Preview كي لا تموت الديمقراطية

كي لا تموت الديمقراطية
هل نحن بحاجة إلى إعادة التفكير في الاقتصاد السياسي في تونس؟

  • الكيانات والأحزاب غير مهتمة بقضايا السياسة العامة. تقيّم العمليات الاقتصادية من وجهة نظر أخلاقية، لذلك فإن الغالبية العظمى أصابها الفقر الفكري والتخبّط في مقاربة أسئلة الواقع الاجتماعي والاقتصادي والعجز عن توليد الأجوبة المناسبة. وهذا النقص هو أصعب عقبة أمام التجديد والقدرة على تصوّر مستقبل بديل.
  • إن نتائج دوفيل تقطع شوطاً طويلاً في تفسير الأزمة الخانقة الحالية وارتداداتها لفرض نظام اجتماعي مؤسّسي جديد عبر خفض الإنفاق العام، والتحرير النقدي، وتقليص أدوار الدولة ووظائفها الاجتماعية والائتمانية ومساهمتها في التنمية الاقتصادية المباشرة، لصالح توسع البرجوازية المحلية عبر الخصخصة، وتخفيف العبء الضريبي على الشركات الكبيرة والأغنياء.
  • لقد غاب عن الجميع أن قلة هم الذين يسيطرون على المال، قلة هم الذين يهيمنون على الاقتصاد، وقلة هم الذين يحتكرون معظم الثروات ويتخذون القرارات الاقتصادية الكبرى التي تؤثر على معيشتنا. ومن البيّن ان الطريقة المنشودة  لتغيير ذلك والقطع معه هي إضفاء الطابع الديمقراطي على الاقتصاد، لتعود نتائج نجاحه بالنفع على الجميع.
  • علينا إعادة التفكير في حقيقة أن الرأسمالية والديمقراطية ليسا الشيء نفسه، وأن الوقت قد حان للغة ورؤية وحركة جماهيرية جديدة لإعطاء معنى لمستقبل تتحقّق فيه العدالة والمساواة والحرية معاً، في شكل مجتمع اشتراكي ديمقراطي، مجتمع يتجاوز الحدود ليحتضن عهداً جديداً للديمقراطية.

يُطرب البعض حين تُتناول الشعبوية من جهة أنها تصحيح ديمقراطي ومن حيث تسليطها الضوء على القضايا التي أهملتها النخب وبإعطاء صوت أعلى للرفض ومحاربة النسخة السيئة من السياسة، ولكن الواقع يثبت يوماً بعد الآخر أن هذا طريق خطير يسير على الخط الرفيع بين الديمقراطية المتآكلة والسلطوية الاستبدادية.

لا أريد أن أقع في التشاؤم الكئيب وأنا المؤمن من حيث المبدأ بمرونة الديمقراطية - وقدرتها على التصحيح والعقل والمسؤولية - ومع ذلك وفي هذه الأوقات الحرجة، أشعر بقلق أكبر من ضعف الديمقراطيين في البلاد والحالة المتردّية للتحالفات وواقع التشرذم والجلوس على الربوة بل يبدو أن جزءاً كبيراً من السياسيين يدفنون رؤوسهم في الرمال ويأملون أن تختفي عاصفة الشعبوية قريباً ومن ثم العودة بكل صفاقة.

ليست الفكرة بلوم الآخرين والعتاب بل إن البحثَ عن أفق يشكّل منطلقاً لحلّ مشكلات البلاد أصبح ضرورة مطلقة ولكن لا غنى عن تشخيص «أزمة الديمقراطية» بداية، فكل اللاعقلانية والخلل الوظيفي الذي نمر به حالياً لا ينشأ عن طريق الصدفة بل إن إلقاء نظرة إلى الوراء على فترة ما بين 2011 و2021 يعطي أحداث اليوم مزيداً من التدقيق والعمق.

تذكرت قولاً لأحد الرفاق منذ أشهر ونحن نتداول بعضاً مما بقي متاحاً، ومفاده أنه سينصلح حال هذا البلد عندما يصبح الحديث في الاقتصاد سياسة، بعيداً من عادة سنوية تنطلق مع دخول فصل الخريف، حين يُعلن انطلاق «مُوسم» الحديث في الميزانية وأرقامها من قبل السياسيين والخبراء والعامة، لينتهي كلامهم المباح بختمها من قبل رئيس البلاد ونشرها في «زمام» الرائد الرسمي كقانون قابل للتنفيذ و«يا من حي للعام الجاي».  

ولكن أين الاقتصاد؟ وأين السياسة؟

نافل القول إن جل الكيانات والأحزاب غير مهتمة بقضايا السياسة العامة وتقوم فقط بتقييم العمليات الاقتصادية من وجهة نظر أخلاقية، لذلك فإن الغالبية العظمى أصابها الفقر الفكري والتخبّط في مقاربة أسئلة الواقع الاجتماعي والاقتصادي والعجز عن توليد الأجوبة المناسبة بل أن هذا النقص في الاهتمام بهذه المسائل والخوض في الموازنات وتقييم السياسات هو أصعب عقبة أمام التجديد والقدرة على تصور مستقبل بديل.

ما يثير اهتمامنا في هندسة السياسات الاقتصادية هو أهم بكثير من أرقام وتقديرات التحصيل والإنفاق، فمثلاً في جميع أنحاء العالم يعد مشروع قانون الميزانية أهم وثيقة يتم طرحها أمام البرلمان وأحد أصعب الممارسات الديمقراطية والتمرين السنوي المعبّر عن السياسات العامة للحكومة والمعلن عن نواياها الدقيقة في كل مجال والآليات التي تعتزم عبرها الاستجابة لاحتياجات مواطنيها.

اتخذت أروقة البرلمان والغرف المغلقة لبعض الأحزاب (خصوصاً منظومة التوافق المغشوش) شكل السوق الخفية بين جماعات الضغط الاقتصادية والسياسية المختلفة ناهيك عن المافيا التي تنامت قوتها إلى ما هو أبعد من قوة المؤسسات

إن الافتراض الذي يقوم عليه هذا التمرين، أن مشروع الميزانية يتم استكمال هندسته في البرلمان بناءً على اقتراح السلطة التنفيذية، فهو الأداة الأكثر فعالية والأكثر صلابة من الناحية التجريبية لتحليل دمقرطة النظام السياسي من قراءة وتدقيق الميزانية وكذلك عملية التفاوض السياسي لتمرير بنودها، ولكن وطيلة سنوات أخفقت مؤسسات الانتقال الديمقراطي في ذلك خصوصاً عبر الفشل في تشكيل حكومات فاعلة قادرة على معالجة الأسباب الجذرية لثورة 2010-2011 وهو ما فاقم من زعزعة استقرار الهياكل المنتخبة وانعدام ثقة المواطنين التونسيين في مؤسساتهم الجديدة ومقبولية ممثليهم، فهم لم يمثلوا همومهم بشكل كافٍ، وفاقمت سياساتهم من الحالة الاقتصادية ومؤشرات الفقر واللامساواة الاجتماعية والاقتصادية على مدى سنوات.

لقد اتخذت أروقة البرلمان والغرف المغلقة لبعض الأحزاب (خصوصاً منظومة التوافق المغشوش) شكل السوق الخفية بين جماعات الضغط الاقتصادية والسياسية المختلفة ناهيك عن المافيا التي تنامت قوتها إلى ما هو أبعد من قوة المؤسسات المريضة في البلاد.

ونشأ الفراغ الذي سارعت الشعبوية على وجه الخصوص إلى استغلاله بإجابات بسيطة ولكنها خطيرة عبر تأليه الشعب من خلال لاهوت سياسي جديد وبنقد راديكالي للنخب الحاكمة والمعارضة المتهمة بعدم تمثيل الإرادة الحقيقية والفعلية للشعب، وحتى بخيانته بشكل صريح.

نعم، لقد أثبتت المؤسسات الديمقراطية أنها أكثر هشاشة مما كنا نتخيّل ...

لم تتغيّر الأحوال مع انبلاج فجر العهد «السعيد» وما تلاه من حكم الرئيس قيس سعيد، فقد بلغت المشاكل الاقتصادية المتراكمة ذروتها خلال العام الماضي في أزمة ضخمة رافقتها أسوأ موجة جفاف منذ سنوات، كما بالغ التضخم في إفراغ جيوب التونسيين، واختفت السلع الأساسية مثل مشتقات الحبوب والزيت والسكر والقهوة من أرفف المتاجر الكبرى والمحلات وتزايد الإحباط وعدم الشعور بالآمان وتضاعفت رحلات الهجرة غير النظامية حيث الملاذ على سواحل أوروبا.

وعلى الرغم من ذلك مازال الرئيس «المتحكم بتلابيب السلطة وكل تفاصيلها» يعتقد بسذاجة أنه إذا تمكن فقط من إحكام سيطرته على مؤسسات الدولة وضمان ولائها وكتم أصوات المعارضة واعتقال الناشطين وقادة الأحزاب السياسية والصحافيين بتهم «التآمر» أو «نشر أخبار كاذبة»، فإن الاقتصاد سيُصلح نفسه.

