البلدان العربية تخسر 112 مليار دولار سنوياً من القيمة الاجتماعية لإنفاقها
على الرغم من الخطاب الرسمي عن كلفة الدعم والإنفاق الاجتماعي والدعوات الى المزيد من التقشّف على حساب اكثرية السكان، تُظهر بيانات «الاسكوا» في تقرير تحت عنوان «فعالية الإنفاق الاجتماعي والاستدامة المالية في الدول العربية» أن الحكومات العربية تنفق اقل من متوسط الإنفاق العام والاجتماعي على مستوى العالم. وفي الوقت نفسه، تحقّق نتائج أضعف بكثير من بلدان أخرى تنفق نسبًا مشابهة من ناتجها، ما يشير الى عدم كفاءة هذا الإنفاق وفشله في التأثير على رفاه السكان.
تنطلق الدول العربية من حد أدنى منخفض للإنفاق العام والاجتماعي
تعتمد الحكومات العربية مستوى متدنٍ بنيوياً من الإنفاق العام، أي أن قيمة الموازنات العامة السنويّة نسبةً لناتجها المحلّي الإجمالي أدنى من المتوسّط العالمي. يبلغ مجموع الإنفاق العام في المنطقة نحو 32% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو أدنى من المتوسط العالمي البالغ 37% وأدنى بكثير من متوسّط البلدان ذات الدخل المرتفع 40%.
يصبح الإنفاق الإجتماعي في هذا الهامش أكثر تقييداً، إذ لا يتجاوز الإنفاق العام بالاضافة الى إنفاق الأسر من جيبها على الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية مجتمعةً 10.6% من الناتج المحلي العربي الإجمالي، مقارنة بمتوسط عالمي يبلغ 17.3%. ما يعني ان مساهمات الحكومات في هذا الاتفاق يصبح زهيدا جدا عند اقتطاع مساهمة الأسر المباشرة في تمويل الخدمات الاجتماعية. ويمثّل هذا الفارق نقطة انطلاق معاينة العجز الاجتماعي المزمن في المنطقة، لأن القاعدة الإجتماعية، أي المدارس والمستشفيات وشبكات الأمان، تفتقر للتمويل الكافي.
ينعكس التقشّف في الإنفاق الاجتماعي سلباً على المؤشرات الاجتماعية الأساسية. تبلغ موازنات الصحة العامة في المتوسط 2.6% من الناتج المحلي الإجمالي، أي حوالي نصف عتبة الـ5% المرتبطة بالتغطية الصحية الشاملة، بينما تصل المدفوعات المباشرة من الأسر على الصحّة إلى 27% من الإنفاق الصحي على مستوى المنطقة و46% خارج مجلس التعاون الخليجي، مقابل 18% عالمياً. من هنا، يتسبّب نقص التمويل بأعباء ماليّة مباشرة على الأسر لتغطية تكاليف الرعاية الصحيّة.
يواجه التعليم ضغطاً مشابهاً، إذ يقف الإنفاق عند 4% من الناتج، أي دون التوصية الدولية البالغة 6%، فيما تعوّض الأسر عبر إنفاق خاص يبلغ 2.25% من الناتج، وهو أعلى من المتوسط العالمي البالغ 1.84%.
أما الحماية الاجتماعية فتبقى محدودة النطاق، إذ لا يحصل سوى 30% من سكان الدول العربية على دعم اجتماعي من برنامج واحد على الأقل، مقابل 52% عالمياً. ينتج عن ذلك عجز بنيوي عن تحويل الموازنات العامة إلى مكاسب إجتماعية ملموسة، في ظل تصاعد الفقر والضغوط الديموغرافية وأزمات المناخ والمالية.
