Preview الصين والتحوّل الطاقوي

التحوّل الطاقوي «العالمي» ينطلق من الصين

في أيار/ مايو 2024، نشر مركز «إمبر» (Ember) لأبحاث الطاقة النظيفة مراجعة عن إنتاج الطاقة في العالم أعلنت عن نقطة تحوّل تاريخية مهمة. 

الكَهْرَبَةُ أساسية لنظام الطاقة الجديد الذي يُبنى في جميع أنحاء العالم. وإنتاج الكهرباء هو إحدى العمليات التي نعرف كيف ننزع منها الكربون. فمن خلال عمل متضافر ومنسّق، سوف يتحقق الحياد الكربوني في إنتاج الطاقة الكهربائية لبلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية بحلول ثلاثينيات القرن الحالي وللعالم بأسره بحلول العام 2045. فضلاً عن ذلك، يشير تقرير إمبر إلى أن الكهربة سوف تحل محل «حرق الوقود الأحفوري الذي يجري حالياً في محركات السيارات والحافلات والغلايات والأفران وغيرها من التطبيقات».

الكهربة الخضراء هي مفتاح المستقبل. وفي العام 2023، وفقاً لتقرير إمبر، غطّى النمو في مصادر الطاقة المتجددة، وعلى رأسها الطاقة الشمسية، كامل الطلب الجديد على الطاقة. وفي حين برز نمو في الطلب على الكهرباء في جميع أنحاء العالم، بالكاد ارتفع إنتاج الطاقة من الوقود الأحفوري. وكان النمو في الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وحده كافياً لتغطية 82 % من الطلب الجديد على الكهرباء. 

التحوّل الطاقوي «العالمي» ينطلق من الصين رسم 1

هذا ليس جديداً في الدول الغنية. ففي دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، لا يعد نمو الطلب على الكهرباء قوياً بل سلبي، فيما الاستثمار في الطاقة المتجددة جارٍ منذ عقدين من الزمن. ويسري شعور بأنّ هذا ما يحصل على المستوى العالمي حيث النمو في الطلب على الطاقة الكهربائية مستمر من دون توقف.

وفي العام 2024، تتوقع إمبر أن يكون الاتجاه أكثر وضوحاً. ففي هذا العام، وللمرة الأولى، سوف يسجّل نمو كبير في الطلب العالمي على الكهرباء، في حين يُرجَّح أن ينخفض الإنتاج من الوقود الأحفوري.

ومن المتوقّع أن يكون نمو الطلب في العام 2024 أعلى مما كان عليه في العام 2023 (+968 تيراواط /ساعة)، لكن من المتوقَّع أن يكون نمو الإنتاج من الطاقة النظيفة أكبر (+1300 تيراواط/ ساعة)، ما يؤدي إلى انخفاض بنسبة 2% في الإنتاج العالمي للطاقة من الوقود الأحفوري (-333 تيراواط/ ساعة).

بحسب إمبر، كان من الممكن بلوغ نقطة التحول في العام 2023 لو لم يتأثر إنتاج الطاقة المائية بالجفاف. وهذا النقص في القدرة الإنتاجية للطاقة النظيفة بسبب انخفاض مستويات المياه في الخزانات، دفع العديد من البلدان للجوء إلى مزيد من حرق الفحم لإنتاج الطاقة.

التحوّل الطاقوي «العالمي» ينطلق من الصين رسم 2

تُعَدّ تغطية تقرير إمبر إنجازاً في جمع البيانات. فهي شاملة ومحدّثة بشكل لافت وتغطي عملية الإنتاج وليس القدرة الإنتاجية المركبة. 

ويوفّر التقرير السنوي الخامس لإمبر عن الكهرباء العالمية النظرة العامة الأولى على التغيرات في إنتاج الكهرباء عالمياً في العام 2023 بناءً على بيانات مُسجّلة. ويعرض الاتجاهات التي تعبر عنها هذه البيانات، والآثار المحتملة في مصادر الطاقة وانبعاثات قطاع الكهرباء في المستقبل القريب. ومع هذا التقرير، تطلق إمبر المجموعة الأولى لبيانات شاملة ومجانية عن إنتاج الكهرباء عالمياً في العام 2023. ويحلّل التقرير بيانات الكهرباء في 215 بلداً، بما في ذلك أحدث بيانات العام 2023 عن 80 بلداً تمثل 92% من الطلب العالمي على الكهرباء. ويتضمن التحليل أيضاً بيانات عن 13 مجموعة جغرافية واقتصادية، مثل أفريقيا وآسيا والاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع.

