معاينة trees, commons

ثورة إلينور أوستروم على مأساة المشاعات
إدارة ما نتشاركه

  • الخراب هو المصير الذي نندفع إليه جميعاً حين يسعى كل فرد وراء مصلحته الخاصة في مورد مشاع، ما يجعل المأساة حتمية في نظام يقوم على الاستخدام الحرّ للجميع. 
  • لا السوق الحرّ ولا الحكومات قادران وحدهما على إنقاذ المشاعات؛ فالمناخ نفسه مشاعٌ عالمي لا يُدار إلا بتعاون مجتمعي ومتعدد المستويات.

هل تستطيع أن تخبرني كم عدد المرات التي سمعت فيها عن مصايد سمكية مهدّدة بالخراب؟، غالباً ما تتبادل الاتهامات بين جميع الأطراف المعنية، فنجد الحكومة تتهم الصيّادين الجائرين من السكان، بينما يلقي الصيادون الجائرون اللوم على القوانين التي تُحدّد كيف تُدار المصايد السمكية، وفي الحالتين ترفع لافتة «مأساة المشاعات» التحذيرية على المصايد السمكية، والأنهار النظيفة، والمراعي الوفيرة، والمياه الجوفية، والنباتات البرّية الداخلة في التركيبات الدوائية، وكل الموارد الطبيعية العامة ذات الاستخدام المشترك، الذي يؤدي الاستغلال الحرّ لها إلى استنزافها؛ لأن عقلية «استخدمها الآن ودع القلق للمستقبل» تسيطر على سلوك مستخدميها من أصحاب المصالح طويلة الأجل.

جرّاء تفشي تلك العقلية، صادف في 24 تموز/يوليو لهذا العام «يوم تجاوز موارد الأرض»، فوفقاً للتقارير تستهلك الموارد الطبيعية المحدودة بمعدل أسرع بنحو 1.8 مرة من قدرة النظام البيئي على التجدّد، بما يهدّد الاستدامة البيئية، فنجد أن البشرية قد استهلكت في العام 2023 الموارد الطبيعية التي يمكن أن يغطيها الكوكب في عام كامل في خلال 214 يوماً تقريباً، بالإضافة إلى تدهور نحو 40% من أراضي العالم، ما يؤثر على ما يزيد عن 3 مليار شخص حول العالم، فيما يشير تقرير Global Resource Outlook لعام 2024 إلى زيادة الإنتاج والاستهلاك العالمي للموارد المادية بأكثر من ثلاثة أضعاف خلال السنوات الخمسين الماضية، بمعدل نمو متوسط ​​يزيد على 2.3% سنوياً، أي أننا نعيش اليوم على حساب المستقبل.

نعيش اليوم على حساب المستقبل، إذ نستهلك الموارد الطبيعية بمعدل يفوق قدرة الكوكب على التجدّد بنحو 1.8 مرة

والآن، مع احتدام أزمة تغييّر المناخ، وتفاقم تبعاتها من شح المياه، وحرائق الغابات، وتدهور التنوع البيولوجي، ونقص الغذاء، وتلوث التربة، وتسارع استنزاف الموارد الطبيعية، إلى جانب اندلاع الصراعات الإقليمية بشأن مياه الأنهار، مثل الصراع بين مصر وجنوب أفريقيا على مياه نهر النيل، يصبح السؤال الأكثر إلحاحاً هو: كيف يمكننا إدارة المشاعات العامة، التي يتوقف عليها استمرار الحياة على ظهر الكوكب، بما يضمن بقاءها للأجيال المقبلة؟، على نحو يستدعي اسم إلينور أوستروم1، التي تُعَد من أهم المفكّرين الذين غيّروا الطريقة التي ننظر بها إلى حوكمة الموارد والملكية المشتركة.

