مجال وسكان ودولة؟
لبنان: الهجرات والأزمات
أنقر/ي هنا لتنزيل الوقة كنسخة PDF
ملخّص تنفيذي
تُعاين هذه الدراسة الواقع الديموغرافي في لبنان وتقيّم تطوّراته المحتملة.
تعرّض لبنان في السنوات الأخيرة لصدمة هجرة مزدوجة، تمثّلت في توافد أعداد كبيرة من اللاجئين السوريين واستقرارهم في البلاد منذ العام 2012، وترافق ذلك مع تدفق «مساعدات إنسانية» دعمت وجودهم وحافظت عليه. ومن ثم بانهيار اقتصادي في العام 2019، تكيّف معه اللبنانيون عبر موجة هجرة جارفة، إذ قلّص المهاجرون حاجات الاستهلاك والاستيراد محلياً، والأهم ساهموا بارتفاع التحويلات النقدية.
هذا التكيّف مع الأزمة، من خلال السلاح الديموغرافي، سمح ظاهرياً باستمرار ما يُسمّى بـ«النموذج اللبناني»، إنّما على حساب تصفية التراكم المؤسّساتي والإنتاجي المُحقّق على مدار أكثر من قرن، ووضع البلاد في مهبّ خضّات أمنية خطيرة جرّاء سلوكيات الإنكار وخطابات شعبوية أو حزبية تدفع نحو مزيد من الإنزلاق.
تستدعي ضخامة هذه الظاهرة العودة إلى النظريات الاقتصادية السائدة في ما يتعلّق بموجات الهجرة. وبعد الوقوف على الوضع الراهن بأدقّ تفاصيله في ظل الجهل المتعمّد للسلطة السياسية، تقتضي تقييماً كميّاً للتطوّرات المحتملة على مدى السنوات الخمسة، والعشرة، والخمس عشرة المقبلة، وفق سيناريوهات تعبّر عن الخيارات السياسية الجوهرية على المستويين المحلي والإقليمي.
مقدّمة
يعيش اللبنانيون منذ أربع سنوات في خضمّ أزمة خطيرة تجلّت في انهيار المداخيل، وتلاشي الوظائف، وفقدان المدّخرات، وشحّ المستلزمات الأساسية، وتدهور الخدمات العامّة؛ وما كان يُعدّ حتى ذلك الحين من المسلّمات لم يعد موجوداً. صُوِّرت هذه الأزمة على أنها أزمة مالية ينبغي التعامل معها من هذا المنطلَق، عن طريق الوسائل والنُهُج الشائعة، مثل ضبط رؤوس الأموال أو ما يُعرف بـ «الكابيتال كونترول»، وإعادة هيكلة المصارف، والتقشّف المالي، واللجوء إلى صندوق النقد والبنك الدوليين وما إلى ذلك. لكنو بعد مرور أربع سنوات على الأزمة، لم تطبّق السلطات اللبنانية، سواء الحكومات المُتعاقبة أو مجلس النواب، أيّاً من هذه الحلول. وأعادت الانتخابات النيابية إنتاج الطبقة السياسية نفسها من دون أي تغيير يُذكَر. وفيما اختفت التحرّكات الشعبية، وفي غياب أي بوادر لإعادة إحيائها، لم تشهد البلاد، أقلّه حتى الآن، أيّ موجات عنف.
وبرأينا، ما يحدث هو في الظاهر أزمةٌ مالية، ولكنّه في واقع الأمر تخلٍّ عن مفهوم الدولة، ما جعل المجتمع، «بمكوّنه البشري»، يتحمّل عبء التكيّف. وارتضى المجتمع ذلك سعياً للحفاظ على «نموذجه»، أو بالأحرى مخيّلته السياسية الجمعية. ولم تكن الهجرة إلّا التجلي الأول لهذا التكيّف المُفترَض، إذ أنّها تقلّل الاستهلاك والاستيراد محلياً، وتزيد من التحويلات المالية إلى من بقي في البلاد، فتبقى الحسابات الخارجية شبه متوازنة. فيما نجت البنى والجماعات الطائفية نسبياً، مع بعض الاختلالات الطفيفة، شهدت التركيبة السكانية تحوّلاً جذريّاً لناحية حجم القوى العاملة وتركيبتها من حيث الفئات العمرية، ومستويات التعليم، والجنسيات.
ولا تشكل هذه الأزمة، من وجهة نظرنا، حادثة معزولة؛ ومن هنا، ضرورة إجراء مراجعة سياسية. الحقبة التي سبقتها – وهيّأت لها – شهدت بدورها تلاعباً بتركيبة المجتمع، من خلال موجات هجرة خارجة ووافدة مستمرة وبأعداد ضخمة. وهذا بالتحديد ما أطال من عمر «النموذج اللبناني» وأجّل وقوع «الأزمة» إلى أن انفجرت ماليّاً وبهذا الحجم الكارثي.
ثمة شرخ بين واقع المجتمع والمخيّلة السياسية. وإن لم نكن أمام حالة فريدة، إلا أنها بالتأكيد حالة متطرفة. ولذلك ثمة فائدة مضاعفة لهذه الدراسة.
في ضوء ما سبق، ترمي هذه الدراسة إلى هدفين قد يبدوان للوهلة الأولى متمايزين:
- الأوّل، هدف عام نسعى من خلاله إلى إلقاء نظرة نقدية سريعة على ما نسمّيه «الهجرات الدولية»، لناحية آلياتها، الفعلية والمفترَضة، والنظريات التي تتناولها، بما في ذلك مفهوم الهجرة بحدّ ذاته. ذلك لأنّ نقاش مسألة الهجرة الدولية يقتضي سيادة منطق الدولة، ويفترض استقرارها وتماسكها وانسجامها الداخلي. وبذلك تتميّز الهجرة الدولية عن غيرها من حركات السكان، والهجرات الداخلية، وحركات النزوح والتهجير التي تتسبّب بها الرهانات الجيوسياسية للدول الفاشلة وفي المناطق المنكوبة. وعلى الرغم من فضائل عدّة وملتبسة قد تعزوها النظرية الاقتصادية أحياناً إلى حركات الهجرة هذه، تتحوّل الأخيرة أيضاً إلى أدوات تلاعب سياسية وخيمة العواقب. ومن هذا المنطلق، تقدّم لنا الحالة اللبنانية مثالاً خاصاً ومتطرفاً.
- والثاني، هدف خاص يرمي إلى وضع اللبنانيين أمام الوقائع الراهنة لمجتمعهم وما ينتظره على المدى المتوسّط، بهدف تسليط الضوء على الاستحقاقات والتحدّيات والخيارات التي يسعى كثيرون إلى تجاهلها. ولكن هل يتعلّق الأمر فعلاً بالجهل فقط؟ إنّ المجتمع، بوصفه مخيّلة جمعية تُصاغ على أساسها الهويات والخطابات والممارسات، حقيقة مُعاشة. ولكن يحلو للبعض استخدام تعبير «القدرة على التكيّف أو الصمود» للدلالة على استقرار المجتمع وثقله، غاضّاً الطرْف عن واقع الشعب، المقموع والمُضلّل والمنبوذ. والدولة هي التي تستحضر مفهوم الشعب، ومفهوم الأرض كذلك، بل وتصنعه، مُدعيةً تمثيله، لتحكمه بطريقة أو بأخرى. وتعمد هذه الدول إلى تفكيك المخيّلات السابقة أو الكامنة للمجتمع، طارحةً هويات ثابتة غير قابلة للتغيير، ومشتبكةً مع هذه المخيّلات أو السرديات بحجة الواقع المتغيّر والضرورات الحتمية، والعنيفة غالباً، لمنطقها، أي منطق «الدولة». وبالتالي، تتّسع هوامش العمل المباشر، بما تنطوي عليه من مخاطر، على حساب هوامش التكيّف. ونجد المجتمعات تتعايش مع هذا الغياب، طالما كان التخلّي عن الدولة ممكناً، كما كان الحال منذ أمد بعيد في العالم، وفي لبنان بشكل صارخ حتى يومنا هذا. إلا أن هذه الخيارات تُطرَح من جديد في فترات الأزمة ومناطق النزاع مفجّرةً أسئلتها. من هنا يبرز لبنان بوصفه حالةً خاصة عن منطق الدولة وغيابها، وهي حالة تستحق الدراسة.
يكمّل هذان المنظوران كلٌّ الآخر، بفعل طابعهما السياسي الغالب، ويثيران تساؤلات بشأن شرعية الدولة ومدى كفاءتها. ففي ظل مساحات هَرمية يُعاد تكوينها باستمرار، وأمام مجموعات بشرية في حركة دائمة، لا تعود الدولة اللاعب الحصري حُكماً وفق ما يدّعيه الخطاب المؤسساتي، ولا هي كيانات زائدة عن الحاجة يمكن الاستغناء عنها كما قد يظنّ بعض اللبنانيين.
1- حركات الهجرة، تأطير الظاهرة
الدول والهجرات
فعل الهجرة
الهجرة ظاهرة قديمة، فالبشر كانوا ولا زالوا يتنقّلون من مكان إلى آخر بحثاً عن الموارد. كانت التطوّرات الديموغرافية منذ زمن بعيد مرهونةً بالعوامل المناخية والصحّية والتكنولوجية. أمّا النظريات القائلة بوجود أعراق بيولوجية فقد باتت من الماضي.
ترافق ترسيخ مفهوم الدولة مع تطوّر المعرفة بأعداد السكّان وحركاتهم، بقدر ما ركّز أيضاً على سُبُل التحكّم بهم، وذلك للحفاظ على عجلة الإنتاج وإمدادات الجيوش. وسمح ترسيم الحدود بين الدول بالتمييز بين حركات الهجرة الداخلية، أو النزوح، وتلك التي تعبر حدود الدولة، أو الهجرة الخارجية.
بحسب الأمم المتحدة، «بلغ عدد المهاجرين الدوليين في العالم 281 مليوناً مهاجراً في العام 2020، ويُقصد بهؤلاء الأشخاص الذين استقروا في بلد غير الذي وُلدوا فيه. وهم، وإن كانوا لا يشكلون سوى شريحة صغيرة من عدد سكّان العالم، بواقع 3.6%، إلا أنّ عددهم في ازدياد، إذ ارتفع بين العامين 2010 و2020 من 220 مليوناً إلى 281 مليوناً مهاجراً، بمتوسط نمو سنوي بنسبة 2.8%. ولا تتجاوز نسبة اللاجئين، المُقدّر عددهم بنحو 25.9 مليوناً في العام 2016، 10% من المهاجرين الدوليين. وتعيش غالبيتهم (85.2%) في بلدان نامية، في حين أن الشريحة الكبرى من المهاجرين تُقيم في بلدان متقدمة».
تشير التوقّعات إلى ارتفاع أعداد المهاجرين الدوليين نتيجة عوامل عدّة، منها التفاوتات الملحوظة على صعيد دخل الفرد، إلى جانب الاختلاف الكبير بين البلدان في عملية التحوّل الديموغرافي. ففي حين تشهد البلدان الثرية نموّاً في نصيب الفرد من الثروة في ظل تناقص عدد السكان وشيخوختهم، تسجّل البلدان الفقيرة بمعظمها نموّاً مطّرداً في أعداد سكانها، لا سيّما من هم في سنّ العمل. يُضاف إلى هذا الواقع انعدام الأمن المستمر والنزاعات التي تشهدها مناطق عدّة من العالم.
تُشكل الهجرات الداخلية (النزوح) بدورها ظاهرة منتشرة في كلّ البلدان، وتتجلّى خصوصاً في الانتقال من الأرياف إلى التجمّعات الحضرية حيث تتركّز مناطق السكن والأنشطة الاقتصادية، سعياً لرفع الإنتاجية بأقل التكاليف (اقتصاديات الحجم)، وبحثاً عن التنوّع وإمكانيات التكيّف من حيث العرض والطلب على السلع والخدمات والوظائف. ولم يكن هذا ليحدث لولا الابتكارات والتحوّلات التكنولوجية في الزراعة والنقل التي رفعت أو خفّفت القيود المرتبطة بتركّز الموارد الطبيعية في أماكن محدّدة، لا سيما الأراضي الزراعية والمياه. وتظل الهجرات الداخلية خارج نطاق الدراسة طالما أنها محصورة ضمن حدود الدول، ولا تؤخذ في الاعتبار إلّا إذا أعيد النظر في هذه الحدود، أو بالأحرى في شروط عبورها، نتيجة قرار سياسي أو أي اعتبار آخر يفرض نفسه.
الهجرة والتجارة الدولية
بصورة عامة، وفي ضوء النظريات السائدة، من المفترض أنّ حركات الهجرة عموماً، والدولية منها خصوصاً، تعود بالمنفعة المشتركة من المنظور الاقتصادي، إذ تتيح للناس التوجّه إلى أماكن تزداد فيها إنتاجيتهم، بما يُسهم تالياً في تسريع عجلة إنتاج الاقتصاد العالمي وتعظيم الثروة التي من المفترض أن تتشاركها البشرية قاطبة. بيد أنّ هذه المقاربة بعيدة كلّ البعد عن الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
يبدو توزيع الفوائد بين البلدان وبين مختلف فئات السكّان في البلد الواحد أبعد ما يكون عن البساطة والحيادية. ويكفي أن ننظر إلى الاتهامات التي يكيلها العمّال غير المهرة أو ذوو المهارات المتدنية في البلدان الغنية للمهاجرين، فيما نسبةٌ كبيرة من أصحاب العمل هناك سعيدون للغاية بفرض شروطهم على المهاجرين.
أدّت الهجرة في خلال القرن التاسع عشر دوراً حاسماً في تقارب مستويات الدخل بين أوروبا ومستعمراتها الاستيطانية السابقة (الولايات المتّحدة وكندا وأستراليا)، ولكن الأمور تغيرت منذ ذلك الحين: وعلى الرغم من نموّ حوافز الهجرة وسهولة حركات السفر والاتصالات، لم تتقلّص فجوات الدخل بين البلدان المصدّرة للمهاجرين والدول المستقبلة لهم منذ قرن، ما يعارض نظريات التقارب.
وكمثال عن التطبيق العملي لنظرية التقارب بين الدول واستقرار شروط التوازن المفترضة في كل منها، تكفي الإشارة إلى حالة محددة: سيتعيّن على دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، للحفاظ على قوتها العاملة ونسب الإعالة عند مستوياتها الحالية، أن تستقبل في غضون أربعين عاماً تقريباً مهاجرين يناهز عددهم نصف عدد سكانها الحاليين. ومن البديهي أن لا يكون ذلك مقبولاً في السياسة.
أمّا لماذا تمثل التحرّكات السكانية مشكلة حقيقية عند النظر إليها في سياق إطار وطني، فيأتي الجواب «الاقتصادي» بأن السياسات الاقتصادية، والعملة، والضرائب، والإنفاق العام، والإطار القانوني للأعمال، وأنظمة العمل، كلّها تتحدّد على المستوى الوطني. وإذا ذهبنا أعمق من ذلك، لأن حسابات والتزامات الشرعية «السياسية» تتشكل وتتجلّى ضمن الإطار الوطني للدولة.
تستند معظم النظريات الاقتصادية إلى حقيقة أن الاقتصادات الوطنية تتبادل السلع والخدمات، مع بقاء عوامل الإنتاج مستقرّة نسبياً، وهي كذلك بشكل عام في الدول المتقدّمة، على الرغم من العولمة التي شجّعت حركة رؤوس الأموال والأفراد، ولكنها أبعد ما تكون عن الاستقرار في البلدان النامية، حيث نرى ظاهرة هجرة هائلةً في بعض الأحيان، وأيضاً تدفقات رؤوس الأموال إلى الخارج. لم تعد الهجرة اختياراً طوعياً على مستوى الأفراد، بل باتت على نحو متزايد قراراً جماعياً لمجموعات من الأفراد، وفي كثير من الأحيان الأسر، القادرين على دفع تكاليف الهجرة (من تأشيرات، وجواز سفر، ونفقات نقل واستقرار...). ويكون الاستثمار في الهجرة مدروساً للغاية في بعض الحالات، إذ يبدأ بالمدرسة والجامعة لضمان مستقبل الجيل الجديد من المهاجرين.
تنصّ الفكرة الأساسية لنظريات التجارة الدولية على أنها «بديل» عن تنقّل الموارد، وبالتالي، فإن زيادة الحواجز التجارية ستؤدي إلى زيادة تدفّقات الهجرة. وإذا كانت دول الجنوب تتمتع بوفرة في القوى العاملة، فإن النظرية تفترض قيام هذه الدول بتصدير السلع التي تحتاج بكثافة إلى اليد العاملة في مقابل استيراد السلع التي تتطلّّب رؤوس أموال كبيرة، وستؤدي زيادة العوائق أمام حرية التجارة في هذه الدول إلى ارتفاع أسعار السلع المحلية البديلة للمنتجات المستوردة، وتحسين العائد على رأس المال المحلي، بالتزامن مع انخفاض أجور العاملين، ما يفضي إلى زيادة الهجرة. وعلى خطّ موازٍ، من شأن زيادة العوائق أمام حرية التجارة في دول الشمال أن تحدّ من إمكانية وصول السلع الواردة من دول الجنوب، وبالتالي تقليل الأجور وزيادة حركة الهجرة.
من وجهة نظر دول الجنوب، وإذا كانت ثمة مزايا لهجرة نسبة معيّنة من العمّال غير المهرة في خلال فترات النمو الديموغرافي المرتفع (منها على سبيل المثال التخفيف من التوترات الاجتماعية، ونقل المعرفة في حال عودة هؤلاء إلى ديارهم، وتحويلات المهاجرين إلى أسرهم لتمويل تعليم الأطفال والتخفيف من حدة الفقر، وما إلى ذلك)، فإن الأمر مختلف تماماً عندما تطال الهجرة أصحاب المؤهلات من الشباب، الذين كان تعليمهم مكلفاً بشكل خاص. وهكذا تخسر بعض الدول الفقيرة نسبة كبيرة جداً من خريجيها (في جامايكا 85%، وأكثر من 50% في لبنان قبل الأزمة في العديد من التخصّصات العلمية والتقنية).1
وقد بدأت الدول الغنية بتنظيم «الهجرة إليها» بشكل منهجي بحيث تركّز على الشباب أصحاب المؤهلات وعلى أثرياء البلدان الفقيرة. أما القول بأن الهجرة تُعوَّض بالتحويلات النقدية، فهو في الحقيقة مجرّد رؤية جدّ اختزالية لهذه الظاهرة المعقّدة.
