Preview هل أعاد «النموذج اللبناني» تجديد نفسه؟

قراءة في الحسابات القومية لعام 2021 المتأخّرة
هل أعاد «النموذج اللبناني» تجديد نفسه؟

«الأزمات»، على الرغم من ما تتسبّب به من خسائر وآلام، فهي تقدّم الفرص أيضاً للتصحيح وإعادة الإعمار، لكن الطبقة المسيطرة في لبنان نجحت، إلى حدّ كبير، في إضاعة الفرصة التي أتاحها انهيار سعر صرف العملة منذ العام 2019، ومنعت أي إصلاحات بنيوية في الاقتصاد والمالية العامة والسياسة النقدية لحماية مصالحها. هذا ما تبيّنه في الأقل الحسابات القومية1  لعام 2021 الصادرة عن إدارة الإحصاء المركزي. فوفق الشروحات التي قدّمتها مجموعة من الاقتصاديين الذين تحدّث معهم موقع «صفر»، يمكن الاستخلاص من نتائج هذه الحسابات أنه بدلاً من اغتنام الفرصة، تُرِكت الأمور لمجراها، واعتكفت الدولة عن القيام بأي تدخّل لإجراء تصحيح بنيوي في الاقتصاد، وتُرِكت قوى السوق تعيد تموضعها، وكانت النتيجة أن أعاد «النموذج اللبناني» تجديد نفسه، أو إحياء بعضاً من سماته القديمة، ولكن هذه المرّة بصورة أكثر رداءة عمّا كان عليه قبل الأزمة، وبعطبٍ أساسي هو تعطّل الجهاز المصرفي الذي شكّل عموده الفقري. ما يطرح تساؤلات عن الكيفية التي يمكن  لنموذج مماثل - وأي اقتصاد رأسمالي في المطلق - أن يعيش وفقها. 

النموذج اللبناني هو تعبير يستخدمه الكثير من الاقتصاديين والخبراء لوصف الاقتصاد السياسي في لبنان وآليّات اشتغاله، فهو يعتمد على التدفّقات الآتية من الخارج، على شكل تحويلات مالية وودائع وديون، بشكل أكبر من اعتماده على الإنتاج والتصدير. وهذه التدفقات، كان الجهاز المصرفي يعيد تدويرها في الاقتصاد لتمويل العجزين التجاري والمالي (الاستهلاك المحلي العام والخاص). هذا النموذج ليس وليد الأزمة الحالية، بل هو السمة التي ميّزت الاقتصاد اللبناني وصنعت بنيته على مدار أكثر من ثلاثة عقود بعد الحرب الأهلية. 

زيادة الارتهان إلى التحويلات المالية

تبيّن الحسابات القومية الأخيرة أن صافي التحويلات الجارية بلغ نحو 7.1 مليار دولار في العام 2021. وعليه بلغ الدخل القومي الإجمالي المُتاح (وهو يساوي الدخل القومي زائد صافي التحويلات) نحو 24.3 مليار دولار، أي أنه تجاوز الناتج المحلي الإجمالي بنحو 4.5 مليار دولار.

على مرّ السنوات، كانت التحويلات الآتية من المهاجرين اللبنانيين أعلى من قيمة التحويلات التي يرسلها الأجانب العاملون في لبنان إلى أسرهم المُقيمة في بلدانهم. ووفقاً لإدارة الإحصاء المركزي، بلغ المعدّل السنوي لصافي التحويلات نحو 2.2 مليار دولار بين عامي 2013 و2018، ليرتفع إلى 7.1 مليار بين عامي 2020 و2021. 

تقدّم الحسابات القومية صورة عن صافي التحويلات ولكن من دون تقسيمها بين تحويلات وافدة وتحويلات خارجة. إلا أن إحصاءات البنك الدولي تبيّن أنه منذ أزمة العام 2019، تراجعت قيمة تحويلات الأجانب العاملين في لبنان بشكل كبير من 4.3 مليار دولار في العام 2019 إلى 1.8 مليار دولار في العام 2023، نتيجة رحيل الكثير من العمّال الأجانب في لبنان و/أو زيادة استغلالهم برواتب متدنية للغاية وأحياناً تدفع بالليرة. في المقابل، حافظت التحويلات الوافدة على قيمتها إلى حدّ ما. بالنتيجة، بلغ المتوسّط السنوي لصافي تحويلات المهاجرين نحو 2.9 مليار دولار بين عامي 2013 و2018، وارتفع إلى 4.5 مليار دولار بين عامي 2020 و2023 وفق البنك الدولي. صحيح أن أرقام التحويلات تختلف بين إدارة الإحصاء المركزي والبنك الدولي، إلا أن المنحى العام لن يتغيّر كثيراً. يقول الاقتصادي في «بلوم إنفست» علي بلبل إن «إدارة الإحصاء المركزي تعتمد على البيانات التي يجمعها مصرف لبنان، وفي احتسابه للتحويلات الوافدة إلى لبنان بعد العام 2019، أضاف إلى تحويلات المغتربين، القروض التي حصل عليها لبنان من البنك الدولي». 

