الثورة المضادة والذهب والإفلات العالمي من العقاب
الإمبريالية الفرعية للإمارات في السودان
السودان اليوم ليس مجرّد ساحة معركة بين فصيلين عسكريين، إنه مقبرة للنفاق الإقليمي والدولي. كما أنه دراسة حالة في الإمبريالية الفرعية، أي دور دولة ليست قوة إمبريالية كبرى، لكنها تتعامل كقوة إمبريالية داخل إقليمها، وتتصرّف بما ينسجم مع مصالح القوى الإمبريالية.
إن الحرب التي دمّرت السودان منذ نيسان/أبريل 2023 ليست مأساة سودانية فحسب، إنها تجلٍّ لنظام عالمي أوسع صارت فيه المصالح المالية والنفوذ العسكري والتحالفات الاستراتيجية أهم من حياة الناس وتطلعاتهم الديمقراطية. وفي قلب هذا التشكيل تقف دولة الإمارات العربية المتحدة.
إن دور الإمارات في السودان ليس شذوذاً عن القاعدة، إنه جزءٌ من مشروع متكامل ومموّل جيداً ومتسع إقليمياً، له أجندة إمبريالية فرعية تجمع بين الاستغلال الاقتصادي، وبناء التحالفات السلطوية، وتنفيذ سياسات الثورة المضادة، تحت غطاء من التهذيب الدبلوماسي والشراكات العالمية. ويعد السودان، للأسف، أحد مختبراتها المركزية.
من الربيع العربي إلى ثورة ديسمبر – تهديدٌ لنظام الإمارات
إن التدخل الإماراتي الهدّام في الشأن السوداني يعود إلى أكثر من عقد من الزمن. ففي العام 2011 رأت الإمارات، إلى جانب السعودية، في احتجاجات الربيع العربي تهديداً وجودياً للأنظمة السلطوية في المنطقة ولنموذجها في الحكم، وهو الملكية الريعية التي تعتمد على الإكراه والفساد وقمع المعارضة. ولقد شكل سقوط بن علي في تونس ومبارك في مصر، وتصاعد الحركات الديمقراطية في ليبيا واليمن والبحرين، إنذارات مبكرةً لعاصفة يجب وأدها بأي ثمن بالنسبة إلى قادة الإمارات.
لم يكن تعامل الإمارات مع الربيع العربي مجرّد ردّ فعل، بل تحوّلت الإمارات إلى قوّة فاعلة للثورة المضادة. ففي مصر، موّلت الانقلاب العسكري الذي جاء بعبد الفتاح السيسي إلى السلطة وساعدت في إعادة بناء أجهزة الأمن القمعية. وفي ليبيا، دعمت حرب خليفة حفتر ضد الحكومة المعترف بها دولياً، بما قسم البلاد فعلياً. وفي السودان، نسجت علاقات عميقة مع نظام عمر البشير، ثم عمّقت في السنوات اللاحقة تحالفها مع قوات الدعم السريع شبه العسكرية، وريثة ميليشيات الجنجويد التي ارتكبت فظائع ضد المدنيين والمتمردين نيابة عن نظام البشير في خلال العقد الأول من الألفية الثالثة.
لم يكن تعامل الإمارات مع الربيع العربي مجرّد ردّ فعل، بل تحوّلت الإمارات إلى قوّة فاعلة للثورة المضادة
وقد شكّلت ثورة ديسمبر 2018 السودانية، التي توجّت بالإطاحة بالبشير في نيسان/أبريل 2019، تحدّياً مباشراً لمشروع الإمارات الإقليمي. فقد كانت ثورة ديمقراطية مدنية صريحة العداء للحكم العسكري. وعندها برزت للإمارات معضلة، وهي كيفية احتفاظها بنفوذها في السودان من دون أن تبدو معادية علناً للثورة.
وكان الحل مركباً، من استمالة، وسياسات فرّق تسد، واستثمار عسكريّ طويل الأمد، خصوصاً في قوّات الدعم السريع.
