Preview داخل الآلة السياسية لـ «أوبر»

داخل الآلة السياسية لـ «أوبر»

في العام 2016، ومع اقتراب نهاية فترة ولايته الثانية، سُئِل باراك أوباما عمّا يخطّط له مع عودته إلى الحياة المدنية. أجاب بكلمة واحدة: «أوبر» (Uber). أشارت النكتة إلى تغييرين حدثا في خلال فترة رئاسته. أولاً، أصبحت كلمة «أوبر» فعلاً قائماً بذاته، وبات العمل كسائق لدى أوبر شائعاً. ثانياً، غيّر تطبيق نقل الركاب طريقة تفكير الأميركيين في الاقتصاد، إذ أعلنت العناوين الرئيسة عن تغلغل مفهوم «أوبر» في كل شيء من التعليم العالي إلى الرعاية الصحية. وفي شهر أيلول/سبتمبر من ذلك العالم، أعلنت مجلّة «ذي إيكونوميست» (The Economist) عن بزوغ «عالم أوبر».

يبقى النجاح المالي الحقيقي للشركة سؤالاً مفتوحاً. فهي تأسست في العام 2009، وجمعت 1.3 مليون دولار من مستثمرين في غضون عام واحد. وبحلول العام 2015، ارتفعت قيمتها السوقية إلى 51 مليار دولار مدفوعة باستثمارات جريئة من مصادر مثل «مجموعة سوفت بنك» اليابانية (SoftBank Group)  وصندوق الثروة السيادية في المملكة العربية السعودية. لكن خلف الكواليس، أظهرت ميزانياتها العمومية خسائر صاعقة وصلت إلى 3.8 مليار دولار في العام 2016 وحده. وفي العام 2019، قال رئيسها التنفيذي، دارا خوسروشاهي، إنها على غرار «أمازون» (Amazon)، كانت تنفق من أموال المستثمرين لترسّخ هيمنتها في السوق، ومن ثمّ إنتاج الأرباح في وقت لاحق. وأعلنت الشركة في شهر شباط/فبراير من هذا العام أن هذه السنة الأولى التي تحقق أرباحاً فيها. 

لكن «أوبر» لم تعمل قط كشركة عادية تقدّم خدمات في السوق المفتوحة. منذ بدايتها، استخدمت رأس مال ضخم للضغط من أجل سن قوانين تفضيلية. بعبارة أخرى، لتغيير الشروط التي تُدار بها الأسواق. وفي العام 2016، كان لديها من أعضاء جماعات الضغط ما يقرب العدد الذي لدى «أمازون» (Amazon) و«مايكروسوفت» (Microsoft) و«وول  مارت» (Walmart) مجتمعة. وباستخدامها التكتيكات المفضّلة لصناعات الأسلحة والتبغ - مثل البرامج البحثية التي ترعاها الشركات وحملات التواصل التحريضية مع المستهلكين - دفعت الحكومات المحليّة لرفع القيود التنظيمية عن خدمات السائقين من خلال إلغاء شروط السلامة مثل الترخيص والتحقّق من الخلفية وفحص المركبات. كما أقنعت المشرّعين بالتغاضي عن قوانين العمل، وتصنيف السائقين بوصفهم مقاولين مستقلين وليس موظفين. وفضلاً عن ممارسة الضغوط، استخدمت «أوبر» الاستفتاءات الديمقراطية والضغوط القضائية والتهديد بإضرابات لشن هجوم متعدد الجوانب على الأنظمة. ويكشف اندفاع المشرّعين في شتى أنحاء البلاد لتلبية مطالبها كم صارت البنية التحتية العامة ونُظم الحوكمة لدينا ضعيفة.

