
كيف تنتج الرأسمالية الحروب والصراعات الداخلية
الكينزية العسكرية: من الماضي إلى الحاضر
- الأزمات الدورية والانكماشات الاقتصادية الرأسمالية، التي لم يُفلح أي سياق في تفاديها، أسهمت في ترسيخ دعائم مؤسساتية ترتكز على الكينزية العسكرية، أو على ما درج الرئيس الأميركي دونالد ترامب على وصفه بـ«الحروب التي لا تنتهي».
- لا يكتفي النظام الرأسمالي بإشعال الحروب، بل يزرع أيضاً بذور الصراع الأهلي من خلال نزوعه الدائم إلى إنتاج اللامساواة في الدخل والثروة. ومهما طال الزمن، تنهض معارضات واسعة داخل المجتمعات الرأسمالية، تارة ضد الحرب، وتارة ضد اللامساواة، وأحياناً ضد الاثنين معاً.
يمثّل الانهيار الكبير للرأسمالية في الفترة الممتدة بين 1929 و1941، والمعروف بالكساد العظيم، لحظة تأسيسية في مسار الرأسمالية في القرن العشرين. لم يكن منظّرو الرأسمالية ومروّجوها قد وضعوا تصوّرات أو تحضيرات لمواجهة احتمال انهيار شامل، كما أن تهميشهم للاتجاهات النقدية، ولا سيما الماركسية، عمّق العجز المعرفي والمؤسساتي إزاء الأزمة. وقد ترتّب على ذلك سلسلة من التدخّلات الحكومية غير المجدية سعت إلى جعل الأزمة محدودة الأثر زمناً وعمقاً. وعلى الرغم من تطوير بعض السياسات الجديدة، ظلّت هذه الإجراءات قاصرة عن معالجة الأزمة في خلال عقد الثلاثينيات. أدّى ذلك الإخفاق إلى تعميق الأثر المستدام الذي خلّفه الكساد العظيم على جميع الفاعلين الاجتماعيين. فقد استوعب بعضهم هذا الأثر بوعي صريح ومباشر، في حين لم يفعل معظمهم ذلك.
من المعلوم أنّ الحرب العالمية الثانية وحدها هي التي أنقذت النظام الرأسمالي من انهياره. ملايين من العمال، وبينهم جموع من العاطلين، زُجّوا في صفوف الجيش، فيما وجد ملايين آخرون فرص عمل في مصانع السلاح والإمداد أو حلّوا مكان من استُدعوا إلى الجبهة. أن يكون الخلاص من الكساد العظيم قد تطلّب حرباً مدمّرة، جعل الخوف بعد انتهاء الحرب في العام 1945، ومع رحيل الرئيس المحبوب في زمنها، يتضاعف: هل تعود البلاد إلى أتون الكساد من جديد؟
تنقّلت إدارة ترومان والإدارات اللاحقة سريعاً وهي تتحسّس طريقها نحو الحلّ الوحيد الذي استطاعت أن تتخيّله أو تدعمه. فقد كان الدفع الذي تلقّاه الاقتصاد عبر إنفاق الدولة في الحرب العالمية الثانية مموّلاً إلى حدّ بعيد بالاقتراض الحربي. وكان الحلّ في تلك اللحظة التاريخية هو اعتماد عجز في الموازنة الفدرالية لزيادة الإنفاق العسكري. لكن الحقيقة المزعجة أنّ مرحلة ما بعد الحرب لم تعد تتطلّب فعلياً حرباً تبرّر هذا الإنفاق، فاستُحدثت ذريعة بديلة. تبلورت هذه الذريعة من داخل، وفي الوقت نفسه عزّزت، الدفع المفرط نحو الاستهلاكية الذي رافق سنوات ما بعد الحرب مباشرة. وقد عملت تحالفات من قادة الأعمال الأميركيين (ومن بينهم مالكو وسائل الإعلام) وسياسييهم الخاضعين وأكاديمييهم المطيعين على إعادة تصوير الاتحاد السوفياتي: من حليف وفيّ في الحرب ضد الفاشية إلى إمبراطورية شرّيرة شيطانية تهدّد بإسقاط الولايات المتحدة. أعاد التحالف نفسه تصوير الشيوعيين والاشتراكيين والنقابيين الأميركيين: فبعد أن كانوا قادة مناضلين في ائتلاف الصفقة الجديدة مع الرئيس فرانكلين روزفلت، صاروا عملاء خونة «غير أميركيين» للإمبراطورية الشيطانية عينها.