التأطير النظري
من بين الأسئلة العديدة التي تثيرها الهجرة، سؤالان يستدعيان اهتماماً خاصاً: هل الهجرة ظاهرة إيجابية (أم سلبية)؟ وعلى من تنطبق؟ وهل هي ظاهرة يمكن عكسُها، أم عابرة، أم دائمة ولا رجعة فيها؟
من هم المهاجرون؟
تربط حركات الهجرة الدولية بين منظومات متناقضة على مستويين: أولها على مستوى اقتصادات وطنية غير متكافئة في مواردها (من حيث رأس المال، والإنتاجية، والمؤسسات، وما إلى ذلك)، وأيضاً داخل كل اقتصاد، بين فئات العاملين (ناهيك عن غير العاملين) متفاوتي الكفاءات. وإذا افترضنا أن البلدان الأكثر فقراً تعاني من نقص في رؤوس الأموال والعمالة الماهرة، وأن البلدان الغنية لديها بالتالي فائض نسبي في هذين العنصرين، فمن البداهة أن نتوقّع تدفق العمّال غير المهرة من البلدان الفقيرة إلى البلدان الغنية، في مقابل تدفق رأس المال والعمالة الماهرة نحو البلدان الفقيرة. وهذا غير صحيح البتة. فالذين يهاجرون من البلدان الفقيرة ليسوا الأكثر حرماناً أو الأقل تأهيلاً، بل على العكس تماماً. وفي الجهة الأخرى، وفي ما عدا بعض الحالات الاستثنائية، فهجرات رؤوس الأموال والعمالة الماهرة من البلدان الغنية إلى البلدان الفقيرة نادرة الحدوث أيضاً.
في الحقيقة، لم تطل الهجرة تاريخياً الفئات الأشد فقراً، لما تنطوي عليه من تكاليف ومخاطر. وينطبق هذا بشكل خاص على الهجرة اللبنانية في نهاية القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.
وتستحق ظاهرة «نزيف الأدمغة» (التي تترجَم خطأً إلى «هجرة الأدمغة»، فهي في الواقع عملية مقصودة لجذب الموارد البشرية) اهتماماً خاصاً، لأن فهمها، ومن باب أولى، التعامل معها، ليس بالأمر السهل.
يلاحَظ أن نسبة هجرة العمالة الماهرة مرتفعة بشكل خاص في بعض دول العالم الثالث الصغيرة، ومنها لبنان. تؤدّي هذه الهجرة إلى تقليص القدرات الإنتاجية للدولة، وكبح ديناميتها الاقتصادية والاجتماعية، وتآكل مداخيل العمّال الأقل تأهيلاً الذين بقوا هنا، ناهيك عما استنزفه تأهيل الشباب المرشحين للهجرة من موارد البلد الضئيلة. من جهة أخرى، تنتهي رحلة بعض المهاجرين بالعودة إلى البلاد محمّلين بالمعرفة ورأس المال، فيما يكتفي آخرون بالتحويلات النقدية لعائلاتهم (لا بد من الإشارة هنا إلى حالة متكرّرة إلى حد ما، ولو أنها شاذّة من وجهة نظر اقتصادية، وهي حالة اللبنانيين الذين يرسلون عائلاتهم إلى الخارج، عادةً بهدف متابعة الدراسة أو الحصول على الجنسية، أو كليهما، فيما يبقون هم ويواصلون العمل في لبنان، ما يؤدّي بالتالي إلى حدوث تحويلات عكسية). ويعتمد التوازن بين هذه الآثار المتناقضة، من وجهة نظر شمولية، على الإنتاجية (الاجتماعية) النسبية للعمّال المهاجرين المهرة في بلدهم الأم وفي بلد المهجر. وقد نعتناها بالـ«اجتماعية» عن قصد، لأنها تنطوي على عوامل خارجية هامة: فمكاسب الإنتاجية، وتنشيط المشاريع والأعمال، وتعلّم التقنيات، هي بالفعل آثار اقتصادية حقيقية لا تنعكس سوى جزئياً في مداخيل الأفراد.
من يتأثر بالهجرة؟
قد تبدو مراقبة حركات الهجرة الدولية من وجهة نظر شاملة هامّة على المستوى الأكاديمي، ولكن فائدتها تظل محدودة، إذ إن وجهة النظر العالمية قد لا تنعكس على مستوى صنع القرارات. ولتقييم أثر الهجرة، سلبياً كان أم إيجابياً، لا بدّ من النظر في تبعاتها المترتبة على أربع فئات أساسية: من يمكث في البلد المصدّر للمهاجرين، ومواطنو البلد المضيف، والمهاجرون أنفسهم (وكثيراً ما يتم إسقاطهم من الحسبان)، وأخيراً سائر العالم الذي يتأثّر بالتبعات الإجمالية للهجرات، ولو بشكل أقل مقارنةً بالفئات الثلاث المنخرطة مباشرةً في هذه الظاهرة.
إن وضع المهاجرين محكوم، بطبيعة الحال، بعلاقة مزدوجة، الأولى ببلدهم الأم والثانية ببلد الوجهة. وفعل الهجرة بحد ذاته هو نتاج تلك العلاقة المزدوجة، ونتائجه محكومة بآليات تطوّرها؛ ذلك أن الهجرة عملية طويلة ومعقّدة حافلة بحمولاتٍ عاطفية ودلالات رمزية شديدة التأثير، ناهيك عن الصعوبات المادية والمعاناة الناجمة عنها في الكثير من الأحيان.
ولتنظيم مقاربتنا لهذه الظاهرة، وبالتالي ترتيب الأفكار لمن أراد التعامل معها في لبنان (أو خارجه)، سنسير وفق تسلسل الخيارات المصاحبة لها.
تنطوي عملية الهجرة على ثلاثة مراحل: فعل الهجرة، وإنجازاتها الفعلية، وأشكال اندماج المهاجرين.
قد يكون فعل الهجرة قسريّاً، بشكل عام بفعل العنف، أو التهديد، أو مخافةَ العنف، وقد يكون طوعياً. وبين هذين الشكلين حالات وسيطة، يتم فيها تضخيم تصوّر المخاطر أو توهّمها، ما يؤدّي إلى هجرات تعسفية أو مضلّلة. في المقلب الآخر، تتجاوز الهجرات الجماعية غير المدفوعة بالعنف، على غرار ما يحدث الآن في لبنان، الطابع الشخصي أو العائلي بالأحرى للخيار الذي يحكمها، لتعبّر عن عملية تصفية للمجتمع حيث تُصوَّر على أنها المخرج الوحيد المتاح أمام السكان، أو أقلّه أمام فئة عمرية من السكان.
من نافلة القول إن الهجرات القسرية هي هجرات جماعية قد تنطوي على رغبة سياسية في العودة، كما هو الحال بالنسبة إلى الفلسطينيين، أو الأرمن في سنوات منفاهم الأولى، وبالتالي تشجيع ظهور أطر مؤسّسية لمجتمعاتهم في بلدان الهجرة تساعدهم على ذلك؛ أو قد تمثل، على العكس من ذلك، نهايةً مقبولة أو مرغوبة، لحقبة ما، من دون إمكانية العودة، أو بالأحرى الرغبة فيها، كما حدث مع المستوطنين الأوروبيين الذين سكنوا أو ولدوا في الجزائر إبان الإحتلال الفرنسي لها («الأقدام السوداء»)، ويهود الجزائر وغيرهم. وتنتج عن كل من هذه الحالات سلوكيات مختلفة.
أما الهجرات الطوعية، فتكون عادةً مدفوعة برغبة المهاجر في العيش في مكان آخر، لأسباب مادية بالتأكيد في المقام الأول، وسعياً لدخل أعلى. لكنها تحمل أيضاً بُعداً رمزياً ورغبةً في التحرّر من قيود يفرضها مجتمع يبدو مسدود الأفق وفي «بناء حياة» أفضل وأكثر أماناً وكرامة. وهذا هو الحال تحديداً في لبنان حالياً، وخصوصاً بالنسبة إلى شريحة الشباب، والوجهات المختارة ضمن هذا المنظور هي الدول الغنية والمستقرة (أوروبا الغربية والشمالية، والولايات المتحدة، وكندا، وأستراليا...). بيد أن الهجرات الطوعية قد تكون أيضاً بدافع الرغبة في مراكمة الوسائل المادية التي تسمح للمهاجر عند عودته، أو تسمح لأسرته في خلال فترة إقامته في الخارج، بتحقيق كسب مادي، وتأمين السكن، وبدء مشروع تجاري، وتعليم الأبناء ... وهنا أيضاً يحضر البعد الرمزي متمثلاً في الرغبة بتجميع ثروة تسمح للمهاجر، لدى عودته، بالترقّي اجتماعياً في مجتمعه الأصلي. وتلك كانت القوة الأساسية الدافعة لهجرة اللبنانيين في نهاية القرن التاسع عشر. ينطوي هذا السلوك على فرضية كون التسلسل الهرمي الاجتماعي في البلد الأم قابلاً لإعادة النظر، كما أنه يثير لدى المهاجر عطشاً لتحقيق ثروة كبيرة ويدفعه للبحث عن وجهات تتيح له ذلك. وكان هذا هو الحال في خلال صعود اقتصادات دول الخليج، وكذلك الدول الأفريقية، بين خمسينيات وثمانينيات القرن العشرين، وحال العديد من الوجوه السياسية في لبنان بعد الحرب. يختلف هذا الشكلان للهجرة الطوعية، الدائم والمؤقت، من حيث الإطار المرجعي والدافع والوجهة والسلوكيات الناتجة عنه. كذلك، لم يكن مستغرباً أن يتطوّر في لبنان في العقود الأخيرة نوع وسيط وملتبس، تمثل في الهجرة بوصفها إجراءاً احترازياً، تجلّت بالحصول على جنسية أجنبية، مع البقاء في البلد، استعداداً للهجرة عندما يحين الوقت.
ولأن الهجرة عملية طويلة ومحفوفة بالمخاطر، فلا عجب إن انحرفت إنجازاتها الفعلية عن الأهداف الأولية التي حدّدها المهاجرون.
لا تترك الهجرات القسرية عموماً هوامش كبيرة للتنوّع من حيث مآلاتها. فمشاريع العودة السياسية التي تصاحب بعضها تنتهي بالتلاشي. واللافت في هذه الهجرات هي أنها تقود في الكثير من الأحيان إلى هجرات أخرى، لأن بلدان الاستقرار الأول لا تتيح بالضرورة فرصاً كثيرة، علاوةً أنها قد لا تكون في الأصل خيار المهاجرين، انطلاقاً من كونها هجرة قسرية. وكان ذلك على سبيل المثال حال الأرمن في لبنان وسوريا، والفلسطينيين في شتى الدول التي استقرّوا فيها.
في المقابل، قد تفضي الهجرة الطوعية إلى تحقيق إنجازات متنوّعة تختلف عن النوايا الأولية للمهاجرين. وتنتهي الهجرة المقرونة بنية العودة، في معظمها، باستقرار المهاجرين بشكل دائم، باستثناء البلدان التي تكون فيها الإقامة محظورة أو انتقائية للغاية (كما هي حال دول الخليج)، أو غير مرغوب فيها (حال بعض البلدان الأفريقية). وحتى في تلك الحالات، لا يعود المهاجرون، لأنهم، هم أو أطفالهم في الكثير من الأحيان، ينطلقون في هجرة ثانية نحو أوروبا أو أميركا الشمالية. حدث ذلك مع العمّال المهاجرين إلى أوروبا الغربية في خلال مرحلة إعادة إعمارها بعد الحرب. فقد أسّست غالبيتهم العظمى أسراً هناك، وتغلّبت صيغ لمّ شمل الأسر على دوافع العودة. في الواقع، ثمة عاملان يسهمان في تحويل الهجرة المؤقتة إلى هجرة دائمة: التطبيع الثقافي، وخصوصاً في حالات الأطفال، والفشل، ولو النسبي، للمشاريع الأولية الطموحة عند اصطدامها بالحقائق القاسية في البلدان المضيفة. كما أن الدول التي تنظّم الهجرة المؤقتة للعمّال (ولا سيما الدول الآسيوية)، والدول التي تنظّم استيرادهم (دول الخليج ولبنان قبل الأزمة) تتوصّل إلى تنسيق سياساتها وأنظمة إدارتها لهؤلاء العمّال، وتحرص على وجه الخصوص على التأكد من عدم تمكّن المهاجرين من إحضار عائلاتهم.
بدورها، تؤدي الهجرات النهائية، التي هي كذلك منذ البداية، أو التي تتحوّل مع الوقت إلى نهائية، إلى أشكال مختلفة من إدماج المهاجرين يمكن إدراجها، توخياً للبساطة، تحت عنوانين غير حصريين: الاندماج والانضواء في تجمّعات، مع وجود صيغ عدة تتقاطع مع هاتين المرجعيتين. يتخذ الاندماج الخالص، أو الانصهار، أشكالاً نموذجية، منها نسيان المهاجرين للّغة الأم بدءاً من الجيل الثاني، وتغيير الأسماء والعادات الاجتماعية، وعدم الاهتمام بالبلد الأصلي، وتجنّب التجمّعات السكنية لمواطنيهم، والانخراط في المجتمع المضيف ومؤسّساته، وأحياناً المغالاة في الاندماج حتى في المجالات السياسية. أمّا أشكال الانضواء في التجمّعات، فتعبر عن نفسها من خلال الحفاظ على العلاقات مع البلد الأصلي، أو على الأقل مع عاداته الاجتماعية والدينية، حيث تظل الزيجات محصورة إلى حد كبير ضمن الجالية، أو تستهدف أزواجاً من البلد الأم، وتنشئ جمعيات اجتماعية وسياسية ودينية، وتُدرّس اللغة الأم، وتنتج المواد والوسائط الإعلامية؛ ولعل الأرمن في لبنان واللبنانيين في بلدان الهجرة المختلفة هم أبلغ مثال على ذلك، مع انخراط قوي لمجتمعاتهم المحلية وطوائفهم المختلفة. وغالباً ما يتجلّى هذان الشكلان من الاندماج من خلال الشبكات التي تنشط داخل المجتمع المضيف في مجالات علاقات العمل، وأشكال التعاون والدعم، والضغط السياسي.
ومن خلال تجارب مادية ونفسية يعيشها المهاجرون وعائلاتهم على امتداد أجيال عدة، يحدث داخلهم التواصل المؤلم والصعب بين بنيتين اجتماعيتين واقتصاديتين وسياسيتين ومتخيلتين؛ فبنى المجتمعات الأصلية تختلف كثيراً في ما بينها، كذلك بنى المجتمعات المضيفة.
تتعاطى المجتمعات المستقبلة لحركات الهجرة بطرق مختلفة. فمثلاً تفضّل فرنسا صيغة الاندماج، ولديها موقف عنصري تجاه الاحتشاد ضمن جاليات، تنشئ، نتيجة الخوف، شبكات ضغط خفية وقوية. من جهتها تتسامح الولايات المتحدة، بفعل اطمئنانها لقوتها، مع الأحياء المعزولة وشبكات الضغط. أما دول الخليج فترفض أي شكل من أشكال الاندماج. وخوفاً من التعبئة المجتمعية، تتحمّل الكثير من الدول الأفريقية، ظاهرياً، أنظمة الاستبداد العسكري، فيما تعاني في العمق من هيمنة شبكات المال أو التعدين أو الزراعة الغذائية التابعة للمستعمرين السابقين أو لمنافسيهم.
تتعاطى المجتمعات المصدّرة لموجات الهجرة بدورها بطرق مختلفة مع أشكال الاندماج. فبشكل عام، ومن دون إغفال العوامل الأخرى، لا سيما الاقتصادية منها، فإن المجتمعات المندمجة تصدّر عدداً من المهاجرين أقل بكثير مقارنةً بالمجتمعات المقسّمة إلى طوائف، أو الأقليات، أو التي ترى نفسها كذلك. ويمكن ملاحظة ذلك بسهولة من خلال مراقبة تدفقات الهجرة التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط على مدى القرن ونصف القرن الماضيين، من مصر من جهة، ولبنان وسوريا من جهة أخرى. وفي أوروبا، صدّرت فرنسا مثلاً عدداً أقل بكثير من المهاجرين مقارنةً ببريطانيا العظمى.
يعتبر لبنان مثالاً متطرفاً للمجتمع المنتظم ضمن مجموعات وطوائف؛ كما أنه بلد يشهد موجات هجرة كثيفة في الاتجاهين. وهاتان السمتان مترابطتان، حيث يؤدّي البعد الطائفي دوراً مهماً على كلا المستويين.
تدعم العلاقات العائلية والبنى الطائفية القوية في لبنان المستوى المرتفع لإنفاق الأسر على تعليم الأطفال في المدارس والجامعات الخاصة، التي تديرها في الغالب الطوائف الدينية، أو تهيمن عليها الأحزاب. ومنذ اندلاع الأزمة، لجأت هذه الأسر إلى شبكة علاقاتها في العالم لاستجلاب المساعدات المالية بهدف تعليم الشباب وتسليحهم بالشهادات واللغات الأجنبية، لتسهيل اندماجهم لاحقاً في دول الهجرة. واللافت هنا انفصال محتوى التعليم تماماً عن واقع البلاد، فالهدف هو إعداد الشباب للهجرة، ولا يتعلّق الأمر بتسليع التعليم فقط، بل أيضاً بتسليع الطلاب. وتسهّل الشبكات العائلية والطائفية التي تتشكل في إطار جمعيات ثقافية أو دينية أو حزبية أو مهنية عملية اندماج المهاجرين في الدول المضيفة، وتطوير حياتهم المهنية ووضعهم الاجتماعي، وهو ما يبرّر التمسّك بهذه الشبكات، سواء في بلدان الهجرة أو في لبنان نفسه.
