من ينتفع من العقوبات؟

  • مراجعة لكتاب «آلية العقوبات: إيران وتأثير الحرب الاقتصادية» الذي يحاجج بأن العقوبات الأميركية ربما توجّه الضربة تلو الأخرى إلى الاقتصاد الإيراني، لكنها تبقى عاجزة عن تحقيق أهدافها في إضعاف النظام، لا بل تزيده عسكرة، وتلقي بأثقالها على الشرائح الاجتماعية المتوسطة.  

تُعتبر العقوبات المفروضة على إيران من أقسى القيود وأطولها أمداً على مستوى العالم. إنها تعود إلى ثورة 1979 التي أطاحت بأحد أقرب حلفاء الولايات المتّحدة في المنطقة، حين فُرِضت العقوبات الأولى بشكل رئيس من الولايات المتحدة التي جمّدت الأصول الإيرانية الحكومية، ومنعت بيع السلع مزدوجة الاستخدام التي قد تُستخدم لأغراض عسكرية، كما حظرت استيراد النفط الإيراني إلى الولايات المتّحدة. لم تتوقف الإجراءات الجديدة المفروضة في أعقاب الحرب الإيرانية العراقية عند هذا الحدّ، إذ مُنِعت الشركات الأجنبية من دخول قطاع الطاقة الإيراني، ما قضى فعلياً على صناعة الغاز الطبيعي السائل. كما أمرت الولايات المتّحدة بفرض عقوبات على الكيانات الأجنبية التي تساعد إيران في تطوير «أسلحة دمار شامل».

تعمّقت العقوبات بشكل أكبر في نهاية العقد الأول ومطلع العقد الثاني من قرننا الحالي مع فرض الولايات المتّحدة قيوداً على التعاملات المالية واستثمارات الطرف الثالث في إيران. وجرى توسيع نطاق العقوبات المفروضة على قطاع الطاقة، في عهد باراك أوباما، لتشمل حظراً كاملاً على صادرات النفط والبتروكيماويات الإيرانية. كما جرى تطويع حلفاء الولايات المتّحدة - بريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان وأستراليا وكوريا الجنوبية وممالك الخليج، فضلاً عن الأمم المتّحدة - لتوسيع نطاق نظام العقوبات وترسيخه. فاستهدفت عقوبات الأمم المتحدة بشكل رئيس انتشار الأسلحة النووية والتطوير العسكريّ، في حين تبنّى الاتحاد الأوروبي نظام عقوبات مماثل للنظام الذي طبّقته الولايات المتّحدة. تطلّب هذا التوسع الهائل إرساء أساس قانوني عابر للحدود ساهم، كما رأى بعض المتخصّصين، في تقويض الإطار التنظيمي الذي يشكّل جزءاً من أساس الرأسمالية الليبرالية العالمية. وعلى الرغم من أن الاتفاق النووي الإيراني في العام 2015 شهد بعض التخفيف للعقوبات، فقد فُرضت مرة أخرى حين انسحبت إدارة دونالد ترامب من الاتفاق في العام 2018. وورث جو بايدن حملة «الضغط الأقصى» التي انتهجها ترامب، واستمرت في خلال عهده إلى حدٍ كبير.

كان الهدف المعلّن لنظام العقوبات الأميركي هو منع انتشار الأسلحة النووية الإيرانية، فضلاً عن أهداف أكثر طموحاَ، مثل «تعزيز الديمقراطية» ووقف «دعم الإرهاب»؛ وهو تعبير عن دعم إيران لوكلاء وجماعات إقليمية لا تتماشى مع المصالح الأميركية. ويرى مؤلفو الكتاب، نرجس باجوغلي ووالي نصر وجواد صالحي أصفهاني وعلي واعظ، أن الأدلة على تحقّق هذه الأجندة هي أدلة واهية على أرض الواقع. ربما توجّه العقوبات الأميركية الضربة تلو الأخرى إلى الاقتصاد الإيراني، لكن التأثير السياسي الأوسع يظلّ خارج نطاق ضرباتها.

