معاينة أثرياء قلقون

أثرياء قَلِقون

  • مراجعة لكتاب ماركوس غونزاليس هيرناندو وجيري ميتشل «أثرياء قَلِقون»، الذي يتناول كيفية تأثّر الـ 10% الأعلى دخلاً باتساع فجوة التفاوت، خصوصاً أن ميلهم نحو الصعود وتقليد أنماط استهلاك وأسلوب حياة من هم في أعلى الهرم، يولّد لديهم شعوراً بالضغط من أجل الارتقاء والعمل في وظائف إضافية من أجل العيش في أحياء مُكلِفة وتأمين مستقبل أفضل.

أصبحت دراسة التفاوتات مجالاً أكاديمياً بالغ الأهمية، مع زيادة البيانات التي تُجمّع عن التفاوتات طويلة الأجل، بما في ذلك في العصور الوسطى. وفي المناقشات الحالية بشأن التفاوت، تَركَّز معظم الاهتمام على أعلى 1% وأولئك الذين لديهم أدنى المداخيل. وقد استفادت المجموعة الأولى (الـ 1%) أكثر من غيرها من النمو العالمي منذ ثمانينيات القرن العشرين، وهو ما أوضحته ورقة بحثية تعود إلى العام 2016 من تأليف لاكنر وميلانوفيتش. وكما أظهر بيكيتي وزملاؤه، عندما يُقسّم أعلى 1% إلى أجزاء أكثر صغراً، تكون الزيادة النسبية في تراكم ثرواتهم أكثر حدّة. يسجّل أغنى 0.001% أعلى ارتفاع، يليهم أغنى 0.01%... وهذه قضية سياسية، لاسيما أن الأثرياء لديهم القدرة على التأثير على السياسة وتقويض الديمقراطية. في «أثرياء قَلِقون»، يوسِّع ماركوس غونزاليس هيرناندو وجيري ميتشل نطاق اختصاصهما لتحليل كيفية تأثّر أعلى 10% من أصحاب المداخيل باتساع فجوة التفاوت، استناداً إلى مقابلات أُجريت في العام 2020 مع 110 من المستجيبين ومعظمهم من بريطانيا.

من هم أعلى 10%؟

وفقاً لمسح لـ«هيئة الإيرادات والجمارك الإنكليزية» للدخل الشخصي، وكما يُشير المؤلِّفان في الصفحة الخامسة، بلغت عتبة أعلى شريحة عُشرية دخلاً نحو 58,300 جنيه إسترليني سنوياً. وتضمّ هذه الشريحة مهندسين ومتخصّصي تكنولوجيا معلومات ومديري موارد بشرية ومُحاسبين... وتعيش غالبية هؤلاء حيث تتركّز الوظائف الأعلى أجراً وتكون تكلفة المعيشة عالية - ومعظمهم في لندن وحولها.

فيما يتعلق بالأدوار الاجتماعية، بالنسبة إلى المؤلفين، تعتبر أعلى شريحة عُشرية دخلاً «مُهمة لفهم كيفية عمل فجوة التفاوت وكيفية إدامتها» (ص.4). وتشمل هذه المجموعة جميع أعضاء البرلمان البريطاني تقريباً، وكبار المسؤولين الحكوميين، وغيرهم من كبار المسؤولين في وسائل الإعلام والأحزاب السياسية والقضاة. وهذا يعني أن الـ 10% الأعلى نافذون بالتأكيد. هذه المجموعة ثرية، ولكن فقط من حيث القيمة المطلقة. ونسبياً، حتى عند عتبة الـ 5% الأعلى (81 ألف جنيه إسترليني) يظل المرء أبعد من أولئك الذين ينتمون إلى أعلى 1% (180 ألف جنيه إسترليني وما فوق) مقارنة بمتوسط ​​الدخل في بريطانيا (26 ألف جنيه إسترليني). وهذه هي الطريقة التي يعمل بها التفاوت.

التفاوت المتزايد في الدخل والثروة يؤذي الكثير ممن هم في الشريحة العُشرية الأعلى. من المفترض أن يكون هؤلاء في وضع جيّد، ولكنهم يشعرون بعدم الارتياح بسبب الضغوط لمواكبة أقرانهم

تقوم الحجة الرئيسة للكتاب على أن التفاوت المتزايد في الدخل والثروة بدأ يؤذي الكثير ممن هم في الشريحة العُشرية الأعلى. من المفترض أن يكون هؤلاء في وضع جيّد، ولكنهم يشعرون بعدم الارتياح بسبب القلق بشأن الوظائف، والضغوط لمواكبة أقرانهم، وعدم الشعور بالارتباط بالمكان الذي يعيشون فيه. 

