من هم الأسياد؟
- يمكن لأي حكومة تطرُق باب صندوق النقد أنّ تروي ظمأها ولكن من الكأس المسموم فقط
- الإجراءات التقشّفيّة ليست إلّا الأعراض البارزة لاستراتيجيّة التراكم التي تبنّتها النخب الأردنيّة
من هم أسيادنا؟ الإجابة النموذجيّة على هذا السؤال تبدو شاملة ومتينة، فصندوق النقد الدولي، بوصفه الملاذ الأخير لجميع الحكومات، وعلى الرغم من المراجعة التي أجراها على مذكّرته التوجيهيّة خلال هذه الفترة، واعتمدت "خفض شروط البرامج" مبدأً رئيسياً، أرفق نحو 26 شرطاً، كمعدّل وسطي، مع كلّ قرض من قروضه في العامين 2016/2017، وهو أعلى من المعدّل الوسطي لعامي 2011/2013 (نحو 19 شرطاً). لذلك، ما يجعل هذه الإجابة نموذجيّة هي الأجندة السياسيّة الإشكاليّة التي يفرضها صندوق النقد في الجنوب العالمي والاقتصادات الأوروبيّة المُتعثّرة على حدٍ سواء، وتتمثّل بخفض أجور القطاع العام، وإلغاء الدعم، وإعادة هيكلة صناديق التقاعد، وتوسيع التقشّف في الإنفاقين الجاري والاستثماري. عدا أنّ الحصول على رضا الصندوق، يستلزم ارتشافَ جرعاتٍ من وصفاته العامّة لتحرير المساعدات التنمويّة والمعونات وتحسين التصنيف الائتماني على أمل النجاح في أولمبياد السياسة العالمي، القائم على إغراء المستثمرين الدوليين للخروج من جنّاتهم الآمنة. باختصار، يمكن لأي حكومة تطرُق باب صندوق النقد أنّ تروي ظمأها دائماً، ولكن من هذا الكأس المسموم فقط.
باعتباره العمود الفقري للنيوليبراليّة، تعرّض صندوق النقد لانتقاداتٍ بسبب إجباره الاقتصادات الوطنيّة، على مدى عقود، على الانخراط في قالبه وتبنّي سياساته. يجادل جوزف ستيغلتز بأنّ صندوق النقد انحرف منذ السبعينيّات عن التفويض الأساسي الممنوح له في بريتون وودز والقاضي بدعم الإنفاق الحكومي النقدي، وباتت سياسته الحالية تتشابه مع آراء مديريه التنفيذيين من وزراء ماليّة وحكّام مصارف مركزيّة، الذين يصعدون إلى مواقعهم أصلاً من داخل القطاع المالي العالمي الذي يتغنّى بأسعار فائدة مُرتفعة تحدّ من الإنفاق. إلى ذلك، يشكّك ويليام إيسترلي في الافتراضات الأساسيّة التي تستند إليها الاستشارات الأجنبيّة باعتبارها تمثّلاً لعقدة الرجل الأبيض، وقد جادل سابقاً بأنّ برامج التعديل الهيكلي ليست أكثر من عكس للدورات الاقتصاديّة (كساد، فتضخّم، فكساد مجدّداً) ولديها تأثير محدود على الحدّ من الفقر على الرغم من النموّ الاقتصادي. أيضاً كشف نعوم تشومسكي عن نزعات سلطويّة، مُجادلاً بأنّ صندوق النقد يفرض حتّى ممارسات غير رأسماليّة. في الواقع، يشتري المستثمرون العالميون ديوناً سياديّة محفوفة بمخاطر مرتفعة مقابل فوائد عالية، لكنّهم نادراً ما يخسرون استثماراتهم المُجازفة لأنّ صندوق النقد الدولي يضمن تأميم الديون السياديّة المُتعثّرة، التي غالباً ما تكون قد تكبّدتها الماليات العامّة من قِبل حكومات استبداديّة بلا دعم شعبي.
يركّز منتقدو صندوق النقد وسيطرته على عمليّة صنع السياسات الاقتصاديّة على قوّة القطاع المالي العالمي، وهم نخب أجنبيّة يعيدون تشكيل الاقتصادات الوطنيّة. في هذا الإطار، تلعب النخب المحلّيّة في أحسن الأحوال دوراً ثانوياً فقط في نهب الثروة الوطنيّة. في أطر أخرى بقليل من التباين، تُطرَح التعبئة الشعبيّة المناهضة للتقشّف في بلدان عدّة ضدّ "مشروطيّة صندوق النقد"، بحيث تُستبعد النخب الوطنيّة من دائرة النقاش لصالح التعديلات الهيكليّة التي يطرحها الصندوق، وتُفرض على الجميع، من نُخب وعموم بلا استثناء. بالتالي، تصبح محاربة صندوق النقد الدولي عبر تشبيهه بالاستعمار هي الاستنتاج المنطقي، حتى وإنّ أقر هؤلاء النقّاد بأنّ رأس المال المحلّي، أو شرائح الدخل العليا من السكّان، مستفيدون من هذه السياسات.