«أوبر» لم تعمل قط كشركة عادية تقدّم خدمات في السوق المفتوحة. منذ بدايتها، استخدمت رأس مال ضخم للضغط من أجل سن قوانين تفضيلية. بعبارة أخرى، لتغيير الشروط التي تُدار بها الأسواق

استغلال سنوات من التقشف الحضري

أُطلقت «أوبر»، التي تقدّم اليوم مجموعة من الخدمات، كتطبيق للهواتف الذكية يربط ركّاباً محتملين بالسائقين. قال مؤسِّسا الشركة، ترافيس كالانيك وغاريت كامب، إن الفكرة لاحت لهما في أمسية ثلجية في باريس، حينما عجزا عن إيقاف سيّارة أجرة. وجرى الحفاظ على النمو المبكر للشركة من خلال الاستثمارات الرأسمالية، ما سمح لها في تخفيض أسعارها إلى مستويات لم يستطع قطاع سيارات الأجرة ومنافسوها مثل «ليفت» (Lyft) مضاهاتها. كما تمكّنت، في أعقاب الركود العظيم، من الاعتماد على تجمّع عمالة رخيصة، إذ كانت أعداد كبيرة من العاطلين عن العمل حديثاً والعاطلين جزئياً يبحثون عن عمل.

كان التطبيق مبتكراً وسرعان ما حظي بانتشار كبير: في العام 2014 وحده، كان يتباهى بإنجازه 140 مليون رحلة. لكن ابتكار «أوبر» الأعمق كان الريادة في نموذج اقتصاد الأعمال المستقلة والمؤقتة نفسه. أرست الشركة نظاماً لخدمات نقل الركاب عند الطلب يتطلّب توظيف ونشر سريع لعدد كبير من «الشركاء السائقين»، ممن يُمنحون المرونة الظاهرية في اختيار ساعات عملهم ويتنازلون في مقابل ذلك عن مزايا بيئة العمل التقليدية، مثل الحد الأدنى للأجور والإجازة المرضية المدفوعة والمعاشات التعاقدية والرعاية الصحية وتعويضات العمّال وأجور العمل الإضافيّ والتأمين ضد البطالة. ونظراً إلى أن السائقين يقودون سياراتهم، لا تحتاج «أوبر» إلى الاحتفاظ بأسطول من المركبات. والحال، إنها تنقل تكاليف العمالة والاستثمار الرأسمالي إلى كاهل العمّال الذين غالباً ما تقل مكاسبهم عن الحد الأدنى للأجور في الولاية أو المدينة.

دخلت «أوبر» مدناً بشكل غير قانوني، وقدّمت نفسها بوصفها شركة رائدة ومبتكرة، تخالف قطاع سيارات الأجرة التقليدي الراسخ، وتحارب اللوائح التنظيمية البائدة. وبحسب مارك ماكغان، وهو عضو سابق في جماعات الضغط وتحوّل إلى كاشف فساد، كان شعار الشركة «لا تطلبوا الإذن، انطلقوا وبسرعة». ودُعِم هذا التوسّع بحملة سياسية، ظهرت خطوطها العريضة للمرة الأولى في العام 2012 في العاصمة واشنطن. وكما وثقنا في كتابنا، اقترح مجلس العاصمة أن تكون نسبة 10% من جميع أساطيل سيارات الأجرة مجهّزة لذوي الإعاقة، وتحديد حد أدنى للسعر من أجل حماية قطاع سيارات الأجرة المحلية. وحثت «أوبر»، في حملة أُطلق عليها اسم «عملية هزيم الرعد»، المستخدمين على التحدث دفاعاً عنها.

في غضون 24 ساعة، غمر العملاء المجلس بـ50 ألف رسالة إلكترونية و37 تغريدة تعارض اللوائح البلدية. وكتب مجموعة من الأشخاص ليقولوا إن «أوبر» تقدّم خدمة أفضل من نظام سيارات الأجرة في المدينة الذي كان بالياً وغير موثوق ولا يُمكن الوصول إليه بواسطة الكراسي المتحرّكة، وفوق كل شيء عنصرياً. زعم بعضهم أن سيارات الأجرة لن تنقل الركاب الملوّنين أو تدخل أحياء معيّنة. كتبت إحداهن: «كوني امرأة أفرو أميركية، أجد صعوبة في ركوب سيارة أجرة من أمام مكتب في الكابيتول هيل. من المزعج أن أقف أمام مبنى الكونغرس، مرتديةً بذلة، بعد يوم طويل من الخدمة العامة وأرى سيارة أجرة تلو الأخرى تمر بجواري. أما مع أوبر، فأتصل بسيارة وتأتي إليّ».

