Preview فردريش هايك

فريدريش فون هايك: سَلب الجماهير باسم الحرِّية

  • النيوليبرالية والفاشية هما شكلان من أشكال التفكير البرجوازي كرد فعل على الديمقراطية الجماهيرية والاشتراكية. وكلاهما يواجه المشكلة التالية: في ظل ظروف الاقتراع العام، كيف نمنع الجماهير من مواجهة نقص المساكن وجنون الإيجارات من خلال الإسكان الاجتماعي، أو توفير المواد الغذائية الأساسية باعتبارها منافع عامة وليس سلعاً، أو حتى تحويل الملكية الخاصة الرأسمالية للأرض والصناعة والبنوك لمصلحتهم الخاصة، بحيث يخدم الاقتصاد التَشريكي الشعب وليس العكس. 
  • في أواخر العام 1981، أعلن هايك في إحدى المقابلات أنه يُفضِّل دائماً دكتاتورية السوق على ديمقراطية دولة الرفاهية. قال هايك: «المنافسة، في نهاية المطاف، هي دائماً عملية يجعل فيها عدد صغير من الضروري لأعداد أكبر أن تفعل ما لا تحبّه، سواء كان ذلك العمل بجدية أكبر، أو تغيير العادات، أو تكريس درجة ما من الاهتمام، أو التطبيق المستمر، أو الانتظام في عملهم الذي لن تكون هناك حاجة إليه من دون المنافسة».

من بين أعداء الديمقراطية والحرية كافَّة، على الأرجح كان فريدريش أوغست فون هايك هو الأذكى. على الأقل، كان الأكثر تأثيراً: فبُنَى الاقتصاد العالمي اليوم - «الاتحاد الاقتصادي والنقدي الأوروبي»، والبنوك المركزية، و«التعديلات المُتّزنَة للميزانية» في الدساتير الوطنية، واتفاقيات التجارة «الحرّة» التي تضمن أرباح رأس المال في المستقبل - تعتمد بشكل أساسي على أفكاره وأفكار طلّابه.

ويقال إن مارغريت تاتشر أخرجت ذات يوم كتاب هايك «دستور الحرية» من حقيبتها أثناء اجتماع سياسي لحزب المحافظين وأعلنت: «هذا ما نؤمن به!». وحتى بعد خمسين عاماً من الدمار النيوليبرالي، لا يزال هناك مؤمنون حقيقيون به. أحدهم هو خافيير مايلي. عندما انتُخِبَ ابن رجل الأعمال المُحدَث هذا رئيساً للأرجنتين في كانون الأول/ديسمبر الماضي، منحته «جمعية هايك»، التي تتَّخذ من برلين مقرَّاً لها، أعظم جوائزها: «وسام هايك». وأشادت الجمعية، التي تعرّضت لانتقادات شديدة بسبب قربها من «حزب البديل من أجل ألمانيا» اليميني المتطرّف، بـ«رؤية مايلي الواضحة لقوة اقتصاد السوق» القادر على «وضع أسس الحرية والازدهار والسلام الاجتماعي مرة أخرى»، وفقاً لتقاليد «لودفيغ إيرهارد، ورونالد ريغان، ومارغريت تاتشر».

فعل هايك وأتباعه ذلك دائماً باسم «الحرية»، لكن المقصود دائماً بهذه الكلمة هو الحرّية غير المقيّدة لرأس المال، والجانب الآخر من الأمر هو عبودية الأجر

وكتب غيرد هابرمان، عضو المجلس التنفيذي لـ«جمعية هايك» والأستاذ الفخري في الاقتصاد في «جامعة بوتسدام»، في اليوم المئة لمايلي في منصبه أن الأخير يسعى إلى إلغاء «دولة الرفاهية القائمة على المساواة (وليس فقط إصلاحها) والنزعة التدميرية الاجتماعية السياسية («النزعة الجِندرية» وكل ذلك)». وبالفعل، شغّل مايلي «المنشار الكهربائي» بعد عشرة أيام فقط من ولايته، وأصدر مرسوماً طارئاً: باسم الحرية الكاملة لرأس المال، ألغى أو عَدّل حقوق العمال في الانضمام إلى النقابات، وقوانين الحماية من التسريح من العمل والحماية في أماكن العمل، ومراقبة أسعار الكهرباء والصحة والتنقل، وحماية المستأجرين من الشركات العقارية، وحماية المستهلكين من ممارسات شركات الأدوية والمصارف وبطاقات الائتمان. جُمِّد كل الإنفاق الحكومي، باستثناء الإنفاق العسكري. وعلاوة على ذلك، يسعى مايلي الآن إلى الخصخصة الكاملة لجميع الشركات المملوكة للدولة. وبُغية تنفيذ هذه السياسات من دون معارضة، تضمَّن المرسوم «قانوناً تمكينياً» يهدف إلى منح مايلي صلاحيات شِبه دكتاتورية في مجالات السياسة الرئيسة. من المؤكد أن هايك كان ليُحِب كل هذا كثيراً. وفي مقال له في صحيفة «هاندلسبلات» الاقتصادية اليومية، وصف رئيس «جمعية هايك»، ستيفان كوثس، مايلي بأنه «ضربة حظ لليبرالية» - وأعرب عن أمله في أن يُنذر بموجة جديدة من أصولية السوق.