يُنظر إلى المهاجرين في لبنان ويُعاملون وفق المنطق المجتمعي الطائفي الذي يحكم علاقات اللبنانيين بعضهم ببعض. ويتم تصنيفهم بحسب الجنسية، مع شيوع استخدام المفردات العامة المحدّدة أيضاً للجنس: سوري، فلسطيني، إثيوبية، سريلانكية، فلبينية، مصري، وقبلهم الأرمني والكردي وسواهم، حيث ترتبط صيغة المؤنت بالنشاط المنزلي الذي يمارسه الجزء الأكبر من مواطني ذلك البلد. ولا يظهر هنا أي هاجس متعلّق بالاندماج، ذلك أن فكرة المواطنة والاندماج موضع تساؤل حتى بالنسبة للبنانيين أنفسهم. وكذلك لا تثير معرفة الخصائص الديموغرافية والاجتماعية للمهاجرين، ولا ظروف عملهم وسكنهم، ولا حتى عددهم، أدنى اهتمام أو قلق أو عدائية. ولكن المشهد ينقلب تماماً عندما يُتصوَّر أن فئة من الأجانب، سواءً كان ذلك خاطئاً أم لا، تتشكّل ضمن جماعة يُتصوّر أنها تخلّ بمشهد العيش المشترك وتهدّد استقراره الوهمي؛ وكان هذا هو الحال تحديداً بالنسبة إلى الفلسطينيين في نهاية ستينيات القرن الماضي، مع ظهور المنظمات الفلسطينية، وحالياً، وإن بطريقة لا تزال ملتبسة، مع السوريين الموجودين بكثافة منذ العام 2012. ويخضع تجاهل هذه الحقائق، أو الوعي بها وتضخيمها، للمناورات السياسية التي تتفاقم وتزداد خطورةً عندما تتوتر التوازنات المجتمعية نتيجة التغيرات في السياق الإقليمي والدولي.
إن وصول المهاجرين متدنّي الكفاءة إلى دولٍ أكثر غنىً تشهد حالات ازدهار اقتصادي (كما حدث في أوروبا في خميسينيات وستينيات القرن الماضي، وفي مرحلة إعادة الإعمار في لبنان حتى العام 1996) يؤثر في البداية سلباً على دخل العمّال غير المهرة في تلك البلدان، ولو أنه يفيد الاقتصاد ككل، ويؤدّي إلى خروج مظاهرات معارضة للهجرة. أما وصول المهاجرين المهرة إلى دول أكثر فقراً فيُقابَل عادةً برفضهم من قِبل أصحاب الكفاءة المقيمين في تلك الدول، ويشكّل هذا الرفض أحد القوى المحفّزة للحركات القومية. وتشكّل ردّات الفعل الداخلية والجزئية هذه منطلَق سياسات تقييد وصول المهاجرين المتنامية في كل مكان تقريباً في العالم.
وبموازاة ذلك، أجريت مؤخراً دراسات عملية لتقييم التأثيرات الكلية للهجرة على بلدان المنشأ. وبيّنت إحدى هذه الدراسات2 أن «معظم البلدان التي تجتمع فيها مستويات منخفضة من رأس المال البشري ومعدّلات هجرة العمّال المهرة تتأثر إيجاباً بـ «نزيف الأدمغة». وفي المقابل، فإن لهذه الظاهرة آثاراً سلبية على نمو الدول التي يتجاوز فيها معدل هجرة الحاصلين على تعليم عالٍ 20% و/أو تزيد فيها نسبة السكان الحاصلين على تعليم عالٍ عن 5%. وتجدر الإشارة هنا إلى أن نسبة هجرة الحاصلين على تعليمٍ عالٍ من لبنان تصل إلى 50%، وأن نسبة السكان العاملين الحاصلين على تعليمٍ عالٍ ناهزت 28% قبل الأزمة السورية.3 وإذا ما استندنا إلى السلوكيات الملحوظة على أرض الواقع بين العامين 1997 و2009، فإن ما يقرب من نصف السكان اللبنانيين الذين تبلغ أعمارهم 15 عاماً سيكونون قد هاجروا قبل نهاية حياتهم العملية، مع تسجيل الذكور نسبةً أعلى من نسبة الإناث، وأكثر من ربع هؤلاء سيكونون قد هاجروا قبل عمر 32 عاماً (راجع/ي «المحصلة بالنسبة إلى اللبنانيين»). وفي دراسة أجريت في العام 2005 عن «مستقبل خريجي جامعة القديس يوسف»4 الحاصلين على شهاداتهم بين العامين 2000 و2004، تبيّن أنه، بعد أربع سنوات، وفي التخصّصات مجتمعةً، هاجر 29% من الخريجين (40% للذكور و22% للإناث). وعلى وجه التحديد، تصل النسبة الإجمالية للمهاجرين (من كلا الجنسين وللدفعات الخمس مجتمعةً، بعد ثلاث سنوات في المتوسط) إلى 65% بين المهندسين و50% بين الأطباء.
يتجاوز عدد البلدان المتأثرة سلباً عدد البلدان المتأثرة إيجاباً، علماً أن هذه الأخيرة تضم، كونها أكثر كثافة سكانية، أكثر من ثلاثة أرباع سكّان العالم (مع الصين والهند وإندونيسيا والبرازيل). ولا شك أن لحجم السوق المحلية دوراً في ذلك، ما يطرح مجدداً سؤال الحدود، وإنشائها، وإدارة شروط عبورها.
ما هي القنوات التي تقاس عبرها تأثيرات الهجرة؟
ترتبط الآثار الرئيسية للهجرة بحركة اليد العاملة وما يُسمّى «رأس المال البشري»، وإعادة توزيعه. وتشمل المكاسب المحققة (أو غير المحققة، أو الخسارات) على مستوى الإنتاجية. ومن الغريب أن هذه القناة الأساسية مهمّشة إلا في ما ندر، في مقابل الترويج للقنوات الثانوية.
تتعدّد قنوات التأثيرات الثانوية للهجرة، ويمكن تصنيفها إلى ست فئات هي: السياحة، والنقل، والاتصالات، والتجارة، ونقل التكنولوجيا، والتحويلات النقدية. وغالبيتها فاعل في الحالة اللبنانية. يشكل المهاجرون جزءاً كبيراً من تدفق السياحة والاصطياف والاتصالات، ويعزى إلى المغتربين اللبنانيين حصة لا يُستهان بها من الصادرات اللبنانية (من منتجات غذائية محددة).
ونصل إلى التحويلات النقدية التي يحلو للبعض تقديمها كمبررٍ كافٍ للهجرة، حيث تجدر الإشارة بدايةً إلى أن لبنان يشكل محطة للتحويلات النقدية الواردة والصادرة. وبمراجعة البيانات التي جمعها مصرف لبنان من المصارف منذ العام 2000، تبيّن أن متوسط التدفقات النقدية السنوية الواردة إلى لبنان سجّل 4.5 مليار دولار، فيما بلغت التدفقات النقدية الخارجة من لبنان نحو 3.5 مليار دولار، أي أن الرصيد النهائي إيجابي ويقارب المليار دولار تقريباً.
يتعين بعد ذلك فهم طبيعة هذه التحويلات من منظور مصدرها الأصلي. وهنا يصبح التمييز بين الهجرة المؤقتة والهجرة الدائمة وجيهاً، علماً أن ما يهم هنا هو رحلة المهاجر الفعلية، وليس نواياه الأصلية. ينفق المهاجر المؤقت (ويستثمر) في إطار التزاماته الأسرية، موزعاً إيراداته ومقيداً نفقاته في خلال هجرته المؤقتة بحيث تستفيد منها عائلته أو هو نفسه بعد عودته. أما المهاجر الدائم (أو الذي يصبح كذلك) فقد يضيّق على أسرته جرّاء التحويلات التي يرسلها إلى «عائلته» المتبقية في البلاد. وتجدر الإشارة هنا إلى أن التحويلات من المغتربين اللبنانيين مصدرها إلى حد كبير المهاجرون الدائمون، في حين أن التحويلات الصادرة من لبنان تأتّى بشكل أساسي من هجرة عابرة إلى لبنان، وذلك حتى اندلاع الأزمة السورية. ولا يمكن النظر إلى هذه التحويلات باعتبارها مورداً عادياً، بل الأحرى مقارنتها بالثروة الاجتماعية (وليس فقط بحصة الدخل العائدة إلى العامل نفسه) التي كان من المحتمل أن ينتجها المهاجرون في إطار الاقتصاد الوطني.
وإذا تفحّصنا هذه التحويلات من منظور استخدامها، فهي تشكّل حصةً من دخل الأسر المتلقية لها والتي تنفقها في تمويل «الاستثمارات العائلية»، وهي الإسكان والتعليم. والزعم بأن هذه التحويلات تخفّف حالات الفقر المدقع هو في الواقع غير صحيح، إذ نادراً ما يأتي المهاجرون من فئات السكان الأكثر فقراً.
وتبقى التأثيرات الطويلة الأمد المترتبة على هذه التحويلات أكثر تعقيداً مما تبدو عليه. فمن خلال زيادة الاستهلاك وتخفيف الصدمات الاقتصادية، تساهم هذه التحويلات في تحسين رفاهية الأسرة (وقد سمحت في خلال فترة الحرب للعديد من الأسر اللبنانية بالحفاظ على مستوى معيشي لم يكن ممكناً لولاها)، ولكنها تؤدّي في الوقت نفسه إلى تفاقم العجز الخارجي في السلع والخدمات، وتغيّر الأسعار النسبية بطريقة سلبية، ولا تشجّع الإنتاج، وبالتالي لا تساهم إلا قليلاً في الاستثمار والنمو.
وتشير تقديرات موجز البنك الدولي للهجرة والتنمية الصادر في أبريل/نيسان 2018، إلى أن قيمة التحويلات إلى البلدان الفقيرة بلغت 466 مليار دولار في العام 2017، أي خمسة أضعاف مستواها في العام 2000. وإذا ما أضيفت إليها التحويلات عبر القنوات غير الرسمية، فلا شك أن قيمتها ستتجاوز 500 مليار دولار (لنحو 258 مليون مهاجر ولاجئ). وتمثل هذه المبالغ أكثر من ثلاثة أضعاف حجم المساعدات التنموية الرسمية، وتتخطّى، باستثناء الصين، حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
وليس مستغرباً أن الدول المعنية بدأت منذ بضع سنوات، وإن بنجاح محدود، تهتم بتوجيه هذه التحويلات عبر قنوات تقلّل إلى أدنى حد ممكن من تكاليفها التشغيلية، لتحويلها نحو استخدامات أكثر إنتاجية من استخداماتها التلقائية.
ديناميكية ذاتية للهجرة في لبنان؟
يسجّل لبنان مستويات استثنائية من الهجرة، والتحويلات وتدفّقات رأس المال، والعجز الخارجي، والإنفاق على التعليم. وهي ظواهر غير منفصلة، بل مترابطة إلى حد بعيد.
فهل يصح الحديث هنا عن وجود ديناميكية ذاتية تقود بلداً، لبنان في حالتنا هذه، إلى الوقوع في فخ الهجرة المستمرة - ونتحدث هنا بالطبع عن ديناميكية اقتصادية - من دون الاستسلام لنظرية الجينات «الفينيقية»، ومن دون الرغبة قطعاً بالتقليل من العوامل السياسية والأمنية المؤثّرة في قرارات الهجرة؟ الجواب هو نعم.
ولنسلّط الضوء على بعض المفاصل الرئيسية لهذه الديناميكية:
تحل تحويلات المغتربين إلى حد كبير محل الإنتاج، وتنعكس إحصائياً بشكل سلبي على نمو الناتج المحلي الإجمالي.
وتؤدي التحويلات إلى تنشيط الاستهلاك المحلي، وزيادة العجز في التجارة الخارجية (في السلع والخدمات المتبادَلة)، وزيادة الأسعار المحلية (وخصوصاً أسعار السلع والخدمات غير المتبادَلة).
ينطبق ذلك بشكل خاص على الاقتصادات الصغيرة. وتنخفض القدرة التنافسية في القطاعات الأكثر احتمالاً لخلق فرص العمل، ولا سيّما للعمالة الماهرة، وتحقيق مكاسب في الإنتاجية. وبهذا المعنى، فإن لبنان مصاب بشكل خطير بـ«المرض الهولندي».
- يمكن مقارنة هاتين القناتين بما يحدث في البلدان المصدرة للمواد الخام.
- من بين القطاعات المنتجة للسلع غير المتبادَلة، يكتسب التعليم اهتماماً متزايداً، إذ يعزّز من إمكانية الوصول إلى أسواق العمل الخارجية. ويأتي الاستثمار في رأس المال البشري المعَدّ للتصدير ليحلّ محل الاستثمار في رأس المال المادي الإنتاجي.
- يسهّل وجود المهاجرين المستقرين في الشتات من الهجرة، إذ إنه يوفر للوافدين الجدد، إضافةً إلى العلاقات العائلية، شبكة من المساعدات والعلاقات المفيدة التي تحدّ بشكل كبير من تكاليف الهجرة ومخاطرها.
وفي الخلاصة، وبعد تجاوز عتبة معيّنة (يسهل الوصول إليها كلّما صغُر حجم البلد)، تصبح الهجرة، وخصوصاً هجرة الشباب المؤهلين، بُنيَوية، وتقوّض آثارها على الاقتصاد المحلي من الفرص والأجور الحقيقية (باعتبار قدرتها الشرائية)، في حين أن عروض التدريب والتأهيل وشبكة العلاقات تزيدان من جاذبية الهجرة والاستثمار في «رأس المال البشري» المعَدّ للتصدير.5
لبنان كحالةٍ متطرّفة: الهجرة المزدوجة، إعادة تشكيل الفضاء الإقليمي والأزمات
يمثل لبنان حالة متطرّفة عندما يتعلّق الأمر بالهجرة، التي تشهد منذ أكثر من قرن حركات كثيفة في الاتجاهين.
حركات «الهجرة» اللبنانية
مرت الهجرة اللبنانية بخمس مراحل، لكل منها طرائق محددة:
- أثرت الهجرة الجماعية بين العام 1880 والحرب العالمية الأولى، ووجهتها الرئيسية القارة الأميركية، على كثافة سكّان الريف الذين كانوا في طور التوسع ديموغرافاً في جبل لبنان. وأطلقت شرارتها الأزمة التي شهدها قطاع تربية دور القز وصناعة الحرير، وتفاقمت جرّاء الارتفاع الحاد في الأسعار المحلية نتيجة التحويلات التي أرسلها المهاجرون؛ وأدّى التفكّك الشرس في هرمية أعيان المقاطعجيين،6 وتعميم ملكية الأراضي، وتنقيد الاقتصاد، إلى فتح آفاق فرص الترقّي إلى مكانات اجتماعية جديدة، إذ بدا أن الهجرة، المتخيّلة هجرةً مؤقتة، تجعلها ممكنة.7
- بعد توقفها بسبب الحرب العالمية الأولى، التي شهد في خلالها الكيان الذي سيعرف لاحقاً بلبنان مجاعة مدمّرة، استمرت الهجرة بوتيرة بطيئة جداً حتى اندلاع الحرب الأهلية، بل شهدت موجة معكوسة في خلال ستينيات القرن العشرين.
- تزامنت الحرب الأهلية (1975-1990) مع الطفرة النفطية التي شهدتها دول الخليج. وأدّى اقتران الظاهرتين إلى إطالة أمد الحرب، واستئناف الهجرة أيضاً، إما فراراً من العنف، أو لاقتناص الفرص الاقتصادية وتحقيق المكانة عند العودة.
- تميز النظام الذي أعقب الحرب في خلال الثلاثين عاماً التي فصلت بين تفاهمات أواخر الثمانينيات وانهيار العام 2019، بإعادة توزيع زبائنية واسعة النطاق أدارها قادة الطوائف، وغذّاها الاستقطاب المنهجي لرؤوس الأموال. وأدّى ذلك إلى أزمة غير مسبوقة، بعد أن تسبّب في ارتفاع الأسعار المحلية (ظاهرة المرض الهولندي) التي أدّت من ناحية إلى تغذية الهجرة المستمرة، وهي في حد ذاتها مصدر لرأس المال، واستخدام العمالة المهاجرة من البلدان الفقيرة التي اجتذبها خلل الأسعار.
- تسبّب انفجار الفقاعة المالية في العام 2019 في انهيار المداخيل وقيمة الأصول وتشظي المدخرات الفردية والجماعية. وقد أدّى ذلك إلى هجرة جماعية لكل من استطاع إليها سبيلاً، شملت بطبيعة الحال الأجانب العاملين في لبنان، وأيضاً الشباب اللبناني تحديداً، وجعلت المجتمع بأكمله يعيش في نمط التكيّف، حيث انتظم العجز الخارجي من خلال تقليل الاستهلاك والواردات وارتفاع التحويلات إلى العائلات التي بقيت في لبنان.
حدثت هجرة اللبنانيين على شكل موجات كبيرة، امتدت كلٌّ منها على مدى عقود، وترافقت، من دون قصد، مع إعادة تشكيل بنية المجتمع في العمق.
«المهاجرون» إلى لبنان
حدثت الهجرة إلى لبنان على نحو مفاجئ بشكل أربع موجات، نتجت كل منها عن حوادث، عنيفة في معظمها، أعادت تشكيل الفضاء الإقليمي:
- ساهم الانفتاح على أوروبا في القرن التاسع عشر تجارياً واقتصادياً وثقافياً وسياسياً في نشوء بيروت كمركز إقليمي، وتضاعف عدد سكان المدينة 3 أو 4 مرات في غضون أربعين عاماً.
- أدّى تفكّك الإمبراطورية العثمانية ونشوء تركيا القومية بالقوة إلى تأسيس دول المنطقة، ومنها لبنان، وتسبّب أيضاً في نزوح أعداد كبيرة من السكان، منهم أرمن كيليكيا وسريان وأكراد الجزيرة الذين حلّوا مهاجرين في ما بات يعرف في ما بعد بلبنان.
- الطرد العنيف للفلسطينيين على يد الميليشيات الصهيونية في العامين 1948 و1949 في أعقاب انسحاب الجيش البريطاني، ووصول اللاجئين إلى لبنان في هجرة عدّتها الغالبية مؤقتة.
- الدخول الكثيف منذ العام 2012 للسوريين الفارين من الحرب الأهلية الطاحنة، وظنّها اللبنانيون هجرة عابرة، سواء من كان منهم مقتنعاً بانتصار الأسد الوشيك والمؤكّد، أو من ظنّ أن الإطاحة به كانت على قاب قوسين أو أدنى.
وفي وجه هذه الموجات الأربع التي قادت مئات الآلاف من المهاجرين إلى لبنان بشكل دائم، بحكم الأمر الواقع، إذ استقرّوا مع عائلاتهم (مواطنين كاملي الحقوق للموجتين الأولى والثانية، ولاجئين في الثالثة، وفي وضع ملتبس لمهاجري الموجة الرابعة)، ظهرت موجة خامسة من المهاجرين المؤقتين، الذين أتوا من دون عائلاتهم، منذ سبعينيات القرن الماضي وحتى الانهيار المالي في العام 2019، نتيجةً للنظام المصاب بـ «المرض الهولندي» الذي ساد في تلك المرحلة، من بينهم سوريون عادوا واصطحبوا عائلاتهم، ومواطنون من جنسيات أخرى غادر معظمهم البلاد مع اندلاع الأزمة في العام 2019، بعد زوال مبرّرات قدومهم إلى لبنان.