ثورة إلينور أوستروم الهادئة 

في خريف العام 2009، دهشت الأوسط الاقتصادية بالإعلان عن أن اسم الفائز بجائزة نوبل في العلوم الاقتصادية؛ فلم يكن رائداً من روّاد إحدى المدارس الاقتصادية المعروفة، ولا مبتكراً لأحد النماذج الرياضية المعقدة التي تحتكر المشهد الأكاديمي، ولا أستاذاً جامعياً نشر ورقة بحثية عن آليات التداول في البورصات في ظل الأزمة المالية العالمية، بل كانت إلينور أوستروم، عالمة السياسية الأميركية، التي لا تنتمي إلى الدوائر الاقتصادية، ولا تهتم بالأرقام الإحصائية أو برسم المنحنيات البيانية بأي شكل من الأشكال.

بَيد أن الدهشة لم تأتِ لكونها عالمة سياسة تعمل خارج الحقل الاقتصادي، ولا لكونها المرأة الأولى التي تحصد الجائزة في ذلك الفرع الذي يستحوذ عليه الرجال، بل لأنها ثارت على ركائز نظرية كانت راسخة في الفكر الاقتصادي والسياسي، وأثبتت بالدليل العملي قدرة السكّان المحليين على التعاون فيما بينهم من أجل إدارة المشاعات بطريقة مستدامة اقتصادياً وبيئياً، بعيداً من ثنائية التأميم أو الخصخصة التي سيطرت على عقول صانعي السياسات والأكاديميين والمتخصّصين في مجال التنمية لعقود طويلة، غُيّبت في خلالها خبرة المجتمعات في حماية مواردهم بأنفسهم، بعدما ساد المعتقد بأن اللجوء إلى هيمنة الدولة أو جشع الشركات هما الوسيلة الوحيدة لمنع تدهور الموارد الطبيعية التي تُدار عادةً بشكل مشترك.

ولا تكمن ثورة إلينور أوستروم في كسرها جمود النظرية الاقتصادية فحسب، بل في نهجها البحثي أيضاً، الذي تجاوز صفحات كتب الاقتصاد الأكاديمية. وعلى عكس الكثير من علماء الاقتصاد، اعتمدت إلينور أوستروم نهجاً تصاعدياً لا تنازلياً، فجابت القرى والجبال والواحات حول العالم، وتنقلت من قنوات الري في آسيا إلى مصايد الأسماك في أميركا اللاتينية مروراً بالغابات في نيبال، وراقبت المزارعين والصيادين والقرويين، لم تفترض عجزهم عن حوكمة مواردهم الطبيعية بأنفسهم، بل سألتهم ببساطة: «كيف تفعلون ذلك؟»، واستمعت إلى تجاربهم في حوكمة المشاعات وإنشاء مؤسسات للحكم الذاتي؛ إذ آمنت بأن المواطنين يمتلكون «قدرة وسلطة» تفوق قدرة وسلطة البيروقراطيات الحاكمة والشركات الرأسمالية.

بدأت إلينور أوستروم بالواقع الفعلي لا بالفرضيات؛ سألت المجتمعات ببساطة: كيف تفعلون ذلك؟ فبيّنت قدرة الناس على حوكمة مواردهم بأنفسهم، خارج ثنائية الدولة والشركات

جمعت إلينور أوستروم عدداً كبيراً من دراسات الحالة، تجاوز 800 حالة من شتى العلوم، بما في ذلك: علم البيئة، وعلم الاجتماع الريفي، وعلم إدارة الغابات، والاقتصاد، والسياسة، والتاريخ، والأنثروبولوجيا، ما جعل اللجنة المانحة لجائزة نوبل تشييد بنهجها البحثي قائلة: «بصفتها عالمة سياسية، اختلفت مناهج البحث لدى إلينور أوستروم عن مناهج معظم الاقتصاديين. فعادةً ما يبدأ الاقتصاديون بفرضية، أي افتراض يُختبر لاحقاً. بينما بدأت إلينور أوستروم بالواقع الفعلي. جمعت معلوماتها من دراسات ميدانية، ثم حلّلتها».

