Preview الدين العالمي يرتفع على حساب الدول الفقيرة

الدين العالمي يرتفع على حساب الدول الفقيرة

مع أفول العام 2023، وصل الدين العالمي، أي إجمالي الديون التي أثقلت حكومات العالم، إلى 97 تريليون دولار. وهذا رقم قياسي جديد، ولأخذ فكرة عن حجمه، فهو يساوي 3 إلى 4 أضعاف قيمة كل السلع والخدمات التي أنتجتها الولايات المتحدة الأميركية في العام 2023، بل يقارب قيمة الناتج الإجمالي العالمي الذي قدّر بحوالي 100 تريليون دولار في العام 2022، أي أن العالم الذي نعيش فيه هو مدين بأموال بقدر الاقتصاد الذي ينتجه سنوياً!

ارتفع الدين العالمي في العام 2023 حوالي 6% بالمقارنة مع العام 2022، أي بنحو 5.6 تريليون دولار، وهو رقم يتجاوز قيمة الناتج الإجمالي لكل دول العالم، ما عدا أميركا والصين، مع العلم أن الدين العالمي قد ارتفع إلى الضعف تقريباً مقارنة بالعام 2010. لكن، منذ ذلك الحين لم تشعر دول العالم بثقل الديون بالقدر نفسه، بل كانت ديون الدول النامية ترتفع بوتيرة مضاعفة عن ارتفاعها في الدول المتقدمة، حيث بلغ إجمالي دين الدول النامية 29 تريليون دولار أميركي في العام 2023، أي ما يعادل 30% من الإجمالي العالمي، وهذه زيادة كبيرة ومضاعَفة عن حصتها في العام 2016، البالغة 16% من الدين العالمي.

بحسب تقرير الدين العالمي، الذي أصدره مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية في العام 2024: «يختلف عبء هذا الدين بشكل كبير باختلاف قدرة البلدان على سداده، ويتفاقم بسبب عدم المساواة المتأصل في البنية المالية الدولية: إن أولئك الأقل قدرة على تحمّله ينتهي بهم الأمر إلى السداد أكثر من غيرهم». 

الدين العام في الدول النامية ينمو بوتيرة مُضاعفة عن نمو الدين في الدول المتطوّرة

صحيح أن الدين العام نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي قد انخفض في أكثر من نصف البلدان النامية، أي أن حجم الديون تراجعت نسبة إلى حجم النشاط الاقتصادي لهذه الدول، ما معناه أن حكومات الدول النامية - نظرياً - تستطيع استخراج المزيد من الإيرادات عبر الضرائب لسد ديونها، إذ تراجعت نسبة الدين العام الوسطية إلى الناتج المحلي الإجمالي لدى البلدان النامية من الذروة في العام 2022، والتي بلغت 60.4%، إلى 54.7% في العام 2023، إلا أن هذا الانخفاض يأتي في فترة التعافي من جائحة كورونا ولا زال مهولاً نسبة إلى العقد السابق.

طبعاً، إن هذا الانخفاض في متوسط نسبة الدين العالمي إلى الناتج العالمي، ليس ناتجاً عن تقلّص الديون، بل عن توسّع الناتج، ويعود توسّع الناتج الإجمالي أولاً الى التضخم العالمي، الذي حقق نمواً اسمياً في الاقتصاد برفعه أسعار المنتجات، وثانياً إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي (الذي يأخذ التضخم بالاعتبار) في البلدان المتوسطة الدخل في آسيا وأوقيانوسيا، والذي حصل بشكل أقوى من المتوقع، فضلاً عن النمو الذي حصل بدرجة أقل في أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي.

في المقابل، تعثر الأداء الاقتصادي في القارة الفقيرة: أفريقيا، بسبب الصدمات العالمية، ما أدى إلى تزايد أعباء الديون، واستمر متوسط ​​نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في الارتفاع ليصل إلى 61.9% في العام 2023.

في العقد الأخير ارتفع الدين الخارجي للدول النامية نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي والصادرات

 نتيجة لذلك، يتركز عدد متزايد من البلدان النامية التي تعاني من ارتفاع مستويات الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في أفريقيا، إذ ارتفعت حصة المنطقة من البلدان التي تزيد فيها نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي عن 60%، من 25% إلى 46% بين عامي 2013 و2023.

هذه الديون المتراكمة على البلدان النامية، تأتي  في ظل نظام مالي دولي يزيد من عبء التزاماتها المالية عن طريق الحد من إمكانية الحصول على تمويل إنمائي ميسور التكلفة ودفعها إلى الاقتراض من مصادر خارجية أكثر تقلباً.

