معاينة hero

ماركس للقطط

  • مراجعة لكتاب لي كلير لوبيرج «ماركس للقطط» الذي يعيد سرد تاريخ الصراع الطبقي من منظور غير متوقّع: القطط نفسها. يقدّم الكتاب قراءة رمزية تمتد من العصور الوسطى إلى الثورات الأوروبية والفهود السود في أميركا، حيث تظهر القطط تارةً كرمز للمقهورين وتارةً كرمز للقوة والثورة. وبينما يتنقّل بين الأسود والنمور والقطط المنزلية، يلمّح الكتاب إلى أن الرأسمالية لا تستغل البشر فقط، بل الطبيعة والحيوانات أيضاً.

منذ بضعة أسابيع، وفي أحد أيام الأحد المشمسة من خريف واشنطن المربِك، التقيت بصديقتي لكي نتنزّه قليلاً، ثم قرّرنا أن ندخل إلى مكتبة قريبة من منزلي الصغير. وبينما كنت أتجوّل في قسم «الماركسيات»، لفت نظري كتاب بعنوان «ماركس للقطط» للكاتبة لي كلير لوبيرج. في اللحظة الأولى ظننته كتاباً ساخراً؛ فكيف يمكن للفكر الماركسي أن يكون موجَّهاً إلى القطط؟ لكنني لم أتردّد في تصفّحه، فأنا أحب القطط وبطبيعة الحال أحب ماركس.

ما إن أمسكت بالكتاب حتى تداعت إلى ذهني صور القطط التي ربيتها، وخصوصاً «سيمو» الذي رافقني 8 أعوام كاملة، ذلك الهرّ الأشقر السمين الذي لم يكن يفارقني. كان معي حين سكنتُ في فرن الشباك، وحين كنّا نحاول إقحام بيروت في موجة الثورات العربية، ثم في النضالات العمّالية وغيرها. انتقل معي إلى الأشرفية، وعاش معي انتفاضة 2019، وانفجار المرفأ، ثم عبر البحار إلى واشنطن. هناك عاش قرابة عام قبل أن تُصيبه جلطة أودت بحياته، فلفظ أنفاسه الأخيرة بين يدي حين اضطررتُ إلى وضع حدٍّ لمعاناته عبر الموت الرحيم.

شكّل رحيله صدمة كبيرة. لم يخطر ببالي أنه سيفارقني بعد كلّ ما مررنا به معاً، لكن موته كان أيضاً بمثابة إعلان رسمي بأنني غادرت لبنان فعلاً، وتركت أهلي وأصدقائي خلفي. فقد كان سيمو الصلة الأخيرة، والخيط الذي جعل الانتقال إلى الخارج أقلّ وطأة.

«العصور الوسطى هي التاريخ الحيواني للبشرية»، ومن أبرز تجليات هذه الحيوانية التناقض بين الأسد والقط. فالأسد لطالما كان رمز الملكية الأوروبية أما القطط، فكانت في أسفل الهرم الإقطاعي

ربما يكون سيمو أحد أسباب اقتنائي لكتاب «ماركس للقطط». سألت نفسي: هل حرمته من فرصة اعتناق عقيدة ثورية؟ هل كان سيساعدني في محاولاتي الفاشلة في التنظيم السياسي؟ وربما كنت أنا من سيستفيد منه. أسئلة لا معنى لها الآن، لكن من يدري؟ إذا تبنّيت قطاً جديداً، قد أمنحه فرصة أن يكون ماركسياً.

«ماركس للقطط» ليس مانيفستو شيوعياً يدعو القطط إلى الاتحاد من أجل الثورة على البشر، بل هو إعادة كتابة تاريخ الصراع الطبقي من زاوية تتمحور حول القطط، بكل فصائلها، لا القطط المنزلية فحسب. يحمل كل فصل اسم فصيل معيّن: من الأسود، إلى القطط المنزلية، مروراً بالنمر والوشق والفهد وصولاً إلى النمور السوداء. يتبع الكتاب سردية ماركسية للتاريخ تركّز على أوروبا وأميركا الشمالية، من الانتقال إلى الإقطاع في العصور الوسطى، إلى نشوء الرأسمالية، مروراً بثورات العمّال في أوروبا وهزيمة كومونة باريس، وصولاً إلى حركات التحرّر من الاستعمار والحركات السوداء الراديكالية في الولايات المتحدة في خلال القرن الماضي.

