كيف استولت النيوليبرالية على التجارة الحرّة؟

في تشرين الثاني/نوفمبر وكانون الأول/ديسمبر من العام 1999، نزل ما لا يقل عن 40 ألف متظاهر إلى وسط مدينة سياتل للاحتجاج على مؤتمر لـ«منظّمة التجارة العالمية». ارتدى بعضهم زي سلاحف بحرية أو لوّحوا بصورها، في إشارة إلى إلغاء «منظّمة التجارة العالمية» لوائح بيئية ضد الصيد بشباك الجرّ. وإلى جانبهم سار ممثلو نقابات عمّال الصلب، الذين احتجوا على إغراق أسواق الولايات المتّحدة بالصلب منخفض التكلفة. وحضرت أيضاً مجموعات مستهلكين تعارض حكم «منظّمة التجارة العالمية» الذي قضى بمنع أوروبا من تقييد استيراد لحوم البقر المعالجة بالهرمونات. لقد شكّل الناشطون البيئيون والعمّال والمدافعون عن حقوق المستهلكين تحالفاً متنوّعاً غاضباً من تأثير إنفاذ «منظّمة التجارة العالمية» للتجارة الحرّة على البيئة وحقوق العمّال.

الاحتجاجات المناهضة للعولمة في العام 1999 تبدو مختلفة تماماً بعد ربع قرن، إذ سعت السياسات الاقتصادية والخارجية لدونالد ترامب، والآن جو بايدن، إلى قلب عناصر نظام التجارة الحرّة للحصول على ميزة تنافسية على الصين في العالم خدمة للمصالح المزعومة للعمّال الأميركيي

وعلى مدار أيام عدّة، أغلقت «معركة سياتل» قلب وسط المدينة. وردّت الشرطة، غير المستعدة لحجم المظاهرات، بإطلاق الغاز المسيّل للدموع، والرصاص المطاطي، والقنابل الصوتية. ولم يتمكّن مندوبو «منظّمة التجارة العالمية» من مغادرة غرفهم الفندقية، وأُجِّلت مراسم افتتاح المؤتمر. وأعلن عمدة سياتل، بول شيل، حالة الطوارئ. واستدعى حاكم واشنطن، غاري لوك، الحرس الوطني. وانهارت محادثات التجارة.

بالنسبة إلى أولئك الذين بلغوا سن الرشد السياسي في نهاية القرن العشرين، مثلي، وطّدت احتجاجات «منظّمة التجارة العالمية» مفهوم التجارة الحرّة باعتباره مرادفاً لتدمير البيئة واستغلال العمّال. لكن الاحتجاجات المناهضة للعولمة في العام 1999 تبدو مختلفة تماماً بعد ربع قرن، إذ سعت السياسات الاقتصادية والخارجية لدونالد ترامب، والآن جو بايدن، إلى قلب عناصر نظام التجارة الحرّة للحصول على ميزة تنافسية على الصين في العالم خدمة للمصالح المزعومة للعمّال الأميركيين.

من السهل أن ننسى أن علاقة اليسار بالتجارة الحرّة تاريخياً كانت أكثر تناقضاً. لكن كتاب «السلام الاقتصادي: رؤى يسارية لعالم التجارة الحرّة» لمارك ويليام بالين، وهو مؤرِّخ من «جامعة إكستر»، يقدِّم تصحيحاً للفهم السائد لوجهات نظر اليسار واليمين بشأن التجارة. يتتبّع بالين تقليداً يسارياً، يعود تاريخه إلى أربعينيات القرن التاسع عشر، «ربط الكوزموبوليتانية الأممية بمناهضة الإمبريالية والسلام - والقومية الاقتصادية بالإمبريالية والحرب». من خلال الجمع بين مجموعة مبهرة (وإن كانت غامِرة في بعض الأحيان) من شبكات الناشطين، وقادة الحملات، والمثقفين من القرن التاسع عشر وحتى الوقت الحاضر، يعيد المؤلّف بناء تاريخ للفكر الاقتصادي تَصوَّر التجارة الحرّة كشرط مسبق ضروري لعالم أكثر عدلاً وأكثر سِلماً.