كان هدف هايك الأول هو إبقاء الناس، «الأجلاف الكبار» (على حد تعبير هاينريش هاينه)، على مسافة منتظمة من جميع القرارات الاجتماعية والاقتصادية التي تؤثّر على حياتهم. وكان هدفه الرئيس الثاني هو تسليم الطبقة العاملة لرأس المال من دون أي قدرة على الدفاع عن نفسها.

هو وأتباعه فعلوا هذا دائماً باسم «الحرية». وتسري هذه الكلمة في أنحاء أعمال هايك كافّة، وأطلق تلميذه ميلتون فريدمان على الأمر وصف «المعركة من أجل الحرية». لكن المقصود دائماً بهذه الكلمة هو الحرية غير المقيدة لرأس المال، والجانب الآخر من الأمر هو عبودية الأجر. أراد هايك استغلالاً بلا حدود. ولهذا السبب حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد في العام 1974 - في وقت كانت أرباح رأس المال تتعرّض فيه لضغوط - الأمر الذي جعله، وفقاً للمجلة المحافظة «ذي ناشيونال إنترست»، «شخصية معبودة من قِبل اليمين الراديكالي». في ذلك الوقت، كان هايك لا يزال مضطراً إلى تقاسم الجائزة مع الاقتصادي الكينزي اليساري غونار ميردال - في إشارة إلى أن أزمة الرأسمالية الفوردية كانت عملية مفتوحة، ولها طرق متعددة للخروج. وفي وقت لاحق، أشار حصول فريدمان على جائزة نوبل في العام 1976 إلى نقطة التحول نحو النيوليبرالية، قبل وقت طويل من انتخاب تاتشر وريغان وقد أُدخِلَت سياسات مُردكَلَة بالفعل حيز التنفيذ على يد أسلافهما.

كَره هايك المساواة. وقَبِل بها أمام القانون فقط - وهي مساواة تدعو للسخرية عندما يضطر مواطن عادي إلى رفع دعوى قضائية ضد شركة صناعة سيارات أو أدوية أو مستشفى أو أي شركة تحتكرها القلة. برّر هايك التفاوتات الاقتصادية الهائلة المتأصِّلة في التطوّر الرأسمالي - أي الحقيقة التي وصفها توماس بيكيتي، وإيمانويل سايز، وغابرييل زوكمان، والتي مفادها أنه في غياب إعادة توزيع للثروة على نطاق واسع، فإن الدخل القادم من رأس المال يلتهم الدخل القادم من العمل - بالإشارة إلى الاختلافات «الوراثية». ويتوافق هذا مع الافتراض القائل بأن ثروات إيلون ماسك، وجيف بيزوس، ومارك زوكربيرغ، وآل كواندت، وآل كلاتن هي نتيجة للإنجاز الشخصي والجدارة.

مُحاصرة راديكالية السوق

في ثلاثينيات القرن العشرين، ونتيجة للأزمة الرأسمالية والإضرابات الجماهيرية وخوف البرجوازية من الشيوعية، كانت هناك محاولة في الولايات المتّحدة للسيطرة على عدم المساواة الصارخة وجعل توزيع الثروة والدخل أكثر عدالة مرة أخرى من خلال تعزيز الحقوق النقابية، وإدخال وتوسيع الثروة وضرائب الدخل التصاعدية، وتوسيع القطاع العام. واجه الرئيس فرانكلين ديلانو روزفلت فشل سياسة التقشف الليبرالية التي انتهجها سلفه هربرت هوفر، والتي تسبّبت في ارتفاع معدلات البطالة الجماعية إلى 25%. استهدف روزفلت الذين يزيد دخلهم السنوي عن مليون دولار بشكل راديكالي بضرائب بنسبة 75%، ووصل الأمر لاحقاً إلى 91%.