خشِي الساسة أن تعود الرأسمالية إلى هوّة الكساد، فلجأوا إلى ما سُمّي بالكينزية العسكرية. أنفقوا أكثر من إيراداتهم الضريبية، وخلقوا عجزاً متعمّداً يحفّز عجلة الاقتصاد. استخدموا ذريعة الأمن القومي ليبرّروا هذا الإنفاق المموّل بالاقتراض. تجنّبوا فرض ضرائب إضافية لتمويل الحروب والدفاع، لأن الضرائب كانت تشعل المعارضة، فيما مرّ الدين العام بسهولة أكبر. (طبّقوا وصفة كينز التوسّعية، لكن عبر بوابة الحرب والجيش، وهو ما نسمّيه «الكينزية العسكرية»).
إمبراطورية غير رسمية
أنفقت الولايات المتحدة بسخاء مفرط على جيشها، أكثر من كل القوى الكبرى الأخرى مجتمعة، وداومت على زيادة ذلك الإنفاق بانتظام. منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة، ربطت مصيرها بما عُرف بالكينزية العسكرية، وما زالت ماضية فيه حتى اليوم. أخذت البنية المؤسسية لهذا الخيار تتضح باكراً، إلى حد أن الرئيس دوايت أيزنهاور (1953–1961) رآها وسمّاها «المجمّع الصناعي العسكري» محذّراً منها في خطابه الوداعي. فتدفّق المال الحكومي إلى الجيش، وتدفّقت الأرباح عبر العقود العسكرية إلى الصناعات الكبرى، وردّت تلك الصناعات الجميل بتمويل الساسة الموالين للحرب والتخلّص من كل معترض. هكذا صار الإنفاق العسكري، مغلّفاً بلغة السياسة المالية الكينزية ومعزَّزاً بشعار معاداة الشيوعية، واجهةً لتثبيت اقتصاد حرب دائم تحت ذريعة حماية الوطن من أعدائه القريبين والبعيدين.
إلى جانب الاقتصاد، أثّرت عوامل سياسية وثقافية واقتصادية أخرى في دفع الولايات المتحدة نحو الكينزية العسكرية. بالغت معظم الدراسات التي تناولت تلك المرحلة في إبراز هذه الجوانب، فيما همّشت البعد الاقتصادي. لذلك أوجّه تركيزي إلى ما أغفلته تلك المعالجات أو قلّلت من أهميته.
صار الإنفاق العسكري، مغلّفاً بلغة السياسة المالية الكينزية ومعزَّزاً بشعار معاداة الشيوعية، واجهةً لتثبيت اقتصاد حرب دائم تحت ذريعة حماية الوطن
شهدت المرحلة المباشرة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية أشكالاً متعددة من الإنفاق الحكومي غير العسكري، لعل أبرزها «قانون الحقوق للجنود» الذي أتاح التعليم الجامعي للمحاربين العائدين، إلى جانب مشاريع بناء المساكن العامة وشبكة الطرق السريعة بين الولايات. إلا أنّ هذه البرامج واجهت قيوداً بنيوية وسياسية: افتقرت إلى قاعدة دعم سياسي عريض وإلى اندماج مؤسسي مع القطاع الصناعي، كما واجهت مقاومة أيديولوجية قوية من جانب الجمهوريين المناهضين لتوسّع دور الدولة. وبفعل ذلك، تآكلت قدرتها على الاستمرار ولم يتجاوز مداها التاريخي عقدي الخمسينيات والسبعينيات، ولم تنمو بصورة مستدامة.