كارل ماركس يذهب إلى دافوس

كانت التجارة الحرّة مركزية بالنسبة إلى «مدرسة مانشستر» للاقتصاد السياسي البريطاني في القرن التاسع عشر. وارتبطت هذه المدرسة بالإصلاحيين ريتشارد كوبدن وجون برايت، وتحدّت السياسات الاقتصادية الحمائية والقومية التجارية، لا سيما «قوانين الذرة» التي طبّقها «حزب المحافظين» في أعقاب الحروب النابليونية في العام 1815. وفرضت «قوانين الذرة» تعريفات جمركية على الحبوب المستوردة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية، والحفاظ على قيمة الأراضي الزراعية، وهو أمر استفادت منه نخبة أرستقراطية صغيرة وقوية سياسياً.

دعا الناشطون المناهضون لـ«قوانين الذرة» إلى إنقاص التعريفات الجمركية لخفض أسعار المواد الغذائية وتعزيز المنافسة والتجارة. وتبنّت طبقة صاعدة من الصناعيين والمُنتجين الفيكتوريين هذه الحجج، قلقاً من أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية يعني دفع أجور أعلى للعمال

دعا الناشطون المناهضون لـ«قوانين الذرة» إلى إنقاص التعريفات الجمركية لخفض أسعار المواد الغذائية وتعزيز المنافسة والتجارة. وتبنّت هذه الحجج المناهضة للحِمائية طبقة صاعدة من الصناعيين والمُنتجين الفيكتوريين، الذين شعروا بالقلق من أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية يعني دفع أجور أعلى للعمال. وكان النضال من أجل التجارة الحرّة ضد المصالح الخاصة لطبقة ملاك الأراضي من شأنه أن يُشكِّل الأسس الأيديولوجية «للحزب الليبرالي» البريطاني في القرن التاسع عشر. ومن خلال التوسّع الإمبراطوري الرسمي وغير الرسمي، الذي فُرِضَ بعنف في كثير من الأحيان، صدّرت بريطانيا التعريفات الجمركية المنخفضة إلى جميع أنحاء الاقتصاد العالمي في القرن التاسع عشر.

وفي حين روّجت بريطانيا لنفسها على أنها «إمبراطورية التجارة الحرّة»، تطلّع منافسوها الإمبراطوريون والحركات القومية المناهضة للاستعمار إلى التدابير الحِمائية. ففي أوائل القرن التاسع عشر، رفعت الولايات المتّحدة التعريفات الجمركية على التجارة الدولية وأبقت أسعار الأراضي مرتفعة كجزء من «النظام الأميركي» للقومية الاقتصادية. وفي ألمانيا، زعم الخبير الاقتصادي فريدريك ليست أن الرسوم الجمركية المرتفعة تُشكّل ضرورة أساسية لرعاية الصناعات النامية، وهو موقف متقدّم في «النظام الوطني» الحمائي في بلاده.

وبحلول نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، انتشرت هذه الأفكار: نشرت الحملات القومية المناهضة للاستعمار، من حركة «سواديشي» الهندية إلى «حزب الشين فين» في أيرلندا، عمليات المقاطعة وشجّعت الإنتاج المحلّي لتعزيز الاكتفاء الذاتي الاقتصادي. وفي خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، طوّر دبليو إي بي دو بوا، متأثّراً بالاقتصاد الألماني الحمائي، «إطاراً ماركسياً/ليستياً (نسبة إلى فريدريك ليست) لعموم أفريقيا» دعا لتعزيز الحواجز التجارية للدول المستعمَرة كأداة للمقاومة ضد الإمبريالية الأوروبية. وبالنسبة إلى كل من الإمبراطوريات المتنافسة والقوميين المناهضين للاستعمار، قدّمت التدابير الحِمائية وسياسات الاكتفاء الذاتي الاقتصادي أدوات لمقاومة الهيمنة الإمبريالية والاقتصادية البريطانية.

على النقيض من «إمبراطورية التجارة الحرّة» القسرية في القرن التاسع عشر والحملات الحِمائية لمقاومتها، يتعمَّق كتاب «السلام الاقتصادي» في الاقتصاد السياسي في القرن التاسع عشر لاستعادة تقليد ثالث للتجارة الحرّة اشتراكي أُممي مناهض للإمبريالية. فرغم أن التجارة الحرة ربما كانت بمثابة إنجيل الليبرالية في القرن التاسع عشر، فقد اعتنقها منتقدوها الاشتراكيون أيضاً. بالنسبة إلى كل من كارل ماركس وفريدريك إنغلز، اللذين تشكّلت أفكارهما على الخلفية الحِمائية نفسها لنقد كوبدن لـ«قوانين الذرة»، لم تكن التجارة الحرّة هدفاً في حد ذاتها، ولكنها «شرط تقدّمي للرأسمالية الصناعية، على نحو يجعلها أقرب بخطوة إلى الثورة الاشتراكية». على الرغم من أن الراديكاليين الليبراليين من «مدرسة مانشستر» سعوا إلى رأسمالية أكثر حرّية، وسعى الأمميون الاشتراكيون الذين استلهموا أفكارهم من ماركس وإنغلز إلى استبدال الرأسمالية، فإن كلا التقليدين نظر إلى التجارة الحرّة باعتبارها الثقل المضاد للقومية والإمبريالية المسلّحة.