ميزانية التقشّف والاقتراض لتسديد الدين 

لن نتجنى على موازنة العام الحالي المقدر حجمها بنحو 77,8 مليار دينار، حين نصفها بأنها نتاج سياسات الارتجال والاخفاقات البنيوية المتواصلة منذ سنوات، فيكفي التدقيق في الأرقام الواردة في قانون المالية لسنة 2024 لتبيان فصول من التناقضات والتضارب الفاضح، بل والانفصال الحاد بين القول السياسي للرئيس وفعله الاقتصادي، فهي ميزانية اقتراض بامتياز بعيداً من شعار التعويل على الذات، خصوصاً إذا نظرنا لارتفاع موارد الإقتراضين الخارجي والداخلي من 21,9 مليار دينار في 2023 إلى 28,188 مليار دينار في 2024.

اللافت أن ثلثي موارد الاقتراض الخارجي (المقدّر بنحو 16,44 مليار دينار) والمضمّن بوثائق قانون المالية مجهولة المصدر، ما يثبت مرة أخرى العجز في التدبير، ويؤكّد عدم وضوح رؤية الحكومة والرئيس في غياب سياسات عمومية ومرجعية اقتصادية واضحة تحدّد على أساسها الأهداف والبرامج لمعالجة التحديات الاقتصادية التي يواجهها البلد.

الحكومة ستسدد ديوناً خارجية بقيمة 12.3 مليار دينار (3.9 مليار دولار) طيلة العام 2024، وهي سنة لن تختلف كثيراً عن العام 2019، حين خصّصت تونس 93% من الديون الجديدة لتسديد خدمة الديون القديمة

وتطلعنا وثائق رسمية أن الحكومة ستسدد ديوناً خارجية بقيمة 12.3 مليار دينار (3.9 مليار دولار) طيلة العام 2024، وهي سنة لن تختلف كثيراً عن العام 2019، حين خصّصت تونس 93% من الديون الجديدة لتسديد خدمة الديون القديمة لأهم الجهات الدائنة كصندوق النقد الدولي والبنك الدولي والبنك الأوروبي للإنشاء والتعمير والبنك الأفريقي للتنمية.

إلى ذلك، من المتوقع أن تشهد باقي أشهر العام 2024 مزيداً من التباطؤ  في الاستهلاك بضغط من التضخّم والسياسة النقدية المقّيدة، وستتسبّب صعوبات التمويل المستمرة في نقص المنتجات الموردة خصوصاً الغذاء والوقود والأدوية. علاوة على ذلك، تتجه كل المؤشرات لتتوقّع أن تواجه الحكومة المزيد من المشاكل المالية والمؤسسية بالرجوع لاستماتها في المحافظة على سياسة التقشّف المالي حتى وإن نفى الخطاب الرسمي ذلك، فترسيخ هذه الممارسة كان تقليداً من أجل الحفاظ على التوازن في المالية العمومية كشرط لتعزيز المزيد من النمو الاقتصادي. وبهذا المعنى، كان لا بد من التحكّم في الإنفاق العام وتخفيضه مراراً وتكراراً، أما وعندما يحدث هذا، فمن الشائع أن يقال إن الإنفاق الاجتماعي لن يتأثر كما يردد دائماً رئيس الجمهورية في مونولوجاته (Les monologues) مع وزرائه.

وعلى افتراض صحة أننا أمام رفض رئاسي لإملاءات صندوق النقد الدولي وخيارات مؤسسات «بريتون وودز»، فذاك لن يجد منا سوى الإشادة، ننوّه به على قاعدة وجود بدائل فعليّة جاهزة من الرئاسة وخطة حكومية عملية لها القدرة لتجاوز تأثيرات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية على عموم الناس ولا تضعنا وجهاً لوجه مع الإفلاس وحافة الهاوية مباشرة بعد الانتشاء من الخطابات السيادوية من دون فعل.

تواصل الخيارات الكارثية 

إن عقوداً من الفساد والمحسوبية وغياب أي شكل من أشكال التخطيط والخيارات الاستراتيجية السيادية ليست الأعراض الوحيدة للأزمة الاقتصادية المزمنة التي يعاني منها البلد، فالتونسيون على دراية تامة بالآلام الناجمة عن «اقتصاد عدم التدخل» الذي فرضه المقرضون الدوليون، وأدى إلى زيادة الفقر وانعدام السيادة الاقتصادية وعرقلة تنمية البلاد.  

ومن الطبيعي الذهاب الى أن الأزمة المتواصلة ليس نتيجة لمشروع إصلاحات اقتصادية فاشلة قامت به واحدة من الحكومات، بل هي نتيجة للتدخلات النيوليبرالية المفروضة قصراً على الحكومات نفسها والتي تهدف إلى العجز التدريجي للدولة وفقدان قدراتها على وضع السياسات الاقتصادية، بل ساهمت شراكة دوفيل مع الدول العربية (التي تمر بمرحلة انتقالية)  في العام 2011، في مزيد من الفشل وتأزيم الوضع أكثر بعد أن وقعت تونس مع  تحالف يضم دول مجموعة الثماني وتركيا ودول الخليج وصندوق النقد والبنك الدولي اتفاقاً ضُخت عبره مجموعة من  القروض الضخمة.

لم يكن لدى تونس القدرة على إعادة التفاوض بشأن الشروط المعروضة وكانت شراكة دوفيل بمثابة حجر الزاوية في الإصلاحات الاقتصادية التي تم اعتمادها في بلدنا خلال الفترة الانتقالية، بل إن نتائج دوفيل تقطع شوطاً طويلاً في تفسير الأزمة الخانقة التي تحدث اليوم وارتداداتها لفرض نظام اجتماعي مؤسّسي جديد عبر خفض الإنفاق المالي للقطاع العام، والتفويت في الخدمات العمومية، والتحرير النقدي، وتقليص أدوار الدولة ووظائفها الاجتماعية والائتمانية ومساهمتها في التنمية الاقتصادية المباشرة، لصالح التوسع على نطاق واسع للبرجوازية المحلية المسيطرة من خلال إتاحة الفرص نحو الخصخصة، والسماح بالتهرب المالي أو تخفيف العبء الضريبي على الشركات الكبيرة والأغنياء وتشجيع التهرب نحو الملاذات الضريبية في حين كنا من المفترض أن يعملا سوياً (الحكومة ورأس المال) على زيادة فرص العمل والثروة الاجتماعية والدخل.

الأزمة المتواصلة ليس نتيجة لمشروع إصلاحات اقتصادية فاشلة قامت به واحدة من الحكومات، بل هي نتيجة للتدخلات النيوليبرالية المفروضة قصراً على الحكومات نفسها والتي تهدف إلى العجز التدريجي للدولة وفقدان قدراتها على وضع السياسات الاقتصادية

فالسياسة الجبائية للدولة التي تقر مجموعة من الإعفاءات بمقتضى قانون الاستثمار الذي فرضه البنك الدولي والزيادة في الأداء على القيمة المضافة بطلب من صندوق النقد الدولي وحتى ضغط الاتحاد الأوروبي لتغيير النظام الجبائي، أدت جميعها إلى تفاقم الحيف في المنظومة الضريبية علاوة على التشجيع على التهرب المقنن. وتشير التقديرات إلى أن الدولة التونسية تخسر سنوياً ما مقداره 25 مليار دينار بسبب الاحتيال والتهرب الجبائي، أي ما يقرب من حجم الاقتراض المتوقع لسنة 2024 والذي بدوره يمثل ثلث حجم الموازنة.

الواضح من دون مواربة أن تونس تعاني من تبعات سياسات موجّهة لصالح أقلية، سياسة غير مُنصفة بطريقة تجعل أصحاب الدخل المرتفع وأصحاب الثروات وأصحاب رؤوس الأموال لا يساهمون بالقدر المطلوب في الواجب الجبائي بل تستفيد مجموعات رأس المال من المزايا التنافسية ومِنَح التشجيع على الاستثمار واليد العاملة الرخيصة، من دون أن تترك آثاراً إيجابية على الاقتصاد.

إن دعائم النظام السياسي والاقتصادي المبنية منذ عقود على الجشع والربح والتسليع وخصخصة كل شيء لا يمكنها معالجة أزمة بهذا الحجم بل ستراكم خطر الفوضى الاجتماعية، وتزيد خياراتها من معاناة الفئات الهشة والطبقة الوسطى، خصوصاً مع توقع ارتفاع متوسط أسعار المواد الأساسية في العام 2024، ما سيؤثر سلباً على القدرة الشرائية للمواطنين التونسيين ويزيد من حدة الفقر.