اضطرت أوروبا بدورها إلى مواجهة صدمة انهيار الرأسمالية، لكن داخل سياق يزخر بتقاليد أرسخ وأوسع للتيار الاشتراكي والنضال العمّالي. كما واجهت عبء الانهيار النهائي لما تبقّى من إمبراطورياتها الاستعمارية وما حمله من كلفة باهظة. هنا دخلت الولايات المتحدة لتتسلّم إرث تلك الإمبراطوريات، وتؤسّس لنفوذها عبر «إمبراطورية غير رسمية» بعد اتفاق بريتون وودز في العام 1944، الذي أرسى نظاماً نقدياً عالمياً جديداً وأنشأ صندوق النقد والبنك الدوليين. تناغم ذلك مع طموحها إلى تأدية دور شرطي العالم، فمدّت جيشها درعاً يحمي أوروبا من الشيوعية والاتحاد السوفياتي. واستجابت أوروبا للعرض، لأنّه أتاح لحكوماتها تلبية المطالب الاجتماعية-الديمقراطية المتصاعدة، التي حملها الاشتراكيون والشيوعيون بصوت أعلى بعد أن عزّزت مقاومة الفاشية مكانتهم السياسية. ومع ما وفّرته من نفقات الدفاع، استطاعت أن توظّف قروض خطة مارشال في إعادة الإعمار السريع، وتلبية بعض حاجات شعوبها في الخدمات الاجتماعية، مع تفادي إثقال كاهل الشركات والأثرياء بالضرائب.
الكينزية العسكرية اليوم
تتبنّى القيادات الأوروبية الراهنة استراتيجيات شبيهة بتلك التي اعتمدتها الولايات المتحدة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية. فقد أقدم الرئيس دونالد ترامب على تقليص التزامات بلاده العسكرية تجاه أوروبا، مطالباً الحكومات الأوروبية بتحمّل أعباء تمويل جيوشها وحلف الناتو. في هذا السياق، تجد أوروبا نفسها مضطرة إلى إعادة هيكلة ماليتها العامة، تفادياً لتفاقم الركود الاقتصادي الذي عمّقته تداعيات الحرب الأوكرانية وما أثارته من توترات اجتماعية. وبهدف إضفاء الشرعية على تبني نموذج «الكينزية العسكرية» لدعم الصناعات الرأسمالية، لجأ القادة الأوروبيون إلى خطاب يقوم على شيطنة روسيا، في صيغة تفوق ما مارسته الولايات المتحدة بعد العام 1945. ومن هذا المنطلق، بادر المستشار الألماني فريدريش ميرتس إلى اعتماد سياسة اقتراض واسعة لإعادة التسلّح، بينما يتجه رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى خطوات مماثلة. غير أنّ تفاقم المديونية العامة الأوروبية يجعل من غير الممكن تمويل هذه التوجهات عبر المزيد من الاقتراض فقط، ما يفرض تقليصاً واسعاً في الخدمات الاجتماعية العامة. يوازي هذا المسار ما يجري في الولايات المتحدة عبر إنشاء «وزارة كفاءة الحكومة»، بما يعكس عودة محتملة لسياسات التقشّف الأوروبية بصيغ متعددة، وإن بقي منطقها وأهدافها موحّدة.