تأثير الهجرة الوافدة والخارجة مجتمعتين: إعادة تشكيل المشهد الاقتصادي والمكاني والاجتماعي
آليات الموجات الأحدث للهجرة اللبنانية، منذ الحرب الأهلية في العام 1975 وحتى يومنا هذا، تختلف جوهرياً عن آليات الهجرة القديمة في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. فقد حدثت الهجرة القديمة في سياق مجتمع لم يبدأ بعد تحوّله الديموغرافي، وتعلّقت بشكل أساسي بسكان الريف غير المهَرة. أما الهجرة الحالية، فتؤثر على مجتمع استكمل بالفعل تحوّله الديموغرافي، وتطال بشكل رئيسي الكوادر المؤهلة.
شهدت البلاد منذ مطلع السبعينيات، حركتين كبيرتين وطويلتين للهجرة من لبنان وإليه، متزامنتين أو شبه متزامنتين، في حالة نادرة الحدوث في العالم. وأدّت الأزمة السورية إلى تحويل الهجرة المؤقتة إلى دائمة. تطرح هذه الظاهرة المزدوجة تحدّيات اجتماعية وسياسية هائلة، هي في الواقع النتيجة المتوقّعة لإبقاء نظام اجتماعي واقتصادي قائم على التصدير المنهجي لنصف كل جيل من الأجيال الجديدة، في مقابل جذب رؤوس الأموال واستهلاكها محلياً، ما أدّى إلى زيادة الأسعار وغذّى بالتالي المزيد من الهجرة. ويشبه هذا النظام الأنظمة الاجتماعية والاقتصادية القائمة على تصدير الموارد الطبيعية واستهلاك ثمنها، ولكن ما يُستهلك، في الحالة اللبنانية، هو المجتمع نفسه وليست الموارد غير المتجدّدة. هذا النظام الذي وُلد، من دون تخطيط في البداية، نتيجة تزامن الحرب الأهلية والطفرة النفطية، ما لبث أن تمأسَس وتكرس من خلال التفاهمات التي عقدها أمراء الحرب و«مليارديرات» النفط، وقد كتبت الأزمة السورية ومن ثم الانهيار المالي نهايته؛ لكن الأضرار وقعت، في غياب الأداة القادرة على إدارتها ومعالجتها، أي الدولة المدركة لحقائق واقعها السكاني.
وعلى مستوى قد يبدو للوهلة الأولى غير ذي صلة، تمثل الحالة اللبنانية أيضاً نموذجاً يطرح الأسئلة حول إطار الدولة، وصلاحياتها ورغبتها في إدارة «حيّزها الجغرافي»، وليس فقط «سكانها». وتتبيّن لنا، من خلال الهجرة الأخيرة، ظاهرة تكتسب حجماً ملحوظاً، وهي انعكاس على المستوى الإقليمي لإعادة تنظيم توزيع الوظائف الاقتصادية عالمياً لصالح دول الخليج الصغيرة، وتحديداً دولة الإمارات العربية المتحدة. فبالإضافة إلى الهجرة الدائمة إلى الوجهات المعتادة (كندا والولايات المتحدة وأوروبا وأستراليا، وأيضاً بعض دول أفريقيا وأميركا اللاتينية) والهجرة الطويلة إلى المملكة العربية السعودية أو دول نفطية أخرى، تستقطب الإمارات العربية المتحدة عدداً متزايداً من الكفاءات اللبنانية الشابة التي تعود إلى لبنان شهرياً، وأحياناً أسبوعياً، على طريقة العمّال السوريين في لبنان. ومع خسارة أوروبا لهيمنتها على مشهد الإنتاج الصناعي لصالح الصين وآسيا، فقد أخلت الواجهة المتوسطية للمنطقة السبيل لواجهتها على الخليج.
تشهد المنطقة بأسرها عملية إعادة تشكيل مؤلمة، تم خلالها اجتياح «الهلال الخصيب» بأكمله. وتعيد هذه العملية إلى الذاكرة ما حدث في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، حين سادت الهيمنة الأوروبية بلا منازع، ما أدّى إلى حركتين متزامنتين ولكن منفصلتين في الظاهر: صعود نجم بيروت كميناء رئيس على الواجهة المتوسطية للمنطقة، والهجرة الهائلة من جبل لبنان إلى القارة الأميركية، متجاهلة تماماً بيروت القريبة. ولكن حينها، لم تكن هناك دولة لبنانية، وكانت بيروت مدينة عثمانية، رُقّيت إلى مقرّ للولاية، وكان جبل لبنان سنجقاً عثمانياً له نظام خاص.
2- تقديرات عدد السكان في لبنان وقياس الهجرة
نظراً لكثافة تدفّق الهجرة، أكانت هجرة اللبنانيين إلى الخارج أو الأجانب إلى لبنان، وفي غياب أي تعداد أو حتى مسوحات موثوقة ومتكرّرة ودورية، لا يمكن تقدير حجم السكان الحالي إلا من خلال قياس تدفّقات الهجرة.
النهج القائم على تدفّقات الهجرة
من الطبيعي أن يستند تقييم حركات الهجرة، باعتبارها عبوراً للحدود، إلى تسجيل التدفّقات الخارجة والوافدة، وإلى تحليل الخصائص المؤسسية (الجنسية)، والديموغرافية، والاجتماعية، والاقتصادية للمهاجرين.
بقدر ما يبدو ذلك غريباً، إلا أن هذا التحليل متعذّر في لبنان. وعليه، سنكتفي بعرض ما تضعه الإحصاءات المتوفرة في متناولنا، لندعمها لاحقاً بالنهج القائم على المخزون السكاني.
إحصاءات الأمن العام
تصدر المديرية العامة للأمن العام نشرة شهرية لأرقام المغادرين والداخلين إلى الأراضي اللبنانية، مصنّفةً منذ العام 1996 بحسب الجنسية، وقبل العام 1996 بحسب مجموعة الجنسيات: لبنان، الدول العربية، آسيا، الأميركتين، أوروبا، أفريقيا، أستراليا، وغير محدّد. تتبنّى إدارة الإحصاء المركزي هذه البيانات التي تتيح لنا استخلاص صافي رصيد عدد المهاجرين الخارجين والوافدين، في غياب أي معلومات ديموغرافية أخرى (عن العمر والجنس وما إلى ذلك).
لكن الأمور ليست بهذه البساطة. إذ نلاحظ بادئ ذي بدء أمراً غريباً في العام 2013. فأعداد المغادرين الوافدين من جميع الفئات متساوية، ويعود ذلك على الأرجح لخطأ في النشرة. ولكن الأخطر منه هو الانحرافات المرصودة في حركة اللبنانيين والسوريين.
بالتركيز على أرقام اللبنانيين، وترك الأعوام «الشاذة» جانباً (2006 باعتبارها سنة حرب، و2013 للسبب الآنف ذكره)، سنلاحظ رصيد هجرة سالباً باستمرار، مرتفعاً من نحو 50 ألف مهاجر سنوياً في العام 1992 إلى ما يقرب من 200 ألف سنوياً بين العامين 1997 و2005، لينخفض إلى 30 ألفاً تقريباً بين العامين 2014 و2020. وهذه الأرقام غير واقعية، إذ تعني أن ما يقرب من 3 ملايين لبناني (صافي) قد هاجروا في خلال تلك الفترة، وهو ما يشكّل ثلاثة أرباع اللبنانيين المقيمين!
بالانتقال إلى أرقام السوريين، سوف نرصد ظاهرة معاكسة. إذ نلاحظ رصيد هجرة موجباً مرتفعاً حتى العام 2013، مع دخول أكثر من 8 ملايين سوري إلى لبنان، أي ما يقرب من 40% من السكان السوريين وأكثر من ضعف عدد اللبنانيين المقيمين، بسبب الحرب في سوريا. يتحوّل الرصيد إلى سالب بعد العام 2014. والتفسير الواضح الذي يتبادر إلى الذهن هو التوقّف شبه الكامل لحركة الطيران من دمشق الذي دفع بالكثير من السوريين للقدوم إلى لبنان من أجل السفر من مطار بيروت. وكان من المفترض أن تكون أعداد المغادرين عبر المطار مساويةً لأعداد الوافدين إلى لبنان برّاً. رُصدت ظاهرة مماثلة بين العامين 2004 و2006، إثر تزايد الضغوط الدولية على سوريا بعد قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559، وما أعقبه من سلسلة اغتيالات شهدها لبنان، وخروج الجيش السوري منه.8 ويمكن لهذه الأحداث، وما رافقها من عدم تسجيل كل الخارجين عبر الحدود البرّية، أن يفسّر، ولو جزئياً، ارتفاع صافي أعداد السوريين الوافدين إلى لبنان.
قد نميل إلى تفسير الانحرافات الإحصائية في حالة اللبنانيين بالعدد الكبير من المسافرين حاملي الجنسية المزدوجة. صحيح أن بوسع هؤلاء دخول البلاد والخروج منها عبر المطار إما باستخدام جواز سفرهم الأجنبي وهويتهم اللبنانية أو باستخدام جوازهم اللبناني الذي يحمل تأشيرة البلد المقصود، إلا أن موظفي الأمن العام يتحقّقون من أن الوثائق المقدّمة للدخول وتحمل ختم الأمن العام هي نفسها المستخدمة للمغادرة. أما على الحدود مع سوريا، فيكفي تقديم بطاقة الهوية ولا يتم وضع أي ختم. وفي تلك الحالة، لن يتم تسجيل دخول كل اللبنانيين القادمين من سوريا.
إن الانقطاعات المرصودة في إحصاءات الأمن العام، والتصحيحات اللاحقة، وعمليات إعادة التصنيف التي جرت في تواريخ عدة وأثّرت بشكل رئيسي على أرقام حركات اللبنانيين والسوريين، تشير إلى أن المشكلة هي غالباً على مستوى الحدود البرّية: إذ لا يتم تسجيل كل السوريين واللبنانين لدى عودتهم إلى بلدهم.
إحصاءات المطار
في مواجهة هذه التساؤلات، كان من الطبيعي أن نلجأ إلى المصادر الأخرى المتاحة. تتوفر سلسلة شهرية ثانية عن مجموع المغادرين عبر مطار بيروت، الذي تمر منه غالبية المسافرين اللبنانيين.9 ولكن هذه السلسلة لا تفصّل الجنسيات.
ومع أن 1) أعداد اللبنانيين الذين يذهبون إلى سوريا أو عبرها إلى بلدان أخرى هي على الأرجح قريبة جداً من أرقام القادمين منها، و2) حركة المسافرين عبر البحر محدودة جدّاً، و3) رصيد تدفق السوريين عبر المطار منخفض على الأرجح، إذ لم يكن أي سبب يدفعهم، في الأحوال العادية، لاستخدام مطار بيروت بشكل هائل في اتجاه واحد، و4) أنه يمكن استنتاج صافي تدفقات غير اللبنانيين وغير السوريين من إحصاءات الأمن العام، ولو أنها محدودة، تبدو هذه الأرقام مفيدة لتقييم تدفّقات هجرة اللبنانيين.
لكن تنحرف هذه السلسلة الإحصائية بدءاً من العام 2006:
- الحرب التي شهدتها تلك السنة، وأدّت إلى إغلاق المطار والخروج الاضطراري للعديد من اللبنانيين، براً عبر سوريا، ومن خلال عمليات الإجلاء البحري التي قامت بها دول أجنبية عدّة لسحب رعاياها، أدّت إلى هجرة صافية لنحو 180 ألف شخص. سجِّلت بيانات المغادرين برّاً، ولكن المستغرَب أن إحصاءات الأمن العام لم تأخذ في الحسبان عمليات «الإجلاء»، علماً أن «الأجانب الذين تم إجلاؤهم» لم يكونوا في غالبيتهم سوى لبنانيين يحملون جنسيات ثانية. اللافت للانتباه أيضاً في العام 2006 هو الانخفاض الهائل في إجمالي تدفّقات اللبنانيين (سواء المغادرين أو الوافدين). ويمكن تفسير ذلك بإغلاق الحدود لمدة شهرين تقريباً بسبب الحرب، وأيضاً بالانخفاض الهائل في حركة الأشخاص بين لبنان وسوريا بعد تدهور العلاقات بين البلدين.
- أدّت الأزمة والحرب الأهلية في سوريا بين العامين 2012 و2016 إلى إغلاق شبه كامل للمطارات السورية. واضطر الكثير من المواطنين السوريين لاستخدام مطار بيروت للفرار إلى الخارج.
- أدّت الأزمة المالية بدءاً من العام 2019 إلى مغادرة العديد من اللبنانيين وأيضاً الأجانب، وخصوصاً العمّال منهم. علاوة على ذلك، تسبّبت جائحة كوفيد-19 في اضطراب حركة الطيران، ما قلّل أكثر من موثوقية الإحصاءات.
وإذا ما أغفلنا الفترة اللاحقة لعام 2006، فإن الرصيد التراكمي لحركات المسافرين عبر المطار بين العامين 1992 و2005 سالب، ويصل إلى 128 ألف شخص (في حين أن أرقام الأمن العام تشير إلى صافي أعداد مهاجرين بلغ 2,250,000)، بمتوسط رصيد يبدو معقولاً، ويبلغ 9,000 شخص سنوياً، ويمثل رصيد اللبنانيين المغادرين والعمّال الأجانب الوافدين. لكن الفجوة مع أرقام الأمن العام صادمة.
تبقى نقطة أخيرة تستحق التوضيح: الرصيد الاستثنائي الموجب لغير اللبنانيين الذين دخلوا في العام 2005، ويبلغ نحو 100 ألف شخص، معظمهم من مواطني الدول العربية، مقارنة بمتوسط رصيد سنوي، موجب أو سالب، لا يتجاوز بضعة آلاف!
وإذا ما نحّينا جانباً الانحرافات المُسجّلة في العامين 2005 و2006، فإن التدفقات المسجّلة عبر مطار بيروت تعطي انطباعاً بأن أحداً لم يهاجر، في حين يشير حساب التدفّقات عبر الحدود مجتمعةً إلى هجرة ما بين 150 ألف و200 ألف شخص سنوياً، وهو رقم كبير جداً بحيث يصعب تصديقه. وبالتالي فإن التحليل على أساس التدفّقات يفضي إلى طريق مسدود، في ظل الانحرافات التي تشوب إحصاءات الإدارات اللبنانية.
النهج القائم على المخزون السكاني
لا بد من الاعتراف بأن النهج القائم على التدفّقات يثير الأسئلة ويستدعي البحث والتقصي أكثر ممّا يفيد في تقييم تدفّقات الهجرة.
ولذا كان من الضروري اللجوء إلى طريقة بديلة لاستنتاج تدفّقات الهجرة من خلال مقارنة المخزون السكّاني.
ولكن أي مخزون سكاني، وأي تدفّقات؟ فإن بدا مصطلح التدفقات بسيطاً نسبياً، ومرتبطاً ارتباطاً مباشراً بظاهرة الهجرة، فإن مصطلح المخزون أبعد ما يكون عن ذلك.
الجهل المتعمّد
لم يشهد لبنان أي مسح سكاني. ويكمن وراء هذه الرغبة في عدم المعرفة منطقٌ طائفي وعشائري في إدارة الجهل والحفاظ عليه. يحلو للبنانيين التباهي بأن عدد المهاجرين اللبنانيين يقدّر بالملايين، موزَّعين في أنحاء المعمورة، أو في هذا البلد أو ذاك (أكثر من 12 مليوناً في البرازيل وحدها!). ويُبدون اهتماماً بـ«مخزون المهاجرين» أكبر من اكتراثهم بـ«مخزون المقيمين». وقد شكل هذا الهوس بإحصاء المهاجرين أيضاً الذريعة الرئيسة لمنع إجراء التعداد السكاني منذ العام 1932. والتعداد الوحيد الذي أجري في ذلك العام،10 بالإضافة إلى التعداد الموجز لعام 1920، هما موضوع نقاشات حامية بشأن مسألة إحصاء «المغتربين». وقد نص قانون الانتخابات لعام 2017 أخيراً على مشاركة المغتربين اللبنانيين، أو «اللبنانيين المقيمين في الخارج» في التصويت، ولا تزال مسألة «استرداد» المهاجرين (وأحفادهم) للجنسية اللبنانية، فضلاً عن مسألة الطعن في مراسيم التجنيس، ولا سيما مرسوم العام 1994، تثير التوترات السياسية حتى اليوم.
وراء كل هذه الإشكاليات دوافع حقيقية واضحة لا تتغيّر، وهي التمثيل السياسي للطوائف المختلفة. ويعود تاريخ هذا الهاجس، الأقرب إلى الهوس، إلى نظام المتصرفية، الذي نشأ عقب اتفاقيات دولية وضعت حدّاً للمواجهات والمجازر الطائفية التي وقعت بين العامين 1840 و1861. وقد نص «نظام المتصرفية الأساسي» على أن يساعد المتصرف، أي المفوَّض العثماني، وهو مسيحي غير لبناني، مجلسٌ إداري له دور استشاري يتألف من 12 عضواً موزّعين حسب الطوائف. نصّت المادة 10 من نظام المتصرفية لسنة 1864 على أن «يتم انتخاب أعضاء المجلس الإداري في المناطق من قبل شيوخ (وجهاء) القرى الذين يختارهم سكان القرية». أما المادة 16، فنصت على «إجراء التعداد السكاني في أقرب وقت ممكن في كل منطقة وكل طائفة، وعلى مسح وتسجيل جميع الأراضي المزروعة».
أرسى نظام المتصرفية مبدأ الانتخابات بشكل رسمي، وفرضها على مجتمع طبقي ومجزأ يقع على أطراف إمبراطوريات شاسعة، وبعيد عن ممارسة مسؤوليات السلطة السياسية. ومنذ ذلك الحين، لم يتوقف هذا المجتمع عن تطوير ومأسسة هذه التجربة التي مهّدت لسيطرة نخَبه من خلال الطائفية، مطوّراً طرائقه وخطابه التبريري (عن التعايش والتوافقية)، ومعيداً تفسير الصيغ الشكلية للدولة التي وجد نفسه فيها، كما لو بالصدفة، وفقاً لمنطقه الخاص، وحتى لو عنى ذلك عرقلة عمل الأدوات الأساسية لعمل الدولة (التعداد السكاني، والإقامة، والضرائب، وما إلى ذلك).
