Preview النساء والاقتصاد

هكذا تجاهل علم الاقتصاد المرأة

  • فشل علم الاقتصاد تاريخياً في إدراك المساهمة الاقتصادية للمرأة، خصوصاً لناحية وظيفتها الإنجابية وعملها الرعائي غير المأجور. وقد عُرّف العمل لقرون من الزمن على أنّه العمل «المأجور». غير أنّ الأخير لا يكفي للحفاظ على النشاط الاقتصادي، ولا سيّما في ظلّ النظام الرأسمالي.
  • إن السعي الأعمى للحكومات خلف النمو لا يُسهِم في سلب المرأة مزيداً من قوّتها الاقتصادية وحسب، بل يفاقم أيضاً عبء عملها الرعائي غير المأجور، ويعمّق فقرها الاقتصادي والوقتي. لذلك، لا بدّ من نقلة نوعية في علم الاقتصاد لتضمينه المنظورات النسوية وترسيخها على كل مستوى من مستويات التحليل.

 

يروق لبعض الاقتصاديّين التظاهر بأنّ علم الاقتصاد علمٌ دقيق، ويتغنّى عدد أكبر منهم بأنّه يقوم على افتراضات منطقية لا تشوبها شائبة. ولعلّ إحدى أبرز افتراضات هذا الخطاب التي لم يُشكّك فيها أحد لعقود، لا بل لقرون، هي أنّ الرجال والنساء يتصرّفون بالطريقة نفسها عند اتخاذ قرارات تصبّ في مصلحتهم الاقتصادية بوصفهم «وكلاء اقتصاديين». وظلّ الوضع على حاله إلى أن أصبحت المرأة أكثر انخراطاً في الأكاديميا، جالبةً معها منظوراً جديداً تتحدّى به الافتراضات التي يستند إليها مجال دراستها. وبحسب ما أظهرته البحوث والدراسات اللاحقة، فقد أهمل علم الاقتصاد مراراً وبصورة كلّيّة ومُمنهجة نصف البشرية، أي النساء، بإغفال العوامل المؤثرة في تنشئتهنّ وعملهنّ وعلاقتهنّ بمجتمعاتهنّ.

افتراضات خاطئة: الإنسان الاقتصادي

إنّ التحيّز الجندري متأصّل في علم الاقتصاد، ويشكّل مفهوم «الإنسان الاقتصادي» أو الرجل الاقتصادي أحد أبرز الافتراضات السائدة في هذا المجال العلمي. ويفترض هذا المفهوم أنّ أطراف السوق عقلانيون ويسعون وراء الكسب الاقتصادي والمصلحة الذاتية. والعقلانية لا تعني هنا بالضرورة أنّهم منطقيون، بل أنّ لهم تفضيلات واضحة جدّاً تخدم مآربهم الاقتصادية في نهاية المطاف.

هذه الدينامية الجندرية القائمة على تضحية طرف وتفضيل طرف آخر لمصلحته الذاتية تتجلّى ضمن الأسرة المعيشية أكثر من أي مكان آخر

ربّما تنطبق هذه المقولة على الرجل إلى حدٍّ ما، إلّا أنّها قاصرة حتماً عن توصيف وضع المرأة، إذ إنّ تنشئتها الاجتماعية، لا سيّما في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تعوّدها منذ الولادة على إيثار مصلحة الغير على مصلحتها. لذلك، اعتدنا مثلاً رؤية الصورة التقليدية للمرأة على أنّها الأمّ المضحّية التي تبذل الغالي والنفيس، كطعامها ووقتها وصحتها، في سبيل إسعاد أطفالها (مفترضين أنّها راضية كلّ الرضا عن ذلك). ومن هنا نستدلّ إلى أنّ قرارات المرأة، الاقتصادية وغيرها، لا تنبع دوماً من مبدأ الكسب المالي أو المصلحة الذاتية.

هذه المسألة مهمّة للغاية لفهم النماذج الاقتصادية. ولعلّ السبب وراء اعتبار العديد من دعاة الرأسمالية، مهما اختلفت مذاهبهم الفكرية، أنّ هذا النموذج ناجح هو أنّ النظام بأكمله مبني على فكرة السعي خلف الكَسب الفردي. فمن خلال تسخير العرض والطلب لتحقيق المنفعة الذاتية، سيخلق ميزان القوى و«الأيدي الخفية» في السوق توازناً يكون فيه سعر المنتج أو الخدمة مقبولاً لدى الطرفين، وبالتالي فإنّ الطرفان يخرجان رابحَين في ظلّ هذا النظام.