من هنا، إن قسماً عظيماً من ديون الدول النامية هي ديون خارجية، أي أنه لصالح الدائنين خارج البلاد من شركات وحكومات ومؤسسات مالية دولية، فقد بلغ الدين العام الخارجي للبلدان النامية 3.2 تريليون دولار في العام 2022، وبالنسبة لنصف هذه البلدان، بلغ الدين العام الخارجي على الأقل 28.4% نسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي و92.4% نسبة إلى صادرات هذه الدول.

علاوة على ذلك، يخصّص نصف البلدان النامية ما لا يقل عن 6.3% من عائدات صادراتها لخدمة الدين العام الخارجي. لفهم حجم هذا الرقم والكيفية التي يعد بها تدهوراً عن العقود السابقة، نذكر أن اتفاقية لندن لعام 1953 بشأن ديون ألمانيا، الخارجة من الحرب العالمية الثانية، قد حدّدت مبلغ عائدات التصدير التي يمكن إنفاقها على خدمة الديون الخارجية (العامة والخاصة) بنسبة 5% لتجنّب تقويض التعافي الاقتصادي.

نسبة كبيرة من الدين الخارجي للدول النامية مملوكة من القطاع الخاص ويتميز هذا الدين بمعدلات فائدة مرتفعة ويصعب التفاوض مع الدائنين لإعادة هيكلته

لزيادة الطين بلة، ارتفعت نسبة الدين العام الخارجي المستحق لدائني القطاع الخاص في جميع المناطق منذ العام 2010، لتمثل 61% من إجمالي الدين العام الخارجي للبلدان النامية في العام 2022، ذلك في مقابل الاستدانة من الحكومات الأخرى أو بنوك التنمية متعددة الأطراف مثلاً.

فضلاً عن كون الاقتراض من القطاع الخاص يتسم بالتقلب والتحولات السريعة، خصوصاً أثناء الأزمات، مع انسحاب المستثمرين في «رحلة إلى بر الأمان»، وفضلاً عن كونه يأتي مع شروط تجارية أكثر تكلفة من التمويل المصادر المتعددة الأطراف والثنائية، فهو يتطلب التفاوض مع مجموعة واسعة من الدائنين ذوي المصالح والأطر القانونية المتباينة، الأمر الذي يجعل عملية إعادة هيكلة الديون أكثر صعوبة.

تجدر الإشارة إلى أن تكاليف الاقتراض في البلدان النامية تتجاوز بكثير تكاليف الاقتراض في البلدان المتقدمة، حيث تقترض المناطق النامية بمعدلات فائدة أعلى مرتين إلى أربع مرات من معدلات الاقتراض في الولايات المتحدة، وأعلى من 6 إلى 12 مرة من نظيراتها في ألمانيا. وتؤدي تكاليف الاقتراض المرتفعة إلى زيادة الموارد اللازمة للسداد للدائنين، الأمر الذي يجعل من الصعب على البلدان النامية تمويل الاستثمارات.

يعني هذا أن عبارة «الأقل قدرة على تحمله ينتهي بهم الأمر إلى سداد أكثر من غيرهم» في تقرير الأونكتاد لم تأتي من فراغ بل يستند إلى أرقام واضحة. 

إنفاق الدول النامية على خدمة الدين يتوسّع بوتيرة أسرع من إنفاقها على الصحة والتعليم

يأتي هذا وسط زيادة أسعار الفائدة من قبل البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم منذ العام 2022، الأمر الذي له تأثير مباشر على الميزانيات العامة في البلدان النامية. حيث وصل صافي مدفوعات الفوائد على الدين العام إلى 847 مليار دولار في العام 2023 بزيادة 26% مقارنة بالعام 2021.

في الوقت الحالي، يخصّص أكثر من نصف البلدان النامية ما لا يقل عن 8% من الإيرادات الحكومية لمدفوعات الفائدة، وهو ضعف الرقم خلال العقد الماضي. في العام 2023، خصّصت 54 دولة نامية، أي ما يعادل 38% من الإجمالي، 10% أو أكثر من الإيرادات الحكومية لمدفوعات الفائدة، نصفها تقريباً في أفريقيا.

تؤدي الزيادة السريعة في مدفوعات الفائدة إلى تقييد الإنفاق في جميع أنحاء البلدان النامية، فهي لا تنمو بسرعة فحسب، بل إنها تتجاوز النمو في النفقات العامة الحيوية مثل الصحة والتعليم. على سبيل المثال، خلال السنوات الأولى لجائحة كوفيد-19، أنفقت أفريقيا وآسيا وأوقيانوسيا (باستثناء الصين) على مدفوعات الفائدة أكثر من إنفاقها على الصحة، وخلال الأعوام 2020 – 2022، كانت هناك 15 دولة تجاوزت مدفوعات فوائدها نفقات التعليم، و46 دولة كانت فيها مدفوعات فوائدها أعلى من نفقات الصحة. واليوم، يعيش 3.3 مليار شخص في بلدان تنفق على الفوائد أكثر من التعليم أو الصحة.