من يضع السياسة؟
طبعاً، لا أرغب بالدفاع عن صندوق النقد، خصوصاً أنّ الانتقاد الشائع له بإخضاعه المصالح العامّة لمصالح أضيق، والتي قد تكون أجنبيّة في كثير من الحالات، هو أمر ضروري ومحقّ. ولكني أجد أنّ النخب المحلّيّة هي التي تضع السياسة التي تريدها، وتحصل على دعم صندوق النقد عند الحاجة، عبر معالجة النتائج ومن دون تغيير الأسباب المؤدِّية إليها، إذ تكتفي ببضع التعديلات على الهامش لا أكثر. سوف أستخلص هذه الحجّة من مناقشة حالة الأردن، وسوف أقيّم تهمة الاستعمار التي غطّت على علاقة البلاد بالصندوق، وفي الواقع على غيرها من البلدان التي تتعامل مع الصندوق أيضاً، وذلك لسببين:
تعفي تهمة الاستعمار الموجّهة إلى الصندوق النخب المحلّية من مسؤوليّتها في الإفقار العامأوّلاً، نحتاج إلى الحفاظ على الوضوح المفاهيمي بشأن الفروق بين الإمبرياليّة والاستعمار والرأسماليّة، واستقلاليّة الدولة عن هذه الأنظمة الثلاثة للعلاقات الاجتماعيّة. هذا هو المفتاح للحفاظ على الوضوح النظري في ترتيبهم الهرمي وتفاعلهم فيما بينهم. وأيضاً المفتاح لإزالة العقبات من أمام الحجج التي تُظهِر التناقض بين الاستعمار والرأسماليّة، وبالتالي تموضع الإمبرياليّة بكونها تنظّم وتواءم بين مجموعات أوسع من المصالح عبر الحدود بدلاً من فهمها كمرادف للاستعمار يقوم على تدمير مجموعات مُحدّدة من المصالح داخل الحدود. إنّ تحديد ماهية الظاهرة الاجتماعيّة التي نحن بصددها يسمح بوضع سياسات أفضل، وإدراك أعمق لطبيع التحالفات الاجتماعيّة الضروريّة لتنفيذ هذه السياسات.
ثانياً، تعفي تهمة الاستعمار النخب المحلّيّة من مسؤوليّتها في الإفقار العام. حتّى لو تمّ تتبُّع الحكم الاستعماري المُفترض بالعودة إلى الولايات المتّحدة، خصوصاً أنّ الدراسات أظهرت منذ فترة طويلة كيفيّة ممارسة الولايات المتّحدة للتأثير الأكبر عبر آليّة التصويت المُتعبة داخل صندوق النقد. سوف يبرهن هذا التمرين كيف تساير الولايات المتّحدة الأنظمة الحليفة لها، لا إجبارها على خطوات مُحدّدة، فالمظلّة الإمبرياليّة الأميركيّة تمتدّ فوق اقتصادات رأسماليّة مُتقدّمة، واقتصادات صاعدة، وأيضاً اقتصادات رأسماليّة هشّة على هوامش الاقتصاد العالمي. فهمُنا للإمبرياليّة كنظام موائمة بين مجموعات مصالح عبر الحدود، عوضاً عن فهمِنا لها كنظام تهميش مصالح محدّدة داخل حدود معيّنة كما ذكر أعلاه، يتيح لنا استيعاب كيف تنسج الولايات المتّحدة تحالفات مع أنظمة ليبراليّة وتقليديّة في الوقت نفسه، خدمةً لمجموعة من المصالح المحلّيّة الأميركيّة التي تُحكِم قبضتها على الدولة الأميركيّة نفسها وتتنازع فيما بينها على توجّهها. من هنا، يمكن فهم تفضيل الصندوق، ومن ورائه الولايات المتّحدة إن شئنا، لممارسة موحّدة عبر العالم نظراً إلى النظام المؤسّسي الذي أنشأه لخدمة هذا الهدف. أمّا الافتراض بأنّه يفرض ذلك عنوة على جميع هؤلاء الحلفاء المتنافرين فهو ليس إلّا أطروحة ينقصها الكثير من البراهين.