طموحات خائبة

تعرّضت فعالية العقوبات بوصفها أداة قسر إلى انتقادات كثيرة داخل المؤسسة الأميركية. رأى روبرت بيب في مقاله المميز «لمَ لا تنجح العقوبات» الذي نُشر في العام 1997، أن أشدّ العقوبات حتى غالباً ما تخفق في تحقيق أهدافها مصطدمةً بقدرة أي أمة على التكيّف وحماية طموحات النخبة. وعلى الرغم من أن نتائجه أثرّت كثيراً في المؤسّسة السياسية الأميركية، لكنها بقيت بلا تأثير يُذكر في السياسات على أرض الواقع، وظلّ استخدام العقوبات كأداة قسر في السياسة الخارجية يتزايد وحسب. استجابةً لهذه التطوّرات، ركّز عدد أكبر من الأبحاث الحديثة على دراسات حالة معيّنة نظرت في تأثير العقوبات على البلدان المستهدفة.

يندرج كتاب «آلية العقوبات» ضمن هذه الأجندة البحثية الناشئة، فيقدّم إحدى أولى الدراسات المتعمّقة لحالة دولة ذات أهمّية خاصّة. يهتم المؤلفون الأربعة، وهم إيرانيون من الجيل الأول والثاني يعملون في أعرق المؤسّسات الأكاديمية والسياسية الأميركية، في فهم آلية تأثير العقوبات، لا سيّما العقوبات المفروضة في عهدي أوباما وترامب، على «المجتمع والسياسة والاقتصاد» في إيران. وتغطي فصول الكتاب الستة موضوعات مختلفة، بما فيها تاريخ العقوبات على إيران، وتأثيرها الاقتصادي والاجتماعي، وتأثير العقوبات في بقية دول العالم.

من خلال إضفاء الطابع الأمني على الثقافة السياسية الإيرانية وزيادة تصلّبها، انطوى تأثير العقوبات أيضاً على فردنة للمجتمع وتفتيته، إلى حدّ تعزيز ما يسميه المؤلفون «حياة يومية من الاستكانة»

تتلخّص حجة الكتاب الأساسية في أن العقوبات انطوت على تأثير سلبي عميق على اقتصاد إيران ومجتمعها وسياساتها من دون أن تحقق الأهداف الغربية من العقوبات. والحال، لم تؤدِ العقوبات سوى إلى إبعاد صنّاع السياسات الغربيين عن مسعاهم في إضعاف الدولة الإيرانية، وخصوصاً الحرس الثوري والشركات المرتبطة بالنظام. ووجد المؤلفون أنه استجابةً للعقوبات أصبحت الدولة الإيرانية «أكثر عسكرة». ومضوا أبعد من ذلك، ووجدوا أن «العقوبات الشاملة والمطوّلة على إيران» أدّت إلى «تعزيز تحجّر المجال السياسي، وارتفعت وتيرة هذه الاتجاهات بعد فرض عقوبات الضغط الأقصى في العام 2018».

أصبحت كل شرائح المجتمع، وفقاً للمؤلفين، فقيرة تحت وطأة العقوبات، باستثناء الحرس الثوري والشركات والأفراد المتحالفين معه؛ أي المؤسّسات والمجموعات ذاتها التي سعت العقوبات إلى استهدافها. ترزح قطاعات مثل الصحّة والتعليم تحت وطأة ضغط هائل، في حين يحقّق أصحاب الأعمال المرتبطة بالنظام أرباحاً. ويرى المؤلفون أن العقوبات لم تؤدِ إلى إسقاط الدولة أو إضعاف النظام، بل إلى زيادة اعتماد المجتمع المدني على الدولة. ومن خلال إضفاء الطابع الأمني على الثقافة السياسية الإيرانية وزيادة تصلّبها، انطوى تأثير العقوبات أيضاً على فردنة للمجتمع وتفتيته، إلى حدّ تعزيز ما يسميه المؤلفون «حياة يومية من الاستكانة».

المرونة الاقتصادية

يقارن كثير من الخبراء إيران بكوريا الشمالية، لكن اقتصاد إيران يبتعد كل البعد من العزلة. والواقع، تتمتّع إيران - وهي منتج رئيس للنفط - باقتصاد مفتوح، وتشكّل التجارة الدولية ركيزة أساسية من ركائز هذا الاقتصاد. وتقارب نسبة الاعتمادية التجارية لإيران، التي تُحسب على أنها حصّة الصادرات والواردات من الناتج المحلي الإجمالي الكلي، نظيرتها في روسيا وتركيا. وعلى الرغم من أن هذا الانفتاح ينبغي أن يجعل إيران أكثر هشاشة، فشلت العقوبات في تدمير اقتصادها. وتقدّر إحدى الدراسات تأثير العقوبات التي قادها أوباما بنحو 17% من الناتج المحلي الإجمالي على مدى ثلاث سنوات (2011-2014). وانخفضت المستويات المعيشية، مقاسةً بتعادل القوة الشرائية، بنحو 15% بعد فرض العقوبات في عهد أوباما. ولم تكن هذه النسب معيقة، على الرغم من أنها كبيرة. ففي الأرجنتين، مثلاً، انخفضت مستويات المعيشة مؤخراً القدر نفسه تقريباً لأسباب لا ترتبط بالعقوبات أبداَ.