صعود قوات الدعم السريع: وكيلٌ لنفوذ إمبريالي فرعي
أصبحت قوّات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) الشريك المثالي للإمارات. ففي نيسان/أبريل 2019 دبّر حميدتي (مع قادة الجيش والأمن) الإطاحة بالبشير خشية انهيار النظام تحت ضغط الثورة. وتولّى البرهان وحميدتي قيادة المجلس العسكري الانتقالي، ثمّ أصبحا قادة الجناح العسكري للحكومة الانتقالية التي كان منوطاً بها حكم البلاد لمدة 39 شهراً.
ازدهرت العلاقة بين الإمارات والدعم السريع منذ العام 2015 حين أرسل نظام البشير مقاتلي الدعم السريع إلى جانب عساكر الجيش السوداني للمشاركة في الحرب التي تقودها السعودية في اليمن تحت القيادة الإماراتية، وهي علاقة تبادلية تجمع بين الاستعانة بمصادر خارجية في القتال وبين إضفاء الشرعية السياسية. وفي المقابل، حصل حميدتي على أسلحة ودعم لوجستي وغطاء دبلوماسي.
وقد وفر حميدتي فائدتين أساسيتين هما: أولاً القدرة على العنف، أي قوة مستعدّة لقمع الاحتجاجات وخوض الحروب وتصفيات الخصوم، وثانياً مصدراً اقتصادياً، هو تجارة الذهب المربحة في السودان، والتي باتت قواته تسيطر عليها على نحو متزايد.
وبين عامي 2013 و2023 أحكمت قوات الدعم السريع قبضتها على عمليات تعدين الذهب السوداني، خصوصاً في دارفور ومناطق طرفيةٍ أخرى. وجزءٌ كبيرٌ من هذا الذهب يهرب إلى الإمارات التي أصبحت المركز الرئيس لذهب النزاع السوداني؛ الذهب الذي قوّض السيطرة المدنية، وموّل الميليشيات، وعزّز أمراء الحرب.
انقلاب أكتوبر 2021 والغطاء الإماراتي
عندما نفّذ الجيش السوداني (بقيادة الفريق أول عبد الفتاح البرهان) وقوّات الدعم السريع (بقيادة حميدتي) انقلاب 25 أكتوبر 2021، كان ذلك إيذاناً بالنهاية الرسمية للانتقال الديمقراطي في السودان. عندها لم يكن ردّ فعل الإمارات الإدانة، بل الدبلوماسية.
فقد دعت الإمارات علناً إلى «التهدئة» و«الحوار»، بينما أبقت في الكواليس روابطها مع البرهان وحميدتي معاً، متحوطة لرهاناتها مع الحفاظ على أوراق ضغطها. ومع ذلك ظلت قوات الدعم السريع أداتها الأولى، وتعزّزت معها روابطها الاقتصادية، ولا سيما عبر الذهب.
بين عامي 2013 و2023 أحكمت قوات الدعم السريع قبضتها على عمليات تعدين الذهب السوداني، خصوصاً في دارفور ومناطق طرفيةٍ أخرى. وجزءٌ كبيرٌ من هذا الذهب يهرب إلى الإمارات
وحين اندلعت الحرب الراهنة في نيسان/أبريل 2023 بين الجيش والدعم السريع، لم يكن مفاجئاً أن تكون قوات حميدتي مجهّزة بشكل استثنائي ومنظّمة ومرنة. ولقد عزا كثيرون قدرتها على السيطرة على أجزاء واسعة من الخرطوم ومناطق أخرى في أواسط وجنوب السودان، وعلى نهب البنية التحتية، وبسط النفوذ في دارفور، إلى دعم خارجي تراكم على مدى سنوات سابقة، وحتى بعد اندلاع الحرب.
الإمبريالية الفرعية للإمارات عبر إفريقيا: موانئ وذهبٌ وقوةٌ بالوكالة
ليس السودان الساحة الوحيدة التي وسعت فيها الإمارات نفوذها عبر أدوات عسكرية واقتصادية وسياسية. على مدى 15 عاماً ماضية، وضعت الإمارات بصمتها الاقتصادية في أفريقيا عبر الاستثمارات في الموانئ والمطارات ومشاريع البنية التحتية. وليست هذه الاستثمارات تجارية صرفة، بل أيضاً تحرّكات استراتيجية لمدّ النفوذ. وقد عقدت اتفاقات تعاونٍ عسكري واسعة وقامت باستثمارات كبيرةٍ في الأراضي الزراعية والطاقة المتجدّدة والتعدين والاتصالات، ما يجعلها لاعباً مهماً في الجغرافيا السياسية الإقليمية.