ينبغي أن يشار هنا إلى أن الاقتصاد هو الطريقة التي ننظّم بها المجتمع لتلبية احتياجاتنا وتحقيق تطلعاتنا. وعلى نحو ما، يستطيع السياسيون وكبار موظفي الإدارة وخبراء الاقتصاد أيضاً أن يتصوروا الأمر على هذا النحو، ولكن لديهم رؤية أضيق لوسائل تحقيق ذلك: فهم يفعلون ذلك من الناحية التقنية والمحاسبتية فقط وهذا لا ينجح، لأننا بشر والعلاقات الإنسانية مهمة بقدر أو أكثر من الأشياء في قلب وجهة النظر السائدة بين الاقتصاديين، حيث تكمن فكرة أن ما يهم هو النمو الاقتصادي. ولكن ثبت أن الرغبة في النمو هي التي تقف وراء الأضرار البيئية والاجتماعية الجسيمة، إضافة إلى عدم الاستقرار المالي. المشكلة هي كيف يتم ممارسة الاقتصاد؟

مفترق الطرق على اليسار: من أجل اقتصاد أكثر عدالة وديمقراطية واستدامة

في مواجهة مستقبل مليء بالتحدّيات وفي هذا وقت من الارتباك، من المناسب أن نتذكر أن تاريخ هذا البلد ليس بالضرورة تاريخ هزيمة، وأن المكاسب التي راكمناها لعقود كان نتيجة كفاح أولئك الذين سبقونا.

 لا أعتقد أننا نواجه نقصاً في التطلعات والحلول بقدر ما يغيب شغف الأفكار وبقدر أننا نعيش على وقع ضعف الروابط التقليدية للعمل السياسي حيث من الصعوبة بمكان الهروب من الانطباع أن دمقراطيي اليسار يواجهون صعوبات هائلة في اقتراح بدائل اقتصادية واجتماعية تختلف بشكل كبير عن السياسات المهيمنة.

كل ما في الأمر أن الاقتصاد يجب أن تكون موضوع نقاش سياسي ديمقراطي لأننا ما زلنا ندرك أن معركة الأفكار لا تزال سارية في التاريخ. وهذه الأفكار أصبحت أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.

1. الاقتصاد الديمقراطي

لقد ساهمت الأزمة السياسية المركبة والمتواصلة منذ سنوات في تفكّك الطبقة السياسية التونسية، وأصبحنا نرى أحزاباً بلا عمق ولا تحظى إلا بدعم شعبي ضئيل، وكان لنمو الاحتجاج الجماعي خارج السياسة المؤسسية تبعات مؤثرة، حيث لم تعد تجدي نفعاً محاولات إعادة بناء الرابط بين الشارع والمؤسسات وإعادة تركيب العلاقة بين السياسة والمجتمع.

لم تعِ الكيانات السياسية ولو للحظة تأثير اللامساواة الاجتماعية على نوعية حياة الأفراد فحسب، بل أيضاً آثارها على المجتمع ككل، من تآكل المؤسسات وتقليص الشرعية الديمقراطية واحتدام الصراعات.

أنه أمر غير ديمقراطي خصوصاً مع فرض قانون استقلالية البنك المركزي والتي لم يكن مستقلاً فقط عن برلمانه وعن الشعب، بل كان بالكامل تحت وصاية المموّلين والأوليغارشية بشكل عام

وعلى الرغم من أن البلد أظهر بفخر عقداً من المواعيد الانتخابية والتداول السلمي على السلطة، إلا أن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة فاقمت استياء المواطنين من هذا النظام السياسي، ومن ثم حتى عند الاعتراف بالقيم الأساسية للعيش في حرية الديمقراطية، فإن الفقر والبطالة واللامساواة زرعت شكوكاً متزايدة لدى المواطنين فيما يتعلق بهذا النظام، طبعاً ليس انزعاجاً من «الديمقراطية» بل «استياءً من ممارسة فاسدة  لهذه الديمقراطية»، بالنظر إلى أنها لم تكن قادرة على توليد وبناء «حياة تستحق العيش»، سواء لأنفسهم أو للأجيال القادمة.

لقد غاب عن الجميع أن قلة هم الذين يسيطرون على المال، قلة هم الذين يهيمنون على الاقتصاد وقلة هم الذين يحتكرون معظم الثروات ويتخذون القرارات الاقتصادية الكبرى التي تؤثر على معيشتنا.

من البيّن ان الطريقة المنشودة  لتغيير ذلك والقطع معه هي من خلال إضفاء الطابع الديمقراطي على الاقتصاد، لتعود فيه نتائج نجاحه بالنفع على الجميع، حيث يقع تطبيق الديمقراطية على عملية صنع القرار وفق مبدأ الشفافية وغياب التلاعب بالمعلومات وعلى توزيع المنافع الاقتصادية والفوائد بغاية خلق قيمة مشتركة ومضافة لجميع الأطراف المتداخلة مالياً واجتماعياً وبيئياً، وهذا هو معيار الاستدامة الذي يجب أن يكون حاضراً بشكل مركزي وبهذه الطريقة فقط يمكن تحقيق إعادة توزيع الثروة والمنافع الاقتصادية بطريقة أكثر عدالة وإنصافاً بما يحقق للمجتمع تقدماً حقيقياً عبر توزيع فوائده بشكل عادل بين جميع الفئات.

إن الهدف الأساسي من العملية هو إعادة هيكلة الاقتصاد الوطني وتحويله بشكل جذري، بما يضمن تفاعله مع اقتصادات ومجتمعات المنطقة المغاربية والأفريقية وعموم دول الجنوب، وأن تعيد هذه التغييرات التواصل مع متطلبات عالم متزايد التنافسية والترابط في سياق الحكم الديمقراطي، الأمر الذي يفتح إمكانيات تحدي نظرية التبعية التي يمكن أن تلعب دوراً مفيداً في عملية التشكيك وبناء نموذج التنمية البديلة فيما يتعلق بالهيمنة الحالية للمخطّط النيوليبرالي.

سيكون التحدي الآن في إضفاء الطابع الديمقراطي على الاقتصاد فهو المحور المركزي الذي يحكم حياتنا وهو أكثر ما يجب أن يهتم به معظمنا اليوم، إضافة الى الحريات السياسية والعدالة وإحقاق الحقوق، لكن همنا الأكبر اليوم، هو الاقتصاد، وإذا فشلت كل الحكومات التي تولت السلطة في حل هذه المعادلة فقد فقدت ليس قوتها فحسب، بل ساهمت في تدهور النظام الديمقراطي لعدم إيجاد الآلية التي تحسم نجاعة دمقرطة الاقتصاد، بل رأينا سحب السياسة النقدية والإقتصادية من أيدي السياسيين المنتخبين من دون أن يحرّك فيهم أي حمية، أنه أمر غير ديمقراطي خصوصاً مع فرض قانون استقلالية البنك المركزي والتي لم يكن مستقلاً فقط عن برلمانه وعن الشعب، بل كان بالكامل تحت وصاية المموّلين والأوليغارشية بشكل عام.

لو كنا نعيش في وطن عادل لما سمح لكل هذا أن يحدث وسيُعتبر النشاط المصرفي خدمة عامة أساسية للاقتصاد، وستكون البنوك ملزمة بتوفير التمويلات والاعتمادات للمؤسسات والشركات وأصحاب المهن والفلاحين والأسر. حتى وان لم يكن الأمر مربحاً كثيراً ولكنه ضروري. بل سيتعين على البنك الخاص أن يخضع لهذا المبدأ، وأن يكون شفافاً وخاضعاً للمساءلة؛ تماماً مثل البنك المركزي التي لا يمكنه الاستمرار في كونه مجرد أداة في خدمة رأس المال الطفيلي.

إن تعزيز تقدم الديمقراطية الاقتصادية يوفر أفقاً من الحقوق والإصلاحات التي تسمح باستعادة الهيمنة الثقافية الوطنية، ودمج مقترحات التحديث والتغيير الهيكلي للنظام الاقتصادي والمالي في الأجندة السياسية.

2. أهمية الرافعة السياسية 

يبقى ان إضفاء الطابع الديمقراطي على الاقتصاد هو مهمة معلقة وملحة للقوى الديمقراطية، خصوصاً في ظل عجز الرئيس على إدارة الملفين الاقتصادي والسياسي وضربه لجميع المكتسبات الديمقراطية. ولتحقيق ذلك، يتوجب الاتجاه نحو نموذج يتضمن فيه الحكم حتماً الالتزام بالعقد الانتخابي في المحاور الاقتصادية والاجتماعية. وبطبيعة الحال، لكي يحدث هذا سيتعين على القوى السياسية والمرشحين تجاوز العبارات الفارغة مثل «تغيير منوال التنمية» أو «تطوير الاقتصاد» و«جلب الاستثمارات»، لوضع المحتوى وصياغة المقترحات والخطط انطلاقاً من تحديد الأهداف. نحن بحاجة لجميع المناقشات المثيرة للاهتمام حول مشاركة المواطنين، والتأثير على العمل الحكومي وأن نتداول ونقر أن الديمقراطية هي أكثر من مجرد تصويت انتخابي لكل خمسة سنوات.