في الخلاصة، ارتفع صافي قيمة التحويلات بسبب تراجع التحويلات الخارجة، فيما بقيت التحويلات الوافدة مُنتظمة من حيث القيمة، إلا أن حجمها ارتفع من مجمل الناتج المحلي الإجمالي بفعل انهيار الاقتصاد نفسه. وهذا مؤشّر إلى زيادة حاجة الاقتصاد إلى هذه التحويلات وزيادة ارتهانه لها. 

ووفق الحسابات القومية لعام 2021، يتبيّن أن صافي التحويلات بات يشكّل 35.9% من مجمل الناتج المحلي، بالمقارنة مع 28.8% في العام 2020، في مقابل متوسّط بنسبة 4.4% من الناتج المحلي الإجمالي بين عامي 2013 و2019. وبحسب الاقتصادي شادي بو حبيب، هذا يعني أمرين: «أولاً، مع انهيار الاقتصاد، ازداد الاتكال على التحويلات الخارجيّة لتمويل الاستهلاك. وثانياً، مع تعطّل القطاع المصرفي، ازداد الاتكال على قنوات التحويل المباشر، على حساب إعادة تدوير الودائع كقروض تدعم الطلب والاستهلاك». 

01

اشتداد المرض الهولندي

باستثناء الزراعة التي نمت بالقيم الحقيقية بنسبة 20.8% تراكمياً بين عامي 2018 و2021، والعقارات (6.7%) والخدمات الشخصيّة والتعليم والصحّة (1.9%)، تراجعت كل القطاعات الأخرى بنسبة 43.6% وانخفضت حصّتها من الناتج من 69% إلى 54% بين عامي 2017 و2021. 

«يثبت نمو قطاع الزراعة أن الأزمة أعطت فرصة لتطوير قطاعات السلع القابلة للتبادل»، بحسب بو حبيب، وفي المقابل، «يظهر تراجع قطاع الصناعة والكهرباء بنسبة 43.9% أنه تمّ تفويت الفرصة في هذا القطاع». والواقع بحسب بو حبيب أن الصناعة «تحتاج إلى طاقة كهربائية ومحروقات وتسهيلات مصرفيّة لو توفّرت لكانت سمحت للقطاع بالاستفادة من الأزمة لتطوير نفسه كبديل اقتصادي». 

لا يتوقف الأمر هنا. فوفق بو حبيب، تشير أرقام سعر الصرف الحقيقي إلى أن هذه الفرصة توفّرت فعلاً. «بين عامي 2020 و2021، تراجع سعر الصرف بين 55% و73% تراكمياً (تبعاً لطريقتين مختلفتين لاحتسابه)». والمعروف أن سعر الصرف الحقيقي هو المؤشّر الذي يسمح بقياس تنافسية الاقتصاد نسبة إلى الخارج، أي كلفة السلع المنتجة فيه قياساً إلى كلفة الإنتاج في بلدان أخرى. يؤشّر تراجع سعر الصرف الحقيقي في السنتين الأولتين من الأزمة إلى تحسّن في تنافسية الاقتصاد في لبنان. وقد شهد لبنان بالفعل فترة مماثلة بين عامي 1984 و1989، قبل أن يفقد هذه الميزة منذ مطلع التسعينيات مع العودة إلى السياسات النيوليبرالية. وحالياً يحصل أمر مماثل، بحسب بو حبيب «ففي استكمال لعملية حساب سعر الصرف الحقيقي لتطال عامي 2022 و2023، يظهر أنه سجّل ارتفاعاً تراكمياً بنسبة 21%، ما يؤكّد أن التنافسية انخفضت من جديد، وأن الفرصة التي كانت متاحة في السنتين الأولتين من الأزمة انتهت».

