معاينة protests healthcare lebanon

انهيار الإنفاق الاجتماعي في لبنان في 5 رسوم بيانية

لم يكن الإنفاق الحكومي على الحماية الاجتماعية في لبنان عادلاً أو كافياً في أي وقت مضى، بل كان نقص التمويل هو الحجّة الدائمة للتقشّف في الاستثمار في تطوير وتعميم أنظمة الضمان الصحي والتعليم المجاني وحضانات الأطفال ودعم السكن والنقل والمعاشات التقاعدية والتأمينات ضد البطالة والعجز. إلا أن هذا الإنفاق على علّاته تعرّض لعمليّة «قص شعر» مُعتَبَرة منذ انهيار الليرة والنظام المصرفي في العام 2019. فالحكومة اللبنانية لم تكتف بخفض القيمة الحقيقية للإنفاق الاجتماعي، بل خفّضت حصّة هذا الإنفاق من الناتج المحلي الإجمالي، وحصرته أكثر فأكثر بفئة من القطاع العام من دون سائر السكان، ولم تنفق في الواقع سوى نصف الاعتمادات المرصودة في قوانين الموازنة العامّة.

قام معهد باسل فليحان في وزارة المالية بإعداد تقرير عن الإنفاق على الحماية الاجتماعية في لبنان، أعدّه بالتعاون مع الاتحاد الأوروبي، واليونيسف، ومنظمة العمل الدولية. يحتوي هذا التقرير على معلومات مذهلة حول حقيقة السياسات التقشفية القاسية التي اعتمدتها الحكومة حتى الآن في مواجهة واحدة من أقسى الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي يمرّ بها سكان لبنان، إلا أن هناك 5 رسوم بيانية وردت في التقرير تكشف حجم وعمق الانهيار الذي أصاب الإنفاق الاجتماعي، إذ تم تخفيض الإنفاق على الحماية الاجتماعية بشكل منهجي، وجرى تضييق نطاق المستفيدين. وعند جمع هذه الاتجاهات معاً، تتكوّن صورة فاضحة لنظام يفتقر للتمويل ويبتعد أكثر عن الشمولية، في وقت لا يزال فيه الناس يصارعون آثار أزمات السنوات الست الأخيرة.

إنهيار قيمة الإنفاق الاجتماعي الحقيقية

انخفضت مخصّصات الموازنة للحماية الاجتماعية من 6.5 مليار إلى 1.3 مليار دولار بين عامي 2019 و2024 دولار، وهو ما يشكّل تراجعاً يقارب 80%. وفي ذروة الانهيار بين عامي 2020 و2022، هبط الإنفاق أكثر ليقارب 0.5 مليار دولار فقط، ما يُبرز مدى تآكل تمويل الحماية الاجتماعية.

1

إنهيار حصة الإنفاق الاجتماعي من الاقتصاد

تراجعت حصّة نظام الحماية الاجتماعية من الناتج المحلي الإجمالي من 13% في 2019، إلى 1.3% في 2023. يشار إلى أن اقتصاد لبنان انكمش من 51.6 مليار دولار إلى 24 مليار دولار في الفترة نفسها (-53%)، ما يعني أن تدهور الإنفاق على الحماية الاجتماعية اقترب فعلياً من 90%. 

ففي وقت تقلّصت فيه القاعدة الاقتصادية للبنان إلى أقل من النصف، اتّبعت الحكومات المتعاقبة سياسات تقشفيّة صارمة خصّصت فيها حصة أصغر بكثير من مواردها المتبقية للحماية الاجتماعية. والنتيجة هي تآكل مركّب: اقتصاد أضعف بكثير، يوازيه التزام أدنى لحماية السكان.

2

لجم إنفاق الاعتمادات

اتسعت الفجوة بين ما يُرصد في الموازنة وما يُنفَق فعلياً من 100% إلى 52% بين عامي 2019 و2023.