وفي السودان اتخذت هذه الاستراتيجية منحًى عنيفاً على نحو خاص، وذلك بسبب عظم المصالح والذهب والموقع الجيوسياسي والنفوذ السياسي على أحد أكبر بلدان إفريقيا، وبسبب الثورة السودانية التي كانت تسير على حدّ السيف. ولقد كانت قوات الدعم السريع، بوصفها جيشاً خاصاً يقوم بوظائف دولة، الشريك المحلي الأمثل للإمارات.
حرب 2023: مذبحةٌ بالوكالة بلا مساءلة
مع تصاعد حدّة القتال بين الدعم السريع والجيش في 2023، استفادت قوات الدعم السريع من إمدادات مقرّرة مسبقاً بالإضافة الى سلاسل لوجستية وملاذات إقليمية آمنة، وهي كلها دلائل واضحة على دعم خارجي. وقد أشار مراقبو حقوق إنسان وصحافيون وناشطون سودانيون مراراً إلى دور الإمارات في الحرب، ومع ذلك لم تفرض عقوبة واحدة على أي مسؤول إماراتي، ولم يمارس أي ضغط على أبو ظبي لوقف تدفق الذهب إليها أو السلاح منها.
وبدلاً عن ذلك ظلت المؤسسات الدولية – بما فيها مجلس الأمن – مشلولة تتحجّج كثيراً بالتجاذبات الجيوسياسية وغياب الوضوح، بينما دفع المدنيون السودانيون ثمن كل ذلك.
أما محادثات السلام والمؤتمرات في جدة وأديس أبابا والقاهرة والبحرين وجنيف ولندن، فقد تميّزت غالباً بالبطء الشديد، بالإضافة الى استبعادها أصواتاً مدنية أساسية، مع سماحها للفصائل العسكرية بإعادة تسويق نفسها. وقد استمرت قوات الدعم السريع في تلقي الشرعية السياسية والإعلامية من منابر عالمية، بينما يتم التقليل من جرائمها أو التعتيم عليها.
من الثورة إلى الحرب: نضال سوداني ضدّ الإمبريالية الفرعية
إن الاعتقاد بأن الحرب الراهنة مجرد صدامٍ بين جنرالين، يتجاهل النضال الأكبر الذي يخوضه السودانيون منذ عقود ضد الحكم العسكري والاستغلال الأجنبي، والنظام الدولي الذي يدعم كليهما.
فحين انتفض السودانيون في كانون الأول/ديسمبر 2018 لم يكونوا يطالبون بمجرد تغيير الوجوه في القمة، بل كانوا يطلبون تحولاً جذرياً في بنية الدولة: حرية، وسلام، وعدالة اجتماعية، وحكم مدني، ومساءلة. لم يكن شعار «حرية، سلام، وعدالة» خطاباً إنشائياً، بل كان ثورياً في مضمونه، وقد قوبل بالرصاص والاعتقال والمجازر والخيانة.
وضعت الإمارات بصمتها الاقتصادية في أفريقيا عبر الاستثمارات في الموانئ والمطارات ومشاريع البنية التحتية. وليست هذه الاستثمارات تجارية صرفة، بل أيضاً تحرّكات استراتيجية لمدّ النفوذ
وقد واصلت لجان المقاومة والحركات النسوية والنقابات والروابط المهنية تنظيم صفوفها طوال الفترة الانتقالية وحتى بعد انقلاب تشرين الأول/أكتوبر 2021، ورفضت الرضوخ لسلطة العسكر، كما رفضت صفقات التطبيع المفروضة من الخارج، وأصرت على أن تأتي الديمقراطية من الناس، لا عن طريق المؤتمرات الأجنبية أو الفصائل المسلّحة. وقد صاغوا رؤيتهم في وثائق تأسيسية وبيانات صحفية، كما صاغوها في شعارات قوية مصاغة بعناية ردّدوها في خلال المواكب والاحتجاجات السلمية.