نجح هذا «النشاط الإلكتروني». وفي اليوم التالي، أُلغي الحد الأدنى للسعر والشروط الأخرى من القانون. وفي مدوّنتها، تفاخرت «أوبر»: «لا تقللوا إطلاقاً من قوة الآلاف من المؤيدين المخلصين المسلحين ببريد إلكتروني ووسائل تواصل اجتماعيّ وقضية». وكانت عملية «هزيم الرعد»، بحسب أحد المستثمرين الأوائل، بمثابة إشارة إلى «بزوغ فجر سياسات محلية جديدة: حيث تستخدم التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي عضلاتها المكتشفة حديثاً في الوقت الفعلي للتأثير بالسياسات». كما أظهرت كيف يُمكن للشركات أن تستغل المشكلات الناجمة عن سنوات من التقشف الحضريّ، مثل انخفاض الاستثمارات في النقل العام وأنظمة سيارات الأجرة سيئة الصيانة. في ذلك الوقت، كتب مايك ديبونيس من صحيفة «واشنطن بوست» (The Washington Post) أن كالانيك: «دفع بفكرة تحرير عمل أوبر من التدخل الحكوميّ». وكما أخبرنا أحد أفراد جماعات الضغط التابعة لأوبر في العاصمة، فإن المدينة «تبنت رؤيتنا للعالم».

نظراً إلى أن السائقين يقودون سياراتهم، لا تحتاج «أوبر» إلى الاحتفاظ بأسطول من المركبات. والحال، إنها تنقل تكاليف العمالة والاستثمار الرأسمالي إلى كاهل العمّال الذين غالباً ما تقل مكاسبهم عن الحد الأدنى للأجور

جمهورية بروكلين حيث تتحقّق الأحلام

لم يسرِ نمو «أوبر» في شتى أنحاء البلاد بسلاسة. في العام 2014، واجهت الشركة موجة من الدعايات السلبية ضدّ عدد من قراراتها. منحت الموظّفين وبعض السائقين إمكان الوصول إلى برنامج يُدعى «غاد فيو» (God View) يستخدم بيانات موقع الهاتف ليظهر مكان وجود الركاب في الوقت الحقيقي، وحجزت آلاف الرحلات مع «ليفت» وألغتها لتقويض البرنامج، ودفعت قروض السيارات عالية المخاطر إلى سائقيها، ورفعت الأسعار في خلال الكوارث الوطنية. كما تبيّن أن الشركة لديها ثقافة سامة في بيئة العمل حيث ينتشر التحرش الجنسي والتنمّر، ويتم استهداف الموظفين الذين يبلغون عن حوادث كهذه. ونتيجة لذلك، زاد سخط المستثمرين، وبدأت المدن أيضاً تتصدّى لرفض «أوبر» الامتثال لقواعد التأمين والترخيص والتحرّي عن الخلفية. وتحت الضغط، عيّنت في آب/أغسطس من العام 2014، مدير حملة أوباما للعام 2008 وكبير مستشاري البيت الأبيض، ديفيد بلوف، نائباً للرئيس للسياسات والاستراتيجية. وأسمت «بوليتيكو» (Politico) هذه الخطوة «أوبمة أوبر» (نسبة إلى أوباما).