قَلقٌ متزايد

كما يؤكد المؤلفان في مُستهل الفصل الخامس، يبدو أن هناك ارتفاعات قياسية في كل الأمور الخاطئة: درجات الحرارة العالمية، والتفاوت، والتكلفة المعيشية، وأرباح مورِّدي الموارد الرئيسة (مثل محلات السوبر ماركت)، وأوقات الانتظار للحصول على الخدمات الصحية. ويتبع ذلك انخفاضات قياسية في كل الأمور الجيّدة: متوسط ​​العمر المتوقع عند الولادة، والأجور الحقيقية، ونمو الإنتاجية في الشرائح العُشرية الأدنى، وحالة الخدمات العامة.

يركّز الكتاب على كيفية تأثير التحدّيات الناشئة على أصحاب المداخيل المرتفعة وتصوّرهم لأنفسهم في عالم متغيّر. ويستكشف المؤلفان آثار أحداث حَرِجة وأزمات بنيوية تُشكِّل، إلى جانب عدم استقرار العمل والإسكان، شبكة من القلق لدى أصحاب المداخيل المرتفعة بشأن مستقبل البلاد ومستقبل أطفالهم. وقد أشار الكثير من المستجيبين إلى شعورهم بالضغط للعمل في وظائف إضافية حتى يتمكّنوا من العيش في أحياء مُكلِفة وتوفير مستقبل أفضل لأبنائهم.

كان لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تأثير تدميري. إن وضع وحدة الأحزاب فوق المصلحة الوطنية جعل المواطنين يشعرون بعدم تمثيلهم من قِبل السياسة. وكشف الاستفتاء عن الانقسامات الاجتماعية والاقتصادية والجيلية: صوّت كبار السن والمحافظون من المناطق المتدهورة لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، بينما صوّتت أقسام السكان الأصغر سناً والأكثر ثراءً لصالح البقاء. ومنذ فوز الفئة الأولى، أصبح أعلى 10% أكثر تشاؤماً.

صوّت كبار السن والمحافظون لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، بينما صوّت الأصغر سناً والأكثر ثراءً لصالح البقاء. ومنذ فوز الفئة الأولى، أصبح أعلى 10% أكثر تشاؤماً

بسبب سنوات من الخصخصة وسحب الاستثمارات في البنية التحتية العامة، تعرّضت بريطانيا إلى واحدة من أسوأ سجلات «كوفيد» في العالم (ص. 103). وفي الوقت نفسه، لم يحقّق مخطّط الاختبار والتتبّع الحكومي البالغ 37 مليار جنيه إسترليني أياً من أهدافه. إن أصحاب المداخيل المرتفعة أقل عُرضة للعواقب الأسوأ، لكن عزلهم يُسهِم في الجهل بالسياق الأوسع.

ووفقًا لـ«منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية»، تعتبر بريطانيا الاقتصاد الرئيس الأكثر تضرراً من حرب أوكرانيا وروسيا. لقد أدّت انقطاعات الطاقة والتضخُّم إلى انكماش إنفاق المستهلكين وضمور ثقتهم. ومع ذلك، أرادت حكومتا تروس وسوناك فرض المزيد من التقشّف الذي يضرّ بالأسر الفقيرة أكثر بكثير من الأسر الغنية. 

يسار ثقافي ويمين اقتصادي

كما يشير المؤلفان، يمثّل الوضع الطبقي للشريحة العُشرية الأعلى عقبة أمام تحسين الحال - سواء بالنسبة إليهم أو بالنسبة إلى المجتمع. كثيرون لديهم وظائف الغرض منها خدمة أو دعم وحماية ثروة الـ 1% الأعلى: المحاسبون، ومحامو الشركات، ومديرو صناديق التحوّط، والكثير من الأكاديميين وغيرهم ممن يعملون في منظّمات مملوكة للأثرياء أو مُمَوّلة من قِبلهم. كما أن هذا الوضع هو نتيجة للسردية الاقتصادية السائدة بشأن من يخلق القيمة، كما توضح مازوكاتو (2018). ركّزت هذه السردية مواقف أصحاب المداخيل المرتفعة على اليمين الاقتصادي الذي يحظى بتأييد خفيف لإعادة التوزيع. وفيما يتعلق بدولة الرفاهية، فإن معظمهم يؤيدون اختبار الوسائل. وتتماشى هذه المحافظة الاقتصادية مع مواقف ليبرالية اجتماعياً تجاه الهجرة أو زواج المثليين والمثليات.