يقول بوحبيب «لو استغلت هذه الظروف وفق رؤية اقتصادية وسياسات توجّه الموارد في اتجاه الإنتاج لكانت تطوّرت الصناعة. لكن ما حصل هو العكس تماماً، وبدلاً من أن تنمو الصناعة كما هو متوقّع مع تراجع سعر الصرف الحقيقي، تراجعت الصناعة بسبب السياسات المتّبعة». والواقع، تبيّن الحسابات القومية أن معدّل التضخم الداخلي ارتفع بنسبة 148% في العام 2021 بالمقارنة مع 60.1% في العام 2020، ويعود ذلك بحسب بو حبيب إلى «ارتفاع سعر الصرف الحقيقي، أي السلع غير القابلة للتداول مثل الصحة والتعليم والإيجارات وغيرها من الخدمات المحلية، وليس انهيار العملة». 

نتيجة تفويت الفرصة التي أوجدتها الأزمة وإضاعة فرصة التصحيح، يبدو أن المرض الهولندي يزيد تجذّره في الاقتصاد اللبناني. والمقصود بالمرض الهولندي، هو الحالة التي تغذي فيها التدفّقات المالية الخارجية ارتفاع أسعار السلع غير القابلة للتداول، وتؤدّي إلى ارتفاع كلفة الإنتاج المحلي، وتجعل القطاعات المنتجة المولّدة لفرص العمل غير تنافسية، فتتراجع تدرّجياً، وترتفع معها البطالة، وبالتالي المساعي إلى الهجرة. هذا ما يحصل في لبنان منذ عقود، ولا يزال مستمراً لليوم. إذ تؤدّي الهجرة إلى استمرار تدفّق التحويلات المالية إليه، التي تزيد الطلب على الخدمات والعقارات، وتعمّق بدورها المرض الهولندي. 

02

تعمّق اللامساواة

بين عامي 2011 و2021، بلغ متوسّط النمو الحقيقي -1.9% سنوياً. في المقابل، سجّل عدد السكّان2  زيادة بنسبة 10,86% وفق تقديرات البنك الدولي. وهذا يعني تقلّصاً في الدخل قياساً إلى عدد السكّان، وتراجعاً في النشاط الاقتصادي والاستثمار، وبالتالي انخفاضاً في خلق الوظائف وزيادة في البطالة والفقر. 

والواقع أن حصّة الفرد الواحد من الناتج المحلي تراجعت من 7,909 دولار إلى 3,540 دولار بين عامي 2019 و2021. طبعاً، لا يتوزّع الدخل بالتساوي على الأفراد، يكفي التذكير بأن 10% من السكان كانوا يستحوذون على 55% من الدخل في العام 2015 وفق حسابات الاقتصادية ليديا أسود. وبالتالي يصبح التراجع الراهن في حصّة الفرد مخيفاً بالنظر إليه من منظور اللامساواة، بمعنى أنه يعبّر عن تعمّق حدّة اللامساواة في توزيع الدخل بين الفئات الاجتماعية في لبنان. 

كما العادة، لا توفّر الحسابات القومية التي تعدّها إدارة الإحصاء المركزي تقديرات الناتج المحلي الإجمالي وفق الدخل، أي بحسب الأرباح والأجور وحصّة كلّ منهما في الناتج المحلّي، وهو ما يُعتبر ثغرة تعيق تحليل كيفية توزّع الدخل في لبنان والكشف عن اللامساواة التي تزداد عمقاً بين شرائحه الاجتماعية، ولا سيما في ظل التحوّلات الجارفة التي يشهدها المجتمع منذ أكثر من خمس سنوات وتدهور الأجور وتراجع حصّتها من الناتج بالتوازي مع عودة هوامش الأرباح الرأسمالية إلى ماضيها السابق وربما أكثر. وبتقديرات الاقتصادي كمال حمدان فإن حصّة الأجور من الناتج لا تشكّل اليوم أكثر من 15%. وهذا يعني أن الحصّة من الدخل لكلّ العاملين بأجر، أجانب ولبنانيين، في القطاعين العام والخاص، لا تتجاوز 15% من مجمل القيمة التي ينتجها الاقتصاد المحلي، ما يعني أن الأرباح التي يستحوذ عليها الرأسماليون وأصحاب العمل تشكّل الحصّة الباقية. وهذه النسب فاقعة ومخيفة بكل المعايير. 