تصف وثيقتان فرنسيتان، يفصل بينهما قرن كامل، المشهد نفسه: مقال أوغستين برنار بعنوان «سكان سوريا وفلسطين وفقاً لآخر التعدادات السكانية»، المنشور في مجلة «حوليات الجغرافيا» في العام 1924، والبحوث الأخيرة لتيبو جولان (بين العامين 2009 و2021)، ولا سيما دراسته التي تحمل عنوان «الدولة اللبنانية والشتات: رهانات طائفية». ولا ينبغي لهذا الجمود وهذه الحجج المكرّرة أن تُعميَ عن التغيرات الديموغرافية الجذرية التي حدثت في خلال تلك الفترة: الهجرة الكبرى في الفترة الممتدّة بين العامين 1880 و1914 في أعقاب أزمة صناعة الحرير التي ترافقت مع تطوّر مدينة بيروت على حساب مدن أخرى في المنطقة، والمجاعة بين العامين 1915 و1918، ووصول اللاجئين العرب والسريان وخصوصاً الأرمن من كيليكيا وسهول حلب في العام 1920، ثم وصول اللاجئين الفلسطينيين بعد طردهم من بلادهم في العام 1948، وموجة الهجرة المرتبطة بالحرب الأهلية (1975-1990)، والهجرة المستمرة بعد الحرب، وصولاً إلى تدفق اللاجئين السوريين الفارين من الحرب الأهلية في بلادهم (2012-2015).
لا تعكس هذه الحركات الكثيفة والمتكرّرة لامبالاةً برحيل المغادرين أو ترحيباً إنسانياً بقدوم الوافدين واستقرارهم، بل هي انعكاس لمنطق الانتظام السياسي للمجتمع. فمنطق الجماعات هو منطق شبكات قبليةٍ منضوية تحت مظلة «هوية» أساسية تنظر إلى الأرض باعتبارها ملاذات رمزية، ويقع مفهوم ما يسمى «الشعب» خارج تصوّرها. وهذا ما يصنع قوّتها ويفسّر بقاءها وقدرتها الشديدة على التكيّف. ويُنظر إلى الهجرة وفق هذا المنطق المجتمعي بوصفها فعلاً من أفعال الطبيعة، ولا تشكّل تحدياً إلا من منظور شكلية الدولة، التي تظل مجرد واجهة. وبالتالي، فإن التعدادات من وجهة نظر هذا المنطق هي أحداث مفروضة من الخارج ينبغي تجنّبها تماماً.
في كل مرة تفرض الحقائق السكانية نفسها على اللعبة السياسية مهدّدةً بالإخلال بنظام المجموعات، سواء بسبب التعدادات التي فرضها العثمانيون أو الفرنسيون أو حتى الأمم المتحدة في ما يتعلق باللاجئين الفلسطينيين أو السوريين، أو حتى المسوحات الإحصائية، أو مؤخراً على خلفية الانتخابات والنقاشات الدائرة بشأن القوانين الانتخابية، نرى الذرائع «الديموغرافية» تطل برأسها مجدداً مستدعيةً المجموعات السكانية الطائفية التي لن يسع التعداد السكاني أو الانتخابات أخذها في الحسبان. والهدف واضح، وهو منع إجراء التعدادات السكانية، أو إبطال نتائجها في حال حصلت، أو التحكّم مسبقاً بنتائج القوانين والعمليات الانتخابية.
وسواء تعلّق الأمر بحق الحصول على الجنسية اللبنانية، المنصوص عليه في اتفاقيات لوزان في العام 1924، و«استرداد» المغتربين، أو بالأحرى أحفادهم من الجيل الرابع أو الخامس، لـ«جنسيتهم»، أو تصويت المغتربين، أو اقتراحات اللامركزية الإدارية والمالية من دون النظر إلى مكان الإقامة، وغير ذلك، فكلها فصول تعيد ترسيخ الهواجس نفسها.
البيانات المتوفرة
ظهرت مع ذلك بعض الإحصاءات التي أفلتت، لحسن الحظ، من هذه الحلقة، وتعود إلى العهد الشهابي. تأسّست المديرية العامة للإحصاء في منتصف الستينيات، وأجرت «مسح القوى العاملة في لبنان لعام 1970». أوقفت الحرب نشاط هذه المديرية، ولم يُستأنف إلا في العام 1995 تحت مسمى إدارة الإحصاء المركزي، وبموارد محدودة. عمدت الحكومات المتعاقبة مراراً إلى قطع التمويل عنها لمنع نشر مؤشّرات معيّنة. ومع ذلك، أجريت أربعة مسوحات على أساس تعداد المباني والمساكن، في غياب أي تعداد للسكان. وبالتالي، يبقى أثرها محدوداً في تقدير «المخزون السكاني». ولكنها كافية مع ذلك لمعرفة التوزيع العمري للسكان.
غني عن القول إن عملية مقارنة التدفقات والمخزون السكاني ليست حسابية عندما يتعلّق بالهجرة، وأن علينا التمييز بين التحوّلات الديموغرافية للمهاجرين وظاهرة الهجرة نفسها: فالزواج (من مهاجرين أو غيرهم)، والولادات والوفيات، هي جزء من حياة المجتمعات التي يستقرون فيها، كمواطنين لا كمستوطنين، حيث تتجه صلاتهم مع الوطن الأصلي إلى التلاشي تدريجياً بمرور الوقت. ولا يتعلق الأمر هنا بحساب الأعداد الافتراضية لأحفاد المهاجرين اللبنانيين، بل بفهم ظاهرة الهجرة اللبنانية بحد ذاتها.
وهنا أيضاً، علينا التمييز بين نهجين لتحديد تدفّق الهجرة: دراسة مخزون المهاجرين في خلال فترة زمنية معينة، والتحليل المقارن لمخزون المقيمين بين تاريخين محدّدين.
أما النهج الأول فتبنّته شوهيغ كاسباريان في دراسة بعنوان «دخول الشباب اللبناني في الحياة العملية والهجرة» التي نشرتها جامعة القديس يوسف في العام 2003، وقامت فيها بسؤال الأسر المقيمة عن أفرادها أو آبائها الذين هاجروا بين العامين 1975 و2000. ولا تسمح هذه الطريقة بطبيعة الحال بإحصاء المهاجرين الذين لم تعد لهم عائلة مقيمة في لبنان، وتوصّلت، على الرغم من هذا القصور، إلى تقدير عدد المهاجرين بنحو 600 ألف شخص، نصفهم غادروا في خلال الحرب التي استمرّت 15 عاماً، ما يعني أيضاً أن متوسّط تدفّق الهجرة في فترة ما بعد الحرب أكبر مما كان عليه خلالها، وتسارع على ما يبدو بعد العام 1996، وأن معدل الهجرة السنوية بلغ في المحصلة نحو 30 ألف شخص على الأقل.
نعتمد في هذه الدراسة النهج الثاني، ويتمثل في استنتاج تدفق صافي الهجرة من خلال المقارنة بين هرمي أعمار المقيمين اللبنانيين في تاريخين مختلفين. والفكرة بسيطة: ماذا يمكن أن يحدث لجيل محدّد (أشخاص ولدوا في خلال الفترة نفسها) من المقيمين اللبنانيين في خلال تلك المسافة الزمنية؟ الاحتمالات محدودة: فإذا استثنينا الفئات العمرية الأصغر سناً في نهاية الفترة، سينقص عدد الجيل إما بسبب الوفيات أو بسبب الهجرة، وسيزيد إما بفعل عودة المهاجرين أو بسبب التجنيس.
يمكن تقدير عدد الوفيات من خلال الجداول التي يعتمدها خبراء الديمغرافيا السكانية وشركات التأمين على أعداد السكان اللبنانيين، وتكون إمكانيات الخطأ محدودة جداً في ما يتعلق بالأجيال الشابة التي تعنينا هنا تحديداً. كما يتم استخدام جداول الخصوبة (ولا سيما تلك التي نشرتها الأمم المتحدة) وتطبيقها ومقارنة النتائج بأعداد الأجيال الأصغر سناً. وبما أن هدفنا لا ينحصر بتقدير التدفقات السابقة بل يتخطاها إلى رسم التوقّعات، فإن تغيّر معدلات الخصوبة يشكل معياراً مهماً. وسنعود إلى هذه النقطة في وقتها.
لم نأخذ عمليات التجنيس في الحسبان. وهي نوعان: التجنيس الناتج عن زواج اللبنانيين من أجنبيات، وتجنيس المجموعات بموجب مراسيم. فالأولى لا تزال قليلة، ولا تؤثر كثيراً على الاتجاهات الديموغرافية وتدفقات الهجرة اللبنانية، علماً أن إغفالها قد يؤدي إلى التقليل ولو بشكل طفيف من واقع تدفقات الهجرة. أما عمليات تجنيس المجموعات، بما فيها الموجة الأكبر التي حصلت في العام 1994، فقد تمت «لحسن الحظ» قبل المسوحات التي سنستند إليها في دراستنا.
ولو أننا كنا نبحث عن تقدير أعداد المهاجرين، لكان الأمر مختلفاً تماماً، ذلك أن الزيجات، على مدى أجيال عدة، من نساء غير منحدرات من أصل لبناني، أو زواج المنحدرات من أصل لبناني بأجانب، قد زاد بالطبع من أعداد المنحدرين من أصل لبناني، شريطة عدم حصر الجنسية بالنسب إلى الأب وحده من دون الأم. ولكن هذه المسألة بالذات تلقى معارضة شديدة في لبنان نفسه، إذ ستؤدي تدريجياً، بحسب من يعارضونها، إلى تجنيس الأطفال الفلسطينيين وغيرهم المولودين لأمهات لبنانيات بسبب الزيجات المختلطة، ولو أنها لا تزال معدودة.11
صورة عن المشهد - اللبنانيون
بين أيدينا سلسلتان من المسوحات، بالإضافة إلى «مسح القوى العاملة في لبنان» الذي أجرته المديرية العامة للإحصاء في العام 1970، وهي:
- أربعة مسوحات قامت بها إدارة الإحصاء المركزي:
- مسح الأحوال المعيشية للأسر بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، من شباط/فبراير إلى كانون الأول/ ديسمبر 2004.
- مسح الأحوال المعيشية بالتعاون مع منظمة العمل الدولية وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، من كانون الثاني/يناير إلى شباط/ فبراير 2007.
- مسح عنقودي متعدّد المؤشرات بالتعاون مع اليونيسف، من آذار/مارس إلى كانون الأول/ديسمبر 2009.
- مسح القوى العاملة والأحوال المعيشية للأسر بالتعاون مع منظمة العمل الدولية، من نيسان/أبريل 2018 إلى نيسان/أبريل 2019.
- ومسحان أجرتهما شوهيغ كاسباريان في جامعة القديس يوسف، وشملا المقيمين اللبنانيين فقط:
- «دخول الشباب اللبناني في الحياة العملية والهجرة»، من تشرين الأول/أكتوبر إلى كانون الأول/ديسمبر 2001.
- «هجرة الشباب اللبناني ومشاريعهم المستقبلية»، من تشرين الأول/أكتوبر إلى كانون الأول/ديسمبر 2007.
كانت كاسباريان، أكثر من غيرها، مدركةً لخطورة الهجرة المستمرة والجماعية للّبنانيين، وخصوصاً الشباب. وقادت سلسلة من المشاريع التي سعت لتقييم مدى شيوع الظاهرة، سواء على مستوى السكان ككل، أو على مستوى الخريجين الشباب تحديداً، وفهم أسبابها وآثارها.
ولتحديد أهرام أعمار المقيمين اللبنانيين، أخذنا في الاعتبار بالدرجة الأولى نتائج مسوحات إدارة الإحصاء المركزي لأنها تغطي فترة أطول، خصوصاً أن آخرها أجري عشية الانهيار الاقتصادي 2018-2019.
وخلافاً لتلك التي جرت تحت إشراف كاسباريان، تشمل مسوحات إدارة الإحصاء المركزي جميع السكان. وقد توصّلنا إلى تحديد أهرام أعمار المقيمين اللبنانيين فقط، وكان ذلك ضرورياً نظراً لسوء تمثيل غير اللبنانيين في هذه المسوحات التي استندت إلى تعداد المساكن التي تعَدّ رئيسية، واستُبعِدت المخيمات الفلسطينية، وأُسقط العمال الأجانب المقيمون في مواقع البناء أو في المصانع، وكذلك العمّال في الخدمة المنزلية (أو بالأحرى العاملات في الخدمة المنزلية) من المسح.
وتكمن احتمالات الخطر الرئيسة في الانحرافات المرتبطة بأسس الاستطلاعات المتاحة (في غياب التعداد) وبالتالي في تقدير الأعداد. ونشير هنا إلى ثلاث ملاحظات:
- لتقييم ظاهرة الهجرة، ما يهم في المقام الأول هو معدل الهجرة، بشكل عام، وبحسب العمر، والجنس. فما نبحث عنه هو النسب المئوية وليس الأعداد؛
- ما يهم هو معدل تغير إجمالي عدد السكان بين تاريخين، وليس مجموع عدد السكان.
- يمكن استخلاص معلومات مهمة، حتى من دون معرفة أعداد السكان أو معدل تغيّرهم.
تفادى مسح إدارة الإحصاء المركزي في شباط/فبراير 2007 وآب/أغسطس 2009، أيّ تقدير لعدد السكان، سواء كانوا لبنانيين أو أجانب. وكان علينا الاكتفاء بالاستيفاء الخطي. تتضمن تقديرات مسحَيْ كاسباريان (2001 و2007) إشارات إلى هوامش الخطأ، مع ذلك تظل هذه التقديرات أعلى من تقديرات مسوحات إدارة الإحصاء المركزي.
وبما أن معدل النمو السكاني هو الذي يهم في المقام الأول، فإن مسوحات إدارة الإحصاء المركزي التي تتضمّن تقديراً لعدد السكان المقيمين في لبنان (1997 و2004 و2018) تقود إلى معدل سنوي متوسط قدره 0.28%، في مقابل 0.47% في مسحَيْ كاسباريان. هذا، ولم نأخذ مسح كاسباريان لعام 2007 في حساباتنا، إذ جرى في تاريخ قريب جداً من مسح إدارة الإحصاء المركزي.
ولضمان تجانس التقديرات المستخدمة في الدراسة، طبقنا على نتائج المسوحات الوسيطة، خلا مسوحات العامين 1997 و2018، المعامِلات التصحيحية المبيّنة في الجدول.
وبصرف النظر عن الأعداد، فإن مقارنة الشرائح العمرية بين السكان تقول الكثير: فبعد أن شكّل من تقل أعمارهم عن 20 عاماً نحو 55% من السكان في العام 1970، و40% في العام 1997، أصبحت نسبتهم 30% فقط في العام 2018، في حين ارتفعت نسبة الأشخاص الذين تتراوح أعمارهم بين 40 و60 عاماً من 15% إلى 18% ثم إلى 26%.
شهد لبنان بين العامين 1970 و1997 حرباً أهلية فادحة الخسائر، وموجة كبيرة من الهجرة، وتجنيساً جماعياً في 1994 لما يقرب من 200 ألف شخص؛ ارتفع عدد سكان لبنان في تلك الفترة من 2,14 إلى 3,70 مليون. و بين عامي 1997 و2018، زاد عدد السكان بشكل طفيف للغاية، من 3,70 إلى 3,87 مليون، ذلك أن الهجرة ابتلعت الزيادة الطبيعية.
وبغض النظر عن الأعداد، فإن المقارنة بين أهرام الأعمار مفيدة في حد ذاتها. كان الانخفاض في معدل المواليد سائداً بالفعل في العام 1970. ونلاحظ، سواء في العام 1997، أو حتى أكثر في العام 2018، انعكاسات الحرب والهجرة من خلال تراجع أعداد الفئات العمرية التي تأثّرت بها وهبوط أعداد الذكور مقارنةً بالإناث (نسبة الذكورة). واستناداً إلى البيانات المرصودة والافتراضات المطروحة، يمكننا الشروع بتقدير صافي تدفقات هجرة اللبنانيين (المغادرون ناقص الوافدين).
تم تقسيم الأعداد الناتجة عن مسوحات العامين 1997 و2001 على شرائح عمرية من 5 سنوات عن طريق الاستقراء والاستواء للحصول على الأعداد مقسمة على شرائح سنوية. وبتطبيق جداول الوفيات على هذه الأرقام، تم احتساب الأعداد للتواريخ المقابلة لكل من المسوحات اللاحقة. وبعد إعادة تجميعها في شرائح عمرية من خمس سنوات، بات من الممكن مقارنتها بالأعداد الواردة في تلك المسوحات من استنتاج صافي رصيد الهجرة في كل مرحلة، كعدد وكنسبة مئوية من العدد الأساسي، ومنه متوسط المعدل السنوي لصافي الهجرة بحسب الفئة العمرية وبحسب السنة.
تختلف متوسطات معدلات صافي الهجرة السنوية قليلاً، باختلاف الفترات التي يتم حسابها خلالها، جرّاء التغيّرات في كثافة الهجرة، والأخطاء الإحصائية الأولية. لهذا السبب استخدمنا متوسط هذه المعدلات.
نلاحظ معدلات هجرة متساوية بين الذكور والإناث حتى سن 25 عاماً. وهي هنا هجرة بداعي مصاحبة الأبناء لوالديهم أو بداعي مواصلة الدراسات العليا حيث يبدو جليّا عدم تمييز الأهل بين أبنائهم بحسب الجنس.
ويتسع الفارق بين سن 25 و50 عاماً، حيث تبلغ كثافة هجرة الذكور ضعف كثافة هجرة الإناث، حيث ترتبط الهجرة في هذه الفئة العمرية بشكل أساسي بالبحث عن عمل، وتكون حركة الذكور أعلى بكثير من حركة الإناث.
بعد سن الخمسين، تهيمن أعداد العائدين، وتكون أكثر كثافة بين الإناث مقارنة بالذكور، بمعدل الضعف. ويتعلق الأمر على الأرجح بعودة من لا توفر لهم دول الاغتراب فرصاً للاستقرار الدائم فيها (دول الخليج أو الدول الأفريقية). وتتجه الزوجات إلى العودة أكثر من أزواجهن، وقبلهم، إذ يبقى هؤلاء هناك لمواصلة أعمالهم.
بشكل عام، يخسر لبنان سنوياً قرابة 25 ألف مهاجر، أو 0.7% من سكانه. ومع بلوغ الولادات السنوية نحو 50 ألفاً والوفيات نحو 27 ألفاً، تبتلع الهجرة تقريباً كامل الزيادة الطبيعية. وتتركز هذه الهجرة في الأعمار الشابة، وتطال الذكور أكثر من الإناث. وكما سبقت الإشارة، تمتص الهجرة عملياً الزيادة «الطبيعية» في عدد السكان.