أُممية أخرى

كانت حركة التجارة الحرّة والسلام في الفترة من منتصف إلى أواخر القرن التاسع عشر، كما يصفها بالين، كبيرة وذات توجّه أُممي. وكان من بين أعضائها «نادي كوبدن البريطاني»، و«الرابطة الفرنسية الدولية الدائمة للسلام»، و«الاقتصاديون الإسبان»، و«رابطة التجارة الحرّة الأميركية»، ودادابهاي ناوروجي، الليبرالي المناهض للاستعمار والقومي الهندي وعضو البرلمان عن دائرة فينسبري بلندن. ومن بين التأثيرات المركزية في رواية بالين عن حملات التجارة الحرّة والسلام في القرن التاسع عشر حركة «الضريبة الواحدة» الأميركية، التي قادها الاقتصادي هنري جورج، ودعت الدولة إلى فرض الضرائب على الأراضي بدلاً من العمل - على نحو يؤدّي إلى تثبيط احتكارات الأراضي والقضاء على الحاجة إلى أشكال أخرى من الضرائب أو التعريفات.

كانت المتاجر المُعفاة من الرسوم الجمركية في المطارات من بنات أفكار الأيرلندي المناهض للاستعمار بريندان أوريغان، كوسيلة للتغلّب على إرث الاستغلال الاستعماري البريطاني، وتعزيز التجارة مع أيرلندا الشمالية، وتقديم نموذج للاقتصادات النامية

ويوضح بالين أن حركة الضريبة الواحدة كانت ذات انتشار عالمي، حيث ألهمت مقترحات الإصلاح الزراعي التي طرحها الزعيم القومي الصيني صن يات صن والكاتب الروسي ليو تولستوي. وفي بريطانيا الإدواردية، كانت الأفكار الكوبدينية (نسبة إلى ريتشارد كوبدن) والجورجية (نسبة إلى هنري جورج) محورية في التحدّيات «الليبرالية الجديدة» لـ«إصلاحات التعريفة الجمركية»، والتي دعت إلى تعريفات تفضيلية لتحويل الإمبراطورية البريطانية إلى كتلة تجارية وأثّرت على مقترحات المستشار الليبرالي ديفيد لويد جورج لرفع الضرائب على الأراضي في «ميزانية الشعب» التي طرحها في العام 1909.

وواصل «حزب العمّال» الدفاع عن التجارة الحرّة ضد التدابير الحِمائية في فترة ما بين الحربين العالميتين. وعندما سعى رئيس الوزراء البريطاني المحافظ ستانلي بالدوين إلى إحياء التعريفات التفضيلية لدول الإمبراطورية البريطانية في العام 1923، أدان «حزب العمّال» «سياسة التعريفات الجمركية والمفهوم الكامل للعلاقات الاقتصادية التي تقوم عليها» باعتبارها «عائقاً أمام التبادل الحر للسلع والخدمات التي يقوم عليها المجتمع المتحضّر».

بعد الحرب العالمية الأولى، علّقت حركة التجارة الحرّة والسلام آمالها على «عصبة الأمم». لكن تبدَّدت هذه الآمال بسبب أعمال ما بين الحربين العالميتين التي أدّت إلى زيادة التعريفات الجمركية على التجارة الدولية، مثل «قانون التعريفة الجمركية الأميركية لهاولي وسموت لعام 1930» و«قانون رسوم الاستيراد البريطاني لعام 1932»، فضلاً عن القومية الاقتصادية «للرايخ الثالث» الصاعد في ألمانيا. لكن المُثُل العليا لحركة التجارة الحرّة والسلام ظلت حيّة طوال فترة ما بين الحربين العالميتين ومنتصف القرن العشرين من خلال الحملات النسوية العابرة للحدود الوطنية وحركة السلام المسيحية الدولية.

