معاينة Sudan conflict

كيف تفرض الولايات المتّحدة منطق الخوّة على العالم: ادفع لتعش

«لن نُقيم مزاداً على مواردنا المعدنية (...) لقد وقعنا شراكة استراتيجية مع الصين ونحن بصدد التفاوض على شراكة مماثلة مع الولايات المتحدة». هذا ما قاله رئيس جمهورية الكونغو الديمقراطية فيليكس تشيسيكيدي للصحافيين المجتمعين على هامش انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك أخيراً، محاولاً اختصار المشهد الكامن خلف النزاع الدموي المستعر في شرق بلاده منذ 3 عقود. يعتقد الرئيس تشيسيكيدي أن باستطاعته التوفيق بين سعي الولايات المتحدة إلى مزاحمة الصين على الاستحواذ على سلاسل توريد المعادن، وبين مساعي الصين لتطوير اتفاقيات الشراكة الموقعة مع بلاده منذ سنوات. ولكن استعراض سريع للتطورات الأخيرة يبيّن كيف تتحرك الولايات المتحدة لفرض هيمنتها، وتجبر المزيد من الدول على الخضوع لمنطق الخوّة: ادفع لتعش.

هذا ما تفعله في كل مكان، وجمهورية الكونغو الديمقراطية ليست سوى مثال.

ما هي أهمية جمهورية الكونغو الديمقراطية في الحرب الأميركية على الصين؟

جمهورية الكونغو الديمقراطية هي أكبر دولة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، وهي واحدة من أغنى البلدان في العالم في الموارد الطبيعية، تمتلك نصف الغابات والموارد المائية في أفريقيا، وقدّرت الأمم المتحدة قيمة رواسبها غير المستغلة من المعادن الخام بأكثر من 24 تريليون دولار في العام 2011.

تشمل هذه الثروة الهائلة مجموعة متنوّعة من المعادن والموارد الطبيعية التي تُعدّ أساسية للصناعات العالمية والتطور التكنولوجي، ولا سيما الكوبالت، أحد المعادن الرئيسة لإنتاج السيارات الكهربائية، الذي يضع البلاد في موقع استراتيجي للتحول في مجال الطاقة. 

في العام 2022، كانت جمهورية الكونغو الديمقراطية أكبر منجم للكوبالت في العالم بإنتاج بلغ 130 ألف طن، أو ما يقرب من 68% من الكوبالت العالمي. وكانت أيضاً رابع أكبر منتج للماس الصناعي بإنتاج بلغ 4.3 مليون قيراط. وهي تمتلك رواسب ليثيوم مهمة عالمياً. وتحتوي على احتياطيات النحاس الأعلى جودةً على مستوى العالم. 

infographic

تسلسل الأحداث الأخيرة

صباح 19 أيار/مايو من العام 2024، استفاق أهالي كنشاسا (العاصمة) على خبر يُفيد بأن السلطات الأمنية في البلاد أفشلت محاولة انقلاب «شارك فيها أجانب وكونغوليون» وفق ما قال المتحدث باسم القوات المسلحة في البلاد الجنرال سيلفان إيكنجي في رسالة مقتضبة بثها التلفزيون الرسمي. وكان من بين المتهمين آنذاك، والذين صدر بحقهم فيما بعد أحكام إعدام، 3 أميركيين.

في أواخر كانون الثاني/ يناير 2025، شنّت حركة إم 23 المتمرّدة بالتعاون مع القوات الرواندية هجوماً على شرقي البلاد، وهدّدت بـ«الزحف» نحو العاصمة كنشاسا، وقد سيطرت على 20% من البلاد، بما فيها مدينة غوما (عاصمة مقاطعة شمال كيفو التي تعدّ موقعاً استراتيجياً من حيث الموارد الطبيعية)، ما حدّ من قدرة  الحكومة الكونغولية على التحكم في عمليات التعدين في المنطقة.

دفعت هذه التطورات بحكومة جمهورية الكونغو الديمقراطية إلى عرض «صفقة معادن» على ترامب في مقابل الأمن، إذ توفر هذه الصفقة للولايات المتحدة إمكانية الوصول إلى المواد التي تحتاجها صناعة التكنولوجيا الأميركية.

في 27 حزيران/يونيو 2025، وقعت رواندا وجمهورية الكونغو الديمقراطية في واشنطن على اتفاق سلام يشمل إنهاء العمليات العسكرية وتفعيل آلية التنسيق الأمني. 

في 19 يوليو/تموز 2025، وقعت الحكومة الكونغولية وجماعة إم 23 المسلحة إعلان مبادئ في الدوحة، ينص على وقف إطلاق النار ووضع الأساس لاتفاقية سلام شاملة.

الحد من التوسع الصيني في جمهورية الكونغو

تُسيطر الشركات الصينية حالياً على 80% من إنتاج مادة الكوبالت في جمهورية الكونغو الديمقراطية. إذ أن 67.5% من الكوبالت المكرر في الصين يأتي  من مناجمها.

يخلص تحقيق نشرته «بي. بي. سي.» بعنوان «كيف يريد ترامب من الولايات المتحدة الاستفادة من اتفاق السلام في جمهورية الكونغو الديمقراطية الغنية بالمعادن»، إلى أن الولايات المتحدة «تأمل في استعادة موطئ قدم لها في قطاع التعدين الذي هيمنت عليه الصين».

لقد تمكنت الصين في العام 2008 من التوصل إلى اتفاقية خاصة مع جمهورية الكونغو تتعلّق بـ«المناجم مقابل البنية التحتية» بقيمة 7 مليار دولار.  وكان الغرض الأساسي من هذه الاتفاقية هو السماح للصين بالوصول إلى احتياطات من النحاس والكوبالت في مقابل استثمارات في البنية التحتية.

نشر معهد الجيش الأميركي للبحوث والتحليلات الجيوستراتيجية والأمن القومي تقريراً اعتبر فيه أن هيمنة الصين على سلاسل توريد الكوبالت يمثّل تحدياً جيوسياسياً متزايداً للولايات المتحدة، مع تداعيات مباشرة وغير مباشرة على الأمن القومي الأميركي. كما يُنذر الكوبالت بدينامية قد تتكرر مع مواد أخرى مثل الليثيوم والمنغنيز ومعادن أرضية نادرة أخرى.

يُعدّ الاستحواذ على المعادن التي تتوفر بكثرة في شرق جمهورية الكونغو الديمقراطية من أهم العوامل التي تغذي الصراع الدامي هناك، ولكن رهان حكومة الكونغو على «صفقة معادن» مع الولايات المتحدة لانهاء التمرّد في شرق البلاد دونه عقبات كثيرة، أبرزها أن معظم المناجم الغنية المكتشفة في شرق الكونغو تم منحها مُسبقاً لشركات صينية، وهذا يستدعي استثمارات كبيرة من الولايات المتحدة للقيام بعمليات المسح والاكتشافات الجديدة،وهي لا تريد ذلك، وإنما تريد تقويض النفوذ الصيني عبر حكومة الكونغو نفسها، وهذا ما يُلمّح إليه بعض الخبراء من أن مصلحة  الولايات المتحدة الإبقاء على الفوضى في شرق البلاد، حيث تعمل رواندا عبر استيلائها على المواقع الاستراتيجية (من خلال قواتها ومن خلال الجماعات المتمردة التي تدعمها) على مساعدتها في تأمين سلسلة توريد من التعدين غير الشرعي. فهل تصمد اتفاقية السلام الحالية؟