تخصّص الدول العربية حصة كبيرة من موازنتها للأجور وخدمة الدين والدعم، وحصة صغيرة للخدمات الاجتماعية
داخل هذا الحيّز المالي المحدود، يميل الإنفاق نحو بنود لا تعزّز رفاه الناس على المدى الطويل. تبتلع كتلة الأجور وخدمة الدّين العام جزءاً كبيراً من الإنفاق، إذ تقترب خدمة الدين من ثلث الإنفاق العام في البلدان العربية متوسطة الدخل. تأسر كلفة خدمة الدين العام الدول العربيّة في حلقة مفرغة من التقشّف والإستدانة الإضافيّة لتسديد خدمة ديونها، ما يترك حيّزاً ضئيلاً للاستثمار في الرعاية الأولية، وتنمية الطفولة المبكرة، وبرامج التشغيل، وأرضيات الحماية الاجتماعية.
يبرز دعم سعر الوقود أيضاً كأحد أبرز أوجه هذا الخلل البنيوي في الإنفاق الإجتماعي. على الرغم من الأهميّة السياسية والاجتماعية لهذا الدعم في ظل هشاشة شبكات الأمان، يبقى أداة مكلفة وغير دقيقة. استهلك دعم الوقود 4.4% من الناتج في الدول العربية متوسطة الدخل و4.6% في الدول عالية الدخل في العام 2023، أي ما يقارب ربع الإنفاق الاجتماعي. بحكم طابعه المعمّم، يستفيد منه الميسورون أكثر بحكم ارتفاع نسب استهلاكهم، بينما يتقلص تمويل البرامج الاجتماعية الأكثر أثراً. كما أن إعانات الوقود أسهل تنفيذاً بكثير من السياسات الاجتماعية التي تستهدف الهشاشة مباشرة، ما يجعلها بديلاً ناقصاً لا يمكن أن يحلّ محل نظام حماية اجتماعية شامل.
تكشف بنود أخرى محدودية الدولة الاجتماعية في الممارسة. لا تتجاوز برامج سوق العمل وخلق الوظائف 0.3% من الناتج وتخصَّص 0.12% فقط للفئات الهشّة مثل الأشخاص ذوي الإعاقة أو الأمراض المزمنة والأفراد المهمشين. أما البيئة، فتنال أقل من 0.3% من الناتج، رغم أن مخاطر المناخ من أشد الأخطار المحدقة بالمنطقة.
تدل هذه الأرقام على أن المشكلة ليست حجم الإنفاق فحسب، بل وجهته. يُصرف الجزء الأكبر على دعم الاستهلاك والأكلاف التشغيليّة، بينما تحصل الخدمات ذات الآثار الاجتماعية الملموسة على حصة صغيرة.
تتسبّب المؤسسات الضعيفة والتجزؤ وعدم المساواة بما يُقدّر بـ112 مليار دولار سنوياً من الهدر في القيمة الاجتماعية
لا ينحصر العجز الاجتماعي في حجم الإنفاق ووجهته، بل يشمل أيضاً قدرة هذا الإنفاق على التحول إلى نتائج إجتماعية ملموسة. يقيس تقرير الاسكوا مدى قدرة 19 دولة عربيّة على تحويل الإنفاق العام إلى تحسينات فعلية في حياة الناس باستخدام منهجية مقارنة دولية تُقارن المخرجات، مثل نتائج الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بما يمكن تحقيقه عالميًا عند مستويات إنفاق مماثلة. تشكّل الدول التي تحقق أفضل النتائج مقابل كل دولار يُنفق معيارا للأداء العالمي أو الحدّ الأعلى من الكفاءة، بينما تسجّل الدول العربية مستوى أدنى بكثير من هذا المعيار.
تُقاس كفاءة الإنفاق الاجتماعي على مقياس من 0 إلى 1، حيث يمثّل الرقم الأعلى المردود الإجتماعي الأكبر الذي تحققه الدولة ذات الكفاءة الأعلى عالمياً. تسجّل الدول العربية معدلاً يبلغ 0.64، أي 12% أقلّ من المتوسط العالمي البالغ 0.71، ما يعني أن حكومات المنطقة تدفع أكثر ويحصل الناس على أقل من المتوسط العالمي بسبب ضعف الإدارات العامّة، والتجزؤ في برامج الحماية الاجتماعية، وازدواجيتها أحياناً، وسوء إدارة الإنفاق.