اتّحدت منظّمات نسوية مثل «الرابطة النسائية الدولية للسلام والحرية»، و«حزب السلام النسائي»، و«جمعية السلام النسائية» حول «مزيج ماركسي مانشستري من الراديكالية الليبرالية، والاشتراكية الديمقراطية، والتعاونية الشعبية» في حملات لمكافحة جوع الأطفال وتعزيز التمكين الاقتصادي للمرأة. في خلال فترة ما بين الحربين العالميتين، استجابت منظّمات سلام مسيحية مثل «جمعية الشابات المسيحية»، و«جمعية الشبان المسيحية»، و«التحالف العالمي لتعزيز الصداقة الدولية من خلال الكنائس» لصعود الفاشية، والقومية الاقتصادية، والاستعمار من خلال «تصميم مسيحي كوزموبوليتاني على أن الترابط الاقتصادي والأخوة الدولية يجب أن يدعما نظاماً عالمياً سلمياً». وقد أثّرت هذه التحالفات الناشطة على السياسة التجارية الأميركية في مرحلة ما بعد الحرب من خلال وزير خارجية فرانكلين ديلانو روزفلت المتعاطف، كورديل هال، وساعدت في إرساء أسس «الاتفاقية العامة بشأن التعريفات الجمركية والتجارة لعام 1947»، والتي أصبحت في العام 1995 «منظّمة التجارة العالمية».

لقد اجترح بالين تأريخه للفكر الاقتصادي العابر للحدود الوطنية ببراعة، حيث استعرض شبكة عالمية من الحركات المناهضة للاستعمار، وساسة المدن الكبرى، وشبكات الناشطين. وعلى طول الطريق، نلتقي اكتشافات مفاجئة حول أصول التجارة الحرة اليسارية للأشياء والمؤسسات الاستهلاكية المألوفة: على سبيل المثال، ابتكرت النسوية الأميركية الجورجية إليزابيث ماغي اللعبة اللوحية «مونوبولي» كأداة لتعليم شرور احتكار الأراضي. وكانت المتاجر المعفاة من الرسوم الجمركية في المطارات من بنات أفكار الأيرلندي المناهض للاستعمار بريندان أوريغان، الذي ابتكر المناطق المعفاة من الضرائب كوسيلة للتغلُّب على إرث الاستغلال الاستعماري البريطاني، وتعزيز التجارة مع أيرلندا الشمالية، وتقديم نموذج للاقتصادات النامية.

في بعض الأحيان، قد تصبح هذه القصة، المليئة بالشخصيات والمؤسسات التي تَظهر وتختفي، مثيرة للدوار. والأسماء المختصرة التسعة والستين المذكورة في مقدمة الكتاب تعطي بعض الإشارة إلى ما سيتعامل معه القارئ. لكن هذا التّوهان الطفيف يُشكِّل ثمناً زهيداً في مقابل رواية عابرة للحدود الوطنية تغطي قرنين من الفكر الاقتصادي.

من المثالية إلى النيوليبرالية

إن كتاب «السلام الاقتصادي»، على الرغم من كونه رائعاً بشكل لا يمكن إنكاره، ومدروساً بشكل مثير للإعجاب، وواضحاً، فإنه يثير أيضاً أسئلة. هل يمكن لحركة سياسية تهدف إلى تحرير الرأسمالية أن تكون يسارية حقاً؟ في حين لا يمكن إنكار أن العديد من الناشطين والمنظمات المذكورة في الكتاب وضعوا أنفسهم على اليسار السياسي، فإن الحركات التقدمية في أوائل القرن العشرين في أوروبا الغربية والولايات المتحدة - مثل تلك الموجودة اليوم - كانت عبارة عن خيام كبيرة رَحْبَة أيديولوجياً، ونجحت في بناء جسور بين الالتزامات الاشتراكية والالتزامات الليبرالية.

بعض أهداف النخب الاقتصادية - خفض التعريفات الجمركية في القرن التاسع عشر، ودعم الصناعات الخضراء في هذا العصر - من الممكن أن تتماشى مع أهداف القوى التقدّمية التي ليست قوية بالقدر الكافي لتولي مقعد القيادة

وكما هي الحال اليوم، فإن بعض أهداف النخب الاقتصادية - خفض التعريفات الجمركية في القرن التاسع عشر، ودعم الصناعات الخضراء في هذا العصر - من الممكن أن تتماشى مع أهداف القوى التقدّمية التي ليست قوية بالقدر الكافي لتولي مقعد القيادة. لكن روايةً ترسم الخط الفكري بين ماركس وإنغلز، والليبرالية الإدواردية، وإدارة روزفلت، و«منظّمة التجارة العالمية» تدعو إلى التساؤل حول مدى يسارية الرؤية التي يُعاد بناؤها.

