Preview سباق على التسلّح النووي تغذّيه صراعات عديدة

البشرية على حدّ السكين
الإنفاق على الأسلحة النووية في أعلى مستوياته

بلغ الإنفاق العالمي على الأسلحة النووية أعلى مستوى له على الإطلاق، فقد وصل إلى 91.4 مليار دولار في العام 2023، أي انه زاد بنحو 23.2 مليار دولار على مدى الأعوام الخمسة الماضية، بحسب تقرير صادر عن الحملة الدولية لإلغاء الأسلحة النووية في حزيران/يونيو 2024.

يعدّ سباق التسلّح بين الدول محرّكاً أساسياً لزيادة الإنفاق على الأسلحة النووية، في ظل تصاعد التوترات الجيوسياسية وأزمات النظام العالمي والسياسات الإمبريالية. ويشهد العالم حروباً وصراعات هي الأشد فتكاً منذ عقود، وما فتئت شركات الأسلحة الكبرى تستغلها لجني المزيد من الأرباح من استثماراتها في «هلاك البشرية»، وتستعين في ذلك بقوتها السياسية والمالية وجماعات الضغط ومراكز الأبحاث، مثبتة مرة أخرى أن لرأس المال فصل الخطاب، ولو في قضايا البشرية الأكثر مصيرية.

infographic

«الإنسانية على حد سكين، لقد وصل خطر استخدام الأسلحة النووية إلى مستويات غير مسبوقة منذ الحرب الباردة»، هذا ما يخبرنا عنه الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، في خطاب ألقاه في 7 حزيران/يونيو الماضي، لكن المثير في قوله: «إن النظام المصمّم لمنع استخدام الأسلحة النووية واختبارها وانتشارها بدأ يضعف». 

على الرغم من أن خطر الأسلحة النووية بقي جاثماً على صدر البشرية، حتى بعد نهاية الحرب الباردة، إلا أن ما يحصل في هذه الحقبة يهدّد بالقضاء على القدر القليل من الجهود الدولية لتفادي «الهلاك»، فمعاهدة الحد من انتشار الأسلحة النووية (على سبيل المثال)، التي دخلت حيز التنفيذ منذ سبعينيات القرن الماضي، أصبح حالها حال المعاهدات والاتفاقات الدولية الأخرى، كاتفاقات التجارة الحرة والبيئة، وهي تُخرق في وضح النهار أو في السر، في ظل مؤسسات دولية لا قوة لديها لتقييد أعضائها إلا صورياً.

في حالة خرق معاهدات التسلّح النووي بالذات، الفاعلون ليسوا إلا حفنة من الدول، ففي بداية العام 2024، كانت 9 دول فقط، هي الولايات المتحدة، والاتحاد الروسي، والمملكة المتحدة، وفرنسا، والصين، والهند، وباكستان، وجمهورية كوريا الشعبية الديمقراطية (أو كوريا الشمالية) وإسرائيل،  تمتلك معاً ما يقرب من 12,121 سلاحاً نووياً، نحو 90% منها في حوزة الولايات المتحدة وروسيا، التي ورثت الترسانة النووية للاتحاد السوفياتي عند تفكيكه.

صحيح أن الترسانات النووية للدول الأخرى  هي أصغر من تلك التي في حوزة الولايات المتحدة وروسيا، لكن هذه الدول تعمل على تطوير أو نشر أنظمة أسلحة جديدة، أو أعلنت سابقاً عن نيتها القيام بذلك. ومن المتوقع أن تمتلك الصين بحلول نهاية العقد الحالي عدداً من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات (ICBMs) يوازي العدد لدى روسيا أو الولايات المتحدة. وتعمل المملكة المتحدة على زيادة مخزونها النووي، وهو ما تعمل عليه الهند وباكستان أيضاً. كذلك، لا يزال البرنامج النووي لكوريا الشمالية محورياً في استراتيجية الأمن القومي، وربما تكون قد جمعت كوريا ما يصل إلى 50 سلاحاً، في حين أن فرنسا تواصل برامجها لتطوير غوّاصة الصواريخ الباليستية من الجيل الثالث التي تعمل بالطاقة النووية (SSBN)، وصاروخ كروز جديد يُطلق من الجو، هذا فضلاً عن قيامها بتجديد الأنظمة الحالية وتحديثها. أما إسرائيل، التي لا تعترف علناً بامتلاك أسلحة نووية، فيُعتقد أنها لا تزال تعمل على تحديث ترسانتها النووية.