الاستخدام المباشر للغة، من دون الأمثال أو التقنيات المفرطة، يمكن أن يساعد الناس على فهم ما نقرأه ونسمعه عن الاقتصاد، وبالتالي يمكننا تقييم قراراته وتأثيراته ونقرّر ما إذا كنا نؤيد مثل هذا القرار أم لا، ولكن الأهم من ذلك هو تعزيز الوصول المباشر للناس إلى الاقتصاد حيث ننتقل من «الناس في خدمة الاقتصاد والأغلبية في خدمة الأقلية» إلى «الاقتصاد في خدمة المصلحة العامة»

هل من الصعب أن نسأل أنفسنا بعض الأسئلة والتي يمكننا الإجابة عليها بشكل جماعي: ماذا سيحدث لو تم الحديث عن نظام ضريبي أكثر تصاعدية ومن يجب أن يدفع أكثر ومن يجب أن يدفع أقل؟ ماذا سيحدث لو عرضت الأرض على من التزم بإنتاج الغذاء السيادي؟  ماذا سيحدث لو تضاعفت مئات الأسواق التي تقدّم منتجات من الاقتصاد التضامني والاجتماعي وأصبح لدينا سوق في كل حي أو مدينة أو قرية؟ 

ماذا سيحدث لو تدبرنا في تبعات تخفيض قيمة الدينار التونسي بين عامي 2011 و2022 ليفقد ما يعادل 52% من قيمته مقابل الدولار الأميركي؟

ماذا سيحدث إن فكرنا في أنجع الآليات للمساهمة في تكاليف مهام الرعاية الاجتماعية الشاملة لجميع السكان؟ 

قد يكون من الصعب الإجابة على عشرات الأسئلة في الوقت نفسه، ولكن عليك أن تبدأ من النقطة المحورية انطلاقاً من مفهوم ضرورة إضفاء الطابع الديمقراطي على الاقتصاد، وإلا سنكون عبيداً ليد السوق الخفية.

فالوصول إلى المعلومات الاقتصادية بشكل مباشر وواضح ليس سوى جزءاً من دمقرطة الاقتصاد والتي تقع على كاهل المعارضة السياسية بصفة مباشرة، ولا شك أن الاستخدام المباشر للغة، من دون الأمثال أو التقنيات المفرطة، يمكن أن يساعد الناس على فهم ما نقرأه ونسمعه عن الاقتصاد، وبالتالي يمكننا تقييم قراراته وتأثيراته ونقرّر ما إذا كنا نؤيد مثل هذا القرار أم لا، ولكن الأهم من ذلك هو تعزيز الوصول المباشر للناس إلى الاقتصاد حيث ننتقل من «الناس في خدمة الاقتصاد والأغلبية في خدمة الأقلية» إلى «الاقتصاد في خدمة المصلحة العامة».

إن الدفاع عن الديمقراطية بعد 25 تموز/يوليو 2021 يشكّل ضرورة سياسية حتمية وواجباً أخلاقياً ومعنوياً على الرغم من الصعوبات التي تواجهنا، بل يجب علينا أن نحافظ على رؤية متفائلة وأن نحافظ على صحة اعتقادنا في ديمقراطية حقيقية بمنج اقتصادي واجتماعي، وسوف يتطلب هذا جرعة كبيرة من القيادة والرؤية للمستقبل، وهو ما يسمح ببناء إجماع واسع النطاق ووضع المصالح العامة قبل المصالح الفردية.

من البيّن أن الإقرار بديمقراطية أوسع وأنجع، المزيد من الحوار والتوافق الحقيقي حول بدائل اقتصادية واجتماعية وبيئية مناقضة لنوازع النيوليبرالية وترسيخ السردية السياسية التي لا تتزعزع هي الرسائل الأساسية والطريق الذي يجب اتباعه لمواجهة النزعات الشعبوية والاستبدادية التي تمكنت منا.

نحن بحاجة لتعزيز وضمان أفق برامجي واسع يشمل بدوره ضرورة كشف وتفكيك المخاطر المختلفة المرتبطة بممارسة السياسة، وفي مقدمتها المشكلة - التي يجب على اليسار الديمقراطي أن يحاربها من دون تأخير - الخطابات والممارسات الملوثة بالنهج التكنوقراطي المرتكز بشكل مفرط على اهتمامات الأجندة اليومية وفي توليد مقترحات منفصلة عن منظور برامجي طويل المدى.

إن تمكن «التكنوقراطية» من مقاليد السياسة وبروز «The Golden Boys» أبان التزامهم الكامل بالمخطّطات الصارمة التي توجّه السياسة الاقتصادية والنقدية التونسية من قبل الاتحاد الأوروبي والمنظمات الدولية المختلفة (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي)، والالتزام حصراً بعقيدة النيوليبرالية، وبما يمثله من تنفيذ سياسات هيكلية أثبتت لعقود أنها تمثل خطراً على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية.

وفي هذا الصدد، من المهم أن تفكر أحزاب اليسار الديمقراطي في العواقب السياسية والاجتماعية التي تنشأ عن الحفاظ على سلسلة من المفاهيم المعدّة مسبقاً والمستوردة كشرط لأدائها، ومن الضروري أن تعمل بشكل نهائي على تفكيك هذا الاستعمار المنحرف للأفكار، الذي يسعى بشكل خطير إلى صياغة وتوحيد الخطاب والممارسات السياسية النيوليبرالية، بل يجب أن تكون المعارضة الديمقراطية والاجتماعية قادرة على بناء برنامج للعمل السياسي، وسرد يتنافس بشكل علني ومباشر مع خطاب حتمية اقتصاد السوق وقوانينه التي يفترض أنها جوهرية وغير قابلة للنقاش.

ولكي نمنع اليسار الديمقراطي من أن يصبح عقيدة عتيقة، يتعيّن علينا أن نكون على وعي بالتغيرات التي تحدث في العالم من حولنا، وأن نشهد ميلاد يسار تونسي جديد يحمل هوية حزبية راسخة اجتماعياً ذات أفكار متماسكة وذات مصداقية ولا يرى في العولمة الرأسمالية معجزة اقتصادية أساسها التنمية للجميع، لأنه كلما تحرّك جزء من اليسار نحو اليمين، فإنه يصبح نيوليبرالياً، والنتيجة أنه يفقد كل القدرة على التمثيل. 

فالأحزاب بهيكلتها وبنيتها القديمة سوف تتعرض لخطر جدي إن لم تجد طريقها نحو تجديد القوة المؤسسية، فالديمقراطية الداخلية لهذه الأحزاب هي التي تتطلّب المزيد من العمق والديناميكية تجاوزاً لأخطاء وأعطاب الماضي وتحميه من الكثير مما قد يعترضه من تحدّيات وعقبات، بل ربما تحدد مصيره وقدرته على الاستمرار في تأدية مهامه من دون أن يتعرّض للانكماش أو الاندثار.

المفتاح لفهم هذه الأزمة هو أنه يجب علينا إعادة التفكير في حقيقة أن الرأسمالية والديمقراطية ليسا الشيء نفسه، وأن الوقت قد حان للغة ورؤية وحركة جماهيرية جديدة لإعطاء معنى لمستقبل تتحقق فيه العدالة والمساواة والحرية. معاً في شكل مجتمع اشتراكي ديمقراطي، مجتمع يتجاوز الحدود ليحتضن عهداً جديداً للديمقراطية.

3. نحن بحاجة لمفاوضات إلغاء الديون 

أ) إلغاء ديون دول الجنوب يحسِّن أدائها الاقتصادي: لكي نكون قادرين على سداد الديون، يجب أن نكون قادرين بالفعل على خلق الثروة، ولكن ليس هذا ما يهمّ المقرضين والمانحين فضغوطهم وسياساتهم تسبّبت لسنوات في انخفاض الناتج المحلي الإجمالي، وارتفع الدين وطبعاً الإسهام في كارثة اجتماعية، هم دون مواربة سعداء للغاية بسياساتهم، لأن هدفهم هو إبقاء الجنوب تحت سيطرتهم وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ليسا سوى مرابين إمبرياليين يظهران في صورة ملائكة التنمية والأعمال الخيرية.

إن الديون هي أداة للنهب ولكنها أيضاً أداة للهيمنة السياسية، ومن خلال هذا الدين، استولوا على سيادتنا، فالمفوضية الأوروبية مثلاً كانت لسنوات وما زالت تقرّر بدلاً من التونسيين.

في ظل هذه الظروف، من الممكن أن نتحدث عن المعجزة الألمانية والتجربة التي مكنتها من الإعفاء الهائل من الديون الذي استفادت منه من خلال اتفاقية 1953، حيث تُظهِر وعلى عكس الاعتقاد السائد، أنه من الممكن، بل والمرغوب في بعض الأحيان، تحرير أي بلد من أثقال ديونه وهذا أمر مرغوب فيه بالنسبة للمدين (فألمانيا تطور اقتصادها بقوة - في حالة شبيهة بالمعجزة - بعد الحرب العالمية الثانية المدمرة، لتصبح القوة الأوروبية الأولى بداية من الثمانينيات)، ولكن أيضاً للدائنين حين يقبل الأخير خسارة قصيرة الأجل، ويجد مديناً متمكّناً وشريكاً متماسكاً يتبادل معه اقتصادياً.