تقوّض معتقداتهم أيضاً الحدّ من التفاوت. كحاجز رئيس أول، حدّد المؤلفان كيف يفسّر أصحاب المداخيل المرتفعة الحراك الاجتماعي. تؤكّد غالبية المستجيبين على دورها في نجاحاتهم. بالنسبة إلى الغالبية، تتحقّق نجاحات أصحاب المداخيل المرتفعة بفضل أفعالها ومهاراتها وأخلاقياتها في العمل، وفي الغالب تعليمها، أي الجدارة. وما يتجاهله هذا الموقف هو أنه كلّما زادت التفاوتات، كلّما قل ارتباط الحراك الاجتماعي بالتعليم.

الجانب الآخر من وجهة النظر التي تتبنّى الجدارة هو الاعتقاد بأن البعض «لا يستحقون»، بمعنى إذا صعد الأفضل إلى القمة، فإن أولئك الذين لا يستحقّون يتخلّفون عن الركب لسبب ما. وهذا يجعل النتائج السيئة للآخرين مقبولة ويطبّع عدم المساواة. وكلّما فكرنا في أنفسنا على أننا من صنع أنفسنا ومكتفين ذاتياً، كلّما أصبح من الصعب الاهتمام بالصالح العام.

فهم التفاوتات يصبح أكثر صعوبة عندما لا يكون لدى الناس اتصال بأشخاص من مجموعات اجتماعية واقتصادية أخرى: «عندما تنظر من فقّاعة، يبدو العالم أكثر مساواة مما هو عليه»

مع هذا الموقف، يميل أصحاب المداخيل المرتفعة إلى التوجّه نحو الصعود، وهذا هو السبب وراء شعورهم بالضغط لتقديم أداء أفضل. إن مقارنة أنفسهم بمن هم أكثر ثراءً تجعلهم يشعرون بالسوء تجاه أنفسهم. ولذلك، لتقليد أنماط استهلاك وأسلوب حياة من هم أعلى منهم، يميل الناس إلى الإفراط في الإنفاق. ويشير المؤلفان إلى أنه بحلول كانون الأول/ديسمبر 2018، وصلت الأسر في بريطانيا إلى وضع اقتراضي صافٍ لمدة 27 شهراً على التوالي. فالمدخرات منخفضة للغاية، والديون مرتفعة. وهذا يعني أن فهم التفاوتات يصبح أكثر صعوبة عندما لا يكون لدى الناس اتصال بأشخاص من مجموعات اجتماعية واقتصادية أخرى: «عندما تنظر من فقّاعة، يبدو العالم أكثر استناداً إلى الجدارة وأكثر مساواة مما هو عليه» (ص. 155).

 نحو مزيد من المساواة

يدور هذا الكتاب حول كيف يُردكَل ما هو طبيعي، وكيف يطبّع ما هو راديكالي. لقد أصبحت الأسواق جزءاً لا يتجزأ من خياراتنا الاجتماعية والديمقراطية لدرجة أننا انحرفنا من امتلاكنا لاقتصاد سوق إلى كوننا مجتمع سوق.

يقترح المؤلفان أن يغيّر أصحاب المداخيل المرتفعة توقّعاتهم من الدولة. أولاً، يتعيّن عليهم أن يشكّكوا في الوضع الراهن، خصوصاً مع انخفاض حصة الموظّفين من الدخل الوطني من 70% إلى 55% منذ سبعينيات القرن العشرين. إن انخفاض مستويات المعيشة لا علاقة له بمدى جدّية الناس في العمل، تماماً كما لا علاقة لارتفاع أرباح الشركات بإنتاجية رؤسائها التنفيذيين. يتعيّن على أصحاب المداخيل المرتفعة أن يستخدموا السلع والخدمات العامة وأن يحافظوا على النسيج الاجتماعي، لأنهم يستفيدون أيضاً من وسائل النقل العام، والشوارع الأكثر أماناً، والمجتمع الأكثر صحة وتعليماً. ولكي يعمل النظام، لا بد من دعمه والدفاع عن الضرائب التصاعدية.

ومن كل هذا تنبع السمة الأكثر إثارة للاهتمام في هذا الكتاب: جهده ليس للإشارة إلى سلبية أصحاب المداخيل المرتفعة، بل إلى إمكاناتهم في تيسير التغيير الاجتماعي. ويدعو المؤّلفان شريحة الـ 10% الأعلى دخلاً إلى التفكير في مستقبل يمكنها فيه التخلي عن تميزها عن الآخرين لتصبح في نهاية المطاف أقل قلقاً وعزلة وأكثر أمناً. ويُشكِّل هذا جزءاً من التغييرات الأوسع نطاقاً للتخفيف من حدّة التفاوت والانهيار المناخي التي يتعيّن على دول الشمال العالمي، بما في ذلك بريطانيا، أن تتحمّل المسؤولية الأكبر عنها.

نُشِرت هذه المراجعة في LSE Review of Books في 15 تموز/يوليو 2024 بموجب رخصة المشاع الإبداعي.