إن صندوق النقد، بل والمؤسّسات الماليّة الدوليّة إلى حدّ بعيد، عبارة عن ساحة تكنوقراطيّة من الاقتصاديين والبيروقراطيين الذين يضعون سياسات معياريّة موحّدة، وهي مجموعة الأدوات التي تمثل الأجندة النيوليبراليّة. ترتكز هذه الصيغ البرامجيّة على فهم اقتصادي نيوكلاسيكي طغى خلال السبعينيّات على النظريّة غير التقليديّة وتوجّهات إعادة التوزيع. لم يكن لتحوّل مماثل أنّ يحدث بلا قوّة اجتماعيّة وازنة. لقد كان رأس المال في الدول المتقدّمة في حينها يقود هجومه المعاكس لاستعادة الربحيّة التي قوّضتها المدرسة غير التقليديّة، والتي انبثقت وتقدّمت على صدى النضالات العمّالية في منتصف القرن العشرين في الاقتصادات المُتقدّمة. لطالما سعت البنوك والقطاعات الماليّة والشركات العابرة للحدود إلى إلغاء القيود والأنظمة والضوابط القانونيّة والإجرائيّة لاستعادة الربحيّة، لكن حلفائهم الأيدولوجيين من اقتصاديي الصندوق وبيروقراطييه لديهم رؤية أكثر شموليّة للاقتصاد الكلّي - وإن كانت خاطئة أيضاً - لكنها تتجاوز قصص النجاح الفرديّة التي تُروّج لها النخب باستمرار بصفتها محرّكاً اجتماعياً للتغيير.
من وجهة النظر النيوكلاسيكيّة لهؤلاء الاقتصاديين، يُعتبر المستهلكون عقلانيون بلا هوادة في الحصول على السلع التي يريدونها، أي أن هناك طريقاً منطقياً ما، موجود فعلياً أو بالإمكان إيجاده، يستطيع المستهلكون سلوكه لإشباع حاجاتهم. ويستجيب الموردون بإنتاج السلع المطلوبة بأكثر الطرق كفاءة للاستحواذ بدورهم على أكبر حصّة مُمكنة من السوق. وفقاً لذلك، يتبنّى الاقتصاديون النيوكلاسيكيون عند صياغة البرامج الاقتصاديّة نهجَ سياسات العرض، أي المساعدة على إيجاد الطريق المنطقي أمام المستهلكين، إن لم يكن جلياً من تلقاء نفسه، وذلك من خلال تدعيم قوى العرض، ويُنتهج في سبيل ذلك برامج الخصخصة، وإلغاء الضوابط القانونيّة والإجرائيّة، وتحقيق الاستقرار السعري، أي الضبط والترشيد المستمرّين لأجل تحفيز العرض من خلال بيئة مُتعطّشة تماماً وتقبّل بأي شيء، ليقوم العرض حينها بتلبيّة الطلب. إلّا أنّ تفجّر انعدام المساواة في هذا المختبر النيوليبرالي الذي زُجّ العالم إلى داخله منذ عقود عديدة، والانتقادات المتصاعدة المُثارة حوله، سمح للنظريّة غير التقليديّة للاقتصاد، التي تركّز على المستهلكين من خلال الإنفاق العام التوسعي الخلّاق لقوى الطلب، والتي تصعد قوى العرض لتلبيتها، بالدخول إلى المختبر النيوليبرالي، ولكن فقط من بابه الخلفي. أصبح من الشائع الآن ترديد خطابات عن شبكات الأمان الاجتماعي، والإنفاق العامّ بالاستدانة، والنموّ العادل والإنساني في الوصفات النيوكلاسيكيّة من أجل تحقيق البنية النيوليبراليّة نفسها للاقتصاد، إنّما بشكل أقل وطأة وقسوة وبالحدّ الذي يسمح باستدامتها بدلاً عن تقويضها بالكامل. لكن كما يشرح أنور شيخ بإيجاز، فإنّ العرض والطلب ليسا سوى أعراض ظاهريّة لديناميكيّة أعمق تتعلّق بمستويات الربحيّة التي تنظّمها تجاذبات السوق الرأسماليّة، التي سبقتهما ومهّدت الطريق لهما. لتوضيح ذلك عملياً، سوف أتطرّق إلى علاقة الأردن بصندوق النقد، كاقتصاد هامشي، لإظهار كيف يمكن، حتّى في اقتصادات مماثلة، تجاهل توصيات صندوق النقد التي لا تتناسب مع مستويات الربحيّة التي يقبلها رأس المال المحلّي ويعقد عليها أعماله واستثماراته، بما يتناقض مع الانطباع السائد أنّ قوّة الصندوق بلا حدود ولا من رادٍ لمشيئته.