لم يكن بلوف الوحيد من خريجي أوباما رفيعي المستوى الذين جنّدتهم «أوبر». فسرعان ما عيّنت وزير الدفاع السابق روبرت غيتس لرئاسة برنامجها «أوبر ميليتاري» (UberMILITARY)، واستعانت بآلان كروغر، كبير المستشارين الاقتصاديين السابق لأوباما، لينتج دراسة تزعم فيها أن سائقيها كانوا سعداء بمستوى أجورهم ومرونة عملهم. شابت الدراسة مزاعم لا أساس لها ومشاكل منهجية: على سبيل المثال، طُرح على السائقين أسئلة مزدوجة الدلالة وموجّهة لن تصمد في أي تقييم. كما فشلت في احتساب التزاماتها الضريبية وقلّلت من تقدير نفقاتها التشغيلية. مع ذلك، أثبتت الشركة أهميتها، إذ دعمت ورقة مناقشة شارك كروغر وسيث هاريس نائب وزير العمل السابق في عهد أوباما في تأليفها لمصلحة معهد بروكينغز في العام 2015، حاججا فيها أنه من أجل تحديث قانون العمل، يجب أن يعترف المشرّعون بفئة جديدة من الفاعلين الاقتصاديين؛ «العامل المستقل»، الذي رأيا أنه يحتل «المنطقة المتوسطة بين الموظفين والمقاولين المستقلين»، وقدّما «السائقين المستأجرين الذين يعملون على منصتي «ليفت» أو «أوبر» بوصفهما «أمثلة نموذجية».

ساهم بلوف في وضع «أوبر» كجزء من الحل لمشكلة صارعت إدارة أوباما لحلّها: كبح جماح اقتصاد كان في حالة سقوط حر بعد الركود الكبير. وأكّد في المؤتمرات الصحفية وندوات السياسات، أن الشركة، وليس الحكومة، يجب أن تكون في لبّ المناقشات بشأن ركود الأجور والبطالة الجزئية والحراك الاقتصادي. ساعد ذلك العمّال أن يعيدوا الأموال «إلى جيوبهم» وأن يتلقّوا «زيادة الأجور التي حُرموا منها لسنوات». في الوقت نفسه، أكّد أن الشركة تعتمد على نفسها بشكل كامل. فقال: «نحن لا نطالب بإعفاءات ضريبية خاصة مثلما يفعل أولئك الذين يرغبون في بناء مصنع أو مقر رئيسي في مدينة ما. نطالب ببساطة من المدن أن تسمح لمواطنيها باستخدام أصولهم الشخصية - سياراتهم - ليجنوا المال من خلال نقل زملائهم المواطنين في أرجاء مدينتهم».

حجب بلوف كيفية تحريف «أوبر» معايير الدولة لمصلحتها. وفي العام 2014، أقنعت العاصمة أن تتبنى قانوناً نموذجياً يحجب أدائها وبصمتها عن الأنظار، من أجل حماية بيانات العملاء وتكنولوجيا الشركة المملوكة. وبذلك تُستثنى أيّ معلومات جمعتها الحكومة المحلية عن عملياتها من قانون حرية المعلومات، حتى الإجابات على أسئلة أساسية مثل ما إذا كانت تخدم جميع المناطق على نحوٍ منصف. وكانت الشركة، في الوقت نفسه، تستخدم بشكل ممنهج طلبات قانون حرية المعلومات لتتبع تصرفات صناع سياسات النقل على مستوى المدن في مختلف أنحاء البلاد، حتى أنها استعانت بجهات خارجية لتجمع المعلومات من أجل استخدامها لممارسة الضغوط. فأخبرنا أحد كبار موظفي المدينة في العاصمة أنه يتواصل الآن عبر الهاتف فحسب لأن «أوبر» «لا يمكنها أن تطبق قانون حرية المعلومات على مكالمة هاتفية».

في السنوات التالية، ضغطت أوبر من أجل فرض قوانين مماثلة في مدن وولايات أخرى، بمساعدة مجلس التبادل التشريعي الأميركي المحافظ، الذي يستخدم لغة في حملاته تذكرنا بالجهود التي بذلها الأخوان كوك لإلغاء القيود التنظيمية في التسعينيات. كما دفعت الشركة بمشاريع قوانين لتمنع سائقيها وغيرهم من العاملين المعتمدين على تطبيقات من ضمان وضعهم كموظفين. ويتبع التشريع النموذجي، الذي قُدّم للمرة الأولى في مجلس العاصمة، هذه الأجندة من خلال خلقه تمييزين؛ التمييز الأول، يبتكر فئة جديدة من الأعمال تُسمى «خدمة إيفاد رقمي» (أو «شركة شبكة نقل»)، والتي لا تقدّم خدمات الأجرة، كما أنها ليست «شركة نقل مشترك»، وبذلك فهي معفاة من لوائح كلا القطاعين. والتمييز الثاني يكمن بتعريف السائقين بأنهم غير الموظّفين الذين يتعاقدون مع الشركة.

