كيف تمنع أزمة السكن عودة اللاجئين إلى سوريا؟
يُعَدّ غياب المسكن أحد أبرز العوائق التي تحول دون عودة غالبية اللاجئين السوريين إلى بلادهم. فبحسب مسح أجرته مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بين أيار/مايو وتموز/يوليو 2025، وشمل 6,316 لاجئاً سورياً في لبنان والأردن والعراق ومصر، أفاد ثلاثة أرباع المستطلعين بأنهم لا يخطّطون للعودة إلى سوريا خلال السنة المقبلة على الأقل، فيما أشار 36% منهم — أي أكثر من الثلث — إلى أن صعوبة تأمين السكن تمثّل العائق الرئيس أمام العودة.
بعد 14 عاماً من الحرب المدمّرة، تواجه سوريا أزمة سكنية حادّة نتيجة الدمار الواسع الذي طال قسماً كبيراً من المخزون السكني. غير أنّ الدمار المادي ليس العامل الوحيد الذي فاقم الأزمة، إذ يعيش كثير من اللاجئين مخاوف عميقة من العودة إلى المناطق التي فرّوا منها بعد سنوات طويلة من التهجير، ومصادرة الممتلكات، وضياع وثائق الملكية.
إلى جانب ذلك، يُفاقم انهيار الاقتصاد السوري وتدهور الخدمات العامة والبنية التحتية من صعوبة إيجاد مسكن لائق. ففي ظل تراجع الأجور الحقيقية وندرة فرص العمل، تشهد البلاد ارتفاعاً حاداً في أسعار الإيجارات، وانتشاراً واسعاً للمساكن العشوائية التي تفتقر إلى أبسط شروط السكن الإنساني، ما يجعل عودة اللاجئين أكثر تعقيداً في ظل غياب حلول عمرانية واقتصادية شاملة.
1. منازل أقل، سكان أكثر
في خلال 14 عاماً من الحرب، تراجعت قدرة السوريين على الحصول على سكن لائق، نتيجة عاملين متناقضين: تدمير جزء كبير من المخزون السكني بسبب القتال، وارتفاع عدد السكان في البلاد على الرغم من موجات اللجوء والهجرة المستمرة.
بحسب تقرير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي الصادر في شباط/فبراير 2025، أدّى النزاع إلى الدمار الكامل لنحو 328 ألف منزل، وتعرّض قرابة مليون وحدة سكنية أخرى لأضرار متوسطة أو خفيفة. وبذلك، يمكن القول إن نحو ثلث المساكن في سوريا قد دمّر بالكامل أو تضرر بشكل كبير.
في المقابل، تظهر بيانات البنك الدولي أن عدد سكان سوريا في العام 2024 يزيد بنحو 1.8 مليون نسمة عمّا كان عليه في العام 2011 عشية اندلاع الحرب. وهذا يعني أن النمو الطبيعي للسكان أو إجمالي المواليد الجديدة في خلال سنوات الحرب عاماً فاق تأثير موجات النزوح واللجوء إلى الخارج، ما زاد من اختلال التوازن بين العرض والطلب في سوق السكن.
وإذا أخذنا في الاعتبار وجود 4.5 لاجىء سوري في الخارج حتى نهاية العام 2024، وفقاً لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، يتضح أن أي خطة وطنية أو دولية تهدف لإعادة جميع اللاجئين في خلال فترة زمنية قصيرة ستؤدي إلى زيادة عدد سكان سوريا بنحو 6 ملايين نسمة بالمقارنة مع العام 2011، أي بما يعادل ربع عدد السكان تقريباً آنذاك، مثل هذا الارتفاع المفاجئ في عدد السكان سيولّد ضغطاً هائلاً على المساكن والخدمات الأساسية، في ظل عجز ملايين السوريين عن تأمين سقف يؤويهم أو بنية تحتية قادرة على استيعابهم.
2. 14 عاماً من ارتفاع أسعار السكن
تعيش سوريا منذ أكثر من عقد أزمة سكن متفاقمة تتجلّى في فجوة متزايدة بين عدد الباحثين عن مأوى وعدد الوحدات السكنية المتاحة. وقد لجأ مالكو الشقق إلى رفع الإيجارات بشكل متكرر خلال السنوات الـ14 الماضية، سعياً لمجاراة التضخّم واستهداف المستأجرين ذوي القدرة الشرائية الأعلى، ما جعل السكن عبئاً ثقيلاً على معظم السوريين.