ولكن إذا توقّعنا من أحد الطرفين أو أرغمناه على أن يضحّي ويضع مصلحة الآخرين فوق مصلحته، فإن ميزان القوى سينقلب لصالح الطرف الذي يضع مصلحته الذاتية أوّلاً، فتتغيّر بالتالي المعادلة ليصبح فيها طرف خاسر بعد أن كان من المفترض أنّها مربحة للطرفين. إنّ هذه الدينامية الجندرية القائمة على تضحية طرف وتفضيل طرف آخر لمصلحته الذاتية تتجلّى ضمن الأسرة المعيشية أكثر من أي مكان آخر.

منهجيات خاطئة: تجاهل الديناميات ضمن الأسرة

بما أنّ علم الاقتصاد يفترض أنّ الأفراد يتصرّفون بالطريقة نفسها ويتمتّعون بمقدار القوة نفسه في السوق، يدخل هذا الافتراض في أهمّ المفاهيم والمؤشرات التي تنطوي عليها المنهجيات المُتّبعة، وينعكس بالتالي على السياسة. ويتجلّى أحد جوانبه عند استخدام بيانات على مستوى الأسرة المعيشية لحساب مؤشرات اقتصادية مثل الاستهلاك والدخل وحتى الضريبة أحياناً.

تحصل النساء غالباً، من منطلق الواجب أو الإكراه، على موارد أقلّ من الرجال، بما فيها المالية والغذائية، كما يتعذّر عليهن أحياناً الوصول إلى الخدمات

في هذا السياق، يعتمد مفهوم الفقر بدرجة كبيرة على بيانات الأسرة المعيشية، وهو من المفاهيم التي تستحق الوقوف عندها، فالغالبية العُظمى من مؤشرات الفقر (سواءً أكانت مستندة إلى الدخل أو استطلاع الموارد المالية أو المقاييس المتعددة الأبعاد) حول العالم تُحسَب حاليّاً من خلال تقييم مستوى فقر «الأسر المعيشية». وهنا نفترض ضمنياً أن الموارد مقسّمة بالتساوي بين أفراد الأسرة الواحدة.

تتجاهل هذه المقاربة كليّاً الديناميكيات ضمن الأسر حيث تحصل النساء غالباً (من منطلق الواجب أو الإكراه) على موارد أقلّ من الرجال، بما فيها المالية والغذائية، كما يتعذّر عليهن أحياناً الوصول إلى الخدمات. هذا يعني أنّ النماذج الحالية لا تلحظ الأشخاص الفقراء في الأسر غير الفقيرة، بمن فيهم النساء والأطفال والمسنّين. وعند جمع البيانات على المستوى الفردي، تبيّن أنّ النساء أفقر من الرجال فعليّاً.1  ولكن ما خفيَ أعظم.

يعجز النموذج الحالي المُعتمد لقياس الفقر عن تغطية كلّ الفقراء، لا بل يرسّخ كذلك أوجه اللامساواة الحالية ويعمّقها. فعلى سبيل المثال، تُقترح حلول من قبيل الحوالات النقدية والحوافز الضريبية للأسر استجابةً للفقر والمشكلات الأخرى. وفي حين قد تبدو هذه الحلول في ظاهرها محايدة جندريّاً، إلّا أنّها أبعد ما تكون من ذلك. 

تُقدَّم هذه الموارد المالية والحوافز الضريبية عموماً إلى ربّ الأسرة، وهو عادةً الزوج أو الأب بحسب القانون. وهذا هو الحال في معظم بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بما في ذلك تونس والمغرب ومصر ولبنان، بينما يتعيّن على النساء إثبات أنّهنّ مطلّقات أو أرامل للاستفادة من هذه الاستحقاقات بصفتهن ربّات أسر.2

في الواقع، لا يختلف الوضع في منطقتنا عن الوضع السائد خارجها، فالموارد التي تُخصّص للنساء لا تُوزّع بالطريقة نفسها عندما تُخصّص للرجال. على سبيل المثال، عندما استبدلت المملكة المتحدة حافزاً ضريبياً متعلّقاً بالأطفال كان يُمنَح للرجال سابقاً بحوالة نقدية تُصرَف للأمهات، تبيّن أنّ جزءاً أكبر من المبلغ يُصرَف فعلاً على الطفل.3  ويُعزى ذلك على الأرجح إلى أنّ التنشئة الاجتماعية للمرأة تعوّدها على صرف موارد أكبر مُقارنةً بالرجل على الأطفال. 