كل هذه الدول زادت من إنفاقها النووي في السنوات الخمس الماضية، إلا أن هذا الأمر جرى بتفاوت بينها من حيث القيمة المطلقة والنسبية. الولايات المتحدة مسؤولة عن أكبر زيادة في الإنفاق، وصلت إلى 16.1 مليار دولار في الفترة من 2019 إلى 2023. وحقّقت المملكة المتحدة ثاني أعلى زيادة بلغت 2.4 مليار دولار، تليها الصين بمبلغ 1.4 مليار دولار. امّا بالنسبة المئوية للزيادة في الانفاق النووي، فحلت باكستان في المرتبة الأولى، إذ زادت إنفاقها بنسبة 60% من العام 2019 إلى العام 2023، أو 378 مليون دولار. وجاءت الولايات المتحدة في المركز الثاني بنسبة 45%، والمملكة المتحدة في المركز الثالث بنسبة 43%. المثير أن «الفزّاعة العالمية» في عالم التسلح النووي، أي كوريا الشمالية، حقّقت أقل زيادة من حيث القيمة المطلقة والنسبة المئوية.

في ظل إنفاق متزايد على الأسلحة النووية تشرع به هذه الدول التسع المتنافسة، تحاك سيناريوهات عن المكان الأكثر احتمالاً لضرب الصاروخ النووي الأول، إن حصل ذلك بالطبع: هل سيكون مضيق تايوان؟ أوكرانيا؟ شبه الجزيرة الكورية؟ أم الخليج الفارسي؟

 هذه ليست مجرّد تكهّنات هواة، ففي خريف العام 2022، قدّر تقييم مخابراتي أميركي احتمالات أن تشن روسيا ضربة نووية لوقف القوات الأوكرانية إذا انتهكت دفاعها عن شبه جزيرة القرم، وكانت الاحتمالات متساوية. استعداداً للأسوأ، سارع المسؤولون الأميركيون إلى نقل الإمدادات إلى أوروبا، وأقامت أوكرانيا مئات من أجهزة الكشف عن الإشعاع حول المدن ومحطات الطاقة، إلى جانب أكثر من 1,000 جهاز مراقبة محمول صغير أرسلته الولايات المتحدة.

تحدّد العقيدة النووية الروسية للعام 2020 متى يحق لرئيسها التفكير في استخدام سلاح نووي: بشكل عام سيكون كرد على هجوم من دولة أخرى باستخدام الأسلحة النووية أو غيرها من أسلحة الدمار الشامل أو الأسلحة التقليدية، و«عندما يكون وجود الدولة ذاته تحت التهديد». في هذا الصدد، نقلت وكالة الإعلام الروسية عن أندريه كارتابولوف، رئيس لجنة الدفاع بمجلس النواب بالبرلمان الروسي، قوله يوم الأحد الماضي أنه «إذا رأينا أن التحديات والتهديدات تتزايد فهذا يعني أنه يمكننا تصحيح شيء ما (في العقيدة النووية) فيما يتعلق بتوقيت استخدام الأسلحة النووية وقرار القيام بهذا الاستخدام».

من الجهة الأخرى، أكدت مراجعة الوضع النووي لعام 2022 (NPR)، التي أصدرتها إدارة الرئيس جو بايدن، على 3 أدوار عامة للأسلحة النووية الأميركية: «ردع الهجمات الاستراتيجية؛ طمأنة الحلفاء والشركاء؛ وتحقيق أهداف الولايات المتحدة إذا فشل الردع». وأشارت إلى أن «الولايات المتحدة لن تفكر في استخدام الأسلحة النووية إلا في الظروف القصوى للدفاع عن المصالح الحيوية للولايات المتحدة أو حلفائها وشركائها». ومع ذلك، فإنها لم توضح بالتفصيل ما الذي يشكل على وجه التحديد «المصالح الحيوية»، كما أنها لم تحدد عبارة «الحلفاء والشركاء». 

