة البيضاء، إلا أن تحالف الضرورة مع الشركات التكنولوجية الكبرى سيُلزمها بتسهيل استخراج وتعدين البيانات على حساب خصوصية الطبقات الاستهلاكية، حيث تنمو شركات التكنولوجيا وتتعملق من خلال مراقبة سلوكنا وانتزاع بياناتنا والاستيلاء على إنتاجنا الإبداعي والذهني، ولا شك أن الفاشية الجديدة ستفتح المجال على مصراعيه لاستخراج البيانات وتعدين العملات الرقمية ومراقبتنا لأغراض التراكم والسيطرة، فوفقاً للعبارة الشهيرة «البيانات هي النفط الجديد»، تصبح سلوكيات وهويات والإنتاج الذهني للطبقة الاستهلاكية - هي نفسها الطبقات العاملة والمتوسطة والبرجوازية الصغيرة - هي المورد الذي يتم استخراجه والتجارة فيه. ومثلما كان بارونات النفط مثل روكيفيلر وعائلة نوبل وديفيد كوش هم أغنى رجال العالم في خلال القرن العشرين، أصبح بارونات البيانات أغنى أفراد العالم في القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، ظهر مثال حي على تأثير هذا التحالف بين السلطوية السياسية وشركات التكنولوجيا الكبرى على إدارة البيانات، تمثلت في خطوة دونالد ترامب لإقالة 3 من أعضاء مجلس الرقابة على الحريات المدنية والخصوصية في الولايات المتحدة، وهي الجهة التي تنسّق نقل البيانات بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتّحدة. وصف الخبراء تلك الخطوة بأنها أول «ثغرة سياسية كبرى» في أساسات حماية الخصوصية عبر الأطلسي، وبتفريغ مجلس الرقابة من أعضائه، يُفتح الباب أمام توسيع رقعة المراقبة واستخدام البيانات الشخصية من دون مساءلة. وكما أشار السيناتور الأميركي رون وايدن، تمثل هذه الخطوة «شللاً فعلياً» لأحد آخر الأجهزة المستقلة القادرة على فضح إساءة استخدام المراقبة من قبل إدارة ترامب. لقد هاجم إيلون ماسك ومارك زوكربيرغ علناً في السابق التشريعات الأوروبية مثل قانون الخدمات الرقمية، في تعبير واضح عن رفضهما للقيود التنظيمية التي تهدف للحد من تغوّل شركات التكنولوجيا على الخصوصية والسوق، لدرجة تهديدهم بالانسحاب من أوروبا، ويعد ذلك واحد من أهم أسباب تأييدهم لإدارة ترامب.
تجلّى هذا التحالف بين السلطوية الترامبية ورأسمالية البيانات بصورة أوضح هذا الشهر حين استضاف ترامب في البيت الأبيض أكثر من 30 من كبار قادة وادي السيليكون، بينهم سام ألتمان ومارك زوكربيرغ وتيم كوك وبيل غيتس، في لقاء احتوى على قدر كبير من تقديم قادة التكنولوجيا لفروض الولاء والطاعة لترامب، ووصلات من المديح لشخصه. بالإضافة إلى ذلك، أعلن الحضور التزامهم باستثمارات بمليارات الدولارات داخل الولايات المتّحدة، في مؤشر على إعادة اصطفاف إستراتيجي بين شركات التكنولوجيا الكبرى وإدارة ترامب، وعلى الرغم من ما كان يُسوَّق عن وجود صراع بين ترامب والنخب التكنولوجية، يكشف الواقع الجديد عن شراكة متينة بين الترامبية ورأسمالية التكنولوجيا.
مقاومة المستهلكين للصنمية والاغتراب
الطبقات الاستهلاكية - على عكس الشائع - هي الطبقات الأقل دخلاً، لأن كل ما زاد الدخل كل ما ذهب جزء أكبر منه إلى الاستثمار والادخار في مقابل الاستهلاك. تعاني تلك الطبقات من تجمد وانخفاض الأجور الحقيقية منذ عقود، وهو ما تم التحايل عليه بالائتمان، كما هو مذكور أعلاه. في الأغلب ستزداد حدة أزمة الأجور في عصر الترامبية جراء الهجمة على الوظائف العامة والاستيلاء على المال العام وسياسات التقشف الحادة لكل ما هو له صبغة اجتماعية. أما القطاع الآخر من المستهلكين وهم فئات الدخل المتوسط صاحبة النزعة التقدمية، فيزداد في أوساطها رفض لأنماط الاستهلاك الكبير بسبب وعي بيئي أو سياسي أو بسبب الضرورة الاقتصادية، ما يؤدّي لتعميق تناقضات رأسمالية اليمين المتطرف.
