ما الذي تفعله اللامساواة بالديمقراطية والبيئة والرأسمالية؟
منذ عقدين على الأقل، لم تعد اللامساواة مجرّد فجوة في توزيع الدخل، بل تحوّلت إلى نظام عالمي يعيد إنتاج نفسه ويقوّض تماسك المجتمعات من الداخل. فالتفاوت المديد في الثروة والفرص لم يعد مسألة أخلاقية أو اقتصادية فحسب، بل أزمة بنيوية تهدّد استقرار النظام السياسي والاجتماعي العالمي.
يؤكّد تقرير «اللامساواة العالمية» الصادر عن اللجنة الاستشارية لمجموعة العشرين أنّ تركّز الثروة بلغ مستويات غير مسبوقة: بين عامي 1995 و2023، استحوذ أغنى 1% على 41% من الثروة الجديدة، بينما لم يحصل النصف الأدنى من سكان العالم إلا على 1%. كما تعاني 83% من الدول، التي تضمّ 90% من سكان العالم، من مستويات مرتفعة من اللامساواة في الدخل.
لا تصف هذه الأرقام فجوة توزيع فحسب، بل تشير إلى تحوّل بنيوي يعيد تعريف العلاقة بين الديمقراطية والنموّ والاستدامة. فاللامساواة خيار سياسي يُضعف الثقة بالمؤسسات ويؤجّج السخط الاجتماعي، فتتآكل شرعية الدولة وتتصاعد النزعات الشعبوية والانعزالية.
شارك في إعداد هذا التقرير جوزيف ستيغليتز، وأدريانا أبْدينور، وِيني بيانيما، وجاياتي غوش، وعمران فالوديا، ووانغا زِمبي-مكابيل، وحدّد هؤلاء مخاطر كثيرة تترتب على تزايد اللامساواة، فهي تعطّل النمو والحراك الاجتماعي وتُفسد السياسة وتهدّد الديمقراطية والبيئة.
1. اللامساواة تُقوِّض الديمقراطية وتُفسد السياسة
لم تعد اللامساواة مسألة فقر بل مسألة سلطة ونفوذ. إذ يمتلك أعلى 10% من سكان العالم أكثر من 52% من الدخل العالمي، فيما لا يتجاوز نصيب النصف الأدنى 8%. يخلق هذا التركّز الهائل للثروة فجوة تمثيلية عميقة؛ ففي أوروبا والولايات المتحدة، تراجعت مشاركة الطبقات الوسطى في الحياة السياسية والإعلامية بأكثر من 30% خلال العقدين الأخيرين.
تُضعف اللامساواة الديمقراطية لأنها تُخلّ بتوازن القوة السياسية وتمنح الأغنياء قدرة غير متكافئة على تمويل الحملات الانتخابية وصناعة الرأي العام. والنتيجة: سياسات تخدم القلة وتُقصي الأغلبية. وتشير دراسة شملت 22 دولة إلى أن البلدان الأكثر لا مساواة أكثر عرضة بسبع مرات لتآكل ديمقراطيتها.
وحين تصبح الثروة بوابة النفوذ والإعلام، يتحوّل المال من محرّك اقتصادي إلى أداة حكم سياسي، وتغدو العدالة التوزيعية شرطاً لبقاء الديمقراطية لا شعاراً أخلاقياً.
2. اللامساواة تُضعف النموّ وتُعطّل الحد من الفقر
يُظهر التقرير أن ارتفاع اللامساواة في خلال العقد الماضي خفّض معدلات النموّ بنحو 0.8 نقطة مئوية سنوياً مقارنة بالدول الأكثر عدلاً. إذ يُضعف تركّز الثروة في القمة الطلب الكلي ويحوّل الأرباح نحو استثمارات مالية غير منتجة. يمتلك أغنى 1% أكثر من نصف الأصول المالية في العالم، فيما تراجعت الأجور الحقيقية في الأسواق الناشئة بنسبة 25% منذ عام 2019 — ما أدّى إلى ما يسميه التقرير «فخّ النموّ غير المتوازن»: إنتاج متزايد وقدرة شرائية متآكلة. وهو ما يُغذّي الاعتماد على الديون للحفاظ على الاستهلاك، ما يزيد هشاشة الأنظمة المالية، كما حدث في أزمة 2008.
ويبيّن التقرير أن خفض اللامساواة بنسبة 1% يزيد فاعلية سياسات مكافحة الفقر بـ3%. ففي أفريقيا جنوب الصحراء، لم يتراجع الفقر سوى 2% على الرغم من نموّ الناتج بنحو 4% سنوياً لأن 40% من المكاسب ذهبت إلى الأغنياء، بينما نجحت دول أميركا اللاتينية في مضاعفة معدلات خفض الفقر عبر الضرائب التصاعدية والإنفاق الاجتماعي.