قلب التراكم النابض: ربط الدينار بالدولار
استنفد نموذج التصنيع لاستبدال الاستيراد نفسه في الأردن في العام 1989 مع بروز شبح نضوب السيولة في الحسابات الخارجيّة، (استمرّ لحينه بسبب الريوع الخارجيّة الضخمة المتأتية من التحويلات الماليّة، والمعونات المُقدّمة إلى الموازنة وخارجها والتي تراجعت جميعها منذ العام 1984)، وبالنتيجة فقد الدينار نصف قيمته في ذلك العام وحده. مع ذلك، لم يجد رأس المال ضرورة للخروج من الاستثمارات المتمعشة في الدعم الحكومي والاحتكارات القانونيّة إلى أفق وبيئة أعمال تنافسيّة. ارتفع معدّل البطالة من 14.8% إلى 19.7% بين العامين 1987 و1993، 1 مدفوعاً بشكل أساسي بحرب العراق الأولى في العام 1991 التي عزلت الأردن مؤقّتاً عن الدورات والتدفقات الإقليميّة التي اعتادها، وأعادت مئات الآلاف من مهاجريه في منطقة الخليج إلى ربوعه. على سبيل المثال، ارتفعت الأجور في الصناعة في العام 1993 بنحو 10% فقط عن مستوياتها في العام 1989، على الرغم من انخفاض قيمة الأجور الحقيقيّة بنحو النصف2، وهو ما يساوي تقريباً نموّ حصّة العامل من مجمل الإنتاجيّة بنسبة 4% بين العامين 1991 و1993. 3 بعبارة أخرى، زادت الإنتاجيّة بينما انحدرت الأجور، فيما توسّعت نسبة العمالة بنحو 13% بين العامين 1991 و1993. 4لم تكن الإجراءات التقشّفية سوى الأعراض البارزة لاستراتيجية التراكم التي تجمّعت خلفها نواة النخب الأردنيةببساطة، كان رأس المال يكثّف العمل، ويدفع أجوراً أقل، ويوظّف أكثر. كلّ ذلك في الوقت نفسه، مستفيداً من تنامي احتياطي العمّال نتيجة عودة المهاجرين الأردنيين من الخليج.5 مع ذلك، افتقر هذا المزيج إلى الحافز لتعديل تكوين العمالة الكليّة (أي المكننة). في المقابل، استمرّ تكوين رأس المال بالارتفاع، ووصل في العام 1993 إلى مستوياته الذهبيّة كما في أوائل الثمانينيّات. لقد كانت فعلاً تلك اللحظة فاصلة. انتقل رأس المال الأردني في حينها بشكل حاسم إلى قطاعات مضاربة وتداول وغير إنتاجيّة، لتوفّر في الوقت المناسب ملاذاً آمناً من أي انخفاض متوقّع في معدّلات ربحيّة القطاعات الإنتاجيّة.
لطالما كانت قيمة الواردات أعلى من الصادرات، لكنّها شهدت تباطؤاً في الثمانينيّات بمعدّل أعلى من تباطؤ قيمة واردات الوقود، التي تُعدُّ أحد العوامل الرئيسيّة المؤثّرة سلباً على الميزان التجاري في الأردن. استورد الأردن سلعاً وخدمات بنحو 4 مليارات دولار في العامين 1983 كما في العام 1988. من ناحية أخرى، ارتفعت الصادرات بنحو مليار دولار بين العامين 1983 و1988. لكن بين العامين 1989 و1996، زادت قيمة الواردات مجدّداً بنحو 1.7 ضعف الزيادة المُحقّقة في قيمة الصادرات، على الرغم من انخفاض واردات الوقود بوتيرة أكبر. في الواقع، لم يغيّر نموّ القيمة المُطلقة للتجارة بين العامين 1990 و1996، حصّتها من الناتج المحلّي الإجمالي الذي كان يرتفع بوتيرة مُتسارعة، وبحلول العام 1992 استعاد الناتج المحلّي ما خسره نتيجة انكماش العام 1989. وعلى الرغم من تضاعف القيمة المُضافة في الصناعة وعودتها إلى المستويات التي سبقت انهيار العام 1989، إلّا أنّ حصّتها من الناتج المحلّي لم ترتفع. يبقى النمو المُسجّل في أوائل التسعينيّات في القطاع غير الإنتاجي، الذي أظهر هاريغان وآخرون أنّه كان مدفوعاً بالاستثمارات في طفرة الإسكان لاستيعاب المهاجرين العائدين بسبب الحرب.