هكذا عملت إلينور أوستروم على أنسنة الاقتصاد، وربطت النظرية الجامدة بالحياة على أرض الواقع، كاشفة عن أن «المشكلة لم تعد تتمثل في وضع التشريعات فقط، بل في بناء مؤسسات تمكن المجتمعات من الإدارة الذاتية لمواردها بشكل مستدام»، بما يحقق توازناً بين المصلحة الذاتية والبقاء الجماعي، وهو الخيار الذي لم يكن مطروحاً من قبل في أغلب كتب الاقتصاد الأكاديمية، حتى أن مجلة تايم الأميركية قالت عنها: «إن كل مشكلات العالم الأكثر إلحاحاً تتطلب عملاً جماعياً. لنقل مثلاً الحماية البيئة، أو النظام المالي العالمي، أو أبعاد التمييز. وقد ألقت أوستروم الضوء على الوجهة التي يجب على المجتمع السير فيها لتلافي سوء استخدام الموارد المشتركة». وبذلك، رسخت مكانتها الفريدة كباحثة غيّرت فهمنا لكيفية عمل البشر معاً من أجل حماية مواردهم الطبيعية.

حتمية مأساة المشاعات

ترجع جذور القصة إلى قبل أكثر من نصف قرن، تحديداً في العام 1968، داخل عالم يبدو كساحة حرب بين يد السوق الخفية ويد الدولة المسيطرة، حينما نشر الفيلسوف والعالِم البيولوجي الأميركي غاريت هاردن2 مقالته الشهيرة «مأساة المشاعات»3 في مجلة Science، والتي تخيل فيها مَرعى وفير، يُسمح للجميع باستخدامه بحرية، ومن ثم يحضرون ما يشاؤوا من ماشيتهم للرعي فيه، ولا يكلفون أنفسهم عناء رعاية الأرض، كونها تُعتبر أرضاً «مشاعاً» غير مملوكة لأحد. بمرور الزمن، تضاعفت أعداد الرعاة الجائرين، وتكاثرت ماشيتهم، وباتت ترعى ليل نهار، فلا يحصل العشب على فرصة للنمو مرة أخرى، حتى استُنفد المَرعى جراء الإفراط في الاستخدام الحرّ غير المنظم، من الأفراد المهتمين بمصالحهم الذاتية على حساب مصلحة الجماعة.4

أكد غاريت هاردن في مقالته: «إن الخراب هو المصير الذي يندفع إليه جميع البشر. كلّ يسعى وراء مصلحته الخاصة في مجتمع يؤمن بحرية الموارد المشتركة ما يجلب الخراب للجميع»، فأي مورد مشاع يُنظر إليه على أنه «مأساة» حتمية الحدوث، وبالتالي لا ترجع مأساة المشاعات - من وجهة نظره - إلى ندرة الموارد الطبيعية، بل إلى عدم الموائمة بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة.

سيطرت أسطورة مأساة المشاعات لغاريت هاردن على الفكر الاقتصادي والسياسي لزمن طويل، بما يتوافق مع فرضية أساسية يؤمن بها الاقتصاديون الكلاسيكيون، تسمى «الرجل الاقتصادي»، تفترض وجود فرد عقلاني، مُهتم بمصلحته الذاتية، يتصرّف بأنانية وفقاً لمصلحته الفردية الضيقة، فنجده يسعى إلى تعظيم منفعته الشخصية من دون إعطاء أي اعتبار للآخرين، ويتجلّى ذلك بوضوح في طريقة تعامله مع الموارد الطبيعية العامة ذات الاستخدام المشترك، ما يجعل مصيرها الحتمي يؤول إلى التدمير والاستنزاف.

أنسنة الاقتصاد يكشف زيف الأسطورة 

لعقود طويلة، شكّلت تلك الفرضية المتشائمة عن حتمية مأساة المشاعات خلفية فكرية للسياسات النيوليبرالية المتبعة لتحقيق كفاءة إدارة الموارد الطبيعية ذات الاستخدام المشترك، والتي بدت معها الفرصة سانحة لتدخل الحكومة بفرض سيطرتها - تحت إدعاء إنقاذ الموقف - سواء بوضع خطة تحد من الخيارات الفردية عبر فرض قوانين وقواعد منظمة من خلال السلطة المركزية، مثل: فرض مقابل انتفاع أو تعيين توقيتات محددة للرعي أو الصيد، أو اللجوء إلى آليات السوق الحر بإعادة هيكلة حقوق الملكية عن طريق خصخصة الموارد. وما غير ذلك كان يُعدّ ضرباً من دروب الحماقة. لكن هل تلك حتمية حقاً أم رؤية رأسمالية للعالم؟