في ظل ضعف القدرة على شراء العقارات وغياب سياسة إسكان وطنية فعّالة، أصبح الاستئجار الوسيلة الأساسية لتأمين المأوى، ما يجعل تتبّع تطوّر الإيجارات مؤشّراً أكثر دقّة من أسعار البيع على قدرة السكان الفعلية على السكن.
تشير بيانات المكتب المركزي للإحصاء إلى أن أسعار الإيجارات ارتفعت منذ السنوات الأولى للحرب بوتيرة حادة. بين عامي 2010 و2013 ارتفعت الإيجارات بنسبة 53% (بحسب الأسعار الثابتة لعام 2005). وبين 2013 و2020 ارتفعت بنسبة 86% (بحسب الأسعار الثابتة لعام 2010).
ومع سقوط النظام القديم وانفتاح البلاد على التحرير الاقتصادي وانتشار أنشطة السمسرة والوساطة العقارية، شهد العام الماضي قفزات غير مسبوقة في الإيجارات. وعلى الرغم من غياب بيانات رسمية حديثة، تُظهر تقارير الإعلام المحلي تضاعف الأسعار في معظم المدن السورية.
فقد رصد ارتفاع تراوح بين 40% و100% في إيجارات الشقق (غرفتان وصالون غير مفروشة) بين تموز/يوليو 2024 وتموز/يوليو 2025 في مناطق دمشقية مثل المزة، البرامكة، ضاحية قدسيا، وحرستا، حيث وصلت الإيجارات إلى ما بين 1.4 مليون و10 ملايين ليرة سورية شهرياً. وفي مدينة حماة، ارتفع إيجار الشقة المماثلة من مليوني ليرة إلى 5 ملايين سنوياً.
وتُظهر المقارنة مع الدخول الشهرية حجم الفجوة الهائل: يتقاضى موظف القطاع الحكومي نحو مليون ليرة سورية شهرياً، بينما لا يتجاوز دخل العامل في القطاع الخاص 400 ألف ليرة، ما يجعل تحمّل تكاليف السكن أمراً شبه مستحيل، حتى في ضواحي العاصمة والمدن الثانوية.
أما في مدينة حلب، ارتفعت الإيجارات 5 أضعاف عمّا كانت عليه قبل سقوط نظام الأسد نهاية العام 2024، إذ تراوحت إيجارات الشقق في الأحياء الغربية بين 500 و1000 دولار شهرياً تبعاً للمساحة والموقع، بفعل الطلب المرتفع ونشاط سماسرة العقارات عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وفي اللاذقية، سجّلت قفزة حادة في الإيجارات دفعت كثيرين إلى النزوح نحو الأرياف. فبعد أن كان متوسط الإيجار لا يتجاوز مليون ليرة قبل أشهر قليلة، ارتفع إلى 3 أو 4 ملايين ليرة مع عودة المهجّرين والنازحين إلى المدينة، ما جعل تأمين سكن ملائم تحدّياً يومياً لمعظم الأسر.
بهذه المعطيات، تتجلّى أزمة السكن في سوريا كواحدة من أعمق الأزمات الاجتماعية والاقتصادية بعد الحرب، حيث تلتهم الإيجارات معظم الدخل الشهري للأسر، وتدفع بالملايين إلى العيش في مساكن غير لائقة أو في أطراف المدن والأرياف، بعيداً عن مراكز العمل والخدمات الأساسية.
3. الحل هو إعادة الإعمار، لكن الكلفة باهظة
تُعدّ زيادة المخزون السكني الخطوة الجوهرية لمعالجة أزمة السكن في سوريا، إذ تمثّل إعادة إعمار ما دُمّر في خلال الحرب، إلى جانب بناء وحدات سكنية جديدة تستوعب النمو السكاني في خلال الأعوام الـ14 الماضية، المدخل الأساسي لتأمين المأوى وخفض الإيجارات، وبالتالي تمهيد الطريق لعودة تدريجية للاجئين.
غير أن تحقيق هذا الهدف يصطدم بعقبة مالية هائلة. فبحسب أحدث تقديرات البنك الدولي، تصل تكلفة إعادة إعمار المباني السكنية وحدها إلى نحو 74 مليار دولار، وذلك مع احتساب تكاليف الهدم، وتحديث معايير السلامة والبناء، واستخدام مواد وتقنيات حديثة، فضلاً عن الحاجة إلى تطوير الأطر القانونية والتنظيمية التي تحكم قطاع البناء والإسكان.