في الواقع، انتعش اقتصاد إيران على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية. ونما الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 10.2% بين العامين 2011 و2021. كما نما الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي بنسبة أكبر، ليصل إلى 26% بالقيمة الفعلية. وبذلك أصبح الاقتصاد الإيراني الآن أكبر مما كان عليه قبل عهد أوباما. ومنذ العام 2011 حتى العام 2021، ارتفعت أرقام التوظيف الإجمالية، وحتى في الصناعات الكبرى؛ وانخفضت معدّلات البطالة قليلاً في خلال الفترة نفسها. وفاجأت إيران العالم، في مطلع عشرينيات القرن الحالي، عندما أصبحت المورّد الرئيس للمسيّرات المتطوّرة إلى روسيا، لتخرق إحدى أبرز أهداف نظام العقوبات: كبح القدرات العسكرية الإيرانية.

يصف كتاب «آلية العقوبات» الذي يستند إلى عشرات المقابلات مع مسؤولين ورجال أعمال ومواطنين عاديين، مرونة إيران الاقتصادية بتفصيل إثنوغرافي. وتقول إحدى ربّات البيوت من أصفهان للمؤلفين أن «الحالة صعبة» لكن يُمكن التعامل معها، وهي بعيدة كل البعد من المقارنة بالمآسي التي حدثت في خلال 8 سنوات من الحرب في ثمانينيات القرن العشرين:

«كان هناك تقنين للغذاء وقتئذ. وكانت القنابل تتطاير فوق رؤوسنا. لم أشتر الكرز هذا الصيف لأنه باهظ الثمن. ونأكل كمّيات أقل من اللحوم الحمراء. لكن مقارنةً بتلك الفترة، نستطيع التعامل مع الوضع الآن. لا توجد طوابير طويلة للحصول على الطعام كما كان الوضع في أثناء الحرب. الرفوف ممتلئة في كل المتاجر. من المحبط أننا لا نستطيع أن نشتري ما اعتدنا عليه، وكوننا في هذه المرحلة بعد كل هذه السنوات أمر يبعث على الغضب، لكن بالنسبة إليّ وإلى من حولي في الأقل، فنحن نتدبّر أمورنا».

تشكّل الحالة الإيرانية نموذجاً مناقضاً لتجربة بعض البلدان الأخرى التي تلقت ضربات ثقيلة من العقوبات. خضعت كوبا إلى حظر أميركي منذ ستينيات القرن العشرين، ولا تزال تعاني البلاد نقصاً في السلع الأولية والأدوية. وعندما فرضت الولايات المتّحدة عقوبات على العراق بسبب غزوها للكويت في العام 1991، خسر الاقتصاد العراقي حوالي 50% من ناتجه المحلي الإجمالي - بينما أثر بنسبة 15% إلى 20% على إيران - ما تسبّب في نقص الغذاء على نطاق واسع وحتى المجاعة. وكان على الولايات المتحدة، في نهاية المطاف، أن توافق على برنامج النفط مقابل الغذاء الذي أتاح للعراق بيع كمّيات محدودة من النفط في مقابل الغذاء. وعلى نحوٍ مماثل، أتت العقوبات الغربية التي فُرضت على فنزويلا بنتائج كارثية وفاقمت النقص في المواد الأساسية وزادت من إفقار البلاد.

لكن إلامَ ترجع مرونة الاقتصاد الإيراني؟ يرتكز المؤلفون في إجابتهم إلى الاقتصاد المفتوح في إيران و«اعتماده على الأسواق». وباتباعهم طريقة شومبيرتية، يرون أن العقوبات «أجبرت إيران على الإبداع» بدلاً من أن تقوّض دينامية رأسماليتها. وربما كانت ثقافة المقاهي التي تعجّ بالحياة في طهران أو صناعة السينما العالمية فيها أكثر مرونة على الدوام، لكن هناك أمثلة أخرى على ذلك أيضاً. فإحدى النساء اللواتي أُجريت معهن مقابلات، وهي امرأة في الثلاثينيات تدير متجراً عبر الإنترنت لبيع الحلويات، قالت للمؤلفين:

«أصبحت الأشياء باهظة الثمن. ولكن توجد فرصة لمن يديرون أعمالاً صغيرة هنا. لا يزال الناس يرغبون في قضاء وقت ممتع، ويريدون طعاماً لذيذاً وتجارب ممتعة، وبإمكاننا الآن توفير ذلك، والوصول إليهم من خلال وسائل التواصل الاجتماعي كمنصّة لأعمالنا. لم نعد ننافس المنتجات الأجنبية. لكن بالطبع، تستهدف الحكومة الإنترنت في أثناء الاحتجاجات، ومن غير المؤكد ما إذا كنا سنتمكن من الوصول إلى إنستغرام مستقبلاً. وهذا ما يجعلنا جميعاً، ممن يعملون من خلال هذه المنصة، قلقين. لكننا سنجد طريقة ما... نحن نعمل كل يوم لإيجاد طرق للالتفاف على القيود والعقوبات الحكومية وإنجاز الأمور بطريقة أو بأخرى».

إلامَ ترجع مرونة الاقتصاد الإيراني؟ يرتكز المؤلفون في إجابتهم إلى الاقتصاد المفتوح في إيران و«اعتماده على الأسواق». وباتباعهم طريقة شومبيرتية، يرون أن العقوبات «أجبرت إيران على الإبداع» بدلاً من أن تقوّض دينامية رأسماليتها

كانت مشاريع الأفراد إحدى أشكال الاستجابة للعقوبات، لكن السياسة الحكومية كانت ضرورية أيضاً لمرونة الاقتصاد الإيرانية. وكان التدخّل النقدي أمراً أساسياً. ومع تشديد العقوبات في العامين 2011 و2012، ومرة أخرى في العامين 2018 و2019، فقد الريال أكثر من نصف قيمته في غضون بضعة أشهر. وكان انخفاض قيمة العملة جزئياً بمثابة تكيّف ضروري للسوق بسبب انخفاض العائدات النفطية. لكن الحكومة قبلت أيضاً، لا بل رعت، التضخّم المرتفع الناتج عن ضعف الريال بضخّها مزيداً من الأموال في النظام لدرء حالات الإفلاس. وبدورها، أدّت هذه السياسات والتحوّلات في الأسعار إلى خفض الأجور ودعم النشاط التجاري.

لم تعنِ هذه السياسات التضخّمية انتشار الفقر أو العوز الجماعي، على الرغم من أنها كانت لتؤدّي إلى ذلك لو لم تجرِ إدارتها بشكل صحيح. هذا ما حدث في فنزويلا في عهد مادورو، حين لجأت الحكومة إلى تثبيت الأسعار لتحمي قاعدتها الاجتماعية. وأثارت تلك التدابير ردود فعل عنيفة وأدّت إلى اكتناز واسع النطاق كما فاقمت أزمات العوز وأشعلت أزمة إنسانية. أمّا في إيران، تستخدم الحكومة أسعار الصرف الرسمية لتدعم التجارة الدولية في السلع مالياً، ما يعني أن تخفيض قيمة العملة في السوق الحرّة العائمة لا ينعكس أسعاراً أعلى للسلع الأساسية. كما أن مختلف إجراءات إعادة التوزيع تدعم دخل الأسر، لا سيّما التحويلات النقدية المباشرة الشاملة، والأشكال الأخرى من الدعم والإعانة الحكوميتين، ومن ضمنها الحدّ الأدنى للأجور والتعليم والنقل والرعاية الصحّية. وغالباً ما تساعد ترتيبات الرفاه والرعاية الاجتماعية الإيرانيين على البقاء فوق حدّ الفقر من خلال توفير السلع الأساسية والنقل والرعاية الصحية والتعليم للأسر منخفضة الدخل.

وإذا كانت الفئات الأدنى قد تلقّت بعض الحماية من دولة الرفاه القوية في إيران، فإن الفئات المتوسطة، على النقيض، تحمّلت وطأة العقوبات. مع خفض الرواتب وارتفاع معدلات التضخّم بسرعة الصاروخ، أصبحت تلك الفئات، وليس الفقراء، الضحية الرئيسة للعقوبات. بين العامين 2011 و2019، فقد نحو 9 ملايين شخص مكانتهم كأشخاص من ذوي الدخل المتوسط، وانضمّوا إلى صفوف الطبقة المتوسطة الدنيا، أو حتى الطبقة الفقيرة. وبين العامين 2019 و2021، مع تعافي الاقتصاد الإيراني إلى حدّ ما، لم يستعد سوى نصف هؤلاء مكانتهم السابقة.