دحضت إلينور أوستروم ثنائية التأميم أو الخصخصة، وأثبتت زيف أسطورة مأساة المشاعات في كتابها التأسيسي الهام: «إدارة المشاع: تطور مؤسسات العمل الجماعي»، الصادر في العام 1990، مؤكدة على أن الحكومة والسوق لم يحققا نجاحاً في حلّ مشاكل الموارد المشتركة، فكتبت: «ما يمكن للمرء أن يلحظه في هذا العالم أنه لا الدولة ولا السوق ناجحان بشكل متجانس في تمكين الأفراد من الحفاظ على استخدام مثمر وطويل الأجل للموارد البشرية، بالإضافة إلى أن تجمعات الأفراد اعتمدت على مؤسسات لا تشبه الدولة أو السوق في إدارة أنظمة الموارد بدرجة معقولة من النجاح على فترات ممتدة».

الحلول الحقيقية للمشكلات المشتركة لا تأتي من القرارات المفروضة من الأعلى، بل من داخل المجتمعات نفسها

جادلت إلينور أوستروم بأن مأساة المشاعات ليست مسألة حتمية الحدوث كما كان يعتقد غاريت هاردن؛ لأن من الممكن الحفاظ على الموارد المشتركة مزدهرة وتشغيلها بعيداً من الملكية الخاصة وسيطرة الحكومة، بفضل حكمة السكّان المحليين، من أصحاب المصالح طويلة الأجل، مِمَن يستطيعون ضبط أنفسهم، والتعاون فيما بينهم لوضع قواعد لحوكمة المشاعات المحلية بطريقة مسؤولة، لأن سبل عيشهم تعتمد عليها «الحلول الحقيقية للمشكلات المشتركة لا تأتي من القرارات المفروضة من الأعلى، بل من داخل المجتمعات نفسها»؛ لتقدم بذلك مساراً ثالثاً يفتح طريقاً أوسع أمام مجال الحوكمة الذاتية المؤسسية عبر تعزيز الإدارة التعاونية من القاعدة، حيث يبتكر المجتمع قواعده ويطبقها بنفسه. 

قدّمت إلينور أوستروم الكثير من الأمثلة على مجتمعات نجحت في إدارة مواردها عبر مؤسسات الحكم الذاتي، منها قرية توربيل، وهي قرية جبلية صغيرة تقع في منطقة فاليه جنوب سويسرا، على ارتفاع يزيد عن 1,500 متر في جبال الألب، بعدما اعتبرتها تُجسّد النقيض العملي لنظرية «مأساة المشاعات»، حيث وضع سكانها قواعد، تعود إلى القرن الثالث عشر، لتنظيم إدارة 5 أنواع من الملكية المشتركة: غابات كثيفة، ومروج رعي جبلية، وقنوات ري، وأراضي شاسعة، وطرق وممرات تخترق المشاعات، إذ يجتمع السكان سنوياً في ما يشبه مجلس مشورة محلي لوضع القواعد وتعديلها بحسب الظروف البيئية، ولكل السكان الحق في التصويت على القرارات الصادرة  عنهم، والتي تنظم شؤون إدارة المشاعات، مثل: توزيع الأسمدة، وصيانة الطرق، وتوزيع عدداً محدوداً من الأشجار على العائلات لأغراض التشييد والتدفئة، ولم تُسجّل في القرية حالات استنزاف خطيرة للمراعي أو المياه.

إدارة ما نتشاركه بمؤسسات الحكم الذاتي 

بلورت إلينور أوستروم، عبر الأبحاث والدراسات الميدانية والتجارب الإنسانية المُعاشة، ما يُعرف بـ «المبادئ التصميمية الثمانية» التي يمكن من خلالها إدارة المشاعات بكفاءة، وهي كالتالي:

1- حدود واضحة: يجب أن تكون للموارد الطبيعية المشتركة حدود جغرافية واضحة مع تحديد من يحق له استخدامها؛ لأن عدم وجود مجتمع منتفٍ محدّد، يعني أن تصبح الموارد متاحة للجميع. على سبيل المثال، نجد أن نظام المياه في وادي تيراس بالجبال الهندية، يعيّن لكل قرية قنوات محددة جغرافياً وساعات توزيع دقيقة للمياه.