ومن المثير للاهتمام كذلك أن نرى التجربة التي حدثت في الإكوادور مفيدة في الوضعية التونسية، فما هو على المحك تخفيض عبء الديون بشكل جذري، وبالتالي إعطاء تونس فرصة للحصول على الوسائل اللازمة لتحسين الظروف المعيشية للسكان بشكل كبير، وتحسين البنية التحتية، وتحسين الإمكانيات الاجتماعية والاقتصادية للبلاد، والحفاظ على البيئة، ويمكن القيام بذلك الآن كجزء من استعادة سيادة وكرامة البلاد وشعبها واستكمالاً للثورة التي اندلعت في كانون الأول/ديسمبر 2010 وكانون الثاني/يناير 2011.

إن الإلغاء الكلّي أو الجزئي في حد ذاته ليس حلاً سحرياً، لأنه لا يعالج على الفور الأسباب الداخلية مثل التهرب الضريبي وتدفقات رأس المال غير المشروعة والفساد أو سوء الإدارة، أو الخيارات السياسية والاقتصادية التي أدّت إلى تراكم الديون، ولكنه يشكّل شرطاً أساسياً لتحقيق الإصلاحات البنيوية في تونس، هذه الإصلاحات ستكون مستحيلة إذا لم تتحرّر بلدان الجنوب عموماً من خياراتها الملفقة والمفروضة من دائنيها الإمبرياليين ومن الخيارات الاعتباطية لسياسييها وشعبوية حكامها.

كما أن إلغاء الديون أو حتى إعادة تحويلها لا يكفي إذا حافظت القوى الاحتكارية محلياً كانت أو أجنبياً على ملكية الروافع الرئيسية للاقتصاد، لذا فإن إلغاء الديون لا بد أن يشكل عنصراً أساسياً في بناء حركة جذرية مناهضة للرأسمالية تهدف إلى التغيير الشامل وللخروج من هذا الزقاق الذي يزداد قتامة.

إلغاء الديون أو حتى إعادة تحويلها لا يكفي إذا حافظت القوى الاحتكارية محلياً كانت أو أجنبياً على ملكية الروافع الرئيسية للاقتصاد، لذا فإن إلغاء الديون لا بد أن يشكل عنصراً أساسياً في بناء حركة جذرية مناهضة للرأسمالية تهدف إلى التغيير الشامل وللخروج من هذا الزقاق الذي يزداد قتامة

ب) ضرورة مبادلة ديون تغيّر المناخ: ومن ناحية أخرى، تراكمت على اقتصادات الشمال العالمي ديون مناخية ضخمة تجاه شعوب وبلدان الجنوب العالمي ( ومنها طبعاً تونس) بسبب مساهمتها غير المتناسبة في انبعاث الكربون وغيره من الغازات منذ القرن التاسع عشر، وهو ما يتطلّب تغييراً منهجياً لمفهوم الديون المناخية ومثل هذا التغيير لا يعني ضمناً الاعتراف بالديون المناخية فحسب، بل وأيضاً ردّ وتعويض الديون المالية والاجتماعية والبيئية المتعدّدة التي يدين بها الشمال العالمي للجنوب العالمي، والتي بنيت في الماضي الاستعماري ومن خلال الديناميكيات الاستعمارية الجديدة الراهنة.

ولن يكون تحقيق استخلاص هذه الديون والعدالة الاقتصادية ممكناً في غياب العدالة البيئية والمناخية وهذا يعني الاعتراف بالديون المناخية التي يدين بها الشمال العالمي للجنوب العالمي وتوفير التمويل المناخي الكافي كسداد جزئي لهذا الدين المتراكم ما يعني أن لتعويضات ديون المناخ أيضاً أن تساهم في استعادة البيئة، وإنهاء الاستخراج واستخدام الوقود الأحفوري، والتحوّل إلى أساليب الإنتاج والتوزيع والاستهلاك منخفضة ومنعدمة الكربون ونقل التكنولوجيا وتطبيق قواعد التجارة العادلة. 

إن إلغاء الديون ضروري أيضاً، مع الاعتراف بالدور الذي لعبه تاريخياً في تعزيز وفرض نموذج «تنمية» غير عادل وغير مستدام، والعقبة التي يمثلها الدين المذكور اليوم أمام تحقيق انتعاش عادل ومنصف ومستدام.

4. نعم النضال من أجل السيادة الغذائية... نضال من أجل الحياة

في هذا السياق الدولي المعقّد المتّسم بتحدّيات كبيرة، نواجه قضايا غذائية ملحّة، لا سيما بسبب خفض قيمة الدينار ونقص احتياطي العملات الأجنبية وأساساً نتاج الآثار والتأثيرات المباشرة للوضع المناخي وتبعات السياسات الفلاحية، ما أدّى إلى مخاوف بشأن تأمين الغذاء للتونسيين خصوصاً مع حالة الانسداد السياسي الراهنة وتردّي الوضع الاقتصادي والاجتماعي، واللافت ما تشهده البلاد من تنامي خطاب الرفض للتبعية والإخضاع بما يمثله من فرصة اللحظة الحاسمة، وما يوفره من أهمّية لكسر هيمنة الخطابات الكلاسيكية التي تقيّدنا دفاعاً على «الفلاحة التصديريّة» واستمرار التبعية الغذائية وليكون من المُتاح اليوم بحماسة مناقشة آثار السياسات العمومية عن النظم الزراعية والغذائية في البلاد.

العولمة، باعتبارها شكلاً من أشكال الهيمنة، تحاول أن تفرض على دول مثل بلادنا ما يجب إنتاجه، وأيضاً كيفية القيام بذلك لتلبية متطلبات واحتياجات دول الشمال كما أنها تفرض علينا ما يجب أن نستهلكه، مما يجبرنا على أن نكون موردي

إن العولمة، باعتبارها شكلاً من أشكال الهيمنة، تحاول أن تفرض على دول مثل بلادنا ما يجب إنتاجه، وأيضاً كيفية القيام بذلك لتلبية متطلبات واحتياجات دول الشمال كما أنها تفرض علينا ما يجب أن نستهلكه، مما يجبرنا على أن نكون موردين.

فنحن إزاء إرساء أشكال جديدة من التبعية والهيمنة تقوّض السيادة وتضرب الفلاحة التونسية عبر تضاعف عمليات تصدير الماء الذي نفتقر إليه أساساً من خلال الفلاحة التصديرية إلى دول الشمال، بل بات أمراً واقعاً أن ملايين الأطنان من الخضر والغلال تغادر البلاد صوب دول أوروبية وغيرها زمن الجفاف حيث جفّت السدود واستنزفت المياه الجوفية خدمة لخيارات فلاحية كارثية أعطت الأولوية لكل ما تطلبه الأسواق الأجنبية من الطماطم والزياتين والقوارص والفراولة والتمور… انتهاجاً لسياسة تتطلّع حصراً للتصدير، لا لتحقيق اكتفاء السوق المحلي كأولوية.

لذلك يشكّل تحقيق السيادة الغذائية تحدياً بالغ الأهمية في بلادنا، ولكنه يشكل أيضاً فرصة لمعالجة المشاكل الأساسية. وفي هذا السياق، فإننا نعتبر أن تطبيق السيادة الغذائية كآلية للتحوّل الاجتماعي أمر قابل للتحقيق، على الرغم من أننا ندرك صعوبة النهج والتحديات المنتظرة. إن السيادة الغذائية مفهوم يتجاوز مجرد توفير ما يكفي من الغذاء للجميع عندما يتعلّق الأمر بضمان أن يكون للناس الحق والقدرة على تحديد نظمهم الغذائية الخاصة، وإنتاج الغذاء على نحو أكثر صحة واستدامة وإثراء ثقافياً.

يمثل وضع سياسات السيادة الغذائية موضع التنفيذ تحدّياً كبيراً، وهو أمر ممكن فقط إذا تم إعطاء الأولوية للإنتاج الزراعي المحلي المعاشي لإطعام الناس، ونفاذ صغار الفلاحين ومن لا يملكون أرضاً للأراضي الدولية وحصولهم على المياه والبذور وإتاحة التمويل البنكي والمساعدات وتعزيز الأسواق المحلية والتعاون في إنتاج الأغذية وتوزيعها. ومن هنا تأتي الحاجة إلى تعزيز إصلاحات السياسات الفلاحية والتدريب على الممارسات الزراعية المستدامة الأيكولوجية، واعتماد التكنولوجيات المناسبة، ومكافحة المنتجات المعدلة وراثياً من أجل الوصول الحرّ إلى البذور الأصلية، وإدارة الموارد الطبيعية والحفاظ على المياه باعتبارها منفعة عامة يتم توزيعها بطريقة مستدامة.

تتكيف السيادة الغذائية مع هذه الظروف الصعبة، لأنها تدعو إلى إدارة إنتاج الغذاء وتوزيعه من خلال قدرة المتداخلين الكاملة على اتخاذ القرار بشأن الطريقة التي تتم بها زراعة الإنتاج وتحويله وتوزيعه من خلال ضمان حق المزارعين في إنتاج الغذاء وحق المستهلكين في أن يكونوا قادرين على تقرير ما يريدون استهلاكه وكيف يتم إنتاجه ومن يقوم بذلك والاعتراف بحقوق المرأة الفلاحة التي تلعب دوراً أساسياً في الإنتاج الزراعي والغذاء، وتمكين صغار الفلاحين ودعم قدراتهم وتشجيعهم على البقاء في المناطق الريفية.