استُثمرت هذه الأموال بنجاح في برامج التوظيف العامة («إدارة تقدم الأشغال» و«فيلق الوقاية المدنية»)، وتوسيع البنية التحتية (مَد الكهرباء، والطرق السريعة، والجسور، ومترو الأنفاق، والسدود، وأنظمة الريّ، وما إلى ذلك)، والحفاظ على الطبيعة (إنشاء وتوسيع المتنزهات الوطنية)، وتطوير بِنى دولة الرفاهية، وكذلك تعزيز الحياة الثقافية. ولو كان قد حصل على مراده، لوصل معدّل الضريبة إلى 100%. وفي العام 1936، توقّع الاقتصادي جون ماينارد كينز، في عمله الرئيس «النظرية العامة للتوظيف والفائدة والمال» - الذي ارتكزت عليه السياسة الاقتصادية الموجّهة نحو الطلب خلال الرأسمالية الفوردية (1933-1975) - «القتل الرحيم لأصحاب الريع» الذين يعيشون حصرياً من الدخل الرأسمالي غير المُستحَق.

الاتحاد السوفياتي وحده تمكن من اجتياز الأزمة بفضل التخطيط الاقتصادي، وعلى الرغم من أنه بزغ من دولة نامية تابعة، فإنه كان يخوض عملية تحرير أوروبا من الفاشية الألمانية بمفرده تقريباً

ومع ذلك، استُبدِل النموذج الكينزي بأفكار هايك النيوليبرالية خلال أزمة الرأسمالية الفوردية في السبعينيات من القرن العشرين. وحقيقة أن كينز نفسه ساعد هايك في الحصول على منصب في «كينغز كوليدج» في لندن يمكن اعتبارها نكتة متأخِّرة من فعل التاريخ. ومنذ ذلك الحين، بدأ أصحاب الريع يحتفلون مرة أخرى. ووفقاً لـ«مكتب الإحصاء الفيدرالي»، يعيش 1% من سكان ألمانيا الآن حصرياً من الدخل الرأسمالي، أي من عمل الآخرين (الفائض)، والذي تُخصَّص قيمته من خلال أرباح الشركات وأرباح أسهم الشركات المدرجة في البورصة. واتهم بعض علماء الاجتماع ذات مرة التمييز الذي قامت به حركة «احتلوا» بين أدنى 99% وأعلى 1% في المجتمع بأنه يُبسِّط مفهوم الطبقة. ومع ذلك، هذا التمييز في الواقع قريب جداً من العلاقات الطبقية الحقيقية.

وفي كلتا الحالتين، هذه هي الطريقة التي كُوِّنت بها الثروات الهائلة التي تقدّر بمليارات الدولارات اليوم، والتي تتناقض مع الفقر النسبي والمطلق على نحو متزايد للسكان وانهيار البنية التحتية العامة، مثل المدارس والجسور ووسائل النقل العام. وكما أظهر بيكيتي، فإن فجوة التفاوت بلغت أعلى مستوياتها في العام 1929 ومرةً أخرى في العام 2007، عشية الأزمة المالية العالمية. ولم يكن هذا من قبيل الصدفة: فرأسمالية الأسواق المالية تؤدي باستمرار إلى أزمات مالية، لأن الأكوام الهائلة من رأس المال التي تبحث عن فرص استثمارية مربحة تُنتج باستمرار فقّاعات مضاربة جديدة. كما أنها تسبّب أزمات مجتمعية، حيث خلقت هذه السياسة استثمارات جديدة من خلال خصخصة الإسكان العام، والرعاية الصحية، وأنظمة التقاعد، والتعليم، وما إلى ذلك.

تعلّم هايك بالفعل أن يكره سياسة مثل سياسة روزفلت في «فيينا الحمراء» الديمقراطية الاجتماعية، خلال سنوات دراسته الجامعية في أوائل العشرينيات من القرن الماضي. في العام 1921، ربطه أحد أساتذته بالخبير الاقتصادي النمساوي لودفيغ فون ميزس - وهو مؤلف لكتاب دحضي راديكالي للاشتراكية يسمى «الاقتصاد الاشتراكي» (1922) - والذي أصبح بعد ذلك معلمه. في كتابه «الطريق إلى العبودية» الصادر في العام 1944، والموجّه إلى الجمهور الأنغلو-أميركي في خضم الحرب العالمية الثانية، قام هايك بوضع روزفلت على مقربة من هتلر: كان على المرء أن «يُصرِّح بالحقيقة غير المستساغة والتي مفادها أننا نخاطر بتكرار مصير ألمانيا». أقرّ بأن «الظروف في إنكلترا والولايات المتحدة» مختلفة بالتأكيد. ربما أراد استباق الشكوك حول ما إذا كان توسيع حق العمّال الأميركيين في الإضراب يشبه إلى حد كبير إبادة الحركة العمالية الألمانية في معسكرات الاعتقال النازية، أو ما إذا كانت برامج التوظيف العامة للعمال من جميع الأعراق كانت بمثابة «أوشفيتز» أميركي. لكن، وفقاً لهايك، هذه الاختلافات لا ينبغي أن تحجب إدراك أننا «نسير في الاتجاه نفسه».