2- قواعد محلية: يجب تكييف قواعد منظّمة تتناسب مع السياق المحلي واحتياجات وخصوصية المجتمع المستخدم للموارد المشتركة، بما في ذلك تحديد كمية الحصص، وأوقات الاستخدام، وغيره. على سبيل المثال، في جبال الألب، يُسمح بالرعي في المَراعي المشتركة فقط بعد تاريخ معين من السنة، حتى تكتمل دورة نمو العشب.

3- مشاركة مجتمعية: يجب اتخاذ القرارات بشكل تشاركي، بحيث يشارك المستخدمون المحليون في صنع وتعديل القواعد المتعلقة بالموارد المشتركة والتي تؤثر عليهم. على سبيل المثال، يحدد صيادو جبال الأنديز في بيرو مواسم الصيد وقواعده معاً.

4- مراقبة فعّالة: يجب وضع آليات لمراقبة الاستخدام للتحقق من التزام المستخدمون بالقواعد. على سبيل المثال، يُنتخب من السكان في الغابات النيبالية مراقبون محليون يتأكدون من الالتزام بالحصص.

5- عقوبات متدرجة: يجب وجود نظام عقوبات متدرج؛ لمعاقبة المخالفين بشكل ملائم، من دون تهديد وحدة وسلامة المجتمع. على سبيل المثال، تبدأ العقوبة في مجتمعات صيد الأسماك باليابان بإنذار، ثم غرامة صغيرة، ثم المنع المؤقت من الصيد.

6-  فضّ النزاعات: يجب إتاحة آليات سريعة لحل النزاعات بشكل سلمي وفعّال قبل أن تتصاعد حدة الخلافات، كالسعي في إنشاء محاكم محلية أو مجلس للمشورة. على سبيل المثال، تُحل الخلافات في إندونيسيا عبر مجالس قروية تحل محل المحاكم.

7- اعتراف قانوني: يجب الاعتراف بحق المجتمع في وضع قواعد تنظيمية خاصة به، من دون تدخل خارجي مفرط. على سبيل المثال، تعترف تركيا بجمعيات المزارعين التي تنظّم استخدام قنوات الري.

8- مؤسسات متداخلة: بالنسبة للموارد واسعة النطاق، يجب وجود مستويات متداخلة من المؤسسات التي تديرها بما يناسب طبيعة وحجم المشاع، إذ يمكن إدارة بعض الموارد المشتركة محلياً، بينما قد يتطلب بعضها الآخر تعاوناً إقليمياً أوسع. على سبيل المثال، يشمل حوض الأمازون 9 دول، هم: (البرازيل، وبيرو، وكولومبيا، وبوليفيا، وفنزويلا، وغيانا، وسورينام، والإكوادور، وغويانا الفرنسية)، ما يتطلب تعاوناً بين القرى المحلية، والولايات، والحكومات الوطنية.

أثبتت أوستروم أن المشاعات يمكن أن تُدار بكفاءة حين يبتكر المجتمع قواعده بنفسه، ويطبّقها عبر مؤسسات محلية شفافة ورشيدة

مشاعات ضد رأسمالية الشركات 

يجادل مؤيدو الرأسمالية وخصخصة الموارد المشتركة من منتقدي أفكار إلينور أوستروم بأن اتفاقيات حوكمة المشاعات ليست بجودة آليات السوق الحر في خلق الكفاءة، وذلك لعدم وجود حوافز اقتصادية مشجعة، لأنها تُعدّ نظاماً ليس مدفوعاً بقوة الأسعار، ما يؤدي إلى إحجام الأفراد عن استثمار رؤوس الأموال فيها، خوفاً من احتمالية الاستفادة المجانية للآخرين، جراء تقاسم المنافع على نطاق واسع من دون المساهمة في تكاليف خدمة وصيانة المشاع، وهو ما يعرف باسم «معضلة الراكب المجاني». 