مع تفاقم التوترات في العلاقات الأميركية مع روسيا والصين، تكشف صور الأقمار الصناعية أن الدول الثلاث تعمل بنشاط على توسيع منشآتها للتجارب النووية، وحفر أنفاق جديدة في ملاعب التجارب النووية الخاملة منذ فترة طويلة.

على صعيد آخر، في نهاية العام 2023، كان العديد من صناع القرار والمعلقين الإسرائيليين، بما في ذلك أحد الوزراء، قد اقترحوا أن تستخدم إسرائيل الأسلحة النووية في حرب الإبادة الجماعية على غزة. لا ننسى في هذا السياق التقارير المستندة إلى مقابلات مع جنرال إسرائيلي متقاعد، والتي أشارت إلى أن إسرائيل كانت ستأخذ في الاعتبار استخدام الأسلحة النووية إذا رأت أنها ستخسر الحرب في العام 1967. 

أيضاً، تزايد الجدل حول التزام الهند بسياسة «عدم الاستخدام الأول» (NFU) مع وجود مؤشرات منذ العام 2018 على أن بعض أجزاء الترسانة النووية الهندية يتم الاحتفاظ بها في حالة استعداد أعلى، بما في ذلك احتمال وضع جزء من الرؤوس الحربية الهندية على منصات الإطلاق.

لكن، ما علينا فهمه أن هذا التزايد في الإنفاق والتسلح، وإن كان في منحى منه مرتبط باحتدام جيوسياسي، إلا أن السبب في استمراره أيضاً هو رغبة شركات الأسلحة الخاصة في تحقيق مصالحها، لذلك خلقت شبكة لها من جماعات الضغط ومراكز الفكر فضلاً عن تحصيل أعوان لها من المسؤولين داخل مؤسسات الدولة.

في العام 2023، كسبت صناعة الأسلحة النووية ما لا يقل عن 30 مليار دولار مقابل العمل على تطوير وتصنيع وإنتاج الأسلحة النووية ومكوناتها الرئيسة، بذلك حصلت على ما لا يقل عن 7.9 مليار دولار في عقود جديدة. وتمتلك 5 شركات (BAE Systems، وBoeing، وLockheed Martin، وNorthrop Grumman، وPeraton) عقوداً تستمر حتى العام 2039، في حين أن معظم العقود الأخرى تتراوح مدتها من سنتين إلى 5 سنوات.

أنفقت هذه الشركات 118 مليون دولار للضغط على الحكومات في الولايات المتحدة وفرنسا، بزيادة قدرها 11 مليون دولار عن العام 2022. وعقدت العديد من الشركات أكثر من 10 اجتماعات مع مسؤولين بريطانيين في العام 2023، في حين التقت شركتان بمسؤولين بريطانيين أكثر من 40 مرة، واجتمعت 5 شركات مع رئيس وزراء المملكة المتحدة. 

تبرّعت الشركات بأكثر من 6 ملايين دولار لأكبر مؤسسات الفكر والرأي التي تبحث وتكتب عن الأسلحة النووية، ويعمل الموظفون الحاليون والسابقون في هذه الشركات في مجالس إدارة مراكز الأبحاث والمجالس الاستشارية، كما أنهم أعضاء في مجالس إدارة المؤسسات المالية التي لديها استثمارات كبيرة في شركاتها.

وسط مشهد أمني عالمي مليء بالتحديات، من الواضح أن الأسلحة النووية لا تضمن السلام ولا توفر الأمن، لهذا السبب تحاول الجهات الفاعلة في صناعة الأسلحة النووية إخفاء مشاركتها العلنية، وقد نشرت العديد من الشركات معلومات مخادعة على مواقعها الإلكترونية، للايحاء أنها ليست متورطة بشكل مباشر في إنتاج الرؤوس الحربية النووية، وتزعم أن دورها في إنتاج الصواريخ أو الغواصات المصممة لحمل الأسلحة النووية لا يعني في الواقع أنها متورطة في إنتاج الأسلحة النووية.