وتفوق هذه الكلفة قدرة الدولة السورية على التحمل، إذ تتجاوز ميزانية الحكومة السنوية بأضعاف عدّة، وتمثّل ما بين 3 إلى 4 أضعاف الناتج المحلي الإجمالي السنوي للبلاد. لذلك، تبدو مشاركة المجتمع الدولي والعربي، وتخفيف العقوبات المفروضة على دمشق، وتفعيل آليات التمويل الخارجي عناصر ضرورية لأي مشروع جاد لإعادة الإعمار. ومع ذلك، يظلّ تدهور الاقتصاد، وتجميد الأصول الخارجية، والقيود على التعاملات المصرفية الدولية من أبرز العوائق أمام إطلاق عملية إعمار واسعة النطاق.
أما على الصعيد الداخلي، فتواجه وزارة الأشغال العامة والإسكان تحديات هيكلية عميقة تحول دون أداء دور فعّال في عملية الإعمار. فبحسب المهندس عبد الرازق، تعاني الوزارة من تقادم المعدات والآليات المستخدمة التي تعود إلى ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، فضلاً عن انتشار الفساد، ونقص الكوادر المؤهلة، وفقدان الحافز لدى الموظفين بعد سنوات طويلة من الجمود الإداري.
في المحصلة، تبدو إعادة الإعمار في سوريا ضرورة لا مفرّ منها لكنها شبه مستحيلة بالموارد المتاحة حالياً، ما يجعل الأزمة السكنية مرشّحة للاستمرار، ويؤجّل عودة الملايين من اللاجئين إلى أجل غير معلوم، في انتظار تسوية سياسية واقتصادية تتيح انطلاقة فعلية لمشاريع البناء والتنمية.
4. مطب أمام الإعمار والعودة: هذا المنزل لمن؟
لا تقتصر تحديات إعادة الإعمار في سوريا على أعمال الحفر والبناء وإعادة تشييد البنى التحتية، بل تمتد إلى ميدان قانوني وإداري بالغ التعقيد يرتبط بحقوق الملكية والسكن والإيجارات. فنجاح أي عملية إعمار شاملة يتطلّب قبل كل شيء إطاراً قانونياً عادلاً وشفافاً يضمن حقوق الملكية للسكان بصورة عادلة ويحدّد بصورة دقيقة من يحق له استعادة منزله أو إعادة بنائه.
أحد أبرز المطبّات التي تواجه هذه العملية هو غياب سجلّات موثوقة للملكية العقارية، إذ يواجه ملايين السوريين اليوم صعوبات في إثبات ملكيتهم لمنازلهم بعد سنوات الحرب والتهجير. فقد غادر كثيرون البلاد من دون وثائق ملكية رسمية، بينما صودرت ممتلكات آخرين بقرارات إدارية أو سياسية. ووفق لجنة التحقيق الدولية بشأن سوريا، صدر منذ العام 2011 ما لا يقل عن 40 قانوناً يتعلق بالسكن والأراضي والممتلكات، كثير منها يسمح بالمصادرة أو إعادة التخصيص، ما فاقم انعدام الأمن القانوني.
تزداد الأزمة تعقيداً لأن عدداً كبيراً من المنازل تحوّل إلى أنقاض أو استولى عليها أشخاص آخرون، ما يجعل التحقق من المالك الحقيقي مسألة شبه مستحيلة في غياب منظومة قانونية شفافة وإدارة عقارية حديثة. ويكشف مسح أجرته مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين أن 58% من اللاجئين السوريين في الدول العربية المجاورة الذين يمتلكون عقارات في سوريا لا يملكون الوثائق الكاملة التي تثبت ملكيتهم القانونية، وهو ما يشكّل عائقاً جوهرياً أمام عودتهم.