إن السيادة الغذائية ليست ضد التبادلات، بل هي ضد الأولوية المعطاة للصادرات: فهي تسمح للناس بضمان غذائهم ومن خلاله حق كل دولة في تحديد سياستها الزراعية والغذائية ومن ثم يتم تبادل فوائض الإنتاج مع باقي الدول على قاعدة التجارة العادلة وضمان استقرار الأسعار على المستوى الدولي من خلال سياسات واتفاقيات وتعاون مشترك. 

إن تحقيق السيادة الغذائية في بلادنا هو عملية متعددة الأبعاد تتطلب تعاون مؤسسات الدولة والسلطة السياسية والمنظمات والمجتمع المدني والمجتمعات المحلية ومن خلال تمكين الناس من السيطرة على أنظمتهم الغذائية، يمكننا معالجة عدد من القضايا الاقتصادية الأساسية وتعزيز العدالة الغذائية والإنصاف والرفاهية على المدى الطويل.

إن السيادة الغذائية ليست مجرد هدف، بل هي طريق نحو مستقبل أكثر استدامة وإنصافاً للجميع، وهو الأمر ذاته إذا نظرنا للسيادة في الطاقات المتجددة وكان لنا الوعي الكامل بضرورة استغلال الفرص الحقيقية لتطوير قطاع الطاقة وضمان تحوّل عادل من أجل تنمية تونس وحقوق الناس بعيداً من إطار المخطّط النيوليبرالي العالمي المتعلّق بتطوير الطاقة المتجدّدة والمبادرات الاستعمارية الجديدة التي تعرقل سيادة التونسيين على مواردهم وتعزيز التبعية المالية والمعرفية للجهات الخارجية من خلال الاستثمارات الأجنبية المباشرة  واستيراد التكنولوجيا.

5. الشراكة مع الشمال وكسر التبعية الاقتصادية

إن الطريقة التي يعمل بها الاقتصاد العالمي والنظام المالي تعمل على تعزيز كافة أنواع الانقسامات واللامساواة وعدم التماثل العميق بين الشمال والجنوب، وهي الحقيقة التي يتم تجاهلها إلى حد كبير، فالفقر مثلاً ليس، كما يعتقد كثيرون، هو سبب التبعية الاقتصادية، فهناك العديد من الأمثلة في العالم لدول يحتمل أن تكون غنية، ولكنها تتمتع بمستويات منخفضة جداً من التنمية والرفاهية الاجتماعية. وهذا يعني أن التبعية الاقتصادية تحدث عندما لا تستطيع البلدان أن تقرّر سياساتها التنموية بنفسها، بل على العكس من ذلك، تطيع ما تفرضه عليها الأسواق الأقوى. 

وفي الواقع، فإن هذه التبعية هي نتيجة لأوضاع سياسية ميزت لحظات محددة من تاريخنا، وسمحت لبعض الدول (دول المركز) بفرض نفسها على أخرى (الأطراف) في ظروف غير عادلة، بل لقد فعلوا ذلك من خلال استغلالنا ومنعنا من حكم أنفسنا. فالطريقة الواضحة لتقدير هذه الهيمنة هي من خلال تبيان فرض السياسات الاقتصادية بما يدرّ أرباحاً كبيرة على هذه البلدان حين تتجلى أمامنا اتفاقيات التجارة الحرة مع دول الشمال والاتحاد الأوروبي خصوصاً، وهي المثال الأدق على هذه العلاقات غير المتكافئة التي كرّست «التبعية التجارية والمالية والتكنولوجية».

لا يخفي على عين الناظرين اعتماد بلدان الشمال على البرجوازيات المحلية في الاستيلاء على الفائض الاقتصادي والعمل لصالح هذه الاقتصادات على حساب مشاريع التنمية الوطنية وهي المعلوم ارتباطها اقتصادياً وثقافياً بمصالح خارجية، لتقوم بتعزيز هذا النظام وإضفاء الشرعية عليه

لا يمكن لتونس أن تعيش معزولة عن العالم، فهي تحتاج إلى أفضل الفرص لتصدير منتوجاتها وخدماتها، ولكن في الوقت نفسه فإن المفاوضات التجارية صعبة ولا يوجد شيء مجاني: فالمبدأ الذي يحكم هذه المفاوضات هو المعاملة بالمثل علاوة على ذلك، عند التفاوض مع شركاء التقليديين، يتم ذلك عموماً من موقف غير متكافئ، ولهذا السبب من الضروري إجراء تشخيص دقيق للوضع والمصالح المختلفة المعنية.

باختصار، إن التفاوض على اتفاقيات التجارة الحرة والتوقيع عليها وتحديثها أو إعادة التفاوض بشأنها من دون مناقشة مسبقة وشاملة وكاملة للتأثيرات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية يمثل مواقف لا تتفق مع النمو المستدام والشامل الذي تحتاج إليه تونس فلطالما رأينا أن جوهر فضاء البحر الأبيض المتوسط ​​هو التبادلات والعلاقات.

إن الافتقار إلى الحوار بندية وانصاف بشأن السياسات التجارية شكل لعقود خطأً فادحاً. وبينما يقوم المتخصصون في هذا المجال في أجزاء أخرى من العالم بإعداد دراسات دقيقة وتنظيم المناقشات، لا تزال المحادثات عندنا تدور في إطار ثنائي قد يبدو للوهلة الأولى زائفاً.

وغني على البيان أن الفقراء يصبحون أكثر فقراً والأغنياء يصبحون أكثر ثراءً لها علاقة بتوسع أسلوب الحياة والاقتصاد الرأسمالي في جميع أنحاء العالم ومنها تونس، لقد قامت العديد من شركات بلدان الشمال بنقل وظائفها إلى البلدان ذات الأجور المنخفضة في الجنوب، تم بناء المصانع ومرافق الإنتاج حيث تكون الشركات معفاة من الضرائب وحيث تكون عقبات العمل وحماية البيئة منخفضة، وبمعنى آخر: حيث يمكن استغلال الناس بشكل أكبر ويمكن أن تكون الأرباح أكبر ومع ذلك، فقد ثبت أن الوعد بترك شيء ما للفقراء هو مغالطة. 

إن فكرة وضع أسس المشروع الاقتصادي الوطني في تونس في مواجهة ظاهرة عولمة الرأسمالية المتناقضة والإقصائية تعدّ قضية بأهمية لا تقبل الجدل انطلاقاً من إعادة هيكلة الاقتصاد والعمل بشكل مباشر على تعزيز السوق المحلية في مواجهة الواردات الاستهلاكية، وعبر إنشاء البنية التحتية اللازمة للانطلاقة من خلال بث الروح والاستثمار في الشركات العمومية ودعم قدراتها وتوفير حوافز ناجعة للقطاع الخاص الوطني والاعتماد على الاقتصاد التعاوني التضامني كدعامة ثالثة حيوية، لكسر كل دور  هامشي في التقسيم الدولي للعمل والتغلب على مراحل الهشاشة المادية السائدة ومن ثم إعادة التأكيد على السيادة الوطنية كفعل مباشر عبر الاستثمار في السيادة الغذائية وسيادة الطاقة المتجددة.

ولا يخفي على عين الناظرين اعتماد بلدان الشمال على البرجوازيات المحلية في الاستيلاء على الفائض الاقتصادي والعمل لصالح هذه الاقتصادات على حساب مشاريع التنمية الوطنية وهي المعلوم ارتباطها اقتصادياً وثقافياً بمصالح خارجية، لتقوم بتعزيز هذا النظام وإضفاء الشرعية عليه ولكم أن تتبيّنوا فحوى ومضامين ما اصطلح على تسميته بالإصلاحات الاقتصادية التي أرستها الحكومات المتعاقبة والتي كانت بناءً على علاقة التبعية هذه وليس بمعارضتها وفقاً لنماذج التنمية المتوافقة مع العقلانية الاقتصادية لدول الشمال.

ولأن مشاريع التنمية الداخلية محدودة النطاق في بدايتها وتواجه عقبات تبقى إحدى الاستراتيجيات التي يمكن أن تتبعها حكوماتنا هي التفاوض الجدي على قاعدة الإنصاف والتكامل على اتفاقيات التجارة الحرة مع دولة أو كتلة أكبر، مثل الاتحاد الأوروبي، للاستفادة من مزايا السوق الأكبر حيث سيؤدي توسع السوق الخارجي إلى تحفيز الاقتصاد المحلي وفرض تحسين فرص العمل والمداخيل الضريبية والتقليل من المخاطر الصحية والبيئية والقطع مع الاستهلاك المكثف للموارد الطبيعية ما ينتج بالتالي تأثيرات إيجابية إضافية ويدفع في اتجاه تنويع الشراكات.

6. الانفتاح نحو الجنوب 

سيكون من المفيد تكرار أن الرأسمالية تميل إلى مضاعفة اللامساواة ومن وجهة نظرنا فإن تعميق التبعية الهيكلية لبلدان الجنوب العالمي هو أحد المحددات الرئيسية لديناميات إفقار الغالبية العظمى من سكان العالم.