وقد شكل هذا الحراك القاعدي تهديداً لكلّ من نخب السودان وقوى إقليمية مثل الإمارات، التي تفضّل سوداناً خاضعاً يصدر الذهب والمرتزقة بدلاً عن الأفكار أو الثورات. وقد ظهر نموذج الحكم العسكري المصري، المدعوم بالمال الخليجي والتسامح الغربي، كاستجابة مركزية للثورة المضادة على ربيع 2010–2011، وكان المقصود أن يستنسخ هذا النموذج في السودان، لكن الشباب السوداني رفض هذا النموذج بحزم.
فهذه الحرب، إذن، ليست مجرّد صراع بين الدعم السريع والجيش، فهي في وجوهٍ كثيرةٍ حرب مضادة للثورة وضد الشعب السوداني. فكلا الفصيلين العسكريين اعتديا على المدنيين، وكلاهما عرقل الإغاثة الإنسانية، وكلاهما حاول استمالة المجتمع المدني، وكلاهما حظي – بطريقة مباشرة أو غير مباشرة – بحماية من الفاعلين الدوليين الذين لا يريدون تغيير الأوضاع الراهنة.
كشف دور الإمارات: الذهب والبنادق والدور الجيوسياسي
هناك الآن أدلة كثيرة على تهريب الذهب من مناطق يسيطر عليها كلّ من قوات الدعم السريع والجيش السوداني إلى دبي، وهذا ما يؤدي إلى توفير الأموال لشبكات خارجة عن القانون وتمويل النزاع. وتظهر عمليات نقل السلاح عبر ليبيا وتشاد وأوغندا وأفريقيا الوسطى وكينيا ودول أخرى وجود سلسلة إمدادٍ مخططة ومستدامة تدعم قوات حميدتي. كما يسرت الإمارات إجلاءً طبياً لمقاتلين من الدعم السريع إلى مستشفياتها. وعلى التوازي، عملت حملات إماراتية دبلوماسية وسياسية وحملات علاقات عامة على إضفاء شرعية على قوات الدعم السريع بوصفها فاعلاً سياسياً، وساندت جهودها في تكوين حكومة موازية.
ليس هذا تواطؤاً إماراتياً خاملاً فقط، بل هو تدخل إمبريالي فرعي نشط. فالإمارات ليست دولة خليجية محايدة تسعى للسلام، إنما هي فاعلة ومحاربة تعمل عبر وكيل – هو الدعم السريع – مع إنكارها لأي دور لها فيما يحدث.
الولايات المتحدة وبريطانيا و«المجتمع الدولي»: تواطؤٌ بالصمت
وعلى الرغم من كثرة الأدلة على دور الإمارات في دعم الدعم السريع وفي تقويض الانتقال الديمقراطي في السودان، جاء الرد الدولي ضعيفاً في أحسن الأحوال، ومتواطئاً في أسوئها. فبينما أصدرت الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد الأوروبي وكثيرٌ من الدول الأوروبية بيانات تدعو لوقف إطلاق النار وحماية المدنيين، لم يفرض أي منها عقوبات على جهات إماراتية أو خارجية مرتبطة بالاسترزاق من الحرب أو بتهريب الذهب.
لماذا؟ تكمن الإجابة في الواقعية السياسية والمساءلة الانتقائية. فدولة الإمارات العربية المتحدة شريك استراتيجي للغرب، هي مشترية مهمة للأسلحة، ومتعاونة رئيسة مع نظام الإبادة الجماعية الإسرائيلي، وقناة للاستخبارات، ومركز مالي هام، ولقد استضافت قواعد عسكرية أميركية، وشاركت في عمليات مكافحة الإرهاب، واستثمرت بكثافة في اقتصادات غربية. باختصار: هي أكثر فائدة للغرب من أن تعاقب.