وبهدف قياس الأثر التراكمي لهذه الهجرة، من المفيد تقدير النسبة المئوية التراكمية لأعداد المهاجرين في كل جيل، من حيث العدد الصافي، وبحسب الجنس، وبحسب التقدّم في العمر، بافتراض ظروف هجرة ثابتة في المتوسط طيلة الفترة (وهو أمر غير بعيد عن الواقع).
وينتهي الأمر بالهجرة قبل سن 55 عاماً بالنسبة لنحو 45% من كل جيل من الذكور، في مقابل 35% للنساء، ونحو 40% من كل جيل في المجمل. ومعظم هؤلاء محترفون وحاملو شهادات قادرون أكثر من غيرهم على العثور على فرص في بلدان الهجرة.
صورة عن المشهد - غير اللبنانيين
ركّزت الدراسة حتى الآن على هجرة اللبنانيين. ولا ينبغي إغفال حقيقة أن لبنان شهد هجرة وافدة لا تقل حجماً، وهي هجرة قديمة ومعقّدة، والمعايير التي تميّز بين أشكالها متعدّدة من حيث القدم، والدوافع، اقتصادية كانت أم أمنية، وكذلك طابعها، المرحلي أو المؤقت، سواء من حيث نوايا المهاجرين الأصلية أو من حيث المآلات الفعلية لرحلتهم، ووضع المهاجرين، بين مجنسين ولاجئين وعمال نظاميين وغير نظاميين، وما إلى ذلك.
وقد تبيّن في كل هذه الحالات وجود معيار حاسم، مع انكشاف الأزمة الاقتصادية في العام 2019: من يمكنهم مغادرة لبنان، ومن لا يجدون إلى ذلك سبيلاً.
نجد في الفئة الأولى العاملات في الخدمة المنزلية والعاملين في الصناعات والخدمات، سواء كانوا نظاميين أو غير نظاميين، وهؤلاء قادمون من مصر أو من الدول الفقيرة في جنوب آسيا أو أفريقيا، من دون عائلاتهم. والغالبية العظمى من هؤلاء لم يعد لديهم أي سبب، أو إمكانية، للبقاء في لبنان بعد انهيار مداخيل اللبنانيين وشحّ العملات الأجنبية. وتبيّن إحصاءات الأمن العام بكل وضوح رحيلهم الجماعي. وكان من المفترض أن ينضم إليهم العمّال السوريون المؤقتون العاملون في مجال البناء أو الزراعة، بيد أن الوضع الأمني في سوريا قلب الموازين تماماً.
أما الفئة الثانية، فتضم الأجانب المستقرين مع عائلاتهم وغير القادرين على العودة إلى ديارهم، على الرغم من تضرّرهم الشديد من الأزمة الاقتصادية. وتشمل هذه الفئة بشكل رئيسي اللاجئين الفلسطينيين الذين قدموا إلى لبنان بين العامين 1948 و1949، واللاجئين السوريين (أو النازحين، فالمصطلحات لا تزال تثير سجالاً حاداً)، بالإضافة إلى اللاجئين الفلسطينيين الفارّين من سوريا.
وسنركز في هذا البحث على الفئة الثانية. وإذا لم تكن الأمور في الواقع بهذه البساطة - فهناك أجانب يقيمون لأسباب مهنية أو بسبب الزواج، وهناك التجنيس الذي يطمس الحدود بين الفئات، لكن هذه الحالات تبقى محدودة جداً مقارنة بواقع اللاجئين الفلسطينيين والسوريين.
استُخلصت البيانات الخاصة بالفلسطينيين والسوريين من المصادر التالية:
البيانات المتعلقة بالفلسطينيين في لبنان
بالنسبة إلى الفلسطينيين، نشرت إدارة الإحصاء المركزي ولجنة الحوار اللبناني الفلسطيني وجهاز الإحصاء الفلسطيني في العام 2019 نتائج التعداد السكاني المنفّذ في العام 2017، وشمل «مخيمات اللاجئين الـ12، و25 تجمّعاً محاذياً لها، و131 تجمّعاً آخر». حمل التقرير عنوان: «التعداد العام للسكان والمساكن في المخيّمات والتجمّعات الفلسطينية في لبنان». كان عدد اللاجئين الذين وصلوا إلى لبنان في العامين 1948 و1949 نحو 130 ألف. وفي كانون الأول/ديسمبر 1949، أي قبل اعتماد «اتفاقية جنيف الخاصة بوضع اللاجئين لعام 1951» التي نصّت على إنشاء المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، أنشأت الأمم المتحدة برنامج «وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى» (الأونروا)، وتسجَّل فيها ما يقارب من 105,000 شخص كانوا بطبيعة الحال الأكثر فقراً. تجاوز عدد اللاجئين المسجّلين إلى يومنا هذا 500 ألف، لكن الكثير منهم هاجروا في هذه الأثناء، بحسب الأمن العام اللبناني، ومصادر أخرى.
البيانات المتعلقة بالسوريين في لبنان
أما بالنسبة إلى السوريين، فإن المصدر الوحيد هو ما ينشر على شبكة الإنترنت، والذي يتم تحديثه باستمرار، عن عدد الأسر والأفراد المسجّلين لدى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وخصائصهم الاجتماعية والجغرافية الرئيسية. وهذا التسجيل ليس إلزامياً ولا شاملاً، ولكنه يسمح للاجئين بالاستفادة من أشكال مختلفة من المساعدات. انخفض عدد السوريين المسجّلين من 1,069,111 شخصاً في العام 2015 إلى 839,090 فقط في أيار/مايو 2022، مع ضرورة احتساب اللاجئين الفلسطينيين في سوريا الذين فرّوا إلى لبنان بعد الحرب. وقد نُشرت منذ العام 2017 سلسلة من التقارير حملت عنوان «خطة لبنان للاستجابة للأزمة» بشكل مشترك من قبل الحكومة اللبنانية والأمم المتحدة (من خلال الوكالات المعنية، وخصوصاً المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين)، وحُدِّثت في العامين 2021 و2022. وتغطّي البيانات الديموغرافية الوحيدة في هذه السلسلة الأعداد الإجمالية وهي: 3,864,000 لبناني، و1,500,000 نازح سوري،12 و27,700 لاجئ فلسطيني قادم من سوريا، و180,000 لاجئ فلسطيني مقيم في لبنان. وسنعتمد، بالنسبة إلى السوريين، على التقديرات «الرسمية»، مع عرض بديل قائم على الرقم 1,200,000، أما بالنسبة إلى الفلسطينيين، سواء اللاجئين في لبنان أو اللاجئين في سوريا الذين فرّوا إلى لبنان، فسنعتمد نتائج تعداد العام 2017. وإذا كانت هذه التقديرات غير نهائية وتؤثر على التوقّعات من حيث الأعداد والنسب بين اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين، إلا أنها لا تؤثر على الديناميات والاتجاهات الديموغرافية.
تنشر المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين تقارير بعنوان «تقييم هشاشة أوضاع اللاجئين السوريين في لبنان» (VASyr)، أحدثها غطّى الأعوام 2019 و2020 و2021. تستند هذه التقارير إلى استطلاعات، وتقدّم أهرام الأعمار، ولكن فقط بشكل رسوم بيانية، كالرسم الظاهر هنا.
يأخذ الجدول التالي نتائج العام 2005 ويعيد معايرتها على أساس العدد الإجمالي للسوريين في لبنان، وهو على التوالي 1,5 مليون (وفقاً لخطة لبنان للاستجابة للأزمة)، ثم 1,2 مليون.
وتجدر الإشارة إلى أن أهرام الأعمار الواردة في تقارير «تقييم هشاشة أوضاع اللاجئين السوريين في لبنان» تقود إلى نسب مئوية بحسب الفئة العمرية مساوية تماماً لتلك المنشورة في العام 2015.
3- الديناميات والتوقّعات الديموغرافية
التحوّلات الأخيرة (منذ العام 2019) والوضع الراهن (2022-2023) للّبنانيين والسوريين والفلسطينيين
لا توجد بيانات موثوقة عن التغيرات الديموغرافية وتدفّقات الهجرة منذ 2018-2019. وكانت شركة «الدولية للمعلومات» قد نشرت البيانات التالية عن صافي أعداد اللبنانيين المغادرين عبر مطار بيروت، استناداً إلى مصادر في الأمن العام:
يتوقف التغير الديموغرافي للفئات الثلاث من السكان، اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين، بشكل أساسي على معدّلات الهجرة الصافية وتغيّر معدلات الخصوبة في كلّ منها، مع افتراض معدّلات وفيات مستقرة لكل فئة عمرية، بحسب بيانات شعبة السكان في الأمم المتّحدة.
استند تقدير معدّلات الهجرة السنوية للبنانيين بين العامين 2018 و2023 على المعدلات المسجّلة خلال الفترة السابقة. وسينعكس تأثير الأزمة من خلال تفاقم ظاهرة الهجرة (المتركّزة في فئات القوى العاملة الشابة)، مع تطبيق معدل تناسبي لكل فئة عمرية يقدّر بنحو 120%، بالإضافة إلى هجرة جماعية تؤثر على جميع الفئات العمرية مقدّرة على أساس المعدل المتوسط المرصود لجميع السكان، مع زيادة بنسبة «ثابتة» تبلغ 120% أيضاً، ليبلغ صافي الهجرة السنوية على هذا الأساس 78 ألف شخص.
أما بالنسبة إلى السوريين والفلسطينيين، فقد افترضنا معدّلات هجرة تساوي 50% من معدّلات هجرة اللبنانيين، نظراً لأن إمكانيات هجرتهم محدودة أكثر.
استُخلصت معدلات الخصوبة من بيانات شعبة السكان في الأمم المتحدة، وهي، بالنسبة إلى اللبنانيين، المعدلات المُسجّلة في خلال الفترة الممتدّة بين العامين 2005 و2010 قبل وصول السوريين (البيانات المنشورة تنطبق على كامل السكّان المقيمين)، وبالنسبة إلى الفلسطينيين، كما نشرتها شعبة السكان على مستوى فلسطين، وبالنسبة إلى السوريين، بحسب تقديرات الفترة الممتدّة بين العامين 2015 و2020 لسوريا مع تراجع بنسبة 15% (الفجوة بين الولادات وأعداد السوريين دون سن الخامسة المُسجّلين لدى المفوّضية السامية ناجمة على الأرجح عن الصعوبات التي يواجهها اللاجئون في تسجيل المواليد).
يبقى لتكتمل الصورة أن نقدّر أعداد بقية الأجانب المقيمين في لبنان. ولهذا الغرض، لجأنا إلى بيانات وزارة العمل لعام 2010 المتعلّقة بإجازات العمل الممنوحة أو المجددة.
ويبدو أن نسبة حاملي إجازات العمل من الفلسطينيين والسوريين ضئيلة للغاية مقارنة بالأعداد الفعلية. إذ لم تكن هناك بين 159 ألف إجازة عمل سوى 904 إجازة لسوريين و287 لفلسطينيين، وغالبيتهم من الكوادر الإدارية أو الفنيين: 30% من السوريين و77% من الفلسطينيين كانوا مدراء أو فنيين، إذ تمثّل هذه الفئات أقل من 2% فقط من مجمل حاملي إجازات العمل، وهم يتقدّمون بطلب الحصول على هذه الإجازات، وبالتالي الإقامة، للتسجيل في السجل التجاري أو لتسجيل الأصول باسمهم. لا يهتم الفلسطينيون المقيمون، ولا أصحاب عملهم، بالتقدّم بطلب للحصول على إجازة عمل بسبب وضعهم كلاجئين، ولا السوريون كذلك المستفيدون من جهتهم من البنود الملتبسة لمعاهدة «الأخوة والتعاون» الموقّعة مطلع التسعينيات إبان الهيمنة السورية على لبنان.
وباستبعاد الفلسطينيين والسوريين، الذين يعامَلون في الواقع معاملةً خاصة، وبالنظر إلى أن ثلث العمّال من الجنسيات الأخرى يقيمون بشكل غير نظامي، فإننا نصل إلى تعداد يبلغ قرابة 180 ألف من الأجانب المقيمين في لبنان كيد عاملة، باستثناء الفلسطينيين والسوريين.
بالنسبة إلى الفلسطينيين، قدِّر عددهم في العام 2004 بنسبة 90% من عددهم في العام 2018. أما السوريون، فقد تم توزيعهم حسب الفئة العمرية بشكل مساوٍ لتوزيع الأجانب الآخرين، وقدِّرت أعدادهم في العام 2004 بنسبة 5% من أعدادهم في العام 2018 للإناث و10% للذكور.
وقد توصّلنا إلى النتائج التالية للأعوام 2004 و2018 و2023:
ويبدو التغيّر الديمغرافي ضخماً بسبب الصدمتين المتتاليتين لتوافد السوريين (2012-2015) والأزمة الاقتصادية (2019-2023).
قفز عدد السكان بين العامين 2004 و2018 بنسبة 46% (38% إذا اعتمدنا رقم 1,200,000 لعدد السوريين في العام 2018)، ثم تراجع بنسبة 7% في العام 2023، مع ارتفاع نسب الإعالة بمقدار 13%. كما انخفض عدد اللبنانيين بين مجموع السكان بنسبة قدِّرت بين 20% و25%، وأصبحوا تقريباً أقلية بين من هم دون 15 عاماً. يفسّر هذا المشهد، ربما، إرادة الجهل أو التجاهل، إلا أنها ستزيد من فداحة الصحوة عند حدوثها.
تلقي هذه الحقائق المتجاهَلة بثقلها في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية: كيف تُدار هذه الأزمة؟ ولصالح من؟ لأي سكان؟ وكيف تُوزَّع الخسائر؟ وما هي الموارد التي ستوظَّف للخروج من الأزمة؟ ما هي نماذج المجتمع والاقتصاد المتصوَّرة، والمرغوبة والممكنة سياسياً؟
التحوّلات الديموغرافية المحتملة
من خلال توسيع إطار التوقّعات المطبّقة على مرحلة 2018-2023 والتي ساعدت في تقييم الوضع الحالي، تم تطوير تقدير خمسي حتى العام 2033، مقسم على ثلاث مراحل (2023-2028، 2028-2033، 2033-2038).
سيناريوهات التحوّلات والمتغيرات
وضعت تفاصيل هذه التوقّعات بناءً على سيناريوهات عدة، ويتضمّن كل سيناريو منها فرضيّات كمّية تتعلّق بتطوّر بعض المتغيرات «الديموغرافية». ستتيح هذه العملية قياس تأثيرات متغيّرات التحكم على المتغيّرات المرصودة، وستوفر معلومات عن أهمّيتها النسبية، غير أنها لن ترشد الخيارات السياسية بشكل كبير. إلى ذلك، تعمدنا تصنيف السيناريوهات وفقاً لمتغيّرات سياسية، حتى لو أتى ذلك على حساب تجانسها الداخلي، لأن ترجمة الخيارات السياسية الكبرى إلى إجراءات ذات آثار قابلة للقياس ليس بالأمر السهل.
تتوقف السيناريوهات بشكل أساسي على:
- اتجاه ووتيرة إعادة هيكلة الاقتصاد في لبنان، إما عبر إدارة المجتمع بوصفه أداة تكيّف أو عبر إعادة التخصيص البنيوي للموارد.
- اتجاه ووتيرة استقرار و«إعادة إعمار» سوريا، وشكل العلاقة بين لبنان وسوريا
- البيئة الدولية، التي قد تفضّل واحداً أو أكثر من الخيارات للبنان ومنطقة الشرق الأوسط، مثلاً تقسيمها إلى مناطق نفوذ متوترة، أو إحياء قيمة هذه المنطقة.
هذه التغيّرات والتحوّلات ليست مستقلة، وتتنوع احتمالات حدوث تشكيلات مختلفة منها. ولغرض التبسيط، مع مراعاة تأثيرات الحجم، أو بالأحرى توازن القوى، اخترنا الاحتفاظ بمتغيرين رئيسيين:
- الوضع المحلي (في لبنان)، الذي قد يستمر في التدهور تلقائياً في غياب أي إجراء توجيهي (1)، أو ينتقل إلى إعادة تخصيص منظّم للمنطقة والموارد الاجتماعية والاقتصادية (3) أو يبقى في حالة وسيطة (2).
- يمكن للوضع الإقليمي، بتأثير العوامل الدولية المتحكّمة فيه، أن يتّجه نحو المزيد من التفكيك (1) أو نحو إعادة هيكلة مستقرة (3)، أو يبقى في حالة وسيطة (2).
وينتج عن ذلك تسع تكوينات أو سيناريوهات.
ولتقييم تغيّر صافي معدّلات الهجرة (بحسب الجنس والفئة العمرية)، انطلقنا بالنسبة إلى المقيمين اللبنانيين من المعدلات المرصودة في خلال الفترة الماضية. وفي كل سيناريو، تم تقدير صافي معدّل الهجرة عبر الجمع (جمعاً جبرياً) بين ثابت مستخلص من تطبيق معدل «مستوٍ» على معدل الهجرة الإجمالي لمجموع السكان لمراعاة الحركات «الهائلة» لأسر بأكملها ( بما في ذلك عودة السوريين)، وعامل تغيّر المعدل النسبي المرصود في كل فئة عمرية لمراعاة الهجرة الانتقائية لأسباب اقتصادية، والتي تؤثّر بشكل رئيس على الشباب في الأعمار النشطة. وبالتالي يتضمّن كل سيناريو ثماني قيم. وينطبق ذلك على اللبنانيين والسوريين.
وفي كل سيناريو، اعتبرنا معدّلات هجرة الفلسطينيين مساوية لـ 50% من معدلات هجرة اللبنانيين في كل فئة، من منطلق أن الفلسطينيين يعانون من الظروف الاقتصادية نفسها التي يعيشها اللبنانيون، غير أن إمكانيات هجرتهم محدودة أكثر. تم أخذ أعداد الأجانب الآخرين كنسبة ثابتة (أساس 2023) من اللبنانيين المقيمين.