ولكن، لم يحمِّل الكتّاب مسؤوليّة هذا التوجّه السلبي للنخب المحلّيّة التي استفادت وراكمت رأس المال من طفرة الاستهلاك المدفوعة بالاستيراد، على الرغم من نمو إنتاجيّة التصنيع. لقد توقّف الانكماش في استهلاك الأسر بعد العام 1991، ونمت المدّخرات الوطنيّة، لكن كانت تغطية المعروض النقدي، أي مسايرة التوسّع النقدي بالدينار بأرصدة متناسبة بالعملات الصعبة، تتدهور وتخلق ضغوطاً تضخّميّة أدّت إلى استمرار التقلّبات في سعر الصرف إلى أنّ أعيد ربط العملة في العام 1996. بالنتيجة، قام الكُتاب بتبرئة النخب التجاريّة التي سهّلت نمو أحجام التجارة وأدارت سوقاً ملياريّ الحجم. في هذا الإطار التحليلي، يتحمّل صندوق النقد الدولي المسؤوليّة الكاملة عن الدفع باتجاه تبنّي أجندة تحرير الأسواق. بل وأكثر من ذلك، أشاد هاريغان وآخرون بالنخب السياسيّة في التسعينيّات التي عطّلت الإصلاحات النيوليبراليّة المُرتبطة بالدعم والضرائب، حيث أشار الكتّاب إلى اعتبارات الحكومة السياسيّة، التي تعمّقت مع تنامي حركة الاحتجاجات وسرعة اشتعالها مع كلّ حزمة تقشّف جديدة، لكنّهم في المقابل فشلوا في إدراك تأثيرات إعادة ربط العملة، التي رسّخت التحالفات الجديدة المُستترة وراء التحرير المُطلق للتجارة، لا بل لم يعارضها أي منهم. في الواقع، لم تكن الإجراءات التقشّفيّة المتّخذة سوى الأعراض البارزة لاستراتيجيّة التراكم التي تجمّعت خلفها نواة النخب الأردنيّة. في هذا الإطار، يُفسّر استسلام النظام لكلّ هذه الإجراءات مع بداية الألفيّة الثانية وبعد أنّ استنفَد ربط العملة موارد الخزينة العامّة، على أنّه سذاجة سياسيّة واعتماد على الدعم الأجنبي عبر الاستعانة بكوادر خارجيّة للإدارة الاقتصاديّة، كما لو أنّ القوى الأجنبيّة لا تزال تقتات على تجارة المستعمرات، وليس أنّ التآكل المنهجي لقدرات إعادة التوزيع الكامنة في الاقتصاد ناجم أساساً عن أعمال النخب المحلّية.
يقوم المسؤولون في الأردن كما في كلّ مكان آخر على التناقضات. يخدمون مصالح رأس المال ويلبّون شروطه، ولكنهم في الوقت نفسه ينجون سياسياً بتوفيرهم الحدّ الأدنى من سبل العيش والرفاه سواء عبر أنظمة مؤسّساتيّة صارمة أو بمنطق المحسوبيّات المُرتكز على أنظمة مؤسّساتية مرنة. هنالك، إذاً، كلّ الأسباب للاعتقاد بأنّ العديد من هؤلاء السياسيين يتبنّون آراءً غير تقليديّة وغير كلاسيكيّة حول الاقتصاد الكلّ، وأنّهم أكثر تسامحاً تجاه الاختلالات والعجوزات والتوسّع في الإنفاق، في حين يبرز موظّفو صندوق النقد والتكنوقراط كاقتصاديين نيو كلاسيكيين مُنصاعين تماماً ويؤمنون بالتوازنات، بينما يفضّل هؤلاء المسؤولون مصباحاً سحرياً يلعب فيه صندوق النقد دور الجنّ غير محدود القدرات. بعبارة أخرى، يدافع كلا الطرفين عن الأنظمة الرأسماليّة ولكنّهما يدوزناها بشكل مختلف، ويتقاذفان تهم سوء التقدير والتدبير.