على الرغم من إعلان الحكومة الانتقالية منذ كانون الأول/ديسمبر 2024 نيتها إصلاح ملف الإسكان والأراضي والملكية، إلا أن الإرادة السياسية لاستعادة الحقوق المصادرة لا تزال محدودة. وتوضح ورقة تحليلية نشرها موقع «سيريا ريبورت» أن بعض الخطوات الإيجابية الأولية تم اتخاذها، مثل رفع عدد من أوامر الحجز الاحتياطي ومعالجة بعض حالات الاستيلاء غير القانوني، لكنها لا تزال جزئية وانتقائية. فعمليات استرداد الملكيات تُدار وفق قوائم منحازة وتفتقر إلى إطار تشريعي شامل يعيد الثقة للمتضررين. وتلفت الورقة الانتباه إلى أن مجالس المحافظات شكّلت لجاناً محلية للنظر في شكاوى الاستيلاء غير المشروع، لكنها تعمل من دون صلاحيات قضائية واضحة، وتفتقر إلى التنسيق المركزي والتعريفات القانونية الموحّدة. بل إن الأشهر الستة الأولى من المرحلة الانتقالية شهدت أنماطاً جديدة من الانتهاكات، شملت الإخلاءات القسرية والقيود على سكان المساكن الاجتماعية، ما يؤكد أن ملف السكن والملكية ما زال رهينة الفوضى القانونية والانتقائية السياسية.
إن إعادة الإعمار في سوريا لا يمكن أن تكون مجرد مشروع عمراني، بل هي اختبار سياسي وعدلي بامتياز. ومن دون تسوية شاملة تضمن استعادة الحقوق والملكية بشكل عادل، ستبقى ملايين المنازل بلا أصحاب شرعيين، وستظل العودة الآمنة والطوعية للاجئين حلماً مؤجلاً.
5. أهكذا نتخلص من مشكلة السكن في سوريا؟
ليست أزمة السكن في سوريا وليدة الحرب وحدها، بل أقدم وأعمق جذراً، إذ تعود إلى عقود من غياب السياسات السكنية الفعّالة، وترك السوق يعمل بلا ضوابط ولا تخطيط عمراني منصف. وقد جاءت الحرب لتُفاقم هذه الأزمة، فحوّلتها من مشكلة حضرية مزمنة إلى كارثة إنسانية واجتماعية، بعدما امتدّت العشوائيات وتدهورت ظروف العيش إلى حدود غير مسبوقة.
تُعدّ العشوائيات المظهر الأبرز لهذه الأزمة. فبحسب بحث «مناطق السكن العشوائي في سوريا»، كانت هذه التجمعات منتشرة في مختلف المحافظات حتى قبل الحرب. وتشير بيانات العام 2010 إلى أن أراضي السكن العشوائي شكّلت نحو 40% من إجمالي أراضي السكن في دمشق ومحافظتَي حلب وحماة، و66% في محافظتَي اللاذقية ودرعا، فيما تجاوزت في الرقة 4 أضعاف مساحة السكن المنظّم. وتعكس هذه الأرقام الاختلال العميق بين التمدّد السكاني والتخطيط الرسمي، وتقصير الدولة في توفير بدائل قانونية وميسّرة للسكن.
ويعرّف التقرير هذه المناطق تعريفاً عاماً بأنها «تجمعات سكنية غير مخططة، مقامة على أراضٍ غير مرخّصة وغير معدّة للبناء أصلاً»، فيما يعتمد البنك الدولي تعريفاً أكثر دقّة يركّز على البُعد الاجتماعي والاقتصادي، إذ يعتبر العشوائيات مساكن تفتقر إلى واحد أو أكثر من شروط السكن اللائق: المياه المحسّنة، وخدمات الصرف الصحي، ومساحة المعيشة الكافية، ومتانة البناء، والحماية القانونية من الإخلاء، والقدرة على تحمّل تكاليف السكن.
وتُظهر بيانات البنك الدولي لعام 2010 أن 27% من سكان سوريا كانوا يعيشون في مساكن تُصنّف كعشوائيات. لكن بفعل الحرب والدمار والعقوبات الاقتصادية وتراجع قدرات الدولة التخطيطية، ارتفعت النسبة إلى 41% بحلول عام 2022.
إن أزمة السكن العشوائي ليست مجرد مشكلة عمران أو بنية تحتية، بل مرآة للفقر واللامساواة في المجتمع السوري. يعيش الملايين اليوم في مساكن تفتقر إلى الحد الأدنى من الخدمات، وتغيب عنها الضمانات القانونية، ما يجعل العودة إلى الوطن خياراً محفوفاً بالمخاطر بالنسبة إلى اللاجئين والنازحين.