أشارت شركة «أوبر» على نحوٍ وهمي إلى أن تصنيف السائقين على أنهم غير موظفين يساعد جماعات السود والمهاجرين من خلال منحهم ساعات عمل مرنة. وفي العام 2018، استعانت بالمخرج سبايك لي في نيويورك ليصنع سلسلة أفلام قصيرة بعنوان «جمهورية بروكلين» عن «رحلة خمسة أشخاص يقودون «أوبر» أو يوصلون الأغراض فيها بينما يطاردون أحلامهم». وفي العام 2020 في كاليفورنيا، بعدما أرسى المشرعون الأساس لإعادة تصنيف سائقي «أوبر» كموظّفين، غلبتهم حملة عامة رعتها الشركة تؤكّد أن إجراءات كهذه ستضرّ الملوّنين، وخصوصاً النساء المسؤولات عن رعاية الأطفال أو رعاية المسنين.

كشفت دراسات عديدة إلى أن «أوبر» تعرّض صحة السائقين وسلامتهم إلى الخطر من خلال تشتيت انتباههم على الطريق بإشعارات مستمرة وتعريضهم إلى ضروب خطر أشدّ من الاعتداء الجسدي واللفظي

تشير كل الأدلة إلى العكس. كشفت دراسات عديدة إلى أن «أوبر» تعرّض صحة السائقين وسلامتهم إلى الخطر من خلال تشتيت انتباههم على الطريق بإشعارات مستمرة وتعريضهم إلى ضروب خطر أشدّ من الاعتداء الجسدي واللفظي مقارنة بغيرهم من سائقي سيارات الأجرة، الأمر الذي يشجعهم على تحمّل الديون، ويجعلهم يؤدون أعمال غير مدفوعة الأجر مثل انتظار الركاب أو تشارك البيانات عن أنماط حركة المرور واهتزازات الجسر بين الرحلات. ولعل الأكثر فظاعة، أن الشركة تجعلهم عرضة إلى أجور لا يُمكن التنبؤ بها، أجور يحدّدها نظام آلي يُمكن من خلاله أن يتقاضى عاملان أجرين مختلفين عن العمل ذاته، وذلك استناداً إلى سجلي عملهما وبيانات أخرى مأخوذة من هاتفيهما. ولا يجوز للموظفين الطعن في هذه القرارات. وصفت الباحثة القانونية فينا دوبال نظام الأجور المتغيّر بحسب الشخص، الذي اعترف به أخيراً الرئيس التنفيذي لشركة «أوبر» خسروشاهي هذا العام، بأنه شكل من أشكال «التمييز الخوارزمي في الأجور».