في المحصّلة، لا شكّ أنّ تجاهل هذه الديناميات الجندرية الجوهرية في اتخاذ القرارات وتحديد الخيارات الاقتصادية لا يؤدّي إلا إلى إفقار المرأة واستضعافها بشكل أكبر.

تعريفات خاطئة: إنكار المساهمة الاقتصادية للمرأة

فشل علم الاقتصاد تاريخياً في احتساب إدراك المساهمة الاقتصادية للمرأة، خصوصاً لناحية وظيفتها الإنجابية وعملها الرعائي غير المدفوع. وقد عُرّف العمل لقرون من الزمن على أنّه العمل «المأجور». غير أنّ الأخير لا يكفي للحفاظ على النشاط الاقتصادي، ولا سيّما في ظلّ النظام الرأسمالي. فعندما يخرج الرجال إلى عملهم في المصنع أو المكتب، تعتني النساء بالأطفال والمسنّين والمعوّقين والمنزل من خلال العمل الرعائي المباشر وغير المباشر. وما زلن يتحمّلن حتى اليوم وزر هذا العمل غير المأجور الذي يضمن استمرار القوى العاملة في تأدية عملها، ويمكّن الهياكل الاجتماعية، مثل الأسر، على إعادة إنتاج نفسها بمرور الزمن. وفي منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تكرّس النساء نحو 4.9 ساعات يوميّاً للعمل الرعائي غير المدفوع، في حين لا تتخطّى مساهمة الرجال الـ 1.2 ساعة في اليوم.

تُفقِد خصخصة قطاعات مثل التعليم والرعاية الصحية بعض الأسر قدرتها على تحمّل تكاليف هذه الخدمات الخاصة، بحيث يتعيّن على النساء عموماً سدّ الفجوة الحاصلة بين القطاعين العام والخاص

على الرغم من أهميتها بالنسبة للاقتصاد والمجتمع، لم تُصنّف الرعاية غير المأجورة لعقود من الزمن في خانة العمل ولا تزال غائبة عن مؤشرات الإنتاجية مثل الناتج المحلي الإجمالي والنمو السنوي. ويُعدّ هذا التغاضي خطيراً نظراً لأهمية هذه المؤشرات بالنسبة لصنّاع السياسات. إن السعي الأعمى للحكومات خلف النمو (المُقاس عادةً بالناتج المحلي الإجمالي) لا يُسهِم في سلب المرأة مزيداً من قوّتها الاقتصادية وحسب، بل يفاقم أيضاً عبء عملها الرعائي غير المأجور، ويعمّق فقرها الاقتصادي والوقتي. فعلى سبيل المثال، تُفقِد خصخصة قطاعات مثل التعليم والرعاية الصحية بعض الأسر قدرتها على تحمّل تكاليف هذه الخدمات الخاصة، بحيث يتعيّن على النساء عموماً سدّ الفجوة الحاصلة بين القطاعين العام والخاص. فهنّ على الأرجح من سيبقى في المنزل لتربية الأطفال إذا كانت خدمات الرعاية النهارية باهظة، أو الاعتناء بالمرضى المسنّين إذا تعذّر الوصول إلى المراكز الخاصة، الأمر الذي سيجبرهنّ على ترك سوق العمل والتوجّه أكثر نحو العمل الرعائي غير المأجور. ولأنّ المؤشرات التي يستند إليها صنّاع القرار لا تلحظ هذا الواقع، فإنّ هذه المشكلة لن تناقش ولن تحظى بحلول.

في الخلاصة، لم يلحظ علم الاقتصاد احتياجات المرأة وإسهاماتها الاقتصادية، لا على مستوى الافتراضات ولا التعريفات ولا المنهجيات. لذا فإنّه من غير المستغرب أن تظلّ النساء أشدّ فقراً وحرماناً. وإذا أردنا معالجة هذه القضايا، لا بدّ من نقلة نوعية في علم الاقتصاد لتضمينه المنظورات النسوية وترسيخها على كل مستوى من مستويات التحليل.