صندوق النقد الدولي يطلق صافرات الإنذار
منذ إعادة ربط العملة في العام 1996، تضاعفت قيمة الواردات بحلول العام 2002، أي قبل حرب العراق الثانية في العام 2003 التي أدّت إلى تدفّق مهاجرين جُدد، وزيادة تكلفة الطاقة والأغذية عالمياً، وتوسيع قاعدة المستهلكين. في الوقت نفسه، كانت الصادرات تتسارع وقد اعترف صندوق النقد6 بدورها في استقرار الحسابات الخارجيّة وبآفاقها المستقبليّة الإيجابيّة. لكن بين العامين 2002 و2005 تضاعفت قيمة الواردات مجدّداً، ومن ثمّ تضاعفت مجدّداً بين العامين 2005 و2008 لتصل إلى 22 مليار دولار، بالمقارنة مع 4 مليارات دولار في العام 2000. كذلك، ارتفعت قيمة الصادرات، إنّما من 2 مليار إلى 9 مليارات دولار فقط بحلول العام 2008. كانت القدرة على الاستيراد - التي تعزّزت باستمرار وبشكل رئيسي من زيادة تحويلات المهاجرين – من استراتيجيّات التراكم التي أتقنتها نخب الفليبين، على سبيل المثال، في العقود الثلاثة الماضية. أمّا النخب الأردنيّة، وعلى الرغم من الزيادة المستمرّة في تحويلات المهاجرين، فقد بقيوا عاجزين عن دعم التوازن في حساباتهم الخارجيّة.سمح انحسار الاحتجاجات الشعبية في الأردن بخلق فرصة لفرض الضرائب ونقل المزيد من الأعباء إلى الأجورنظراً للضغط على الدينار الناتج عن الاستهلاك المدفوع بالاستيراد منذ التسعينيّات، توسّعت الحكومة في إصدار أدوات دَيْن محلّي لدعم ربط العملة. بالنتيجة، نما الدَّيْن المحلّي نحو 7 مرّات بين العامين 2003 و2013 7 وبأسعار فائدة مُرتفعة في معظم تلك السنوات، طافت فيه فوق منحنى عوائد سندات الدَّيْن الأميركيّة لمدة 3 أشهر التي تعتبر مُرتكزاً لتحديد أسعار الفائدة.8 لم يكن الهدف من الاستدانة تغطية العجز فحسب، إذ تجاوز الدَّيْن المحلّي المُكتتب في العام 2001 قيمة عجز الموارنة لذلك العام،9 وكذلك تجاوز رصيد الدَّيْن المحلّي الدَّيْن الأجنبي في العام 2008،10 فضلاً عن أنّ الحكومة كانت تخفّض العجز بمعدّل أسرع مما أوصى به صندوق النقد بحلول العام 2006،11 وكانت لا تزال مُلتزمة بخفضه في العام 2017 بأكثر مما تفرضه شروط البرنامج مع الصندوق.12 في الواقع، كانت الحكومة بحاجة مستمرّة إلى خلق قدرة تسمح باستخدام أدوات السياسة المالية التي تُعدُّ ركيزة أساسيّة للاستمرار بسياسة ربط العملة. في العام 2014، ووسط الضغوط المُتعدّدة الناتجة عن الربيع العربي، كان صندوق النقد الدولي يستهدف تسجيل انخفاض في العجز المالي بنحو 1.6% من الناتج المحلّي للعام التالي على التوالي،13 وهو ما يعادل نحو 600 مليون دولار. اللافت هو أنّ الفائدة على رصيد الدَّيْن المحلّي في ذلك العام كانت قد تجاوزت المليار دولار.14
بطبيعة الحال، لصندوق النقد القليل من الانتقادات لآليّات عمل السوق والقرارات الجزيئيّة التي تتّخذها المؤسّسات، وتؤدّي إلى ما حدّده أنور شيخ بأنّه تعديل كلّي مضطرب يدمّر الإنتاج والنموّ إذا أصبحا معاديين للربحيّة. تتجمّع تلك القرارات الجزيئيّة بحثاً عن توازنات تستخدم الموارد بالطريقة الأمثل، وهو ما يُعتبر "طبيعيّاً" لا مدمّراً. على سبيل المثال، برّر صندوق النقد في العام 2007 نموّ الواردات الناتج عن الحرب في العراق، واعتبر أنّ مزيج المساعدات والصادرات وتحويلات المهاجرين والاستثمارات الأجنبيّة المباشرة أنقذ ميزان الحسابات الخارجيّة، وسمح بالإبقاء على سياسة ربط العملة.15 عملياً، لا يوجد نقاش في وجوب عدم تشجيع نموذج أعمال مماثل، أوجدته هياكل التسعير التي تلائم أنشطة هذه الأعمال الرديئة، وتستجلب ديوناً حكومية هائلة.