إجراءات خادعة لتجنّب الرقابة

لم تفرد جميع المدن البساط الأحمر لـ«أوبر». وتلجأ الشركة، إذا ما واجهت مقاومة على مستوى المدينة، إلى الشّفْعَة الحكومية؛ أي إبطال مراسيم بلدية من قِبَل المجالس التشريعية في الولايات. استُخدم هذا التكتيك للمرة الأولى في العام 2015، عندما اقتُرح مشروع قانون في أوستن لمطالبة شركات نقل الركاب بأخذ بصمات سائقيها، على غرار شركات سيارات الأجرة تماماً. وهدّدت شركة «أوبر» أن تترك المدينة إذا ما أُقر القانون، فضغطت على المجلس المحلي ليعيد النظر فيه. عندما فشلت تلك الجهود واعتُمد القانون، أنفقت الشركة 8 ملايين دولار على استفتاء عام لإسقاطه، وهو ما رفضه الناخبون أيضاً. أوقفت بعد ذلك عملياتها في المدينة، واستعانت بـ26 شخصاً من جماعات الضغط، وأنفقت 1.6 مليون دولار لتقنع الأعضاء الجمهوريين في مجلس تكساس التشريعي أن يتبنّوا إطاراً تنظيمياً على مستوى الولاية من شأنه أن يلغي قوانين السلامة المحلّية وقوانين الترخيص. نجحت هذه الحملة: فوقّع الحاكم غريغ أبوت، في العام 2017، قانون ولاية يلغي أيّ تشريع محلي. ووصف القانون الذي سوف يتيح لـ«أوبر» أن تعيد إطلاق أعمالها في أوستن من دون أي إشراف بلدي، بأنه «احتفاء بالحرية والمشاريع الحرة».

سرعان ما تبنّت الشركة هذه الاستراتيجية على مستوى البلاد. ومنذ العام 2017، ضغطت وقريناتها على 34 هيئة تشريعية في الولايات لمنع الحكومات على مستوى المدينة والمقاطعة من وضع معايير للعمل مثل حد أدنى للأجور بالنسبة إلى السائقين، أو زيادة الضرائب على خدمات نقل الركاب، أو فرض تدابير السلامة أو إمكان الوصول. فقانون هاواي، على سبيل المثال، يتملك بالشّفْعَة «أيّ مرسوم أو لائحة أخرى تعتمدها إحدى الأقسام السياسية التي تحكم على وجه التحديد شركات شبكات النقل، أو سائقي شركات شبكات النقل، أو مركبات شركات شبكات النقل».

تتمتع أوبر، في الوقت نفسه، بسجل طويل في استخدام إجراءات خادعة لتجنب الرقابة التنظيمية، لا سيما من خلال برنامج يسمى «غرييبول» (Greyball). نشرت الشركة، في بوسطن ولاس فيغاس ومجموعة من المدن الأوروبية، نسخة وهمية من تطبيقها على هواتف مسؤولي المدينة غير الودودين لجعل الخدمة تبدو غير متاحة. وحقّقت في حسابات بطاقات الائتمان الخاصة بالركاب، في بعض المدن، للمساعدة في تحديد ما إذا كانوا مسؤولين حكوميين.

تتجه المجالس التشريعية أو المحاكم في الولايات، حيث لا تقدّم خدمة «أوبر»، إلى صندوق الاقتراع. فسنت ولاية كاليفورنيا، في العام 2019، قانوناً يجعل الشركات مسؤولة عن إثبات أن عمالها مقاولين مستقلين، ما فتح الباب أمام إعادة تصنيفهم كموظفين. استجابت «أوبر» وغيرها من الشركات القائمة على اقتصاد الأعمال المستقلة والمؤقتة من خلال ضخ 220 مليون دولار في استفتاء عام، أو الاقتراح 22، الذي وصفته بأنه دفاع عن حقوق السائقين. وشدّدت على أن «حماية قدرة سكان كاليفورنيا على العمل كمقاولين مستقلين في جميع أنحاء الولاية باستخدام منصات مشاركة الرحلات والتوصيل القائمة على التطبيقات أمر ضروري حتى يتسنى للناس أن يستمروا في اختيار الوظائف التي يشغلونها، والعمل كثيراً أو قليلاً بقدر ما يريدون، وأن يعملوا مع منصات أو شركات عدة». والحال، أن اقتراح كهذا سوف يعفي العاملين بناءً على التطبيقات من جميع أنواع الحماية العمالية تقريباً، بما في ذلك الإجازة المرضية مدفوعة الأجر واستحقاقات التقاعد وتعويضات العمل. أُقرّ القانون، على الرغم من اعتراض مجموعة من السائقين على شرعيّته في محكمة كاليفورنيا العليا. ونجاحه مؤشر مقلق على نفوذ «أوبر» السياسي. وفي ولاية ماساتشوستس، جمعت «أوبر» و«إنستاكارت» (Instacart) و«ليفت» 43 مليون دولار في العام 2022 - و7 ملايين حتى الآن في هذا العام - من أجل استفتاءات عامة مقلّدة.