لكن المختلف في الكتاب هو تركيز السردية على موقع القطط ورمزياتها المتحوّلة عند كل منعطف تاريخي. فهو يتنقّل من أمور تبدو سطحية، كحبّ كثير من الثوريين للقطط مثل لينين وروزا لوكسمبورغ، إلى كيفية تحوّل القطط إلى رموز ثورية أو رجعية في خلال الصراعات. وكما يخلص الكتاب، فإن «التاريخ هو تاريخ الصراع القططي».

​​يبدأ الكتاب مع الملك الفرنسي شارلمان، الذي تُعَدّ فترة حكمه نقطة انطلاق العصور الوسطى. ويقول ماركس إن «العصور الوسطى هي التاريخ الحيواني للبشرية»، ومن أبرز تجليات هذه الحيوانية التناقض بين الأسد والقط. فالأسد لطالما كان رمز الملكية الأوروبية، سواء عبر ألقاب الملوك، مثل ريتشارد قلب الأسد، أو من خلال اتخاذه شعاراً للسلطة. أما القطط، فكانت في أسفل الهرم الإقطاعي، بين الفئات الأكثر اضطهاداً وبؤساً، وكانت من أكثر ضحايا تلك المرحلة وحشية.

تعتبر الكاتبة أن عصر الإقطاع تميّز بجدلية «الأسد–القط»، مُسقِطةً الجدلية الهيغلية على عالم القطط. ففي حين مثّل الأسد الملوك والمسيح معاً، أي قطبي النظام الإقطاعي: النبلاء والكنيسة، جسّد القط الاضطراب الاجتماعي. ولكي يفرض الأسد سلطته، كان عليه سحق القط، لأنه يرى فيه انعكاساً له: «الأسد، حين يقترب من القط، يفقد نفسه، لأنه يرى في القط أسداً آخر من الفصيلة نفسها. أمّا القط فيتغلّب على الأسد لأنه يرى نفسه فيه، بينما يرفض الأسد أن يرى نفسه في القط». وهكذا تتحوّل جدلية السيد والعبد عند هيغل إلى جدلية الأسد والقط، فكما يسحق السيد الإقطاعي الفلاح، يسحق الأسد القط.

تستعين الكاتبة بإنغلز الذي يقول: «في البداية، كل هجوم على الإقطاع هو هجوم على الكنيسة، وكل عقيدة اجتماعية أو سياسية ثورية تصبح حتماً هرطقة دينية». وهكذا، في خلال أزمة النظام الإقطاعي، جرى تصوير كل اعتراض على الواقع كهرطقة يجب محاربتها. وفي هذا الإطار، اعتُبرت القطط تجسيداً للشيطان، وربطت بالشرائح الاجتماعية التي رأت الكنيسة فيها تهديداً للنظام القائم، فكان مصيرها الحرق حرفياً. ضمن تلك الفئات كانت الفلاحات، والساحرات، واللواط، واليهود، والنباتيون، وعاملات الجنس… والقطط. وتوضح الكاتبة أن مخيّلة الإقطاع رأت تقاطعاً بين هذه الفئات: فالفلاحات أحببن القطط، واليهود مارسوا السحر عبرها، واللواط مارسوا الجنس معها، وكذلك الساحرات. بل إن السجينات في بريطانيا نُعتن في فترة معينة بـ«قطط الجحيم».

وتذكّر الكاتبة بأن الماركسيين لطالما فهموا اضطهاد «المهرطقين» كظاهرة طبقية، من فريدريك إنغلز إلى سيلفيا فيدريشي. فوفق ماركس، كان لا بدّ من تدمير الإيديولوجيا الإقطاعية لظهور الرأسمالية، بينما ترى فيدريشي أن القضاء على المهرطقات — ومعظمهنّ نساء — كان شرطاً لولادة الرأسمالية. أما الكاتبة فتذهب أبعد: «حجّتي تقول إنه كان لا بدّ من تدمير القطط كي تظهر الرأسمالية». وبالفعل شهدت تلك المرحلة حملات إبادة واسعة للقطط.