غير أن واقع الأمر، يشير إلى أن الشركات الرأسمالية - المدفوعة بالربح قصير الأجل - لا تبالِ بالتكاليف الاجتماعية والبيئية الناجمة عن استغلال الموارد المشتركة ونضوب رأس المال الطبيعي، بل تعتبر - على سبيل المثال - أن تدمير غابة كثيفة بقطع الآلاف من أشجارها لصالح صناعة الأخشاب نشاطاً مربحاً اقتصادياً، ومن ثم يعجز واضعي السياسات عن تقدير قيمة الموارد الطبيعية ذات الاستخدام المشترك، وبالتالي وضع خطط استراتيجية للحفاظ عليها وتحسينها، ما يجعل آليات السوق الحرّ وحدها عاجزة عن تحقيق الاستدامة البيئية أو العدالة الاجتماعية على المدى الطويل. كما أن ترك الأمر للحكومات لا يُعدّ حلاً مثالياً نظراً لارتفاع تكاليف صيانة وتشغيل تلك المشاعات بما يفوق قدرة الحكومات منفردة.

وأخيراً، علينا أن لا ننسى أن المناخ على كوكب الأرض ما هو إلا «مشاعاً عالمياً»، لا يعرف حدوداً سياسية أو حواجز جغرافية، وبالتالي لا يمكن لأي حكومة أو شركة في العالم أن تديره منفردة وتنجح في إنقاذه من التدمير، ما يحيلنا إلى أفكار إلينور أوستروم عن التعاون المجتمعي، التي أصبحت أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى، وخصوصاً فكرة الحوكمة المتعددة والمتداخلة المستويات محلياً ودولياً، لربما نستطيع أن ننقذ ما يمكن إنقاذه قبل فوات الأوان. 

  • 1

    إلينور أوستروم (1933-2012): وُلدت في لوس أنجلس، ونشأت في عائلة ميسورة الحال. بدأت مسيرتها الأكاديمية كطالبة دراسات عليا في جامعة كاليفورنيا. رفضها قسم الاقتصاد بالجامعة اعتراضاً من معاصريها على مشاركة المرأة في برنامج الدراسات العليا، لكنها نجحت في الحصول على مقعد في برنامج العلوم السياسية داخل نفس الجامعة، ونالت درجة الدكتوراه في العام 1965، على الرغم من ذلك أصبحت أول امرأة تفوز بجائزة نوبل في فرع الاقتصادية في العام 2009. عملت أستاذة في جامعة إنديانا، وأسست مع زوجها فنسنت أوستروم «ورشة عمل في النظرية السياسية وتحليل السياسات»، لتتحوّل لاحقاً إلى مدرسة فكرية عالمية. اختارتها مجلة تايم في العام 2012 كواحدة من أكثر 100 شخصية مؤثرة في العالم.

  • 2

    غاريت هاردن (1915-2003): درس علم الحيوان في جامعة شيكاغو، وحصل على شهادة دكتوراه في الميكروبيولوجي من جامعة ستانفورد، ثم عمل أستاذاً في جامعة كاليفورنيا. يُعدّ من رواد الدراسات البيئية، ويُقال إنه ساهم في تأسيس حركة البيئة العالمية. ركزت معظم أبحاثه على قضايا مثل النمو السكاني المفرط وتأثيره على البيئة.

  • 3

    م يخترع غاريت هاردن المفهوم، بل صاغ المصطلح فقط، إذ استمد الفكرة الرئيسية لمقاله من فكرة أقدم بكثير، تعود إلى الاقتصادي البريطاني ويليام فورستر لويد، الذي قدمها في كتيب نشره عام 1833 تحت عنوان: «محاضرتان حول قيود السكان»، أورد فيها قصة خراب المَرعى بفعل الزيادة السكانية. أخذ هاردن الفكرة منه وحوّلها من مثال اقتصادي ضيق إلى استعارة عالمية لشرح أثر التدهور البيئي.

  • 4

    رولف دوبلي، كتاب: «فن التفكير الواضح: 52 خطأ في التفكير يجب عليك تجنبها»، فصل: «مأساة المشاع»، صفحة 89، ترجمة: د. نرمين الشرقاوي، هنداوي للنشر، عام 2017.