
دعائم الاقتصاد المصري: الخصخصة وقروض صندوق النقد الدولي
في 15 تموز/يوليو، نشر صندوق النقد تقريره عن المراجعة الرابعة لبرنامج مصر يصاحبه تقرير المادة الرابعة. اللافت أن الموظفين انتهوا من كتابة هذه التقارير في 10 شباط/فبراير 2025، وفي 11 آذار/مارس صادق مجلس الإدارة ووافق عليها، ما مكن مصر من تلقي دفعة أخرى من القرض بقيمة 1.2 مليار دولار. في الحالات العادية، تنشر التقارير بعد أسابيع قليلة من صدور بيان مجلس الإدارة، وفي بعض الأحيان تكون هذه المدّة أقصر. أما في حالة مصر، فقد تطلب الأمر 4 أشهر بعد موافقة مجلس الإدارة لكي ينشر التقرير. وهذا ليس عادياً، فوفق الصندوق، 70% من تقارير البلدان تنشر في خلال 14 يوماً من مصادقة مجلس الإدارة، و12% فقط تمّ نشرها بعد 28 يوماً، فما بالك إذا أخذ ذلك أكثر من 120 يوماً!
وعلى الرغم من أن الصندوق لا يفسر الأسباب الخاصة وراء التأخر في نشر التقارير، يعود ذلك في معظم الأحيان إلى طلب السلطات المعنية، وفي هذه الحالة الحكومة المصرية، شطب معلومات في التقرير تعتبرها حساسة أو تغيير اللغة لتخفيف من وطأة أمر ما. فوفق التقرير عن مراجعة سياسة الشفافية داخل الصندوق، «يبدو أن التأخر الطويل في نشر تقارير البلدان مرتبط بالتأخر في الحصول على الموافقة من السلطات، ويمكن أن تتأخر نظراً إلى الحاجة إلى معالجة طلبات التعديل على التقارير».
مشاريع السيسي الفاشلة هي فرصة لكي يفرض الصندوق أيديولوجيته المعادية لدور مهمّ تؤديه الدولة في قيادة النمو والتنمية في مصر
وبعد قراءة تقرير مصر، يمكن أن نفهم أكثر سبب التأخير. على الرغم من الرضى المزعوم عن أداء مصر، يخفي التقرير استياءً ملحوظاً. ففي مؤتمرها الصحافي في 24 تموز/يوليو، قالت المتحدثة باسم الصندوق جولي كوساك: «تطلب الأمر مزيداً من الوقت لاستكمال التدابير السياسية الرئيسة، لا سيما تلك المتعلقة بتقليص بصمة الدولة في الاقتصاد من خلال تعزيز تطبيق سياسة ملكية الدولة وتوفير فرص متكافئة للشركات. ولإتاحة استمرار هذا العمل، سيتم دمج المراجعتين الخامسة والسادسة بموجب برنامج تسهيلات التمويل الممدد، ومن المتوقع استكمالهما في الخريف».
لا للنمو الذي تقوده الدولة!
من الجليّ أن الصندوق غير راضٍ عن أداء الحكومة من ناحية تقليص حجم الدولة في الاقتصاد، والمدخل الرئيس لذلك هو التحجّج بالنشاط الاقتصادي للجيش المصري. يعدّ التقرير الأخير الأقوى من ناحية انتقاد أداء الحكومة وتسمية الجيش، حتى أن التقرير لديه ملحق خاص عن الموضوع يشرح نشاط الشركات المرتبطة بالجيش في بعض القطاعات الاقتصادية. يعتبر مجلس إدارة الصندوق أن أداء مصر من ناحية الإصلاحات الهيكلية، أي تنفيذ المشروطيات الهيكلية (التي تعتبر من أهم المشروطيات) كان غير كافي (مختلط وفق تعبير الصندوق) من ناحية سحب استثمارات الدولة من الاقتصاد. ولتبرير ذلك يبدأ التقرير بالقول إن سعي مصر وراء نمو تقوده الدولة قد قوض قدرة الاقتصاد على الازدهار وتوليد الوظائف. ويضيف أن سعي السلطات في العقد الأخير الى استخدام الاستثمارات العامة الضخمة لتحفيز الاقتصاد فشل وخلّف اقتصاداً غير نظامي كبير، وقدرة ضعيفة لمصر لمواجهات الأزمات والخضّات خصوصاً الآتية من الخارج. ويستنتج الصندوق أن على مصر اعتماد نموذج نمو جديد حيث تكون فيه «الظروف القانونية والتنظيمية والتنافسية التي تسمح للقطاع الخاص بأن يصبح المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي من خلال الحد بشكل كبير من وجود الدولة، بما في ذلك الكيانات العسكرية، في الاقتصاد، وتحقيق تكافؤ الفرص الاقتصادية بين الوكلاء الاقتصاديين من القطاع الخاص والدولة، وخلق بيئة أعمال وحوكمة داعمة للأسواق التنافسية».