وهذا التجميع البطولي للبيانات يسمح برسم خريطة للتطوّر غير المتكافئ لتحول الطاقة في جميع أنحاء العالم. وكما يقول تقرير إمبر:

ساعد توليد الطاقة النظيفة، وعلى رأسها الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، في إبطاء نمو الإنتاج من الوقود الأحفوري بنحو ثلثين في السنوات العشر الماضية. وبالنتيجة، فإن نصف اقتصادات العالم تجاوزت ذروة إنتاج الكهرباء من الوقود الأحفوري بنحو خمس سنوات على الأقل. وتأتي دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في مقدمة هذه الدول، إذ بلغت انبعاثات قطاع الكهرباء ذروتها في العام 2007، ثم انخفضت بنسبة 28% منذ ذلك الحين.

لكن الإنجاز الحقيقي في تقرير إمبر لم يتحقّق في دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وبالحديث عن تحوّل «عالمي» يتضح أن هناك تعمية مقصودة، نظراً إلى أن بلداً واحداً يتحكّم بدينامية تحوّل الطاقة بالكامل وهو الصين.

تقول بيانات إمبر: «تبقى الصين المحرّك الرئيس لنمو الطلب العالمي على الكهرباء. ويعد النمو السريع في الصين (+606 تيراواط/ساعة، +6.9%) أقل بمقدار 21 تيراواط/ساعة فقط من صافي الزيادة العالمية، فيما شكل النمو المحقق في الهند (+99 تيراواط/ ساعة، +5.4%) المساهم الأكبر التالي».

التحوّل الطاقوي «العالمي» ينطلق من الصين رسم 3

 حتى العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، غذّت الصين طلبها النهم على الطاقة الجديدة من خلال محطات الطاقة التي تعمل بالفحم. ولم يكن التحوّل في مجال الطاقة في الاقتصادات المتقدمة كافياً لعكس هذا التحوّل. وبطبيعة الحال، كان التحول إلى الطاقة المتجددة في الغرب بطيئاً جداً أيضاً. ولكن حتى لو اتخذت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إجراء أكثر جذرية، كان نمو الصين ببساطة كبيراً جداً وغير نظيف إلى حد بعيد. وحقيقة أننا نصل الآن إلى نقطة تحوّل متوازنة بين إنتاج الطاقة من الوقود الأحفوري والمصادر النظيفة، إنما تعزى إلى نقطة تحوّل في الصين تكمن بالزيادة الهائلة في الاستثمار في الطاقة المتجددة.

في العام 2023، استحوذت الصين وحدها على أكثر من نصف طاقة الرياح والطاقة الشمسية الجديدة المضافة.

التحوّل الطاقوي «العالمي» ينطلق من الصين رسم 4

هذا نمط يعود إلى سنوات عدّة. وبحسب إمبر، تتحكّم ديناميات الطاقة في الصين بالاتجاهات العالمية كافة.

ويعد نمو الصين في إنتاج الطاقة من الفحم (+1,670 تيراواط/ ساعة) منذ العام 2015 أكثر من الزيادة العالمية الإجمالية، مع تراجع إنتاج الطاقة من الفحم بشكل كبير في الولايات المتحدة ودول أخرى في هذه الفترة.

وحقيقة الأمر أن الصين حققت في العقود الثلاثة الممتدة بين عامي 1990 و2020 ثورة صناعية هائلة، وسيطرت بالكامل على نمو الطاقة العالمي.

ومنذ العام 2015، شرعت الصين أيضاً في أكبر اندفاعة للطاقة الخضراء، وهذا ما يقلّل أهمّية كل ما نراه في بقية العالم. 

وبين عامي 2015 و2023، حققت الصين نحو نصف (47%، 700 تيراواط/ ساعة) النمو العالمي في طاقة الرياح و40% (545 تيراواط/ ساعة) من الزيادة المسجلة في الإنتاج من الطاقة الشمسية.

التحوّل الطاقوي «العالمي» ينطلق من الصين رسم 5

هذه هي الأرقام المسؤولة عن الرؤية الرباعية لتحول الطاقة العالمية التي أروج لها منذ فترة:

التحوّل الطاقوي «العالمي» ينطلق من الصين رسم 6

يصف الجدول تحولات الطاقة المختلفة، لكنها غير متكافئة من الناحية الكمية. يقابل الطلب المتزايد على الكهرباء في الهند والأسواق الناشئة (أسفل اليسار) الانخفاض التدريجي في الاقتصادات المتقدمة (أعلى اليمين). ومع أنّ النمو الديمغرافي في أفريقيا كبير (أسفل اليمين)، لكن تأثيره الفوري على التوازن العالمي لانبعاثات الكربون ضئيل أو معدوم. والنتيجة أن الحالة «العالمية» بأكملها تجري في الصين فعلياً.