مع اتساع الأزمة الماليّة العالميّة في العام 2009، أكّد صندوق النقد مجدّداً على هشاشة الحساب الجاري، واللافت أنّ انخفاض أسعار المواد الغذائيّة عالمياً هو ما أراح الحكومة حينها، وكأنه مدّها بثقة جديدة للاستمرار في هذا النهج فقط لأنه لم ينفجر في تلك اللحظة.16 وفي العام 2010، أوضح صندوق النقد أنّ الحكومة هي من اختارت ضبط الإنفاق المالي بدلاً من توسيع ضريبة الدخل. في الواقع، اقترح الصندوق اعتماد تنويعة على النموذج السويدي لضريبة الدخل، الذي يوسّع حجم التدفّقات الضريبيّة عبر إلقاء العبء المركزي على شرائح المأجورين العليا، بما يسمح بزيادة التدفّقات والإنفاق من دون إزعاج رأس المال بأكثر مما يجب، بل واقترح أيضاً فرض ضرائب على توزيع أرباح الشركات المساهمة، والشركات الزراعيّة الكبيرة، وذلك لزيادة الإيرادات وإبقاء المجال مُتاحاً للاستدانة واستخدام أدوات السياسة المالية.17 مع بروز الآثار الرئيسيّة للربيع العربي من زيادة في الإنفاق بسبب فقدان إمدادات الغاز الطبيعي من مصر وتوافد اللاجئين السوريين، أشارت الحكومة في العام 2012 إلى استعدادها لزيادة الضريبة على الملكيّة العقارية التي تستهدف الأثرياء. رحّب صندوق النقد بهذا التغيير، بل واقترح تعزيز الإنتاجيّة من خلال التدريب، وليس من خلال المزيد من المرونة في العمل، أو التوسّع في تهشيش العمل.18 ومع عدم تطبيق ذلك، أعرب صندوق النقد في العام 2014 عن أسفه لخسارة إيرادات متوقّعة بسبب الامتناع عن فرض زيادات على ضريبة الدخل واستمرار الإعفاءات الضريبيّة للأفراد والشركات على حدٍ سواء.19
في العام 2017، أقرّ كلٌّ من صندوق النقد الدولي والحكومة بالضغوط المترتّبة عن الحفاظ على ربط العملة نظراً إلى تراجع التدفّقات الخارجيّة، إنّما مع إبداء خشيتهما من تحميل قطاعات الاستيراد وطأة التعديل، وما قد ينطوي عليه ذلك من عواقب سلبيّة مُحتملة على النموّ والاستقرار الداخلي.20 أشار موظّفو صندوق النقد إلى أنّ الحكومة قد تحتاج إلى إعادة النظر في هذا الخيار على المدى المتوسّط لضبط السياسات وتعديل الحسابات الخارجيّة. وفي محاولة أخيرة للحفاظ على أسُس الاقتصاد، دفع صندوق النقد النقاش باتجاه الحساب النقدي لتوسيع قدرات سياسة الإنفاق النقدي للحكومة، وبالتالي خلق مساحة أكبر لاستخدام الأدوات الماليّة، ودعا لهذا بصورة أقل اعتياديّة، حيث شجّع صندوق النقد على زيادة معدّلات الضرائب على عدد من القطاعات وإلغاء الإعفاءات التي تتمتّع بها،21 نظراً لعدم إمكانيّة تقليص النفقات أكثر، أو عدم الرغبة في المجازفة في ذلك. في الواقع، تُميِّع الحكومة إقرار الزيادات الضريبيّة منذ العام 2012، بل أنّها اختارت قبل الربيع العربي كما ذُكر سابقاً، وفق تقارير صندوق النقد، خفض الإنفاق بدلاً من زيادة الضرائب غير المباشرة بسبب الآثار المختلفة لهذه السياسات على السكّان، ولا سيّما الأقل دخلاً. لكنّها عادت وأدخلت هذه التعديلات الضريبيّة في العام 2018، إذ سمح انحسار الاحتجاجات بخلق فرصة لفرض الضرائب ونقل المزيد من الأعباء إلى الأجور، فضلاً عن إقرار ضرائب دخل جديدة على الشركات كما اقترح صندوق النقد. عندها كان على الحكومة مواجهة نُخَبها واختبار مدى استعدادهم للتأقلم مع خططها.