يترجم هذا الفارق إلى نحو 112 مليار دولار من «القيمة المفقودة» سنويًا أي 3.2% من الناتج المحلي الإجمالي للدول العربيّة. هذه ليست أموالًا بالضرورة منهوبة، بل قيمة صحّة أفضل، وتعليم أفضل، وحماية اجتماعية أقوى كان يمكن للمنطقة تحقيقها دون زيادة إنفاقها لو استُخدمت الموازنات الحالية بالكفاءة التي تحققها أفضل الدول عالميًا، أو على الأقل، كان يمكن للمنطقة تحقيق النتائج الإجتماعيّة نفسها بإنفاق أقل بكثير، يتيح لها توجيه الإنفاق المهدور إلى مشاريع أخرى أو لتخفيف أعباء الضرائب غير العادلة.
تتحمّل الدول متوسطة الدخل نحو 35 مليار دولار من هذه القيمة المفقودة، بينما تهدر دول مجلس التعاون الخليجي 77 ملياراً، نتيجة ارتفاع النفقات الجارية التي لا تحسّن النتائج ولا تقدّم خدمات أكثر.
يتركّز الإنفاق في الصحة على الاستشفاء على حساب الرعاية الأولية حيث العائد الصحي أعلى، ما يفسّر بقاء المدفوعات المباشرة من الأسر عند مستويات مرتفعة.
في التعليم، يقيّد ضعف الاستثمار في الطفولة المبكرة والمهارات قدرة النظام على تحسين التعليم ونتائج سوق العمل.
أما في الحماية الاجتماعية، فيقوّض تغليب الدعم الواسع على الدعم الموجّه قدرة البرامج على تقليل المخاطر الحياتيّة.
تُظهر البلدان التي تمتلك حكومات أكثر فعاليةً ورقابةً على الفساد نتائج اجتماعية أفضل لكل دولار ينفق. لذلك، لن يكون رفع قيمة الموازنات الاجتماعية وحده مُجدياً. فهو يحتاج إلى إصلاحات بنيوية في التخطيط والادارة والتنسيق والمساءلة،. دون ذلك، سيُعاد إنتاج الخسائر نفسها حتى مع ضخ تمويل إضافي.
تعاني نظم الحماية الاجتماعية على امتداد المنطقة العربية من نقصٍ مزمن في التمويل وضعفٍ في المواءمة مع احتياجات الناس. التغطية محدودة، والموارد متركزة في دعم الاستهلاك بدل البرامج الموجّهة مباشرة إلى الفئات الضعيفة، ومع ضعف الحكومات وارتفاع النفقات الجارية لا يُترجم الإنفاق الاجتماعي إلى تحسين فعلي في حياة الناس. وفي هذا السياق، لا يمثّل رقم 112 مليار دولار سنويًا مجرد تقدير تقني، بل حيّزًا ماليًا ضائعًا كان يمكن أن يذهب إلى تعميم التغطية الصحيّة، وتحسين جودة التعليم الرسمي، وبناء أنظمة حماية اجتماعية حقيقية، أو حتى خفض بعض الضرائب غير العادلة. لا تتطلّب أنظمة الحماية الاجتماعية العربيّة للمزيد من الإنفاق فحسب، بل لإصلاح طريقة الإنفاق، عبر مكافحة الفساد وسوء الإدارة، وإعادة توجيه الموارد نحو الفئات والمناطق الأكثر حاجةً، والاستثمار في الجودة لا في الكلفة وحدها، وربط الموازنات بأهداف ونتائج قابلة للقياس، حتى يصبح الإنفاق الاجتماعي قادرًا فعلًا على حماية الناس وتعزيز رفاههم.