وعلى الرغم من المساهمات والمناقشات المهمة التي تم الدفع بها من أجل صياغة نظام اقتصادي دولي جديد في مختلف أنحاء العالم أساسها علاقات دولية أكثر ملاءمة للظروف الفعلية وتعكس بشكل كامل مصالح المجتمع الدولي ككل، فقد فقدت هذه المناقشة قوتها بحلول ثمانينيات القرن العشرين في خضم أزمة الديون وترسيخ ما يسمى «الليبرالية الجديدة» ووسط الانقسامات العميقة التي حدثت في السبعينيات بين الشمال والجنوب العالمي حتى تم التخلي عن مفهوم صياغة نظام عالمي منصف وعادل واستبداله بـ«إجماع واشنطن».

لأنه يتم تصوير «الجنوب العالمي» على أنه مسرح للديكتاتوريات ولاستغلال الطبقات الشعبية، سنكون بحاجة إلى تعزيز الروابط السياسية والاجتماعية، بهدف إعادة تسليح أفكار وأدوات النضال المشترك على نطاق عالمي، وهي مهمة مكفولة لقوى اليسار والتقدمية

لقد تسبّبت ظروف الإفقار واللامساواة وعدم الاستقرار، على مر العقود، في اعتماد بلدان الجنوب اقتصادياً على تلك التي تعتبر «قوى عالمية» أو غيرها من منظمات الائتمان الدولية مثل البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي. ولكن أظهر جزء من الجنوب العالمي لسنوات تصميمه على توحيد القوى لتحرير نفسه من الاعتماد على القوى العظمى في الشمال، فضلاً عن الرغبة في بناء علاقة ديمقراطية بين متساوين تسهّل بناء عالم متعدد الأقطاب حيث شارك بشكل متزايد في خطط التعاون فيما بين بلدان الجنوب أو التعاون الثلاثي وفي أميركا اللاتينية، قامت دول مثل الأرجنتين والبرازيل وتشيلي وكولومبيا والمكسيك وأوروغواي، من بين دول أخرى، بإضفاء الطابع المؤسسي على التزامها بهذا النوع من التعاون، وإنشاء وكالات وبرامج جامعة. وفي وقت ما من العام 2021  توقفت الدول الناشئة التي تشكل مجموعة البريكس - البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا - عن كونها كتلة طموحة وأصبحت كتلة جيوسياسية كاملة في المجتمع الدولي لتتوسع أكثر بانضمام دول جديدة.

من المؤكد أن التعاون بين الجنوب العالمي لا يزال في مرحلة الجنين، ولكنه ينمو بوتيرة سريعة. وهي فرصة فريدة لتونس كواحدة من دول الجنوب لكي تعرض بشكل أكثر وضوحاً ــ للعالم ومواطنيها ــ سياسة الدولة الخاصة بالانخراط في التعاون فيما بين بلدان الجنوب وتعزيز العلاقات -الثنائية ومتعددة الأطراف - من أجل زيادة قوتها التفاوضية بشأن القضايا الاقتصادية والتجارية وتبادل المعرفة وضمان النقل الفعال للتكنولوجيا والخبرة من أجل تنمية القدرات بالإضافة إلى تحسين المؤشرات الاقتصادية وتعزيز قطاعاتها ضمن استراتيجية توسيع العلاقات الاقتصادية والروابط السياسية بين دول الجنوب على أساس قيم التضامن والإنصاف والعلاقات التجارية العادلة.

يمكن لتونس أن تتعلم من تجربة بلدان أميركا اللاتينية فيما يتعلق بالدور الذي تلعبه الدولة والسياسات العامة في السعي إلى تنويع الاقتصاد، وخلق فرص العمل، وإزالة الحواجز أمام إنشاء الأعمال التجارية مع دول الجنوب، وجذب الاستثمارات، وضمان النقل الفعال للتكنولوجيا والخبرة.

تونس التي لا تملك سوى تمثيليتين ديبلوماسيتين في أميركا اللاتينية، و7 في القارة الآسيوية من دون اعتبار الخليج العربي، و16 في القارة الأفريقية، من الضروري وبشكل عاجل أن تبادر بإنشاء رؤية مشتركة لمستقبل التعاون بينها وبين دول أفريقيا وأميركا اللاتينية وآسيا، ومن الممكن أن تتم هذه المساهمات في هذه الرؤية المشتركة من خلال الحوار الدائم وتحفيزها بإرادة مشتركة لخلق مبادرات في جميع القطاعات ولجميع الجهات الفاعلة من أجل تحقيق شراكة متبادلة المنفعة وإجراءات والتزامات واضحة وشفافة وعادلة لتنويع تصدير منتجاتها ومصادر وارداتها والبحث عن الاستثمار الأجنبي خارج منطق سيطرة رأس المال الشمالي لعمليات الإنتاجية العالمية، وما يترتب على ذلك من نهب العمالة من الجنوب لتلبية احتياجات الشمال .

ولأنه يتم تصوير «الجنوب العالمي» على أنه مسرح للديكتاتوريات ولاستغلال الطبقات الشعبية، سنكون بحاجة إلى تعزيز الروابط السياسية والاجتماعية، بهدف إعادة تسليح أفكار وأدوات النضال المشترك على نطاق عالمي، وهي مهمة مكفولة لقوى اليسار والتقدمية بكل تقاليدهما، هذه المهمة التي تتطلب التغلب على التجزئة وأزمة التنظيم والارتباك الأيديولوجي والسياسي السائد.

7. محاربة التقشف، أي خطط لسياسات الإدماج والحماية الاجتماعية الشاملة

تعد اللامساواة من أهم أوجه القصور في تقدم الديمقراطية كنظام سياسي في تونس منذ العام 2011، حيث أن الفشل في وضع أسس المواطنة الاجتماعية كان مدخلاً لاستهداف وترشيد الحماية الاجتماعية، وخصوصاً من خلال ضمور سياسات مكافحة الفقر وإقرار المساواة الاقتصادية، أو خلق فرص عمل جيدة ودمج مفاهيم مثل الاستهداف وترشيد منظومة الدعم والخصخصة كبدائل لعجز السياسة الاجتماعية.

وعلى الرغم من تواتر الإجماع لسنوات على إصلاح منظومة الحماية الاجتماعية كهدف رئيسي للسياسات العمومية وأولوية في أجندة الحكومات، ويصبح الحد من الفقر ذا أهمية في أهداف السياسة. ولكن مع ذلك، فإن وجود «مرجعيات» مختلفة وإجراءات اعتباطية شكلت عاملاً مقيداً لصياغة السياسات ونجاعة تنفيذها، خصوصاً مع الدور المعيق لبيروقراطيات الدولة في هذا الجانب عبر الدفع بتغييرات سطحية أو إصلاحات ذات طبيعة تجميلية.

السياسات الاجتماعية تمثل بعداً مركزياً في العلاقة بين الدولة والاقتصاد والمجتمع بما يضمن ويعزز الحقوق الاجتماعية للمواطنين في الخيارات السياسية وبهذا المعنى فإنها لابد أن تعكس الاتجاه السياسي للعلاقات الاقتصادية

فإذا كنا نريد توليد الثروة والتغلب على الفقر، فمن الأولويات فهم تصورات المواطنين: كيف يشعرون، وما يؤمنون به ويثقون به، وما يرون أنه يؤثر على بيئتهم، وتوقعاتهم وصنع القرار الخاص بهم، ولهذا السبب، يجب أن نعيد ترتيب الأولويات ودمج عناصر جديدة وأفضل لتحليل وتصميم السياسات العمومية التي تسمح بالحد من الفقر واللامساواة. فالحرب ضدهما يجب أن تكون هدفاً وطنياً.

ولذلك نحن بحاجة للإجابة على أسئلة مثل: كيف يمكن نضع خطة للحد من الإفقار ودفع الإصلاح الاجتماعي؟ وما مدى قدرتنا على تجاوز الاستبعاد وتحسين الوصول إلى الخدمات العمومية وجودتها للجميع؟ وما هي أفضل طريقة لإعطاء دور وصوت للأشخاص الذين يعيشون في الفقر؟

إن توجيه السياسات الاجتماعية ليس فقط نحو القضاء على الفقر المادي، بل أيضاً نحو القضاء على الإقصاء الاجتماعي، وسيسهم في بناء سياسات عامة اجتماعية تقدمية، ترتكز على مجانية التعليم والصحة والمساواة وتعزيز ثقافة المواطنين، مع التنفيذ الفعال لمبدأ الكرامة الإنسانية كما يصبح التوسع في هذه السياسات ضرورياً نظراً لضرورة إعطاء شرعية أكبر لنموذج الديمقراطية السياسية في بلادنا. 

فالسياسات الاجتماعية تمثل بعداً مركزياً في العلاقة بين الدولة والاقتصاد والمجتمع بما يضمن ويعزز الحقوق الاجتماعية للمواطنين في الخيارات السياسية وبهذا المعنى فإنها لابد أن تعكس الاتجاه السياسي للعلاقات الاقتصادية.