طبعاً، لا يقول صندوق النقد الدولي إن المشاريع «الاستثمارية» التي قادتها الدولية في مصر، ليست إلا مشاريع غرور أطلقها الرئيس السيسي، ليخلّد نفسه عبر بناء العاصمة الإدارية في وسط الصحراء في أحد أخطر تجليات جنون العظمة الذي يعيشه. لم تصرف هذه الأموال العامة الطائلة على مشاريع استثمارية يستفيد منها الشعب المصري، مثل الاستثمار في البنى التحتية أو النقل العام، أو الاستثمارات الاجتماعية في مجال الصحة أو التعليم. ولكن هذا غير مهم لصندوق النقد، فمشاريع السيسي الفاشلة هي فرصة لكي يفرض الصندوق أيديولوجيته المعادية لدور مهمّ تؤديه الدولة في قيادة النمو والتنمية في مصر. يريد الصندوق عبر برنامجه مع مصر فرض دور للدولة يكون مقتصراً على تقديم كل التسهيلات الممكنة للقطاع الخاص بغض النظر عن طبيعته ومدى ارتباطه بالسلطة أو حقوق العمال وظروفهم وغيرها. كان من الممكن للصندوق القول إن الدولة يمكن أن تؤدي دوراً مهماً في الاقتصاد لو تم توجيه الإنفاق العام نحو مشاريع استثمارية تعود بالفائدة على الشعب المصري من ناحية البنى التحتية، وخصوصاً الاجتماعية منها. فإذا به يقول إن مشاكل مصر تعود إلى حجم الدولة الكبير، وخصوصاً دور الجيش في الاقتصاد. واللافت أنه في حين يتذمّر من دور الجيش في الاقتصاد، لا يقدم الصندّوق في تقريره أي تقييم دقيق لهذا الدور من ناحية حجم نشاط الجيش الاقتصادي نسبة لاقتصاد مصر والناتج المحلي أو تشخيص دقيق لدوره في القطاعات الاقتصادية. كل ما يقدّمه التقرير موجود في الملحق رقم 8 عن الشركات المملوكة من الدولة وسياسة ملكية الدولة، وتحديداً الرسوم البيانية التقديرية عن حصة الجيش في بعض الأسواق المدنية. علماً أن هذه التقديرات هي للباحث الأكاديمي في معهد كارنيغي يزيد صايغ، الذي كتب دراسة عن الموضوع في العام 2019.
طالما تسدّد مصر موجباتها الخارجية، وتؤدي وظيفتها الإقليمية من ناحية الإبادة الإسرائيلية وعلاقتها مع إسرائيل، فكل شيء على مايرام
وهذا يطرح تساؤلات كثيرة. لماذا يضع الصندوق دور الجيش في الاقتصاد في صلب أهداف برنامجه، في حين لا يعرّف بشكل دقيق حجم هذا الدور؟ لماذا لم يطلب كشرط مسبق للبرنامج أن تقدّم مصر على مسح دقيق لحجم الجيش في الاقتصاد وعلى هذا الأساس يتم تقييم كيف وبأي قطاعات يجب تحجيم دور الجيش الاقتصادي؟ ووفق الصندوق، فشلت مصر في تطبيق 8 من أصل 17 مشروطية هيكلية، معظمها مرتبط بتقليص حجم الدولة والجيش في الاقتصاد، وهذا عدد هائل. ومع ذلك حصلت مصر على دفعة أخرى من القرض. في الظروف العادية، يعلّق الصندوق الدفعة حتى تحقيق هذه المشروطيات أو على الأقل بعضاً منها. فلماذا لم يفعل ذلك؟ وهذه التساؤلات ليس للدفاع عن دور الجيش في الاقتصاد أو دعوة صندوق النقد لتعليق البرنامج مع مصر. ولكنها دليل آخر على أن الصندوق بشكل عام يعمل وفق منطلقات أيديولوجية وليس تقنية أو بناءً على معطيات وبيانات دقيقة، فيفرض على مصر هذه الشروط وهو أعمى ولا يعرف مدى حجم دور الجيش. وثانياً، أداء مصر السيء، من منظار الصندوق، لم يستدعِ تعليق البرنامج لأنه لديه خلفيات جيوسياسية، كما أن الصندوق منكشف بشكل أو آخر على مصر اذ أنها أحد أكبر المقترضين بعد الأرجنتين وأوكرانيا. وطالما تسدّد مصر موجباتها الخارجية، وتؤدي وظيفتها الإقليمية من ناحية الإبادة الإسرائيلية وعلاقتها مع إسرائيل، فكل شيء على مايرام.