غالبية الرأسمالية الجانحة للفاشية هي رأسمالية تكنولوجية، على الرغم من أن اليمين المتطرّف يدّعي تمثيل الطبقات العاملة والبرجوازية الصغيرة البيضاء
في تحليله لصنمية السلعة، جادل ماركس مجادلته الشهيرة بأن السلعة الرأسمالية تخفي ما تحمله من علاقات اجتماعية بين البشر، وعلى رأسها علاقات العمل، وتظهر علاقات الإنتاج على أنها علاقات بين السلع، مثل العلاقات بين المال، وبين العمل كسلعة، وبين السلع الأخرى كافة. يصل هذا الإخفاء لأوجه في الرأسمالية في مرحلتها المتأخرة، حيث تزداد المسافة بين العمل والمستهلك اتساعاً، بل بين مختلف العاملين القائمين على إنتاج السلعة نفسها. كل ما يزيد هذا التباعد، كل ما يزداد شوق الناس إلى المنتجات الحرفية ومنتجات الإنتاج الصغير التي تتغلّب جزئياً على التنميط واغتراب العاملة والمستهلك عن السلعة.
يشعرنا النمط الكبير من الإنتاج أيضاً بالاغتراب عن محيطنا الحيوي وليس الاجتماعي فقط، حيث تخفي صنمية السلعة أيضاً العمليات الحيوية والأثمان البيئية التي دفعت لإنتاج السلع. يتم مقاومة هذا النمط من خلال انتشار الاستهلاك البيئي والأخلاقي في محاولة - قد تكون شبه يائسة - للحفاظ على التماسك الإيكولوجي في ظل توحش الاستخراج والإنتاج في الطور الحالي من الرأسمالية، وما ينتج عنه من انهيار بيئي سريع من تصحّر وإزالة غابات وتلوث الأنهار والبحار والهواء والتربة، وحتى التلوث السمعي كما في حالة تعدين عملات الكريبتو. يشمل هذا استخدام السلع المحلية ومقاومة الأزياء السريعة ومقاومة التقادم المخطط (planned obsolescence) للمنتجات التكنولوجية، فنجد مثلاً أن الملابس المستعملة في طريقها لأن تحتل 10% من حجم تجارة الملابس في العالم، ونما سوق الملابس المستعملة في الولايات المتحدة 7 مرات أسرع من سوق الملابس ككل والذي يشهد حالة من عدم النمو. يتيح شراء التكنولوجيا المستعملة أو المجدّدة أيضاً الوصول إلى أجهزة ذات جودة أعلى بالميزانية نفسها. وصل الأمر إلى أن ربع الهواتف المباعة في بعض الاقتصادات الكبرى مستعملة أو مجددة، ويذكر مشتروهم السعر والبيئة كدافعين رئيسيين لهذا الاختيار. ومن المتوقع أن يصل سوق المنتجات المستعملة العالمي إلى أكثر من تريليون دولار في خلال العقد القادم.
يحب التراكم البليونيري السرعة والكفاءة والإنتاج الكبير والاستخراج بلا هوادة. أما المنتجات المستعملة، فإنها تكسر دائرة الاستخراج والإنتاج الكبير الذي قضى على ثلث غابات العالم في القرن الأخير، فضلاً عن التسبب في انهيار بيئي متسارع تعاني منه بالأساس بلدان الجنوب، وإنتاج كميات لا يمكن تخيلها من الفضلات ينتهي بها المطاف في تلويث وتسميم أنهارنا وبحارنا وأراضينا. في الماضي كانت هذه الممارسة ترتبط بالفقر، والآن أصبح العكس هو الصحيح. ففي بلدان الشمال، أصبح شراء السلع المستعملة أيضاً من سمات التميز الاجتماعي الذي يعكس وعياً بالمخاطر البيئية وبالتالي التعليم العالي، وتحديداً بسبب انهيار أسعار الملابس الجديدة، والتي في بلاد الشمال أصبحت في متناول أيدي حتى أقل الفئات دخلاً، فثمن قطعة ملابس جديدة قد يقترب من ثمن كوب قهوة أو ساندويتش سريع.
ينطبق الكلام نفسه على الغذاء. فبينما كان الغذاء المصنع من أشكال استهلاك الطبقات الأوفر حظاً، انعكست الآية مع انتشار وزيادة توحش القوة الإنتاجية، وأصبح الأكل المصنع من أشكال استهلاك الطبقات الأقل دخلاً لما يحتويه على سعرات مركزة، ورخص سعره بسبب طول فترة صلاحيته. وأصبح الآن شراء الغذاء غير المصنع من مصادره المباشرة والاعتماد على المنتجين الصغار – والذي يشبه الطريقة التي كان يحصل بها سكان الأرياف على غذائهم – من ملامح الاستهلاك النخبوي والتي تنطوي على معرفة بطريقة عمل وصنع تلك المنتجات.
المقصود هو أن الوصم الاجتماعي أُزيل عن هذه الممارسات، بل وقد تحمل قدراً من التمايز الاجتماعي، فلا يخفى على أحد أن شركات الاحتكار والإنتاج الكبير العملاقة مثل شركات المشروبات الغازية والأغذية المصنعة ومطاعم الوجبات السريعة والأزياء السريعة – لا تعتمد على الطبقات الأغنى، بل أن نموذجها الاقتصادي بالتعريف يجب أن يعتمد على القطاع الأعرض من المستهلكين الوحيدين الذين لديهم القدرة على امتصاص كل هذا الإنتاج.