سياسات جدليّة

يشكّل كتاب «آلية العقوبات» دراسة شاملة لمرونة إيران الاقتصادية في مواجهة عدائية العقوبات، لكن ربما كان له أن يتضمّن المزيد بشأن العواقب الاجتماعية والسياسية للسلاح الاقتصادي الأميركي. لا يغطي الكتاب موضوعات مهمّة مرتبطة بالعقوبات مثل اقتصاد التهريب المزدهر والتحوّل الشامل للمناطق الحدودية الإيرانية؛ وتأثير العقوبات على أنماط الهجرة، لا سيّما الهجرة من أفغانستان، أو سياسات المرونة الصناعية وإدارة علاقات العمل والإنتاجية في الصناعات الكبرى. وفي حين يصف الكتاب كيف حمت دولة الرفاه في إيران الإيرانيين من تأثير العقوبات، فإنه يولي اهتماماً ضئيلاً بكيف ساهمت العقوبات في خفض الإنفاق وسياسات التقشّف التي أدّت بدورها إلى تقويض توفير الرعاية الاجتماعية وجودة الخدمات الاجتماعية.

تُعدّ مسألة الاضطرابات الاجتماعية الجماهيرية في إيران على مدار العقد الماضي إحدى المجالات التي تطلّبت نظرة أكثر دقةً. يعترف المؤلفون أن العقوبات التي تقودها الولايات المتّحدة أصبحت مرتبطة باضطرابات اجتماعية غير مسبوقة في إيران، لكنهم يرفضون أي رابط مباشر بين الأمرين. ويعتمدون على حجّة منهجيّة تقول إنه من الصعب «إثبات» أن العقوبات «سبّبت» الاحتجاجات، ويؤكّدون إن أسباب هذه الاحتجاجات ترجع في الغالب إلى عوامل داخلية وليس خارجية. كما رأوا أن حركة «المرأة، الحياة، الحرّية» التي انطلقت في العام 2022، على سبيل المثال، تمحورت حول الحقوق المدنية وتحرير المرأة، وليس تخفيف العقوبات. ربما يكون هذا صحيحاً، لكن الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها الجمهورية الإسلامية على مدار العقد الماضي، وهي غير مسبوقة من حيث حجمها وشدّتها، غالباً لديها أكثر من سبب، والأرجح أن فصل القضايا الداخلية عن الضغوط الخارجية ليس دقيقاً في سياق نظام عقوبات استمر لعقود وكان له تأثيرات متفرقة هائلة على الحياة الاجتماعية.

جعلت العقوبات المجتمع المدني أكثر اعتماداً على الدولة، كما جعلت الدولة أيضاً أكثر اعتماداً على قطاعات معيّنة من المجتمع، ما ساعد في جذب فئات من المجتمع إلى انتهاج سياسة قائمة على مصالح فئوية

يرى مؤلفو الكتاب أن العقوبات أضعفت المجتمع المدني من خلال إفقار الطبقة المتوسطة وتمكين الشركات المرتبطة بالمرشد الأعلى والحرس الثوري. لكن العقوبات، كما يوضح المؤلفون، أنشأت أيضاً اقتصاداً سياسياً حوّل موارد السلطة إلى بعض الفئات الاجتماعية التي لا ترتبط بالحرس الثوري بشكل مباشر أو لا تخضع إلى سيطرته. وقبل العقوبات المفروضة في عهد أوباما، كان لدى الإيرانيين قوة اقتصادية محدودة، إذ بقي القطاع الخاص الذي تأسّس في تسعينيات القرن العشرين والعقد الأول من قرننا الحالي صغيراً. ونتج الجزء الأعظم من الناتج المحلي الإجمالي من مجموعة صغيرة من العمّال الموظفين في القطاع النفطي تخضع إلى سيطرة مشدّدة. وفي حين استخدمت حركات الطبقة المتوسطة واسعة النطاق التي قادتها الائتلافات الإصلاحية المشاركة الانتخابية من أجل ممارسة قوتها السياسية.