أيضاً، تُضعف اللامساواة الاستثمار في التعليم والصحة والمهارات وتحدّ من الحراك الاجتماعي، إذ يبقى دخل الأفراد مرهوناً بأصلهم الطبقي ومكان ولادتهم. وتشير دراسة تغطي 87 دولة تضم 84% من سكان العالم إلى علاقة سلبية واضحة بين اللامساواة والحراك بين الأجيال.
3. اللامساواة تُفشِل التحوّل البيئي والتنمية المستدامة
يُظهر التقرير أن أغنى 10% مسؤولون عن أكثر من نصف الانبعاثات الكربونية العالمية، بينما لا يساهم النصف الأدنى بأكثر من 12%. ومع ذلك، يتحمّل الفقراء الكلفة الأكبر للتحوّل الأخضر عبر ارتفاع الأسعار وتراجع الدعم. فالسياسات المناخية الموحّدة، مثل ضرائب الكربون ورفع أسعار الطاقة، تُحمّل العبء لمن لم يتسبب أصلاً بالأزمة.
وتقدّر الدراسات أن أغنى 1% يطلقون كربوناً يعادل انبعاثات أفقر 66% من البشر. كما تبيّن الأبحاث أن استثمارات الأثرياء — خصوصاً في الوقود الأحفوري والإسمنت — أكثر تلويثاً بمرتين من المتوسط العالمي.
في المقابل، تُظهر التجارب الإسكندنافية أن العدالة في توزيع الدخل تُسهّل بناء توافق سياسي حول التحوّل البيئي، إذ تخصص الدول الأكثر مساواة نحو 7% من ناتجها المحلي للإنفاق الاجتماعي، مقابل 3% فقط في الدول غير المتكافئة. كما تكشف الأبحاث أن الثروة المتركّزة في القمة تُترجم إلى أنماط استهلاك واستثمار عالية الكثافة الكربونية. فقد أظهرت دراسة شملت 125 مليارديراً أن استثماراتهم في صناعات ملوِّثة — كالوقود الأحفوري والإسمنت — تضاعف المعدّل العالمي من الانبعاثات.
لذا، لا يمكن فصل العدالة البيئية عن العدالة الاقتصادية: خفض انبعاثات الأثرياء وتقييد أنماط الاستهلاك الفاخر شرط لتحوّل مناخي عادل وقابل للاستمرار.
4. اللامساواة: نظام يُعيد إنتاج نفسه عبر الأجيال
تُشكّل اللامساواة اليوم آلية توريث اجتماعي للفقر والامتياز. فالحرمان من التعليم الجيّد والرعاية الصحية والسكن اللائق يحوّل الفوارق الاقتصادية إلى بنية طبقية دائمة تُقوّض الحراك الاجتماعي. في المجتمعات غير المتكافئة، يُحدَّد مصير الأفراد بمكان الميلاد أكثر مما يتحدد بقدراتهم وبجهدهم. وبالفعل، يقدّر التقرير أن يحوّل نحو 1,000 ملياردير فقط، أي ثلث أصحاب المليارات في العالم، نحو 5.2 تريليون دولار إلى ورثتهم في خلال العقود الثلاثة المقبلة.
كما تُظهر الأدلة أن اللامساواة تُضعف فعالية الإنفاق العام. تميل النخب الاقتصادية في المجتمعات المتباينة إلى مقاومة الضرائب والإنفاق الاجتماعي، ما يؤدي إلى مؤسسات عامة أضعف وخدمات أقل جودة — حلقة مفرغة تُعيد إنتاج التفاوت بدل معالجته.
تُظهر الوقائع أيضاً كيف تتقاطع اللامساواة الاقتصادية مع الفوارق الجندرية والعرقية والجغرافية لتُضاعف التفاوت. ففي كينيا، فرصة الفتاة الفقيرة في متابعة الدراسة بعد الثانوية لا تتجاوز 1%، مقابل 50% للفتاة الغنية. وفي الولايات المتحدة، احتمال وفاة امرأة سوداء أثناء الولادة يتجاوز ضعفي نظيرتها البيضاء. وفي جنوب إفريقيا، تمتلك الأسرة السوداء 5% فقط من ثروة الأسرة البيضاء.
إنّ خفض اللامساواة شرط للتنمية الاجتماعية المستدامة لا نتيجةً لها. فالعدالة التوزيعية ليست مجرّد فضيلة أخلاقية، بل ركيزة لبناء مجتمعات أكثر تماسكاً، صحةً، وابتكاراً.