وكما يشير تقرير إمبر، لقد بدأت للتو حالة الكهرباء الخضراء. لذلك فإن استبدال إنتاج الكهرباء من المصادر غير النظيفة المخصّصة للاستخدامات الحالية بالطاقةَ الشمسية وطاقة الرياح هو شيء، وأن نبني نظام الكهرباء بالكامل لتلبية الطلبات الجديدة على الكهرباء في معالجة البيانات والنقل والاستخدامات المنزلية والصناعية هو شيء آخر.

يمكننا قياس حجم هذا التحول من خلال حصة الطلب الجديد على الكهرباء الناجمة عن الأنواع الجديدة من استهلاك الكهرباء، على سبيل المثال السيارات الكهربائية. مرة أخرى، لا تترك بيانات إمبر أدنى شك في أن الصين تتقدم بفارق كبير عن بقية العالم:

تتصدر الصين المنحنى في كهربة التدفئة والنقل وبناء القدرة على التحليل بالكهرباء. وفي العام 2023، نما الطلب على الكهرباء في الصين من صناعة خدمات الشحن وتبديل البطاريات بنسبة 78%، وأضاف ما يقدر بنحو 56 تيراواط/ ساعة إلى الطلب على الكهرباء في الصين، أي أكثر بـ 3.5 ضعفاً من بقية العالم.

نعم، هذه أرقام صحيحة. قياساً على الكهرباء المستهلكة، فإن كهربة وسائل النقل البري في الصين أكبر بنحو 3.5 ضعفاً من مثيلاتها في بقية العالم. هذه هي ثورة السيارات الكهربائية التي تثير قلق الغرب.

في حين تمثل الصين 60% من مبيعات السيارات الكهربائية الخفيفة، لا يستحوذ هذا القطاع سوى على نحو 18 تيراواط/ ساعة من زيادة الطلب البالغة 56 تيراواط/ ساعة، ويأتي الباقي من الفانات والشاحنات والحافلات والمركبات ذات العجلتين الكهربائية، التي تسيطر عليها الصين عالمياً. كما أنها أكبر سوق للمضخّات الحرارية في العالم إذ تركّب سنوياً أكثر من أي دولة أخرى. كما تنامت أجهزة التحليل الكهربائي التي غالباً ما تستخدمها شركات الكيماويات والبتروكيماويات في المحطات التجريبية، بشكل أسرع في الصين منه في بقية العالم. ونتيجة لذلك، استحوذت الصين على 50% من قدرة التحليل الكهربائي العالمية في العام 2023. 

التحوّل الطاقوي «العالمي» ينطلق من الصين رسم 7

لكن كما يشير تقرير إمبر، هذه العملية من إدخال الكهرباء في استخدامات جديدة، ما زالت في بداياتها فحسب.

حتى في الصين، لا تزال الكهربة في المهد. في العام 2023، خمس نمو الطلب على الكهرباء فقط في الصين (124 تيراواط /ساعة من 606 تيراواط/ ساعة) أتى من تقنيات الكهربة الثلاث، لكن هذه الحصة سترتفع مع الوقت. أضافت هذه التقنيات 1.4% إلى الطلب على الكهرباء في الصين في العام 2023، بعد أن كان الرقم 1.1% في العام 2022. وفي الوقت نفسه، أضافت الكهربة في بقية أنحاء العالم نحو 0.25% إلى الطلب على الكهرباء في العام 2022، و0.28% في العام 2023. ومع تسريع الصين نشر تكنولوجيات الكهربة الأساسية ومواصلة العالم اللحاق بها، فإنّ مساهمة الكهربة سوف تتوسع بشكل أكبر.

في مؤتمر الأمم المتحدة المعني بتغير المناخ (COP28) في العام 2023، التزم كثير من بلدان العالم بمضاعفة القدرة الإنتاجية من الطاقة المتجددة العالمية ثلاث مرّات بحلول العام 2030. وهو ما يمكنه أن يخفّض انبعاثات قطاع الكهرباء إلى النصف تقريباً بحلول العام 2030، وستحلّ محلّ إنتاج الكهرباء بالفحم بالمقام الأول. فضلاً عن ذلك، ستوفر ما يكفي من الكهرباء الجديدة لتلبّي تقدّم كهربة وسائل النقل والتدفئة المنزلية والصناعية مع زيادة بنسبة 32% في الطلب على الكهرباء. 