بالعودة إلى كاليفورنيا، تنفق ««أوبر» 30 مليون دولار هذا العام وحده على لجنة العمل السياسي للابتكار في أوبر، وهي واحدة من أكبر لجان العمل السياسي ذات التمويل الفردي في الولاية. وبعد تجاهل القوانين وخداع صناع السياسات لأكثر من عقد من الزمان، فإن الشركة، كما قال متحدث باسمها لـ«بلومبرغ» (Bloomberg) تطرح مقترحات على المشرّعين في الولاية تضيف فوائد مع حماية المرونة». بعبارة أخرى، الشركة مستعدة لخسارة معارك بسيطة فيما يتعلّق بمعدلات الأجور والإجازات المرضية مدفوعة الأجر، ما دامت تكسب حربها في أن تصنّف حسبما تريد. وكتبت جينيفر شيرر ومارغريت بويدوك، محللتا العمل، أن «هذه السياسات عادة ما تنطوي على فوائد محدودة لمجموعة فرعية محددة حديثاً من العمل، بينما تقنن حالتهم من الدرجة الثانية كغير موظفين وتحرمهم من مجموعة أشكال الحماية والمزايا القانونية الفيدرالية والولائية».

للمفارقة، تعاونت بعض قطاعات العمل المنظم مع «أوبر». وفي نيويورك، كما هو الحال في سياتل، عملت الشركة مع النقابات التقليدية لتشرّع مساومة قطاعية أو على مستوى القطاع لسائقي سيارات نقل الركاب مع إعفاء العمّال من تدابير حماية العمل الراسخة، مثل الحق في الإضراب. تسمح المفاوضة القطاعية، الموجودة بالنسبة إلى متاجر البقالة في جنوب كاليفورنيا، للموظفين بالتفاوض على مجموعة من الشروط عبر أصحاب عمل متعدّدين بدلاً من الاتفاقيات مع كل مكان عمل على حدة. لكن هذا التكتيك محكوم عليه بالفشل في اقتصاد الأعمال المستقلة والمؤقتة، حيث يفتقر العمّال إلى مكانة الموظف وقوة مكان العمل. وفي كاليفورنيا في العام 2019، حاولت أوبر أن تبرم صفقة مماثلة مع الاتحاد الدولي لموظفي الخدمات قبل أن يؤدي انقسام في الحركة العمالية إلى وأد المفاوضات خلف الكواليس.

النمط الأخير واضح: تسوّق ««أوبر» نفسها بوصفها مؤيدة للعمّال اسمياً بينما تعارض التشريعات التي تتطلب أن تكون كذلك في الممارسة العملية. وفي العام 2020، بعدما سنت سياتل حداً أدنى للأجور بالنسبة إلى سائقي نقل الركاب، ذهبت الشركة إلى مقر ولاية واشنطن من أجل الضغط على المشرعين لتغيير القانون الذي أعادوا كتابته بطريقة تنفي وضع العمال المؤقتين وتؤسس لأول برنامج إجازة مرضية مدفوعة الأجر لسائقي نقل الركاب في البلاد. رفضت نقابة سائقي الشاحنات الوطنية قانون العام 2022، لكنه حظي بتأييد النقابة المحليّة، مؤكدة أنه من الأفضل إبرام صفقة وتجنب استفتاء عام بدلاً من النضال من أجل وضع الموظفين. وفي العام 2023 في ولاية نيويورك، وافقت «أوبر» على أن تمنح سائقي «أوبر إيتس» (UberEats) حداً أدنى للأجور وإجازة مرضية مدفوعة الأجل، لكنها لم تعاملهم كموظفين. واحتفلت، هذا العام في تورنتو، بشراكة مع نقابة عمال الأغذية والعمال التجاريين المتحدين لمساعدة السائقين في تقديم طلبات إلغاء التنشيط، حتى وهي تشن حملة على وضع حد أدنى للأجور لهم.