اعتُبرت القطط تجسيداً للشيطان، وربطت بالشرائح الاجتماعية التي رأت الكنيسة فيها تهديداً للنظام القائم، فكان مصيرها الحرق حرفياً

ينتقل الكتاب بعدها إلى بدايات العصر الرأسمالي مع الاستعمار الأوروبي لأميركا الشمالية وإبادة السكّان الأصليين، حيث يتعرّف القارئ على فصائل أخرى من القطط مثل الوشق (lynx). وفي هذا العصر تتداخل الرموز المرتبطة بالقطط، خصوصاً الأليفة منها. فكما أن البرجوازية طبقة متناقضة، أي ثورية ومحافظة في آن، كذلك تقلب القطط أدوارها بين الرمزية الثورية وخدمة الأجندات المحافظة.

تعكس هذه المرحلة نزعتين متناقضتين لدى البرجوازية: النزعة العَلمانية ونزع القداسة عن الأشياء، وفي المقابل التمسّك بالماضي ومحاولة إحيائه. فالوشق كان حيواناً مقدساً لدى السكّان الأصليين، ثم جاء المستعمرون الأوروبيون بأسودهم وقططهم فعملوا على تجريده من قداسته. يقولون أولاً إن «الله يشبه الوشق»، ثم يحطّونه إلى مستوى الحيوان العادي. وكان هذا المجتمع اللاهرمي لدى السكّان الأصليين — الذي لا يقوم على الملكية الخاصة — موضع اهتمام ماركس لأنه يعاكس جوهر البرجوازية.

ومع نزع القداسة عن الوشق، أعاد البرجوازيون الأوروبيون المستوطنون للأسد مكانته المتفوقة. فقد اتخذ رجال الاستقلال الأميركي، مثل جورج واشنطن، الأسد رمزاً لهم، سواء من خلال نقش صورته على السيوف، أو اقتنائه، أو تسمية السفن باسمه، وخصوصاً تلك التي نقلت المستعبدين الأفارقة إلى القارة الجديدة. وحتى ألكسندر هاملتون، الأب المؤسّس للنظام المالي الأميركي، لُقّب بـ«الأسد الصغير»، وامتلك قطتين أهداهما له جورج واشنطن.

على الضفة الأخرى من الأطلسي، انتقلت القطط الأليفة إلى صفوف البرجوازية في فرنسا، بعد أن كانت إلى جانب المضطهدين ضد الإقطاع. فطوّرت البرجوازية إعجاباً بالقطط في تناقض مع الأرستقراطية التي رأت نفسها أسوداً. وسخرت البرجوازية من الأرستقراطيين عبر القطط، معتبرةً أنهم «قطط تتوهم أنها أسود». كما نشأت علاقة وثيقة بين البرجوازية والقطط، لدرجة أن البروليتاريا اعتبرت القطط هدفاً لها. تروي الكاتبة قصة برجوازي كان يعامل قططه أفضل من العمال، فقام هؤلاء بقتل القطط انتقاماً. ومع اندلاع الثورة الفرنسية صارت القطط رمزاً للحرية والاستقلال.

ومع انتقال القطط إلى صفوف البرجوازية، ظهر هرّ جديد في صفوف الثوريين: النمر. فشُبّه روبسبير بالنمر، وكذلك ثوار آخرون في أوروبا. وأصبح النمر رمز «قفزة النمر» إلى الماضي لفهمه، كما يفعل ماركس، تمهيداً للقفزة الثورية الكبرى.