التحوّل الطاقوي «العالمي» ينطلق من الصين رسم 8

للمرّة الأولى، تضعنا الطفرة الهائلة التي حقّقتها الصين في الطاقة المتجددة، وعلى رأسها الطاقة الشمسية، على المسار الصحيح لتحقيق هذه الأهداف.  وكما يشير تقرير إمبر، فاجأت الصين الخبراء حول العالم:

سنوياً، كانت  الوكالة الدولية للطاقة ترفع التوقعات: من العام 2021 إلى 2022 وصولاً إلى العام 2023، توقّع سيناريو للوكالة الدولية للطاقة أنّ الإضافات السنوية لعام 2023 ستكون 218 غيغاوات، و257 غيغاوات، و406 غيغاوات، على التوالي. ومع التحديثات الصينية الأخيرة، نجد أنَّ الإضافات الفعلية لعام 2023 تبلغ 444 غيغاوات وفقاً لبلومبرغ نيو إنيرجي فاينانس(BNEF). وكي نضع حجم الإضافات في العام 2023 ضمن السياق، فإن الإضافات السنوية للقدرة الإنتاجية من الطاقة الشمسية لم تتجاوز 200 غيغاوات سنوياً حتى العام 2022، الذي كان في حدِّ ذاته عاماً قياسياً.

بعد أن تخطّت الطفرة الهائلة التي حققتها الصين في مجال الطاقة الشمسية جميع التجارب السابقة في مجال استخدام الطاقة المتجددة، ها هي تضعنا الآن على مسافة قريبة من تصفير الانبعاثات، وتدفعها في ذلك طاقة كهربائية خضراء. 

التحوّل الطاقوي «العالمي» ينطلق من الصين رسم 9

في العام 2023، تجاوزت كمية ألواح الطاقة الشمسية المصنعة في الصين الطلب العالمي، مع انهيار أسعار الأنظمة الشمسية بأكثر من 50% في النصف الثاني من العام، وراتفاع التركيب المحلي لهذه الأنظمة. وبالتالي أصبحت أسعار وحدات الطاقة الشمسية الآن أقل بكثير مما كان متوقعاً بناءً على قانون رايت لمنحنيات التعلم التكنولوجي. ومع تزايد إعادة توجيه الإقراض الحكومي الصيني من القطاع السكني إلى التصنيع، تشكّل البلاد الآن ما بين 80% إلى 85% من الإنتاج العالمي لوحدات الطاقة الشمسية.

التحوّل الطاقوي «العالمي» ينطلق من الصين رسم 10

ما نشهده هو أسرع استخدام لتكنولوجيا الطاقة في التاريخ.

التحوّل الطاقوي «العالمي» ينطلق من الصين رسم 11

ماذا عن ردة فعل السياسيين الغربيين؟ الحمائية. لا شكّ أنّ هنالك دوافع معقدة. فهم بحاجة إلى إقامة تحالفات لتعزيز تحول الطاقة. وهم قلقون بشأن نظام الحزب الشيوعي في الصين، ويرغبون في الهروب من الاعتماد المفرط على مصادر الطاقة المستوردة (على الرغم من أن ما يستوردونه في مجال الطاقة المتجددة هو المعدات الرأسمالية وليس الطاقة). لكن السؤال الأكثر جوهرية هو ببساطة: هل الحكومات والمجتمعات الغربية مستعدة لإعطاء الأولوية للتحول في مجال الطاقة لو لم تكن هذه الحالة تمسّهم، أو تمسّ نجاحهم؟ أو في حال لم تكن الصين هي مصدر الألواح الكهروضوئية والمركبات الكهربائية، هل كانت المصالح الأخرى لتحظى بالأولوية؟

في الحالة الأوروبية، يمكن للمرء أن يرى تسوية مبنيّة على موازنة بين حلول تحول الطاقة المحلية والحلول التي تأتي من مصادر صينية. وكما لاحظ مارتن ساندبو، توجد في الأقل إمكانية للتوصل إلى صفقة كبرى. أمّا في حالة الولايات المتحدة، فيبدو من الواضح على نحو متزايد أن تحول الطاقة في حد ذاته هو مصدر قلق ومواجهة جيوسياسية من الدرجة الثانية، وأن الأولوية هي للنضال من أجل تشكيل تحالفات محلية. هذا محبط، ومهمّ. ولكن كما توضح بيانات إمبر، فإنّه أبعد ما يكون من أن يشكّل عقبة حاسمة. فتحول الطاقة العالمي سوف يتواصل في جميع الأحوال.

نُشر هذا المقال على مدوِّنة الكاتب في 19 أيار/مايو 2024، وتُرجِم وأعيد نشره على موقع «صفر» بموافقة مسبقة من الكاتب.