مشيئة النخب المحلّيّة تنتصر
سارعت الحكومة الأردنيّة الخطى في الدورات البرلمانيّة لعامي 2017 و2018 إلى تعديل القوانين الضريبيّة، إنّما كما تبدّى في حينها، من دون مشاورات محلّيّة أو مسعى لتحقيق إجماع عليها. لقد ناقشتُ سابقاً بأنّ الاحتجاجات الشعبيّة، التي اندلعت في صيف 2018 ضدّ الزيادات الضريبيّة المُقترحة وقادتها النقابات المهنيّة، كانت بمثابة لحظة فريدة للتحالف عبر الطبقات. يشار إلى أنّ هذه النقابات هي عبارة عن منظّمات كبيرة ضمن المجتمع المدني تمتلك طابعاً طبقياً مُختلطاً، وهذا في الواقع من سمات قوى المجتمع المدني في الاقتصادات النامية. هدفت الجهود بداية إلى إجبار الحكومة على التخلّي عن القانون المُعدّل، إلّا أنّ المشاركة الشعبيّة رفعت سقف المطالب والاحتجاج إلى نهج الحكم وانعدام الديمقراطيّة في البلد. توافد في وقتها عشرات آلاف المتظاهرين إلى الشوارع حاملين معهم مطالب أوسع من قانون الضريبة المُعدل.
لم تعالج الإجراءات المُنفّذة مشكلات الإنتاجية التي تعدّ محرّكاً للنمو والرفاه وإعادة التوزيعبالنتيجة، سُحِب قانون تعديل الضرائب واستقال مجلس الوزراء الذي أقرّه، إلّا أنّ ثمرة هذا النجاح قطفها لاحقاً رأس المال، الفاعل الاجتماعي الذي يحصد الثمار دائماً وينظّم جهوده من دون عناء يُذكر. أمّا الكتلة الشعبيّة الضاغطة التي لم تنتظم وفق حاجاتها، وجدت نفسها مع مكاسب ضئيلة على الرغم من دورها في هذه المواجهة الناجحة. لم يستفد الأفراد، بموجب النسخة النهائيّة من القانون الصادر في 2019، سوى بزيادة قيمة الدخل المُعفى من الضريبة بنحو 5 آلاف دينار، فيما استمرّت المعدّلات بالارتفاع. من جهة أخرى، أبقت النخب الأرباح الرأسماليّة مُعفاة من أية أعباء ضريبيّة وازنة، وقبلت برفع معدّلات الضريبة بشكل بسيط إنّما مع تقييد زمني ينتهي تلقائياً بمجرّد خفض مستويات الدَّيْن العام إلى 60% من الناتج المحلّي، كما تمّ تسقيف المعدّل سابقاً. أمّا القطاع الصناعي، الحلقة الأضعف في وجهات الاستثمار، فقد فُرِضت عليه زيادات ضريبيّة أكبر من غيره، كما خسر الإعفاءات الممنوحة على التصدير، ومُنح بدلاً منها مجموعة من الحوافز،22 يمكن اعتبارها بمثابة مكافأة لمن يساهم في تحسين ميزان الحسابات الخارجيّة، حيث كوفئت الشركات منذ العام 2020 بالحصول على علاوة نقديّة تتراوح بين 3% و5% على الزيادة السنويّة المُحقّقة في صادراتها، في مقابل التزامات فضفاضة فيما يتعلّق بالتوظيف المحلّي والتوريد من منتجات محلّيّة. وبما أنّ أياً من هذه الإجراءات لم يُعالج الإنتاجيّة التي تُعدُّ محرّكاً للنموّ والرفاه وإعادة التوزيع، فلا يمكن اعتبار هذه الحوافز إنمائيّة بالتعريف. احتفظت دورات الأعمال بخصائصها على الرغم من كلّ التحذيرات والإنذارات التي رفعها صندوق النقد على مرّ السنين.
اعتاد المسؤولون في الأردن في السنوات الأخيرة إلقاء الملامة على صندوق النقد، ورفضوا اتباع توصياته السياسيّة باعتبار أنّ المؤسّسات الدوليّة ولفيف الحلفاء سوف يحلّون المشاكل عند وقوعها، فتتلاشى الاعتراضات وكأنّها لم تكن أصلاً. من المهم فعلاً الالتفات إلى سياسات الصندوق الكابحة للإنفاق العام أينما حلّ نتيجة تشبّثه بسياساته النيوليبراليّة ونظرته النيوكلاسيكيّة للعالم، ولكنّه كما يتبيّن هنا، هو ليس إلّا الهدف الأسهل المُتمثّل في قمة الجبل الجليدي. في الواقع، تحتّم إضاءة المسارات المقبلة التوقّف عن التظاهر بأنّ الجبل الجليدي هو قمته الطافية على سطح الماء فقط، والاعتراف بأن كتلته الحقيقيّة، تلك القائمة في مركز الاقتصاد وطبيعة الأنشطة الاستثماريّة برمتها، هي الكتلة الحقيقيّة المُتسترة تحت الماء.