يتعامل الكتاب أيضاً بشكل طفيف مع العمالة المنظّمة - وهي إحدى الفئات الأكثر تأثُّراً بشكل ملموس والأكثر معارضة بشكل صريح للنهج متعدّد الأطراف في أواخر القرن العشرين للتجارة الحرة. وتركيز بالين على المثقفين وجماعات الحملات، بدلاً من النقابات العمّالية وصُنّاع السياسات الاقتصادية السائدين، يُهدِّد بالمبالغة في تقدير تأثير تقليد التجارة الحرة اليساري الذي يتحدّث عنه.

يسلّط الفصل الأخير من كتاب بالين الضوء على العواقب غير المقصودة والحيوات الغامضة اللاحقة لتقليد التجارة الحرّة اليساري في النصف الأخير من القرن العشرين. في البداية، تبنّى دعاة التجارة الحرة المسالمون «الاتفاقية العامة بشأن التعريفات الجمركية والتجارة»، لكنهم أصيبوا بخيبة أمل عندما أعادت الحرب الباردة إقامة حواجز جديدة أمام التعاون الاقتصادي. وفي مواجهة التراجعات التي شهدتها الحرب الباردة، تحوّل جناح التجارة الحرّة اليساري إلى تحرير التجارة الإقليمية، وهو ما تجسّد في مؤسسات مثل «الجماعة الاقتصادية الأوروبية» أو «منطقة التجارة الحرة القارية الأفريقية». وردَّاً على ذلك، أعادت حركات التجارة الحرة المثالية، والسلمية، والمسيحية، والنسوية تركيز حملاتها على التجارة العادلة بدلاً من التجارة الحرة - وهو إرث واضح في ممرات القهوة والشوكولاتة في المتاجر الكبرى اليوم.

في حين أن الحركات المسيحية والنسوية التي يتحدّث عنها بالين كانت مدفوعة بالمثالية الديمقراطية، فإن المؤسسات المالية المعولمة في أواخر القرن العشرين والتي ساعدت هذه الحركات في تشكيلها، مثل «الاتفاقية العامة بشأن التعريفات الجمركية والتجارة» ومن ثم «منظمة التجارة العالمية»، تمّ الاستيلاء عليها من قِبل مشروع نيوليبرالي مُكرّس، كما أظهر كوين سلوبوديان في كتابه «عَولميون: نهاية الإمبراطورية وولادة النيوليبرالية»، لجعل الأسواق آمنة مِن الديمقراطية.

إن بالين مقنعٌ في إصراره على أنه على الرغم من أن «حركة السلام الاقتصادي اليسارية ربما ساعدت عن غير قصد في تمهيد الطريق لهيمنة الجناح اليميني النيوليبرالي... فإنه لا ينبغي الخلط بين هذا وذاك». لكن الكتاب يسلّط الضوء أيضاً على فشل حركات التجارة الحرة اليسارية المثالية في حماية المؤسسات الاقتصادية العالمية التي ساعدت في إنشائها من نظيراتها النيوليبرالية.

في الأسبوع الماضي، ذكرت صحيفة «واشنطن بوست» أن «منظّمة التجارة العالمية» «لم تمت تماماً»، ولكنها «تنزلق نحو عدم الجدوى». وقد فشلت الدول الأعضاء - في رد فعلها على تراجع الولايات المتحدة عن التجارة الحرة خلال الحرب التجارية لإدارة ترامب مع الصين واستخدام إدارة بايدن للإعانات المحلية في «قانون الحد من التضخم لعام 2022» - في التوصُّل إلى اتفاقيات واستعادة آليات المنازعات التجارية في المنظمة.

من خلال سرده قصة تقليدٍ للتجارة الحرة مميز، وعالمي، ويساري بشكل واضح، فإن كتاب بالين - الذي يتزامن نشره مع عامٍ من المقرر أن تُحدِّد فيه رئاسة جمهورية محتملة في الولايات المتحدة أجندة اقتصادية قومية بشكل أكبر - جاء في الوقت المناسب جداً. لكن من غير الواضح ما إذا كانت أحلام الاقتصاديين الكوزمولوليتانيين في القرنين التاسع عشر والعشرين تُقدِّم مخططاً لليسار اليوم.

نشر هذا المقال في Jacobin في 11 آذار/مارس 2024.