تراجع الاستهلاك والاستثمار الوجه الآخر للفقر والتقشّف

صحيح أن حجم الاستهلاك النهائي من الناتج المحلّي ارتفع من 101% في العام 2016 إلى 125% في العام 2021. كما ارتفع حجم الاستيراد من الناتج من 47.5% في العام 2018 إلى 86% في العام 2021. لكن ذلك «لا يعني زيادة في الاستهلاك أو تحسّناً في معيشة الناس» بحسب الاقتصادي عبد الحليم فضل الله، «ما زاد هو حجم الاستهلاك والاستيراد من الناتج المحلي المنكمش على الرغم من تراجعهما بالقيمة». والواقع أن قيمة الاستهلاك النهائي تراجعت من 58.2 مليار دولار إلى 24.8 مليار دولار بين عامي 2019 و2021، وتراجع الاستيراد من 22.5 مليار دولار إلى 17.1 مليار دولار في خلال الفترة نفسها. 

تدحض هذه الأرقام كلّ السرديات التي روِّج لها في الفترة السابقة عن انقضاء الأزمة التي رُبِطت بالاكتظاظ في أماكن السهر، وعودة الحياة وأحوال الناس إلى سابق عهدها. يقول فضل الله «لا يوجد أدنى شك باستمرار تدهور الأوضاع المعيشية للغالبية العظمى من أصحاب الأجور، الذين تجري عملية على حسابهم، وهذا ما تبيّنه الحسابات القومية. لكن الاستهلاك المرصود فهو يموّل بالتحويلات المالية الواردة من الخارج»، التي تحصل عليها قلّة من الأسر اللبنانية تقدّرها إدارة الإحصاء المركزي بنحو 15%، كما «بالسحب من المدخرات وتسييل الأصول. وهذه الموارد أصبحت أشبه بالدخل وهي ترفع القدرة الشرائية بطريقة واهمة». 

والواقع أن الاستهلاك الخاص تراجع بنسبة 32.9% تراكمياً بين عامي 2018 و2021. كما تراجع استيراد السلع والخدمات بنسبة 35% تراكمياً في خلال الفترة نفسها، ويشير هذا التراجع إلى تزايدٍ متسارعٍ وكبير للفقر، وبالفعل قدّر البنك الدولي ارتفاع الفقر النقدي بنحو 3.7 ضعفاً في غضون عقدٍ، من 12% إلى 44% بين عامي 2012 و2022، ويصل إلى 79% إذا ما قيس وفق منهجية الفقر المتعدّد الأبعاد.  

أيضاً تراجع الاستثمار الذي يعبّر عنه بتكوين رأس المال الثابت بنسبة 60.6% تراكمياً في خلال الفترة نفسها، ولم يسعفه إلا نمو الاستثمار الخاص بنسبة 123.5% في العام 2021 بسبب إعادة البناء والترميم بعد انفجار مرفأ بيروت، بينما اندثر الاستثمار العام وتقلّص بنسبة 92.4% في خلال الفترة نفسها. وهذا يعبّر عن السياسات التقشّفية القاسية التي تمارسها الحكومة اللبنانية على الرغم من الركود المستمر والفقر المتنامي وتراجع الخدمات وانهيار الاقتصاد. 

03
  • 1بالتعريف، الحسابات القومية هي عبارة نظام محاسبي تستخدمه الحكومات لقياس النشاط الاقتصادي في بلدانها في خلال فترة مُحدّدة، عبر رصد إجمالي الإيرادات التي حقّقتها الشركات والمؤسّسات المحلّية الخاصّة والعامة، والأجور المدفوعة للعمّال الأجانب والمحلّيين، والمبلغ التي أنفقتها هذه الشركات والمؤسّسات والأفراد المقيمين على ضرائب الاستهلاك والدخل... تسمح الحسابات القومية عملياً بتتبع صحّة الاقتصاد وتقديم نظرة عن أدائه وطبيعته، بمعنى أين يتمّ توليد الإيرادات وأين يجري إنفاقها، ما يسمح بتقييم مستوى معيشة السكّان وتوزّع الدخل عليهم، فضلاً عن تقييم آثار السياسات الاقتصادية المختلفة، ومقارنة الأنشطة الاقتصادية والتغييرات داخل القطاعات الاقتصادية نفسها.
  • 2 عدد السكّان المقدّر يتضمّن أعداد النازحين إلى لبنان في خلال هذه الفترة والمهاجرين منه.