ويقول المؤرخ ستيوارت إدواردز إن «كومونة باريس في العام 1871 لم تكن مجرد مرحلة في التقدم الاجتماعي، بل كانت قفزة نمر تلغي الزمن التاريخي». إذ شكّلت الكومونة تجربة فريدة حاول فيها عمّال باريس تجسيد الطموح الشيوعي. وهنا تعود القطط الأليفة إلى جانب البروليتاريا، ولا سيما عبر «اتحاد النساء للدفاع عن باريس»، الذي أدّت فيه لويز ميشيل — محبة القطط — دوراً محورياً. كانت تُتَّهَم بأنها تهتم بالقطط أكثر من البشر، وقد واصلت كتابة الرسائل إلى قطتها بعد نفيها إلى إحدى الجزر المستعمرة بعد انهزام الكومونة. وفي القرن العشرين كانت الثورية روزا لوكسمبورغ أيضاً تجد في قطتها «ميمي» رفيقة تساعدها على التفكير الثوري، خصوصاً في عملها «تراكم الرأسمال». وتقول لوكسمبورغ: «يخيَّل إلينا أن السوق يكبر بلا حدود. إن هذا المنطق دائري، كالقط الذي يطارد ذيله». وتستنتج ضرورة توسّع الرأسمالية عبر الإمبريالية والدَّين لامتصاص المساحات غير الرأسمالية. وقد اغتيلت على يد مجموعة اعتبرت «النساء البروليتاريات عاهرات وقططاً». ففي القرنين التاسع عشر والعشرين، عادت القطط إلى الواجهة كتعبير قوي عن القوى الثورية.

مع مطلع القرن العشرين، اعتمد «اتحاد العمّال الصناعيين العالمي» في شيكاغو القط الأسود شعاراً له، كما أصبح رمزاً لمقاومة العمّال السود في الولايات المتحدة. ومع انتصار الثورة البلشفية، دخل لينين قصر الحكم محاطاً بالقطط، وظهرت القطط بكثافة في البروباغندا السوفيتية وفي كتب الأطفال والأفلام. ويخصّ الكتاب تجربة «الفهود السود»، التي أسسها الشيوعيون السود في الولايات المتحدة ودعوا إلى الكفاح المسلّح لقلب النظام الرأسمالي قبل تصفيتهم من قبل وكالة المخابرات المركزية الأميركية، باعتبارها اللحظة التاريخية الوحيدة التي عرّف فيها الثوار أنفسهم كرفاق للقطط، ولو رمزياً. وقال جون هوليت، أحد المؤسسين: «الفهد الأسود يتراجع حين يُحاصَر، لكنه يقاتل حتى الموت حين يُجبر. شعرنا بأننا دُفعنا طويلاً إلى الزاوية، وحان الوقت للسود أن ينهضوا ليمسكوا بزمام الأمور».

الرأسمالية لا تزدهر إلا عبر سحق الإنسان والطبيعة والحيوانات. وبالتالي فإن أي نضال تحرري حقيقي لا يمكن أن يكون متمحوراً حول الإنسان وحده، بل يجب أن يشمل تحرّر الأرض وسائر الكائنات

كانت قراءة «ماركس للقطط» ممتعة للغاية، حتى لو بدا أحياناً أن موقع القطط في تاريخ الصراع الطبقي واضح ومتماسك، وأحياناً أخرى مصطنعاً، حين تبدو الكاتبة وكأنها تبحث بجُهد عن أثرٍ للقطط حيث لا يوجد. فهي تذكر مثلاً أن أحد أجداد ماركس كان يحمل اسماً فيه كلمة «قط» بالألمانية، أو أن «ماو» في الكانتونية تعني «هرّ».

وتختتم الكاتبة بالدعوة إلى بناء روابط تضامن عابرة للأجناس، معتبرةً أن الحيوانات يجب أن تكون أيضاً شركاء في الصراع الطبقي والتحرري — وهو ما «لم يدركه ماركس»، على حد تعبيرها. يمكن للقارئ أن يأخذ دعوتها بحرفيتها، أو في معناها الأوسع: فالرأسمالية لا تزدهر إلا عبر سحق الإنسان والطبيعة والحيوانات. وبالتالي فإن أي نضال تحرري حقيقي لا يمكن أن يكون متمحوراً حول الإنسان وحده، بل يجب أن يشمل تحرّر الأرض وسائر الكائنات من منطق الاستغلال.