إن الاعتقاد بأن الحرب الراهنة مجرد صدامٍ بين جنرالين، يتجاهل النضال الأكبر الذي يخوضه السودانيون منذ عقود ضد الحكم العسكري والاستغلال الأجنبي، والنظام الدولي الذي يدعم كليهما
في الأشهر الأخيرة من إدارة الرئيس الأميركي السابق بايدن، كثّف بعض المشرعين الأميركيين جهودهم لوقف مبيعات السلاح للإمارات استجابة لتزايد الأدلة على أنها – على الرغم من تطمينات سابقة – واصلت تزويد الدعم السريع بالسلاح. ووافق البيت الأبيض مبدئياً على مراقبة امتثال الإمارات لوقف دعمها والتحقق من ذلك. لكن إحاطة حكومية في كانون الثاني/يناير 2025، أكّدت استمرار دعم الإمارات لقوات لدعم السريع، وقد أدى ذلك إلى إعادة طرح قانون «دافع عن السودان (Stand Up for Sudan Act)» الذي يحظر صادرات السلاح الأميركية إلى الإمارات حتى توقف نهائياً دعمها المادي للدعم السريع، مستنداً على وجوب استخدام النفوذ الأميركي للمساعدة في وقف الحرب المستمرة والإبادة الجماعية.
وفي 5 أيار/مايو الماضي، رفضت محكمة العدل الدولية دعوى السودان التي يتهم فيها الإمارات بمخالفة اتفاقية منع الإبادة الجماعية عبر تسليح وتمويل الدعم السريع. وقد استندت المحكمة إلى تحفّظ الإمارات على شرط الاختصاص القضائي في الاتفاقية، وقضت بأنها تفتقر إلى الاختصاص ولم تتناول موضوع الدعوى.
وفي 22 أيار/مايو، اتهمت وزارة الخارجية الأميركية الجيش السوداني باستخدام أسلحة كيميائية في حربه الأهلية مع الدعم السريع، وأعلنت عقوبات جديدة، منها قيود على التصدير وإجراءات مالية. غير أن الحكومة الأميركية لم تقدم أية أدلة علنية تدعم هذا الادعاء، ولم تتبع الإجراءات الواجبة المطلوبة من قبل منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، وهي منظمةٌ يتمتع السودان بعضويتها، بل ويشغل مقعداً في مجلسها التنفيذي.
ويبدو أن هذا الاتهام هو أحدث مثال على تحول سياسة الرئيس الأميركي ترامب الخارجية في ولايته الثانية إلى صفقات صريحة وفاسدة. فقد أعقب الإعلان زياراته للسعودية وقطر والإمارات، حيث سعى لعقد صفقات استثمار للولايات المتحدة وتوسيع مصالحه التجارية ومصالح عائلته الشخصية في المنطقة حسب التقارير. ولطالما جادل كثيرٌ من المحللين بأن حرب السودان تحولت إلى صراع بالوكالة، تدعم فيه الإمارات الدعم السريع، فيما تساند السعودية الجيش. ومع ما تكشفه المراقبة العامة المتزايدة والضغط الدولي عن دور الإمارات في جرائم الحرب والإبادة الجماعية، يبدو أن إدارة ترامب تستخدم الاتهامات ضد القوات المسلحة السودانية لصرف الأنظار وموازنة سرديتها، أملاً في البقاء على «مسافة واحدة» من الإمارات/الدعم السريع ومن السعودية/الجيش.
تستدعي هذه الاتهامات مقارنات بأحداث سابقة، لا سيما قصف إدارة كلينتون الصاروخي لمصنع الشفاء للأدوية في السودان في العام 1998 في ذروة فضيحة مونيكا لوينسكي. فقد زعمت الولايات المتحدة حينها أن تلك المنشأة تنتج أسلحة كيميائية مرتبطة بأسامة بن لادن، لكن تحقيقات لاحقة كشفت عن غيابٍ شبه تامّ للأدلة المؤيدة لذلك، ورأى كثيرٌ من الخبراء أن المصنع كان مدنياً. وتستحضر كذلك غزو العراق في العام 2003؛ ذلك الغزو الذي كان نتيجة فرضية كاذبة عن أسلحة الدمار الشامل، والتي تبين لاحقاً أنها كانت اتهامات مختلقة بالكامل.
لا ينبغي فهم ما ذكرناه سابقاً على أنه تبرئة للقوات المسلحة السودانية من جرائم الحرب التي ارتكبت ضد المدنيين في خلال هذه الحرب أو طوال تاريخها. لقد أردنا من ذلك، أن نلقي الضوء على المناورات المضلّلة التي تقوم بها إدارة ترامب لتعزيز العلاقات مع دول الخليج من خلال قلب السردية، من دون أن تفلح في معالجة مسألة الحرب معالجة فعالة.