تتمثل الرسالة الأساسية من هذا العرض التاريخي الموجز للكينزية العسكرية في السياقين الأميركي والأوروبي في أنّ الرأسمالية الحديثة تميل بصورة متصاعدة إلى إنتاج الحروب. وقد شكّلت الحربان العالميتان الأولى والثانية الذروة الأكثر كارثية لهذه النزعة حتى الآن. غير أنّ الأزمات الدورية والانكماشات الاقتصادية الرأسمالية، التي لم يُفلح أي سياق في تفاديها، أسهمت في ترسيخ دعائم مؤسساتية ترتكز على الكينزية العسكرية، أو على ما درج الرئيس الأميركي دونالد ترامب على وصفه بـ«الحروب التي لا تنتهي». ترتبط هذه الدينامية بالبنية المستمرة لإنتاج الأسلحة وتحديث الترسانات وتكريس سباقات التسلّح بين الدول، وهي عوامل تفضي إلى نزاعات مسلّحة متكررة. تؤدي الحروب إلى تسريع وتيرة العقود الرامية إلى استبدال العتاد المستهلك، وهو ما يعزّز أرباح المجمعات العسكرية-الصناعية. وبما أنّ الحرب الحديثة تقوم على استثمارات رأسمالية كثيفة، فهي تفرض على الحكومات إنفاقاً متزايداً بلا انقطاع. وهكذا تتغذى الحروب والإنفاق بالعجز أحدهما من الآخر في دائرة لا تنتهي.
بما أنّ الحرب الحديثة تقوم على استثمارات كثيفة، فهي تفرض على الحكومات إنفاقاً متزايداً. وهكذا تتغذى الحروب والإنفاق بالعجز أحدهما من الآخر
روّجت حملة ترامب لفكرة أنّه قادر على وقف الحروب التي لا تنتهي، لكن سرعان ما تهاوى الوعد. فبعد 6 أشهر على دخوله البيت الأبيض في العام 2025، لم يُطفئ نيران الحروب التي ورثها في أوكرانيا وغزة، بل أشعل حرباً أخرى في إيران. بدا الارتباط العميق بين الرأسمالية والمجمّع الصناعي العسكري، الذي شكّل دائماً ركيزة مالية لها، أشد صلابة من أي رئيس مهما تباهى أو حذّر، كما فعل ترامب وأيزنهاور قبله. وكما في الحربين العالميتين الأولى والثانية، خرج الاشتراكيون بمكاسب واسعة، إذ نجحوا في استقطاب أعداد كبيرة عبر خطابهم المناهض للحرب وإرجاعهم أصل المأساة إلى الرأسمالية نفسها.
لا يكتفي النظام الرأسمالي بإشعال الحروب، بل يزرع أيضاً بذور الصراع الأهلي من خلال نزوعه الدائم إلى إنتاج اللامساواة في الدخل والثروة. ومهما طال الزمن، تنهض معارضات واسعة داخل المجتمعات الرأسمالية، تارة ضد الحرب، وتارة ضد اللامساواة، وأحياناً ضد الاثنين معاً. عندها يكتشف المعترضون تناقضات الرأسمالية: نظام يشيّد الثروة والنمو لكنه يولّد في الوقت ذاته نقيضهما عبر الحرب والانقسام الداخلي. غير أنّ هذا الوعي كثيراً ما ينتهي إلى محاولات جديدة للبحث عن حلول تُبقي النظام كما هو. مرّت البشرية بهذه الحلقة مراراً، لكن التناقضات تظل تتكرّر وتتعمّق. لعل الدرس الأهم الذي ينبغي أن يُستخلص يوماً ما، هو أنّ أصل العلّة يكمن في الرأسمالية ذاتها، وأنّ الخلاص يقتضي تغييرها. فكما تجاوز العبيد العبودية، والأقنان الإقطاع، يمكن للبشرية أن تبني نظاماً أفضل من الرأسمالية. لم تكن مقولة مارغريت تاتشر الشهيرة «لا بديل» سوى وهْم؛ البدائل موجودة دوماً.
نُشِر هذا المقال في 5 آب/أغسطس 2025 في Dollars & Sense، وترجم إلى العربية ونشر في موقع «صفر» بموافقة مسبقة من الجهة الناشرة.