قبل الأزمة، لم تكن الحكومة تنفذ كامل موازنات الحماية الاجتماعية فحسب، بل تتجاوزها أيضاً. ففي العام 2018، بلغ الإنفاق الاجتماعي نحو 111% من المبلغ المرصود، في مقابل معدّل إنفاق يبلغ 103% بين عامي 2017 و 2019. لكن انقلبت المعادلات بعد الأزمة. ففي العام 2023، نصف الأموال التي خُصصت رسمياً للحماية الاجتماعية لم تُصرف أصلاً. ويُعزى ذلك إما إلى إجراءات تقشّف غير مُعلنة من مصرف لبنان الذي حجب السيولة عن الحكومة، أو إجراءات مماثلة لوزارة المالية التي ربما امتنعت عن تحويل الأموال إلى الوزارات المعنية، أو إلى إخفاقات داخل الوزارات نفسها في تنفيذ المشاريع مثل التأخير في توقيع العقود الضرورية لتسييل الأموال. بمعزل عن الأسباب الحقيقية، انكمشت في الواقع الموارد التي تصل إلى برامج الحماية الاجتماعية والمستفيدين. 

وبالتالي بات الإنفاق الاجتماعي في لبنان مكبّلاً بثلاث طبقات متداخلة من التقشف: تراجع قيمته الحقيقية بفعل انهيار الليرة، وتقلص حصته من الناتج المحلي، وأخيراً هبوط الإنفاق الفعلي مقارنة بالمبالغ المرصودة.

3

معظم الأموال لخدمة تقاعد القطاعات النظامية 

ذهب 71% من الإنفاق على الحماية الاجتماعية في العام 2023 إلى التأمينات الاجتماعية، وتحديداً إلى معاشات تقاعد موظّفي القطاع النظامي.

هذه الأنظمة قائمة على اشتراكات إلزامية يدفعها العمّال مع مساهمات أصحاب العمل والدولة، لكنها لا توفر إعانات بطالة ولا دعماً مباشراً للفقراء. وبذلك، تمثّل هذه النسبة الكبيرة آلية ادخار إلزامي تُعاد فيها الأموال إلى من اقتُطعت من رواتبهم أصلاً عند التقاعد، من دون إحداث أثر أوسع على الإنصاف الاجتماعي. 

هكذا، يظهر أن كثيراً مما يُدرج رسمياً تحت مسمى الحماية الاجتماعية لا يعكس في جوهره سياسات إعادة توزيع تخفّف الفقر أو تقلّل التفاوت، بل يعيد الموارد إلى من هم أصلاً ضمن القطاع النظامي، تاركاً العمال غير النظاميين والفئات الأشد هشاشة خارج غالبية الإنفاق مما يُبرز خللاً بنيوياً عميقاً في نظام الحماية الاجتماعية في لبنان.

4

استئثار القوى الأمنية بالحصة الكبرى

يُظهر توزيع الإنفاق أن معاشات تقاعد القطاع العام، التي تستهلك معظم المخصّصات، لا تغطي سوى 2.5% فقط من السكان وغالبيّتهم في الأجهزة الأمنية والعسكرية. وبذلك يظهر كيف طُبّق تقشف صارم على الغالبية، في حين حافظت الدولة على أولوية ركيزة أساسية من أركان نظامها: العسكر. 

لا يعني ذلك المطالبة بحرمان القوى الأمنية أو العمال النظاميين من حقوقهم الضئيلة، بل يسلّط الضوء على ضرورة إعادة هيكلة نظام الحماية الاجتماعية في لبنان ليصبح أكثر شمولاً وعدالة، فيغطي شرائح أوسع ويضمن منافع أكبر للجميع.

تناقض هذه البيانات جدوى السياسات التي اتّبعتها وزارات الشؤون الاجتماعية منذ الأزمة، إذ أنشأت مشاريع دعم موازية ومحدودة تستهدف فئة ضيّقة من الفقراء، تُموّل عبر القروض، ما يزيد العبء الضريبي غير المباشر على بقية الفقراء، من دون أن تنتشل أياً من المستفيدين من دائرة الفقر. 

لذلك، لا بدّ أولاً من تحرير الاقتصاد من حالة الرهينة التي فرضتها عليه المصارف، بما يمكّن الناس من زيادة دخولهم. وثانياً، يجب رفع سياسات التقشف القاسية لتمويل الحماية الاجتماعية. وثالثاً، إدراج جميع المقيمين في نظام موحّد وواسع للحماية الاجتماعية يُمول معظمه من الضرائب المباشرة على الثروات والشركات والريوع.

5