تسوّق ««أوبر» نفسها بوصفها مؤيدة للعمّال اسمياً بينما تعارض التشريعات التي تتطلب أن تكون كذلك في الممارسة العملية

استسلام السلطات العامة أمام أوبر 

استخدم حاكم ولاية مينيسوتا، تيم والز، في العام المنصرم حق النقض ضد تشريعات الولاية التي كانت ستضع حداً أدنى للأجور بالنسبة إلى سائقي نقل الركاب. وأعرب عن قلقه حيال من سيتولى نقل السكان ذوي الإعاقة وكبار السن في المناطق الريفية، ما لم تفعل ذلك «أوبر» و«ليفت»؛ وكأن خدمات النقل التابعة للولاية محكوم عليها أن تبقى غير ملائمة. فصبّ منظمو العمّال كل تركيزهم منذ ذلك الحين على صانعي سياسات المدينة في مينيابوليس الذين تبنّوا بسرعة مشروع قانون مماثل. وعلى خطى والز، استخدم العمدة جاكوب فراي حق النقض على القرار مرّتين، لكن مجلس المدينة ألغى قراره في المرة الثانية، فهدّدت «أوبر» و«ليفت» أن تتركا المدينة في غضون أشهر رداً على ذلك. وحذر والز، أنه إذا ما حدث ذلك، فلن يكون هناك «ما يسدّ هذه الفجوة» بالنسبة إلى ذوي الإعاقة وكبار السن الذين يمكنهم استخدام خدمات نقل الركاب مجّاناً، وذلك بفضل منحة من وزارة الخدمات الإنسانية في مينيسوتا.

وضعت انتصارات «أوبر» التنظيمية التي حققتها على مدار الـ15 عاماً الماضية أمثال والز وفراي بين مطرقة وسندان. فأصبحوا يعتمدون على الشركة لتقديم حلول لمشاكل الحوكمة التي لا يستطيعون أو لا يريدون معالجتها، مثل النقل العام الذي يعاني من نقص التمويل وعدم المساواة في المناطق الحضرية ونقص الوظائف. وهذا أحد الأسباب التي دفعت سياسيين من مختلف المشارب إلى احتضان «أوبر» بأذرع مفتوحة. وفي العام 2016، حظت الشركة بإشادات كل من جيب بوش وماركو روبيو وتيد كروز في خلال مساعيهم إلى الفوز بترشيح الحزب الجمهوري للرئاسة. بدايةً من ولاية أريزونا في العام 2019، عدّلت حفنة من الولايات الجمهورية الجنوبية القوانين لتسمح للمرضى باستخدام تمويل برنامج «ميديكيد» من أجل الدفع لشركتي «أوبر» و«ليفت» لقاء النقل إلى المواعيد الطبية غير الطارئة. وفي العام 2021، تعاونت إدارة جو بايدن مع «أوبر» لتوفّر نقلاً مجانيّاً إلى مواعيد التطعيم ضد فيروس كورونا.

يبدو أن الناخبين غالباً ما يتشاركون الشعور نفسه، فيأملون أن تتمكن «أوبر» من سد فجوة الحوكمة المحلية الآخذة في الاتساع منذ أواخر السبعينيات تحت ضغط السياسات النيوليبرالية. لذا، فإن التحدي السياسي الأعمق الذي تطرحه الشركة لا يتعلّق بأي نوع معيّن من التنظيم، بل يتعلّق بقيمة التنظيم نفسه. وإذا كانت لدى عديد من الأميركيين فكرة مبالغ فيها حيال قدرة «أوبر» على أن تحسن حيواتهم، فربما مرد ذلك إلى توقعاتهم المنخفضة حيال قدرة حكومتهم على تحسينها.

 

نُشر هذا المقال في The New York Review في 9 أيار/مايو 2024، وتُرجِم وأعيد نشره في موقع «صفر» بموافقة مسبقة من الجهة الناشرة.