أما بالنسبة إلى السوريين، فقد تم إدخال متغيّر إضافي له علاقة بتغيّر معدلات الخصوبة. وتختلف معدلات الخصوبة التي جمعتها شعبة السكان في الأمم المتحدة لسوريا ولبنان (قبل الوصول الجماعي للسوريين) اختلافاً كبيراً بين البلدين: فمعدلات الخصوبة لدى السوريات أعلى مرتين من معدلات الخصوبة لدى اللبنانيات. وكان لا بد أيضاً من زيادتها بنسبة 35% حتى تصبح أعداد الفئة العمرية دون الخامسة المستمدّة من تطبيق معدلات الخصوبة المستخدمة في سوريا في العام 2005 أقرب إلى تلك التي رصدها إحصاء اللاجئين المسجّلين لدى المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في لبنان. وينبع هذا على الأرجح من حقيقة أن اللاجئين السوريين المسجّلين من قبل الأمم المتحدة يأتون في معظمهم من المناطق الريفية ويتّسمون بمعدلات خصوبة أعلى من المتوسط. وعلى هذا الأساس، يأخذ المتغير، بحسب السيناريوهات، قيمة تتراوح بين 1 و5، ليمثل الفارق في معدلات الخصوبة بين السوريات واللبنانيات الذي سينخفض على مدى أفق التوقّعات (1: من دون تخفيض و5: توافق كامل).
في حالة الفلسطينيين، تم استخدام معدلات الخصوبة التي تعتمدها شعبة السكان في الأمم المتحدة كما هي دون تعديل.
في ما يلي عرض قيم المتغيرات التي تصف كل سيناريو من السيناريوهات:
سيناريوهات التغيّرات، والنتائج
يبيّن الجدولان الواردان في الصفحات التالية نتائج السيناريوهات المختلفة المتعلقة بالمتغيرات الديموغرافية الرئيسية، الأول بافتراض عدد السوريين 1,500,000 في العام 2018، والثاني بافتراض العدد 1,200,000.
يقارن الجدول التالي بين السيناريوهات في ظل فرضيتي الأعداد الأولية للسوريين:
تبقى الفرضيات الموضوعة لكل من السيناريوهات قابلة للنقاش. ولكن نقطة الانطلاق من جهة، والاتجاهات الرئيسية بأحجامها، من جهة أخرى، صحيحة. وفي ظل هجرة واسعة النطاق في الاتجاهين، يؤدّي جمود الظواهر الديموغرافية إلى تباينات كبيرة على مدى الخمسة عشر عاماً المرصودة في الدراسة.
تسمح السيناريوهات بتقييم حجم انعكاسات وآثار الظروف الإقليمية والسياسات الوطنية معاً على مدى الخمس عشرة سنة القادمة:
- سيتراجع عدد السكان في كل الحالات، من 5,76 مليون (أو 5,46 إذا أخذنا الفرضية الأدنى للعدد الأولي للسوريين)، ليتراوح بين 5,02 و4,43 مليون (أو بين 4,70 و4,13 مليون)، أي بفارق نهائي تقارب نسبته 14%.
- قد تبقى نسبة الذكورة، وهي بالفعل متدنية تناهز 92%، عند المستويات نفسها، أو ربما تنخفض أكثر إلى 85%، تحت تأثير هجرة أشد كثافة في أوساط الشباب. تبلغ هذا النسبة عموماً أعلى من 100% بقليل، وقد تصل إلى 250% في الدول التي تستقبل موجات هجرة عالية من اليد العاملة، أو حتى أكثر في إمارات الخليج النفطية.
- سترتفع نسب الإعالة (للأعمار التي تتراوح بين 15 و64 عاماً)، والتي تبلغ في الأساس نحو 65%، إلى مستوى متغير تبعاً للسيناريوهات، وستتراوح بين 67% و83%، علماً أنها لم تتجاوز 50% في العام 2004 قبل وصول السوريين مع عائلاتهم.
- ستتراوح نسبة اللبنانيين من إجمالي السكان، والتي كانت 67% (أو 71%)، بين 52% و75%. وستنخفض أعدادهم من 3,55 مليون إلى مستوى يتراوح بين 3,45 و2,49 مليون، أي ستبقى مستقرة نوعاً ما أو ستتراجع بمقدار 1,38 مليون، بهامش نسبي قدره 38%، نتيجة الهجرة.
- قد يرتفع عدد السوريين المقيمين في لبنان بنسبة 35% أو ينخفض بنسبة 40%، من 1,66 مليون (أو 1,32) إلى ما بين 2,04 و1,07 مليون (أو ما بين 1,63 و0,85 مليون)، أي بهامش نسبي قدره 90%.
وكمثال على ذلك، نعرض في ما يلي أهرام الأعمار المتوقّعة بحسب الجنسية للأعوام 2028 و2033 و2038، في ظل فرضيتي العدد الأولي للسوريين (1,5 مليون أو 1,2 مليون في العام 2018)، أولاً، في ظل سيناريو إطالة أمد الاتجاه الحالي: التكيّف الداخلي التلقائي واستمرار التفكيك في المنطقة، وثانياً، في إطار سيناريو إعادة التخصيص المنظّم للمنطقة وللموارد الاجتماعية والاقتصادية الداخلية وإعادة الهيكلة الإقليمية المستقرة، والتي تمثل بشكل ما المسارات المتطرّفة بين السيناريوهات المرصودة.
الإجراءات المحلية، والإجراءات والتطوّرات على المستوى الإقليمي
تختلف الإجراءات والتطوّرات على الساحة المحلية من جهة وعلى المستوى الإقليمي من جهة أخرى من حيث مسؤولية إطلاقها وإمكانيات تحقيقها، ولا بد أولاً من ملاحظة انعكاساتها وآثارها بشكل منفصل في ظل استمرار الوضع الراهن، سواء في لبنان أو في المنطقة، ومن ثم مراقبة انعكاساتها وآثارها معاً.
يعرض الجدول التالي الفروقات بين المتغيّرات المرصودة على افتراض وجود 1,5 مليون سوري في العام 2018، بين بقاء الوضع الراهن على حاله محلياً وإقليمياً، والأوضاع التي قد تنتج عن إجراءات وتطورات تشهدها الساحة المحلية على حدة، ثم الساحة الإقليمية على حدة، ثم الساحتان معاً. يعرض العمود الأخير ما سينتج عن المشهدين معاً من تغيير إضافي بنتيجة التأثيرات المشتركة.
من الطبيعي أن تتأثر أعداد اللبنانيين المقيمين إيجاباً، سواء بسياسات إعادة توزيع الموارد على الساحة المحلية أو بالإجراءات والتطوّرات على مستوى الاستقرار والتعاون على صعيد المنطقة. وتؤثر الإجراءات المحلية في النتيجة بنحو 69%، في حين تؤثر التطورات الإقليمية بنسبة 19%، أما تأثيرهما معاً فيضيف فارقاً نسبته 12%. الأمر نفسه ينطبق على الفلسطينيين المقيمين في لبنان، لأن سلوكهم الديمغرافي مشابه لسلوك اللبنانيين.
أما بالنسبة إلى السوريين المقيمين في لبنان، فالصورة معكوسة: فالسياسات على الساحة الوطنية والإجراءات والتطورات على المستوى الإقليمي تساهم في تقليص أعدادهم، مع فارق أن التأثيرات الإقليمية هي الأقوى هنا: 53%، مع بقاء تأثير الإجراءات المحلية قوياً بواقع 45%، ويعود ذلك بشكل رئيسي إلى الحد من الخصوبة المرتبط بتوفير التعليم والعمل. أما التأثير المشترك فلا يضيف سوى 2% فقط.
نستنتج مما سبق أن التأثير على مجموع السكان اللبنانيين (والفلسطينيين) يتناقض مع التأثير على مجموع السوريين المقيمين في لبنان. تزيد الإجراءات المحلية وحدها من أعداد المقيمين، تحديداً من خلال الحد من هجرة اللبنانيين، الذين يزيد عددهم بمقدار 656 ألفاً، والتقليل من عدد السوريين بمقدار 430 ألفاً من خلال التغيّر في سلوك الأسر السورية. كما تقلّل الإجراءات والتطورات الإقليمية من أعداد السوريين بنحو 516 ألفاً، بسبب عودة نسبة كبيرة منهم إلى بلادهم، في حين تزيد عدد اللبنانيين بـ 183 ألفاً بفعل أوجه التكامل على المستوى الإقليمي، وتؤدّي بالتالي إلى خفض العدد الإجمالي للسكان، ما يعني أن التأثير المشترك لهذه الإجراءات والتطوّرات يزيد من عدد المقيمين اللبنانيين، وهو بحاجة لإدارة ومراقبة عن كثب. أما التأثير الإجمالي فيتجلّى من خلال زيادة طفيفة للغاية في العدد الإجمالي للسكان.
تكون النتيجة الإجمالية على نسبة الذكورة إيجابية. وتساهم الإجراءات على المستوى المحلي بـ 76% من التغيّر، من خلال الحد من الهجرة، في حين تقلّصه الإجراءات والتطورات الإقليمية بنسبة 15% نتيجة عودة السوريين، أما اجتماعهما معاً فيزيده بنسبة 38%. وتنخفض نسبة الإعالة سواء نتيجة إجراءات محلية (تراجع هجرة الشباب اللبناني والولادات بين السوريين) إلى 94% من مستواها الحالي، أو بفعل الإجراءات والتطورات الإقليمية (عودة السوريين مع أطفالهم) بنسبة 14% من الإجمالي، ويعود التغيّر إلى تأثير الإجراءات المشتركة.
الجنسية والإقامة
تشكل الجنسية معياراً أساسياً، فهي تحكم العمل السياسي، كونها تشكل المرجعية لشرعية السلطة. لكن العمل السياسي يُمارس أولاً على أرض ما، ويؤثر على سكانها. وعادة ما يكون الجزء الأكبر من المواطنين هم السكان، والجزء الأكبر من السكان هم المواطنون. لكن الأمر ليس كذلك في لبنان. يعرض الجدول والرسوم البيانية التالية تغيّر أعداد المجموعتين.
شهد العام 1970 وضعاً شاذاً كانت فيه الهجرة اللبنانية متدنية للغاية، وقُدِّرت نسبة المهاجرين القدامى الذين حافظوا على علاقة بالوطن بنحو 20%. في المقابل، قاربت نسبة السكان غير اللبنانيين الـ 10%، غالبيتهم لاجئون فلسطينيون، شكّل وجودهم إحدى الذرائع الرئيسية للحرب الأهلية.
أدّت الحرب، بشكل رئيس، إلى إحياء موجات الهجرة، لا سيّما أنها تزامنت مع الطفرة النفطية. تسبّبت هذه الحرب في وقوع ضحايا لكن عددهم مبالغ فيه في الكثير من الأحيان. وبقي النمو السكاني الطبيعي كبيراً، وناهزت نسبته 2.4%. وحدثت أيضاً عمليات تجنيس. ومع الإبقاء على درجة من التفاوت بين حاملي الجنسية والمقيمين، تزايدت الأعداد في نهاية المطاف بالمعدل نفسه، بنسبة 50% تقريباً.
زاد التفاوت بين العامين 1990 و2004، وهي الفترة الكلاسيكية لما يعرف بالـ«النظام اللبناني»، حيث تزايدت الهجرة وأعداد العمال الأجانب، وبات المواطنون يمثلون 89% فقط من السكان، على الرغم من عمليات التجنيس الكبيرة التي جرت في 1994-1995، حين كان السكان لا يمثلون سوى 80% من المواطنين. واتخذ الرسم التخطيطي مع الوقت الشكل «L».
فاقم وصول السوريين من هذا الاتجاه. ففي العام 2018، كان المواطنون لا يمثلون سوى 67% من السكان، في حين مثّل السكان 74% فقط من المواطنين. وبسبب الهجرة وتراجع معدّل الولادات، ظل عدد السكان اللبنانيين على حاله. فاقمت الأزمة الاقتصادية في العام 2019 هذا الوضع، وتناقص عدد السكان اللبنانيين بشكل ملحوظ. وفي العام 2023 سجّلت النسبتان 66%. وبات عدد المهاجرين اللبنانيين والمقيمين الأجانب، مجتمعين، يساوي عدد السكان اللبنانيين.
بالانتقال إلى مجموعتي التوقّعات حتى العام 2038، وإحداها تعكس استمرار الاتجاهات المرصودة بين العامين 2018 و2023، والثانية تعكس إجراءات مُحدّدة تعيد تخصيص الموارد محلياً بموازاة تطورات إيجابية في إعادة الهيكلة والاستقرار الإقليميين، يبقى الشكل «L»، ولكن مع اختلافات ملحوظة:
مع بقاء الوضع سيئاً على حاله، من دون توجيه، سيتراجع عدد اللبنانيين المقيمين من 3,87 مليون إلى 2,49 (-35% مقارنة بالعام 2018، و-30% مقارنة بالعام 2023). يمثل حاملو الجنسية 52% فقط من السكان، في حين يمثل السكان 48% فقط من حاملي الجنسية. ويبلغ عدد المهاجرين اللبنانيين والمقيمين الأجانب معاً ضعف عدد السكان اللبنانيين. وبذلك، يمتد حرف «L» ويهزل.
أما في حالة إعادة التخصيص والهيكلة، فسوف يستقر عدد اللبنانيين المقيمين تقريباً عند مستواه المسجّل في العام 2023. وسوف يتقلص حرف «L»، ولن يشكّل المواطنون سوى 72% من السكان، في حين يمثل السكّان 69% من المواطنين. سينخفض عدد المهاجرين اللبنانيين والمقيمين الأجانب مجتمعين إلى 83% من عدد السكان اللبنانيين.
ما نراه هو مجتمع آخر يتشكّل، وهياكل سياسية أخرى ستفرض نفسها. ثمة فجوة كبيرة بين مجموعتي التوقّعات، ولكن علينا أولاً أن نفهم الديناميات المؤثرة لكي نجرؤ على مواجهتها، ولنتمكن من التخلص من الجهل والقدرية السائدتين، اللتين تفسحا المجال واسعاً أمام هذه الديناميات.
4- الآفاق والسياسات
تكوين المجتمع: المهاجرون والهجرة
تشكّل الهجرة اللبنانية جزءاً لا يتجزّأ من النظام الاجتماعي والسياسي الذي ساد في لبنان منذ الحرب الأهلية.
ويمثّل المهاجرون الخسارة الأكبر في الموارد الحقيقية، وليس المالية فقط، منذ الحرب الأهلية. وهي خسارة مزدوجة: خسارة تكاليف إعداد المهاجرين الشباب، من جهة، واستهلاك التحويلات التي أرسلوها إلى البلد من جهة ثانية. ونتحدّث هنا عن نصف كل جيل يهاجر، وعن أكثر من 240 مليار دولار على مدى ثلاثين عاماً (بحسب حسابات ميزان المدفوعات التي ينشرها مصرف لبنان).
والجدير بالذكر أن تداعيات هذه الهجرة على الاقتصاد – «المرض الهولندي» – عزّزت الأنشطة المنتجة للسلع والخدمات غير القابلة للتبادل، ما أدّى إلى تقليص عدد الشركات المصدّرة للسلع والخدمات التي كانت موجودة قبل الحرب، وظلت قائمة حتى في أثنائها (الأشغال العامة، والنقل الجوي وغيرها)، إلى الصفر تقريباً. وبالتالي، لا يهاجر اللبنانيون كمغتربين مندمجين في هياكل تراكم الخبرة والحضور في الأسواق، بل كأفراد أو أسر. وهم لا يراكمون رؤوس أموال، بل يجمع الأذكى أو الأوفر حظاً بينهم الثروات. وينطبق هذا بشكل خاص على المهاجرين إلى البلدان الغنية، أي الدول الغربية أو المنتجة للنفط أكثر من المهاجرين إلى أفريقيا.
ما الذي يستطيع لبنان استرداده من هذه الخسائر؟ وهل من مصلحة للمهاجرين في المشاركة في إعادة بناء اقتصاد ومجتمع سليمين؟
بوسع المهاجرين المساهمة بثلاث طرق:
- الأموال بالطبع، ولطالما فعلوا ذلك. ولكن لب المسألة هو في استخدام هذه الأموال لتشجيع الاستثمار، مهما بدا ذلك صعباً، من خلال تنظيم القطاعات، بدلاً من إدامة نموذج الاستهلاك المفرط، ومن خلال تغذية الاستثمارات المالية. إن العجز المتراكم في الاستثمارات هائل، وفي حال عدم معالجته بسرعة، فإن المداخيل الحقيقية ستظل متدنية لفترة طويلة، وستغذي المزيد من الهجرة. لقد أدّى استخدام التحويلات في دعم الاستهلاك إلى حجب تراجع الإنتاجية، وساهم في الوقت نفسه في مفاقمتها وإطالة أمدها. وينبغي هنا تمييز التحويلات ذات الطبيعة العائلية التي تدعم الأهل الذين بقوا في البلد، والتي ستزداد أهميتها أكثر مع تدهور الوضع الاجتماعي. وهذه التحويلات لا تتراكم في المصارف، بل تبقى أكثر فأكثر خارج الدائرة المصرفية بسبب فقدان الثقة في القطاع.
- مهارات الإنتاج، أكانت شخصية أو مرتبطة بخبرة العمل داخل الشركات، والتي يمكن الاستحواذ عليها أو إبرام اتفاقيات تجارية معها.
- الوصول إلى الأسواق النهائية أو الوسيطة، وهو أمر في غاية الأهمية، سواء من خلال الشركات التي يديرها المهاجرون مباشرة أو من خلال شبكة معارفهم، وتحديد الجهات و/أو الشركات التي يمكن الاستحواذ عليها أو إبرام اتفاقيات تجارية معها.
لا يزال العديد من المهاجرين يحتفظون برابط عاطفي بالبلد. ويمكن تعزيز هذا الرابط إذا أتى مشروع إعادة الإعمار في إطار مشروع سياسي يقضي على نظام الحرب الذي ساد على مدى أربعين عاماً، ويتجاوزه، وهو النظام الذي كانوا هم وأهلهم ضحاياه المباشرين.
ولا بد أيضاً من أخذ مصالحهم المادية في الاعتبار، من الناحية المالية وأيضاً من خلال إنشاء وضع قانوني يراعي أوضاعهم ويؤّمن لهم المشاركة المتوازنة في الحياة العامة، ويلحظ حقوقاً وواجبات واضحة مرتبطة بعمل منظّم ودائم تقوم به الدولة مع الشباب في مدن هجرتهم الرئيسة، وتحديداً في مجال التعليم والمشاركة في الحياة العامة.
ويصحّ ما سبق على المهاجرين الفلسطينيين والسوريين والعراقيين، المنتشرين في العالم إلى جانب اللبنانيين، من ذوي المهارات المهنية والتجارية والثقافية والعلمية، وهم أيضاً ضحايا الطائفية والقمع في بلدهم الأم.