تكمن المشكلة في التكلفة الصحية - فضلاً عن البيئية - لهذه الأنماط من التغذية. إن تبني أنماط استهلاك مقاومة للرأسمالية الكبرى لا يحقق بعداً سياسياً وأخلاقياً فقط، بل ينعكس أيضاً بشكل مباشر على الرفاه الفردي. بالإضافة إلى الحصول على منتجات أجود بسعر أقل، يؤدي تقليل الاعتماد على الأغذية المُصنَّعة إلى تحسين الصحة وتقليل احتمالات الإصابة بأمراض مزمنة مثل السمنة والسكري، وهي أمراض ترتبط ارتباطاً وثيقاً بانتشار الأغذية فائقة التصنيع، خصوصاً في بلدان الجنوب العالمي.
على سبيل المثال، وجد باحثون من كلية لندن للاقتصاد وجامعة نافارا في إسبانيا أن العلاقة بين العولمة والسمنة قوية جداً. ووجدت أيضاً دراسة أخرى علاقة قوية بين انتشار مطاعم «ماكدونالدز» في البرازيل وانتشار السمنة لاسيما وسط الأطفال. وأخيراً أظهرت إحدى الدراسات التي شارك فيها باحثون من المعهد الوطني للسلامة والصحة المهنية في اليابان وجامعات ومعاهد بريطانية باستخدام بيانات من 107 دول أن التعرض للمشروبات الغازية مرتبط بزيادة الوزن والسمنة.
إلى جانب تلك الممارسات الاستهلاكية المقاومة، برزت في السنوات الأخيرة حركة الأوفلاين، التي لا تقتصر على تفضيل منتجات بديلة أو محلية، بل تتجه نحو الانسحاب الجزئي من الرأسمالية الرقمية ذاتها. وتعكس هذه الحركة رفضاً متزايداً للاندماج الكامل في أنماط الحياة التي تفرضها شركات التكنولوجيا الكبرى، حيث يتحوّل وقت الإنسان وانتباهه إلى مادة خام لاستخراج البيانات كما لو كانت مورداً طبيعياً. يقوم أنصار الأوفلاين بتقليل اعتمادهم على الهواتف الذكية، والانسحاب من وسائل التواصل الاجتماعي، والعودة إلى التواصل المباشر وإلى أنشطة لا يمكن قياسها أو تحويلها إلى بيانات يتم «تعدينها».
في الأخير غالباً ما يضمن تفضيل الملابس المستعملة أو المصنوعة يدوياً جودة أعلى وسعراً وأثراً بيئياً أقل. وعلى مستوى الصحة النفسية، يسهم تقليل الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعي وتخطي الإدمان الرقمي في تقليل التشتت والتوتر، وتحسين جودة النوم والمزاج العام وزيادة التركيز. من جهة أخرى، فإن تدمير النظم الإيكولوجية الناتج عن التصنيع الرأسمالي الكبير، والذي يتركز في بلدان الجنوب، يزيد من عبء الانهيار البيئي على الشعوب المهمّشة، ما يجعل أنماط الاستهلاك المقاومة ضرورة بيئية وإنسانية أيضاً.
لا تحتفى أنظمة التراكم بالعمل كفعل إنساني مُبدع، بل كأداة إنتاج منضبطة وفعالة تخضع للتسليع والتنميط بغرض تحقيق تراكمات رأسمالية بلا سقف. وفي هذا السياق، يصبح الإنتاج الصغير عقبة رمزية أمام منطق الإنتاج التراكمي لكونها بطيئة ومتباينة. ولهذا تحديداً، يحضر الإنتاج الصغير كفعل مقاومة حيث يُعاد الاعتبار للعمل كعلاقة اجتماعية، لا كمُدخَل مخفي في الصراع من أجل التراكم. وبالتالي لا تصبح أنماط الاستهلاك تلك مجرد تفضيل جمالي، بل موقعاً لصراع - أحياناً واعي وأحيانا غير واعي - ضد الرأسمالية الكبرى، أي ضد محو الفرد، وضد سلاسل الوساطة اللانهائية التي ترفع الكلفة وتفصل المُنتِج عن المُستهلك، وسلاسل الإمداد التي تفصل العمّال عن بعضهم. باختصار، هي ضد الاقتصادات التي تُراكم الأرباح عبر نفي العمل خلف سلاسل طويلة من الإمداد.
وفي هذا السياق المتصدع، يصعد خطاب يميني يُروّج لنفسه بوصفه صوت «الناس العاديين»، ومدافعاً عن الفئات العاملة والبرجوازية الصغيرة في وجه «النخب المعولمة»، لكن سرعان ما يكشف هذا الخطاب عن تناقضه البنيوي. إذ على الرغم من شعاراته الشعبوية، ينخرط هذا اليمين في تحالف وثيق مع مصالح الرأسمالية الكبرى العالمية، مساهماً في ترسيخ النظام نفسه الذي يدّعي معارضته. لا يواجه هذا اليمين العولمة، بل يعيد إنتاجها من خلال تحويل الغضب الشعبي إلى عداء ضد «الآخر» حفاظاً على الهياكل التي تطمس العمل وتفصلنا عن مجالاتنا الحيوية بهدف تدميرها.