الدين العام وانكشاف المصارف عليه
يشير تقرير صندوق النقد إلى ارتفاع كلفة الدين العام في مصر، إذ أن الحاجات التمويلية الإجمالية بلغت 30% من الناتج المحلي سنوياً، بسبب ارتفاع حجم الدين وخدمته عبر «مدفوعات الفوائد الضخمة، وآجال الاستحقاق القصيرة، لا سيما الديون المباعة في المزادات. وقد زادت مدفوعات فوائد الدين على أساس نقدي وباتت تمثل 50% من إجمالي الإنفاق في السنة المالية 2023-2024، ما يشكل ارتفاعاً بسبعة أضعاف مقارنة بالسنة المالية 2014-2015». إذن، تبتلع خدمة الدين العام في مصر نصف الإنفاق العام على الأقل نتيجة ارتفاع الفوائد وكون معظم الحاجات التمويلية للاقتصاد يتم تأمينها عبر قروض قصيرة الأمد تستحق في خلال 3 أو 6 أشهر وتفوق الفائدة عليها 30%. ويفاقم هذا الوضع السيء انخفاض العوائد الضريبية في مصر لتصل إلى 12% من الناتج المحلي فقط، أي أقل بكثير من معدل الاقتصاديات الصاعدة، ويجعل مصر أقرب إلى معدّل الدول المنخفضة الدخل. أدّت هذه العوامل إلى عدم تحقيق مصر إحدى المشروطيات المتعلقة بتحقيق مستوى أعلى من الفوائض الأولية في الموازنة. بالتالي، من أجل «تصحيح» الأمور، عمّقت الحكومة من سياساتها التقشفية عبر خفض الإنفاق الاجتماعي، واستخدام جميع إيرادات بيع رأس الحكمة للإمارات من أجل خفض الدين العام.
تبتلع خدمة الدين العام في مصر نصف الإنفاق العام على الأقل نتيجة ارتفاع الفوائد وكون معظم الحاجات التمويلية للاقتصاد يتم تأمينها عبر قروض قصيرة الأمد
إذن، يتم بيع الأصول العامة في مصر لخدمة الدائنين من دون أي إشارة إلى أن الاقتصاد المصري يجري على سكّة تحرّره من صندوق النقد، أو الدائنين قصيرين المدى أو الاعتماد على بيع الأصول العامة. تشير بيانات الصندوق إلى أنه لولا صفقة رأس الحكمة، لكانت مصر سجّلت هروب رساميل يفوق دخولها إلى الاقتصاد. كما أنه عبر هذه الصفقة تكون مصر قد حققت احتياطات بالعملة الأجنبية مناسبة لمواجهات خضّات على الأقل على المدى القصير. وهذا أمر يستدعي القلق إذ أن تدفق الرساميل من خلال الخصخصة لا يشكل أي نوع من الحماية فهي تدفقات على مرّة واحدة، وستجد مصر نفسها بعد مدّة من دون أصول تبيعها. أما المؤشر الخطير الآخر فهو انكشاف البنوك على الدين العام، والذي يعد من الأعلى في العالم وفق صندوق النقد الدولي. تشير البيانات الى أن الانكشاف يفوق 50% من مجمل أصول البنوك. ويؤكد الصندوق الى أنه «في حين تشير التقارير إلى أن البنوك لا تزال ملتزمة بالحدود التنظيمية، فإن القروض بالعملة الأجنبية، وخصوصاً المقدمة إلى كيانات القطاع العام لا تتطابق تماماً مع الودائع بالعملة الأجنبية (خصوصاً في الميزانيات العمومية لأكبر البنوك)، ما قد يعني وجود ضعف محتمل في مواجهة تحركات أسعار الصرف، بما في ذلك من خلال مخاطر الائتمان».
كل هذه المؤشرات تنذر بهشاشة الاقتصاد المصري الشديدة، وكثير من المعطيات تذكر بحال الاقتصاد اللبناني قبل الانهيار الكبير الذي بدأ في العام 2019. ولكن مصر ليست لبنان من ناحية الحجم والدور الإقليمي. وحتى اللحظة، يبدو أن ما يمنع الاقتصاد المصري من السقوط هو هذه الجرعات المتكررة من ضخ السيولة والرساميل عبر قروض الصندوق وصفقات الخصخصة والاستدانة قصيرة المدة وشديدة الكلفة، في حين أن الحكومة تعمّق من سياساتها التقشفية التي تزيد اللامساواة والفقر. وكما ذكرنا آنفاً، صندوق النقد الدولي متورط أيضاً بأزمة مصر، ويحرص على أن تتمكن مصر من سداد ديونها إليه، حتى لو عنى ذلك مزيداً من البرامج الفاشلة، على غرار الأرجنتين. من أجل ضمان قدرة مصر على السداد. ويشير التقرير إلى «أن القدرة على السداد للصندوق كافية ولكنها تخضع للمخاطر وتعتمد على التنفيذ الكامل للبرنامج وتحقيق جميع التمويلات المتوقعة». وهنا يقول لنا كل ما نحتاج إلى معرفته، ويبقى السؤال عن مدى قدرة الصندوق ومصر على خوض هذه الرقصة، التي لا يبدو أنه لها نهاية قريبة، قبل الاعتراف بأن مصر بحاجة على الأقل الى إعادة جدولة ديونها؟