تكوين المجتمع: السوريون في لبنان
يمكننا تمييز تكوينات محتملة عدة لوضع السوريين في لبنان:
- بقاء الوضع على حاله، وبقاء ما يقارب المليون ونصف المليون سوري في لبنان، باعتباره أمراً واقعاً. وهؤلاء لا تشكل الصعوبات الاقتصادية الناجمة عن الأزمة حافزاً لعودتهم. فالوضع الاقتصادي في سوريا، ليس أفضل ممّا هو عليه في لبنان، ناهيك عن المشاكل السياسية والأمنية. وقد تزامن انهيار العملة وصعوبات الإمداد في سوريا مع ما حدث في لبنان، في دلالة واضحة على التشابك الفعلي بين النظامين الماليين. وسيكون للاجئين السوريين أسباب أقل للعودة إلى ديارهم طالما استمرّت المساعدات الإنسانية التي يقدّمها لهم الخارج، علماً أن استمرار هذه المساعدات، مهما كانت متواضعة، سيؤدّي قطعاً إلى تفاقم التوترات بين الفقراء السوريين واللبنانيين الذين أفقرتهم الأزمة. ولعل الحل الكارثي المحتمل يكون في توسيع آلية المساعدات الإنسانية لتشمل اللبنانيين من خلال «التحويلات النقدية» الشهيرة، تحت عنوان «البرنامج الوطني لاستهداف الفقر» الذي يصر البنك الدولي على الترويج له، مغرياً الحكومة بقرض بقيمة 500 مليون دولار. وسيؤدّي تعميم المساعدة إلى إعادة تنشيط الشبكات الزبائنية لزعماء الطوائف كونهم هم الذين سيحدّدون، من خلال البلديات و«المخاتير» الذين يسيطرون عليهم، «فقراءهم». ولن تقل الأضرار السياسية في تلك الحالة خطورةً عن الأضرار الاقتصادية، وستؤدّي إلى مأساة على مستوى «المشروع الاجتماعي»، مستبدلةً بمنطق الحقوق منطق الولاءات والتهميش. ويبدو هذا الاحتمال حتى الساعة الأكثر احتمالاً، ولكنه غير قابل للاستمرار ما لم يمنَح وضع السوريين طابعاً رسمياً.
- دمج جزء مهم إلى حدّ ما من السوريين في المجتمع اللبناني وبأشكال منتظمة. وتصبح هذه المسألة أكثر احتمالاً بمرور الوقت. فقد مضت ثماني سنوات منذ وصول النازحين بأعداد كبيرة بدءاً من العام 2012، ويتعرّض هؤلاء النازحون للمجتمع اللبناني بشكل يومي، فيندمجون فيه تلقائياً، وخصوصاً الشباب والنساء والمهنيون، وبات رحيلهم أصعب بشكل متزايد. فالمهام التي يقومون بها هي جزء لا يتجزأ من الاقتصاد، في بلد معتاد أصلاً على فكرة الأمر الواقع. والسؤال الحقيقي في مواجهة هذا الاحتمال، هو كيف سيتم هذا الدمج؟ هل سيكون انتقائياً؟ وما هو الوضع الذي سيُعطى للسوريين؟
- عودة نسبة كبيرة من السوريين إلى سوريا في حال استقر الوضع السياسي والأمني بدعم من المساعدات الخارجية، في ظل استمرار سوء الوضع الاقتصادي في لبنان أو تدهوره أمنياً، وهو احتمال لا يبدو مرجحاً اليوم. ولكن من يدري؟
- إعادة هيكلة المنطقة من خلال التفاوض بين الدولتين.
مشاريع المجتمع والمنطقة؛ مشروع الدولة
لا يمكن اختزال الأزمة السورية بتدفّق اللاجئين، الذي هو قبل أي شيء أحد تجليات عملية إعادة تشكيل المنطقة. ولا تزال هذه العملية جارية، سواء على مستوى المجال السوري نفسه، أو في الاتفاقات التي لا تزال غير محتملة بشأنه، أو في الترتيبات الجارية بين مصر وإسرائيل والأردن والمملكة العربية السعودية ودول خليجية أخرى على خطوط نقل البضائع والنفط والغاز، والتي يجد لبنان نفسه بموجبها مهمّشاً ومستبعداً عن المحاور الاقتصادية الأساسية التي تتشكّل في المنطقة. وسواء شاء ذلك أم أبى، لا يمكن لمستقبل لينان أن يكون مستقلاً عن مستقبل سوريا، الغامض حتى الآن، إن كان بسبب وجود اللاجئين على أراضيه، أو لأن سوريا تحيط به من كل جانب.
كان لإغلاق الحدود البرّية وتصاعد التوترات الإقليمية أثر مدمّر على الاقتصاد،13 وعجّلا الانهيار المالي على الرغم من «المساعدات» المقدّمة للاجئين و«الهندسات المالية» البهلوانية التي أخّرته، وزادت الطين بلّة، بين العامين 2015 و2018.
فشل النموذج الاقتصادي والسياسي اللبناني في مرحلة ما بعد الحرب منذ نهاية التسعينيات، ولم يكن من الممكن تأجيل انهياره قرابة عشرين عاماً إلا بسبب أحداث خارجية استغلها عرّابو هذا النظام: مؤتمر باريس 2، الذي انعقد تحت تأثير المخاوف المشتركة بين فرنسا والسعودية وسوريا من الغزو الأميركي المعلن للعراق، ثم ارتفاع أسعار النفط، ثم تحويلات المغتربين بين العامين 2005 و2014.
أدّت الصدمة المزدوجة، الداخلية المتمثلة في الحرب الأهلية، والخارجية المتمثلة في الطفرة النفطية، في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، إلى تحوّل عميق في المجتمع والاقتصاد والنظام السياسي. تكرّرت هذه الصدمة مرة أخرى في الأعوام الممتدّة بين 2012 و2019، وكانت هذه المرة داخلية بشكل انهيار مالي، وخارجية بسبب الحرب في سوريا وتدفق اللاجئين. وهي تستدعي تحولاً جذرياً جديداً.
يمكننا تصوّر مخارج عدّة محتملة للأزمة التي وجد لبنان نفسه غارقاً فيها، طالما نظرنا إليها باعتبارها مرحلة انتقالية بين كيان لم يعد موجوداً - ولا زال الناس متعلّقين به - وهذا الكيان الجديد الذي يصعب تخيله بصفاء:
لاستكشاف هذه المخارج، علينا التذكير بأربعة عوامل رئيسة: وضع الأجانب المقيمين في لبنان، والهجرة اللبنانية، والعلاقات الإقليمية، ونوع شرعية الدولة. وإذا حدّدنا ثلاث حالات لكل من هذه المتغيرات، فستكون المحصلة 81 تكويناً، ليست متّسقة كلها بطبيعة الحال.
سنكتفي بتلخيص القيم المرجعية للمتغيّرات الأربعة، والإشارة إلى تكوينات معينة تبدو أعلى احتمالاً من سواها.
المتغيّر 1 - الهجرة الجماعية
سيكون للهجرة الجماعية، خصوصاً في صفوف اللبنانيين ذوي الدخل المتوسط، أثرها من حيث تقليل استهلاك السلع المستوردة وزيادة حجم التحويلات التي سيرسلها المهاجرون إلى عائلاتهم التي بقيت في البلد، وقد تؤدّي أيضاً إلى إعادة التوازن في الحسابات الخارجية. وربما كان هذا هو الحل الأسهل والأكثر احتمالاً، نظراً لعدم قدرة النظام القائم على مواجهة الأزمة. لكنها ستنتهي بهدم المجتمع عبر إفراغه من قواه الحيوية وتفكيك الروابط الأسرية والاجتماعية؛ وسيتعين علينا الانتظار وقتاً طويلاً، لعقود ربما، ليتمكن أولئك الذين سيبقون، لأنهم لا يجدون سبيلاً للرحيل، وكبار السن، والأكثر فقراً، والأقل تعليماً، وأيضاً، السياسيون ورجال الأعمال الذين لهم مصلحة في هذا التحوّل، من إعادة تشكيل مجتمع متماسك.
ستفضي هذه الهجرة الجماعية إلى أوضاع عدة، وهذا متوقف بشكل كبير على البيئة السياسية الدولية والإقليمية.
المتغير 2 - البيئة السياسية
إذا استقرت البيئة السياسية على أساس تفاهم الحد الأدنى، فمن المحتمَل قيام نظام عسكري سيجد نفسه معتمداً على المساعدات الخارجية. أما في حال بقي الوضع السياسي الإقليمي والدولي يعاني من عدم الاستقرار والعقوبات، فسنشهد حصول السيناريو الأسوأ، مع فرض الجماعات سيطرتها على أجزاء مختلفة من الأرض، وانهيار أجهزة الدولة، وتوسّع نطاق عمليات التهريب والابتزاز المنظّمة إلى حد ما.
ولعل السيناريو الأفضل يتمثل في منع حصول الهجرة الجماعية كاستجابة للأزمة الاقتصادية والمالية، والحؤول دون التضحية بالمجتمع لحماية النظام السياسي الطائفي أو لإيجاد نسخة عنه مستقرة إلى حد ما. وينطلق هذا السيناريو من خيار سياسي: إقامة نظام سياسي يتمتع بشرعية قوية تسمح له باتخاذ إجراءات فعّالة ترقى إلى مستوى التحدّيات وحالات عدم اليقين التي يفرضها الوضع، نظام علماني يعلن عن خياراته في السياسة الداخلية والخارجية على حد سواء. وبحسب ردّات الفعل الخارجية، ستكون الحكومة قادرة على الحد من هجرة اللبنانيين أو حتى عكسها، وعلى التعامل مع وجود الأجانب بطريقة منظّمة وكريمة. والمهم هنا هو تسلسل الاختيارات، وربط كل عنصر من عناصرها بالتقييم الأولي وبالخيارات الاستراتيجية النهائية.
تجمع هذه الدراسة أبحاثاً للمؤلف ومنشورات وتصريحات سابقة له بصيغة محدّثة، نشرتها المؤسّسة اللبنانية للمواطنة بإدارة آلان بيفاني باللغة الفرنسية، وتولّت غيدا اليمن من فريق موقع 0 ترجمتها إلى العربية.
المراجع
Abou Rjeily Khalil, Labaki Boutros, «Bilan des guerres du Liban 1975-1990», l’Harmattan, Paris 1993.
Augustin Bernard. Les populations de la Syrie et de la Palestine d’après les derniers recensements. in: Annales de Géographie, t. 33, n°181, 1924. pp. 73-79.
Babels, «Exils syriens, Parcours et ancrages (Liban, Turquie, Europe ), le passager clandestin» Bibliothèque des frontières.
Balanche Fabrice, «Les travailleurs syriens au Liban ou la complémentarité de deux systèmes d’oppression», GREMMO, Université Lyon II. Le Monde diplomatique – Editions Arabes, mars 2007.
Berthélemy Jean-Claude, Dessus Sébastien, Nahas Charbel; “Exploring Lebanon’s Growth Prospects” World Bank Policy Research Working Paper 4332, August 2007.
Chidiac Edmond, «Les intérêts communs syro-libanais (1920 - 1950)». in Nadine Méouchy (dir.), France, Syrie et Liban 1918- 1946. Presses de l’Ifpo, 2002.
Courbage Youssef et Fargues Philippe, «La situation démographique au Liban, Analyse des données», Publications de l’Université Libanaise, Section des études philosophiques et sociales, Beyrouth, 1974.
David Anda, Marouani Mohamed Ali, Nahas Charbel, Nilsson Björn; “The economics of the Syrian refugee crisis in neighbouring countries: The case of Lebanon”, Econ Transition and Institutional Change, Wiley, 2020;28:89–109.
de Vaumas Etienne, «La répartition confessionnelle au Liban et l’équilibre de l’Etat Libanais». In: Revue de géographie alpine, tome 43, n°3, 1955. pp. 511-603.
Dessus Sébastien et Nahas Charbel, “Migration and Education Decisions in a Dynamic General Equilibrium Framework”, World Bank, Policy Research Working Paper 4775, November 2008.
Doraï Kamel “Palestinian refugees and the current Syrian conflict: from settled refugees to stateless asylum seekers?”.
Dumont Gérard-François «LES POPULATIONS DU LIBAN», Outre-terre, 2005/4 no 13 | pages 419 à 445.
Albert Hourani & Nadim Shehadi (ed.), The Lebanese in the World: A Century of Emigration. Londres, I.B. Tauris et Center for Lebanese Studies, 1992, p. 109-138.
Jaulin Thibaut, Art et mesure «Démographie et politique au Liban sous le Mandat, Les émigrés, les ratios confessionnels et la fabrique du Pacte national», Histoire & mesure, XXIV - 1 | 2009.
JAULIN Thibaut, L’État libanais et sa diaspora; Enjeux confessionnels, usages politiques et dynamiques économiques, Thèse au CNRS (IREMAM), Soutenue le 19 juin 2009.
Kasparian Chohig, «L’entrée des jeunes Libanais dans la vie active et l’émigration», Université of Saint Joseph, Beyrouth, 2004.
Kasparian Chohig, «L’émigration des jeunes Libanais et leurs projets d’avenir», Université of Saint Joseph, Beyrouth, 2009.
Kasparian Chohig, «L’apport financier des émigrés et son impact sur les conditions de vie des Libanais», Université of Saint Joseph, Beyrouth, 2014.
Nahas Charbel et Consultation and Research Institute, “Impact of humanitarian aid on the Lebanese economy”, UNDP-UNHCR, Beirut, 2015.
Nahas Charbel, “Financing and political economy of higher education: The case of Lebanon”, Prospects, volume 41, pages69–95, Springer, (2011).
Safa Elie, “Essai sur l’émigration libanaise», Thèse pour le Doctorat en Droit, Université of Saint Joseph, Beyrouth, 1959.
- بطرس لبكي «هجرة اللبنانيين»: مسارات عولمة مبكرة (1850-2018).
البيانات الإدارية
- تعداد 1932 وبيانات الأحوال المدنية ذات الصلة.
- بيانات إدارية شهرية من الأمن العام تتعلق بحركة الدخول والخروج، بحسب الجنسية.
- بيانات إدارية وبيانات المسوحات الصادرة عن وكالات الأمم المتحدة، وخصوصاً البيانات المتعلقة بالفلسطينيين والسوريين.
- تعداد العام 2017 الذي أجرته إدارة الإحصاء المركزي ولجنة الحوار اللبناني الفلسطيني وجهاز الإحصاء الفلسطيني، وصدر في العام 2019، للّاجئين الفلسطينيين: «التعداد العام للسكان والمساكن في المخيمات والتجمعات الفلسطينية في لبنان»، 2019.
- التقارير اللبنانية الرسمية عن اللاجئين السوريين: «خطة لبنان للاستجابة للأزمة»، منذ العام 2017، وآخر تحديث لها في العام 2022 منشور على موقع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين
- نتائج تسجيل اللاجئين السوريين لدى مفوضية الأمم المتحدة السامية لشؤون اللاجئين، منشورة على الموقع الإلكتروني: https://data2.unhcr.org/en/situations/syria/location/71
نتائج المسوحات
- مسوحات المديرية العامة للإحصاء، ولاحقاً إدارة الإحصاء المركزي (الأحوال المعيشية للأسر)، في الأعوام 1970 و1996 و2004 و2012.
- مسوحات عن هجرة الشباب والأكاديميين (شوهيغ كاسباريان وآخرون).
- المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين: «تصورات اللاجئين السوريين ورغبتهم بالعودة إلى سوريا»، أيار/مايو 2023.
- 1Sebastien Dessus, and Charbel Nahas: “Migration and Education Decisions in a Dynamic General Equilibrium Framework” (November 1, 2008). World Bank Policy Research Working Paper Series, 2008. متوفر على موقع شبكة أبحاث العلوم الاجتماعية (SSRN) على الرابط https://ssrn.com/abstract=1300270
- 2Beine M, Docquier F and H. Rapport H (2003). “Brain Drain and LDCs’ Growth: Winners and Losers” IZA Discussion Paper
- 3MILES, 2008, Banque Mondiale
- 4شوهيغ كاسباريان، منشورات جامعة القديس يوسف.
- 5تناولت الورقة البحثية التي أعدها دوسو ونحاس نمذجة هذه الظاهرة من منظور ديناميكي، ودرست تأثير مختلف الأحداث أو الإجراءات على هذه الديناميكية (تفاوت مستوى الأجور الخارجية، التغير في مستوى إعانات التعليم، الحصول على المساعدات الخارجية، وما إلى ذلك).
- 6جامعو الضرائب في زمن الحكم العثماني. حظي المقاطعجيون وعائلاتهم في أوساط الفلاحين، بمكانة بارزة.
- 7ترمز «البيوت اللبنانية» القرميدية الشهيرة المستوردة من مرسيليا إلى هذه الحقبة.
- 8لقرار الذي اتخذته الأمم المتحدة في 2 أيلول/سبتمبر 2004 ويدعو إلى «انسحاب جميع القوات الأجنبية من لبنان، ونزع سلاح جميع الميليشيات اللبنانية وغير اللبنانية، وبسط سيطرة الحكومة اللبنانية على جميع الأراضي اللبنانية، واحترام سيادة لبنان وسلامته الإقليمية ووحدته واستقلاله السياسي».
- 9تعمل المديرية العامة للطيران المدني على إعداد هذه السلسلة وتنشرها إدارة الإحصاء المركزي والبنك المركزي (مع وجود اختلافات ملحوظة ولا تفسير لها).
- 10أدى توزيع البطاقات التموينية من قبل مكتب الحبوب في العام 1943 إلى إحصاء سكاني لم يكن له تأثير على سجلات الأحوال المدنية.
- 11وهنا نجد مرة أخرى الطبيعة المتطرفة للحالة اللبنانية، ذلك أن الزواج بين شخصين من جنسيات مختلفة بات ظاهرة شائعة جرّاء ارتفاع حركة السفر والاتصالات. وبما أن النسَبَ للأب وحده بات موضوعاً إشكالياً على مستوى العالم، فإن ذلك سيؤدي في نهاية المطاف إلى توزع الجنسيات، ما يدعو إلى التشكيك في معنى الانتماء الوطني نفسه.
- 12تجدر الإشارة إلى أن المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين تستخدم مصطلح «لاجئين» فيما يستخدم الجانب اللبناني الرسمي مصطلح «نازحين».
- 13ديفيد اندا، مرواني محمد علي، نحاس شربل، نيلسون بيورن. «الانعكاسات الاقتصادية لأزمة اللاجئين السوريين على دول الجوار: حالة لبنان»، مجلة Econ Transition and Institutional Change، وايلي، 2020؛28:89-109