في المقابل، بعد فرض عقوبات مشددة في أوائل القرن العقد الثاني من القرن الحالي (وكذلك في العامين 2018 و2019)، زاد اعتماد الدولة اقتصادياً على نطاق أوسع وأكثر تنوّعاً من الفئات الاجتماعية. وبعيداً من العمّال في قطاع النفط، زاد اعتماد الحكومة التي عانت من ضائقة مالية على دافعي الضرائب الذين يتألّفون في معظمهم من موظّفين في القطاع العام وأصحاب الأعمال الخاصة؛ وعلى حاملي السندات الحكومية الذين يشكّلون في غالبيتهم الشريحة العليا من توزيع الدخل؛ وعلى مئات الآلاف من العمّال ذوي الياقات البيضاء والزرقاء العاملين في الصناعات الكبرى الذين ينتجون حصة كبيرة من الناتج المحلي الإجمالي غير النفطي.

يصف تقرير نُشر مؤخراً في «فاينانشال تايمز» كيف أحيت العقوبات واقتصاد الحرب المصانع المقفرة في روسيا. وعلى الغرار نفسه، أصبحت العقوبات المفروضة على إيران مرتبطة بتحوّل صناعي واسع النطاق، مع توسّع القوى العاملة في التصنيع في عدد من المناطق. استفاد قطاع التعدين في محافظة كرمان، على سبيل المثال، من ارتفاع الطلب المحلّي على الفحم والحديد. وكان ذلك التوسّع مدفوعاً إلى حدٍ كبير بتوسّع صناعة الصلب في إيران، التي تعزّزت أيضاً بسبب انخفاض تكاليف العمالة وزيادة الطلب المحلّي بسبب العقوبات.

مع تضييق المجال السياسي في إيران وتحجّر المؤسّسات الانتخابية، حشدت بعض الفئات الاجتماعية موارد قوتها المكتشفة حديثاَ لتعبّر عن نفسها. ونظّم العمّال في القطاعين العام والصناعي، خصوصاً، احتجاجات واسعة النطاق على مدار العقد الماضي ضدّ التقشّف وانتهاكات الحقوق وحالات الإفلاس. ومن المؤشّرات على القوة النسبية لهذه المجموعات، هي التنازلات التي قدّمها النظام على نحوٍ روتيني، بما في ذلك دعم الميزانية والإصلاحات التشريعية وضبط الدولة لأصحاب العمل. وفي السنوات الأخيرة، تبنّت السلطات الإيرانية بشكل أكبر الشراكات الثلاثية والمساومة المؤسساتية كوسيلة لتوجيه هذه الاحتجاجات والتخفيف من حدّتها.

يُمكن لأحدهم أن يرى أن تأثير العقوبات على السياسات الجدليّة هو أكثر لامساواةً مما يشير إليه الكتاب. لقد جعلت العقوبات المجتمع المدني أكثر اعتماداً على الدولة، كما يؤكّد المؤلفون، كما جعلت الدولة أيضاً أكثر اعتماداً على قطاعات معيّنة من المجتمع، ما ساعد في جذب فئات من المجتمع إلى انتهاج سياسة قائمة على مصالح فئوية، إذ تجمع مجموعات مُعيّنة من الطبقتين العاملة والوسطى بين الحشد في الشوارع والمساومة لتضغط على السلطات. وساهمت الاحتجاجات العمّالية على نحوٍ مباشر في انتفاضة «المرأة، الحياة، الحرية» في العام 2022، ما شجّع نشطاء الحركة. وأصبحت «الإضرابات العامة» شعاراً مركزياً بالنسبة إلى حركة «المرأة، الحياة، الحرية». لكن على الرغم من دعوات المعارضة إلى الإضرابات العامّة، ظلت تحركات التضامن العمالي مع حركة «المرأة، الحياة، الحرية» مستكينة إلى حدٍ ما. شهدت أماكن متفرقة  بعض التحرّكات البسيطة، لكن من دون أي إضرابات مستمرة.

أدّى تكثيف الاحتجاجات، كما يوضح مؤلفو الكتاب، إلى استجابة عنيفة ووحشية وانطوائية من الدولة. وسارت العسكرة التي يشوبها الارتياب والشكّ من أعلى المستويات جنباَ إلى جنب مع التعبئة المسلّحة من أدناها، ولكنها لم تؤدِ إلى النتائج الثورية التي تمنّاها كثيرون في الغرب والمعارضة الإيرانية. يعتبر كتاب «آلية العقوبات» دراسة مهمّة في تحديد هذه الدينامية، مع نتائجه التي يُحتمل أن تسري على بلدان أخرى تعاني من العقوبات القسرية والاستجابات الأمنية للدولة والتنافس بين الدول.

نُشِرت هذه المراجعة في Phenomenal World في 15 آب/أغسطس 2024، وتُرجِمت إلى العربية ونُشِرت في موقع «صفر» باتفاق مع الجهة الناشرة.