إن الاقتناع بأن الفقر أمر يمكن تجنّبه، وأن هناك أسباباً تولّده، وأننا قادرون على تغيير الوضع الحالي والحدّ من الإقصاء واللامساواة وعدم ترك أحد يتخلّف عن الركب، يجعل من الضروري إقناع صنّاع القرار بأهمية دفع وتطوير سياسات إعادة التوزيع، التي تشمل تعزيز أنظمة الحماية الاجتماعية الشاملة والمتكاملة، والسياسات الرامية إلى تعزيز تشريعات العمل اللائق وتعزيز مؤسسات العمل، والنمو الاقتصادي المستدام.

وعلى نحو مماثل، عند تطوير وتصميم السياسات العمومية التي تتضمّن مبدأ الشمولية، فمن الضروري أن نأخذ في الاعتبار احتياجات ومطالب جميع الجهات الفاعلة المشاركة في تصميمها وتنفيذها، بما في ذلك المستفيدين منها. ولإضفاء الشرعية على السياسات الاجتماعية، من المهم تنفيذ عملية ديمقراطية وتشاركية، تشمل مختلف الجهات الفاعلة، بما في ذلك القطاع الأكاديمي والرأي العام والمجتمع المدني.

تونس اليوم مجتمع تعاني من مشاكل خطيرة وليس أقلها المتعلقة بالإقصاء الاجتماعي. ومع ذلك، من الممكن العمل على تحقيق الاندماج الاجتماعي إذا تمت إعادة هيكلة القوى السياسية والاقتصادية في البلاد بشكل ديمقراطي، وعلى نحو مماثل تطوير وتصميم السياسات العمومية وتحسين نجاعتها وفاعليتها، حيث من الضروري إحداث تغييرات في فلسفة الحماية الاجتماعية من منظور أنها حق إنساني وتطبيق نظم حماية عمومية وشاملة، وإصلاح المالية العمومية وسن إصلاح جبائي عبر وضع نظام ضريبة تصاعدي وتفكيك المزايا والامتيازات الضريبية غير المبررة اجتماعياً واقتصادياً، ومكافحة التهرب المالي والتدفقات المالية غير الشرعية وإقرار ضريبة الثروة  والضريبة على الشركات الأعلى دخلاً، ومكافحة الفساد وهدر الموارد العمومية، وإعادة هيكلة المساهمات والمعايير الأساسية لأنظمة التقاعد والصحة بموجب مبادئ التقدمية والإنصاف والتضامن.

وسيكون من الممكن التوفيق بين التقدم التدريجي نحو الإدماج الاجتماعي والنمو المستدام عبر الدفع وتعزيز «اقتصاد سياسي ملائم لهذا التحول» على أرضية ديمقراطية شاملة ومنصفة في إطار دولة القانون الاجتماعية. 

لقد تحدى المواطنون تدابير التقشف ونجحوا في بعض الأحيان في إسقاطها، ولكن على مدى العقد الماضي أثرت القرارات المالية بشأن خفض الإنفاق على حياة الملايين في بلادنا ولا يمكن اليوم مواصلة اتخاذها خلف الأبواب المغلقة من قِبَل قِلة من المتخصّصين الذين يتم انتقاءهم، أو من بين التكنوقراط في وزارات المالية والاقتصاد والتخطيط، بدعم من المؤسسات المالية الدولية  والذين ساهموا في نقل نتائج العمل إلى رأس المال وأن يتولى السوق الوظائف الاجتماعية للدولة وسهلوا  تنتقل السلطة من الدولة إلى حاملي سندات الدين، ما يعني أن السياسة العامة السائدة هي سداد الديون، وإخضاع السياسات الأخرى وتفضيل الدائنين على حساب المواطنين.

لن يكون الاتفاق على صياغة السياسات الاجتماعية مجّدياً إلا بضمان وجود حوار اجتماعي وطني، وتكريس التفاوض مع النقابات التمثيلية ومنظمات المجتمع المدني بكامل الشفافية بما يعزّز بناء الرؤى وتحديد البدائل المنصفة وفتح المساحات ووضع الالتزامات التي تصنع ديمقراطية حقيقية في البلاد.

إنها فعلاً أوقات مربكة.. 

نعيش على وقعها لحظات استثنائية خصوصاً أمام قرب آجال الاستحقاق الرئاسي المفصلي سواء بضمان الحاكم  لعهدة قادمة أو عبر النجاح بتغييره، هي مرحلة تحولات عميقة بحثاً عن تغيير  سلمي قد يطول بالزمن أو يقصر، ولكن سيعود حتماً الى الصندوق الديمقراطي مجدداً، ولكيلا يتواصل هذا الصندوق مفرغاً من المضامين وحتى لا تبقى اللحظة مربكة للمعارضة الديمقراطية بمعضلة: إما خوض الانتخابات ضد سعيد، مع المخاطرة بإضفاء الشرعية على ولايته الثانية، أو المخاطرة بالانقراض السياسي من خلال المقاطعة... سيكون من المفيد أولاً التفكير خارج الصندوق قبل خوض غمار المعركة.

باختصار، هناك حاجة ملحة إلى إعادة التفكير، لا يمكن الاستمرار في ظل هذا الجمود العابث، لقد حان الوقت للإصلاح ليس فقط من الناحية السياسية، ولكن أيضاً اقتصادياً واجتماعياً وثقافياً عبر مناقشة الأفكار.

المراجع

تقرير ميزانية تونس 2024 ببوابة وزارة المالية https://t.ly/bulJH  

2024 .. تونس ستسدّد ديونا خارجية بقيمة 3.9 مليار دولار      https://rb.gy/t0flqb

قانون مالية 2024: ميزانيات العجز الدائم  https://tinyurl.com/2n3chh28

مشروع ميزانية 2024: واشكالية الاعتماد على الذات  https://tinyurl.com/zwah4r87

تونس: الديون والثورة، حصيلة عشر سنوات من السياسات النيوليبرالية   https://rb.gy/cz2rjq

شراكة دوفيل مع الدول العربية التي تمر بمرحلة انتقالية   https://rb.gy/mk60gc

From Human Smuggling to State Capture: Furthering Neoliberal Governance in North Africa   https://shorturl.at/rCJV5

نحو 25 مليار دينار قيمة التهرب الضريبي في تونس   https://rb.gy/niyrov

استخلاص الديون الجبائية المثقلة الراجعة للدولة   https://rb.gy/br7g6x

الامتيازات الجبائيّة تثقيل لكاهل المالية العمومية  https://t.ly/DoN0p

لا تقلقنا الضريبة… بل يقتلنا التقشف  https://t.ly/bXZJ3

الفلاحة في تونس في القرن الواحد والعشرين: التحديات والمخاطر  https://t.ly/bHg_w

أزمة السيادة الغذائية في تونس  https://tinyurl.com/j3hj5enz

الفلاحة التصديريّة تقوّض السيادة الغذائية وتحاصر صغار الفلاحين https://shorturl.at/nrCL8

هل تغيّر الصندوق حقّاً؟   https://t.ly/Ck-PV

Democratize the Economy      https://t.ly/mRqPp

تحدي تونس المقبل: إصلاح الاقتصاد قبل فوات الأوان  https://t.ly/xH7rw

أزمات الديون.. دروس وعبر تاريخية للخروج منها   https://tinyurl.com/3f5vr98f

الديون والاستبداد كوابح أمام تنمية بلدان منطقة شمال افريقيا والشرق الأوسط   https://tinyurl.com/3vvjjmja

توماس سانكارا: جبهة متّحدة ضد الديون (1987)   https://tinyurl.com/4b2vbp44

الـصِـلة بين الديون والمناخ   https://tinyurl.com/cttwk3js

معضلة التمويل العادل للمناخ  https://tinyurl.com/prfsjpwn

فكّ الارتباط مقابل التوسّع الرأسمالي   https://tinyurl.com/mpk6csy2

فك الارتباط بعد المقاطعة: فك الارتباط بماذا؟   https://tinyurl.com/k9p5a66u

The Return of Fascism in Contemporary Capitalism  https://tinyurl.com/n4d5mpm6

حوار مع جلبير الأشقر:  ثورة تعيد قطار التنمية إلى مساره  https://shorturl.at/pvDNT

Debt cancellation alone is not enough https://shorturl.at/iADIV

بدائل التقشّف  https://shorturl.at/giGRX

عدد السفارات التونسية https://shorturl.at/bhkpI

التعاون فيما بين بلدان الجنوب والتعاون الثلاثي  https://t.ly/l-k-s

البريكس: ما له وما عليه  https://tinyurl.com/4he2fkkr

The BRICS: Seeking an Alternate World Order?   https://tinyurl.com/8uvd3xfw

الرأسمالية والفقر العالمي وحال الاشتراكيات الديمقراطية  https://tinyurl.com/yftvxjke

انفجار في اللامساواة: البقاء للأغنى  https://t.ly/pYPWl

نحو اقتصاد سياسيّ جديد للمساواة https://shorturl.at/xCH12

IMF/World Bank: Targeted Safety Net Programs Fall Short on Rights Protection   https://t.ly/GwSwS

Harvey, D. (2013). Seventeen Contradictions and the End of Capitalism

Piketty, T. (2014). Capital in the 21st Century