ثمن الصمت: المدنيون السودانيون يدفعون الفاتورة
عواقب هذا الصمت الدولي ليست نظرية فحسب؛ بل هي عواقب قاسية وماثلة. فقد قتل مئات الآلاف على الأرجح، وتشرّد الملايين، واضطر كثيرون للعيش في مخيّمات قذرة عبر الحدود أو في مدن محاصرة. وقد جرى تدمير البنية التحتية للبلاد، بما في ذلك الجامعات والمستشفيات والمؤسسات الثقافية، على نحوٍ منهجيٍّ بما يرقى إلى حرب متعمدة على المجتمع السوداني. كما سجّلت انتهاكات جنسية واسعة النطاق، مع تقارير تفيد بأن الدعم السريع استهدف النساء والفتيات كأدوات للحرب.
لا بد من مجابهة منطق التحالف الغربي-الخليجي الذي يتعامل مع الإمارات والسعودية بوصفهما شريكين لا يمسان؛ فليس مقبولاً أن تتقدّم العلاقات الاستراتيجية على حساب أرواح المدنيين
ومع ذلك لم يختفِ الحراك السوداني، فقد تكيّف وتوسّع لا مركزياً وأعاد الاتصال بحلفاء عالميين. كما يقدم السودانيون - داخل البلاد وخارجها - الإغاثة، والمساعدات، والخدمات الصحية والتعليمية، ويتنظمون، ويوثقون ويطالبون بالعدالة. إن ما يحتاجونه هو التضامن لا الصدقة، والمساءلة لا الشفقة.
ما العمل: نداءٌ للفعل
لإيقاف الحرب في السودان ومنع حروب قادمةٍ، لا بد من مواجهة الفاعلين المحليين والممكنين الدوليين من ورائهم. ويشمل ذلك فرض عقوبات على كل الكيانات الأجنبية التي تموّل أو تسلّح الدعم السريع، بما في ذلك الشركات والأفراد في الإمارات، كما يستلزم كشف وتعطيل تجارة ذهب النزاع، لا سيما طرق تجارته عبر دبي، وقطع صلاتها بمالية قوات الدعم السريع. ويجب التحقيق في دور الإمارات في توريد السلاح للدعم السريع، والسعي إلى آليات قانونية دولية لتعطيل سلسلة التوريد هذه. كما أن القدر نفسه من الأهمية يجب أن يولى لدعم المبادرات المدنية السودانية، مثل غرف الطوارئ، ولجان المقاومة، والممرّات الإنسانية الآمنة، وجهود التوثيق التي يقوم بها الناجون من الحرب، والإعلام المستقل.
وأخيراً، لا بد من مجابهة منطق التحالف الغربي-الخليجي الذي يتعامل مع الإمارات والسعودية بوصفهما شريكين لا يمسان؛ فليس مقبولاً أن تتقدّم العلاقات الاستراتيجية على حساب أرواح المدنيين.
وعلى الرغم من كل ذلك، تظل هناك إمكانيةٌ لمستقبل مختلف. فالحركات الثورية في السودان، بإصرارها على النضال لتحقيق الحكم المدني والعدالة الاجتماعية، تقدم بديلاً مقنعاً متجذراً في الشرعية القاعدية، والمبادئ الديمقراطية، والتضامن العابر للحدود. إن بلوغ هذا المستقبل يتطلب أكثر من إبداء التعاطف مع الفاعلين المدنيين السودانيين، إنه يتطلب مواجهة حاسمة مع الأطر السياسية والاقتصادية الدولية التي حافظت على الاستبداد والتدخل الأجنبي. إن طريقاً ذا معنى إلى الأمام لا بد أن يبدأ بفهم واضح لهذه الحقائق، وبالتزام راسخ ومتسق مع العدالة؛ التزام يقاوم المخاطر بسبب المصالح الاستراتيجية أو التحالفات الجيوسياسية.
نشر أولاً باللغة الإنكليزية في مجلة Spectre يوم 15 آب/أغسطس 2025، وترجم إلى العربية ويعيد الكاتب نشره على موقع «صفر».