كان هايك محقاً عندما رأى أن راديكالية السوق تقف في موضع دفاعي في الأربعينيات من القرن العشرين. على الرغم من أن الشركات الكبرى في الولايات المتحدة موَّلت التوزيع الجماهيري لكتاب «الطريق إلى العبودية»، فإنه كان هناك ميل نحو تنظيم أكبر للرأسمالية والمزيد من التخطيط الاقتصادي. أدت الرأسمالية الليبرالية إلى «الكساد الكبير»، و«الكساد» إلى الفاشية، والفاشية إلى الحرب العالمية. الاتحاد السوفياتي وحده هو الذي تمكن من اجتياز الأزمة بشكل جيد بفضل التخطيط الاقتصادي، وعلى الرغم من أنه بزغ من دولة نامية تابعة، فإنه كان بحلول تلك اللحظة يخوض عملية تحرير أوروبا من الفاشية الألمانية بمفرده تقريباً. وفي الولايات المتحدة، نجح روزفلت في انتهاج سياسات يسارية. وبعد الحرب، امتدت الاشتراكية على النمط السوفياتي إلى أوروبا الشرقية، في حين وصلت حكومة يسارية بشكل جدي من حزب العمال إلى السلطة في بريطانيا، واكتسب الشيوعيون قوة هائلة في فرنسا وإيطاليا. وفي ألمانيا، أيضاً، مباشرة بعد العام 1945، توافد الملايين من الناس في كل مناطق الاحتلال إلى الحركة العمالية، حتى إنهم دعموا إضفاء الطابع الاشتراكي على الصناعات واسعة النطاق في استفتاء أجري في ولاية هيسن، وهو الاستفتاء الذي منعته قوات الاحتلال الأميركية. وحتى «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» أقرّ في «برنامج أهلين» بأن «النظام الاقتصادي الرأسمالي لم يخدم... مصالح الشعب الألماني»، ولهذا السبب كانت هناك حاجة إلى «نظام اقتصادي اشتراكي» يتجاوز «السعي الرأسمالي لتحقيق الربح والسلطة».

 ثوريٌ مُضاد

في هذه اللحظة، رأى هايك نفسه ثورياً مضاداً. اليوتوبيا الخاصة به تكمن في الماضي. «الرأسمالية المانشسترية»، حيث عمالة الأطفال والعمل لمدة 16 ساعة في اليوم، كانت «الفردوس المفقود» بالنسبة إليه. ذات يوم، قال ريغان إنه لو أتيحت له الفرصة فسوف يعيد عجلة التاريخ إلى القرن التاسع عشر. عندما قال هذه الكلمات، كان هايك هو مَن يتحدث. ومع ذلك، فُقِدَ الفردوس لأن فرض نظام السوق الليبرالي يجبر المجتمع على الدفاع عن نفسه ضد السوق، في مواجهة استغلال الطبيعة و«السلعة الوهمية» للعمل، كما وصف الأمر كارل بولاني، الخصم النظري لهايك، في كتابه «التحوّل الكبير»، الذي نُشر أيضاً في العام 1944. ووفقاً لبولاني، فإن مثل هذا النظام «لا يمكن أن يوجد على مدى فترات طويلة من الزمن من دون إبادة الجوهر البشري والطبيعي للمجتمع».

أنكر هايك وجود الطبقات وتصور فرداً مجرداً تعتمد حريته، السلبية حصراً، على عدم خضوعه لسيطرة الدولة. وبذلك عرَّف كل سياسة ضريبية بأنها حرمان من الحرية

لاحظ هايك «التحوّل الكبير» الذي حدث بعد العام 1870. وكان الانعكاس الأيديولوجي لهذا التحوّل هو هجرة الهيمنة الفكرية من الأنغلوسكسونية إلى العالم الناطق بالألمانية، وهو ما لاحظه وندم عليه: بعيداً من جون لوك وآدم سميث ونحو كارل ماركس وماكس فيبر. سعى هايك إلى تحقيق «تحوّل كبير» جديد بالعودة إلى المستقبل. عمله عبارة عن إعلان حرب على الاشتراكية. ومع ذلك، بالنسبة إليه، يبدأ هذا مع الليبرالية الشركاتية، التي حاولت، بسبب الخوف من الحركة العمّالية، كبح تجاوزات الرأسمالية الصارخة على الأقل من خلال تدابير مثل تفتيش المصانع والحد الأقصى القانوني ليوم العمل. وفي كتابه «الطريق إلى العبودية»، وصف هايك هذا بأنه «المنحدر الزلق» باتجاه الاشتراكية. وأهدى كتابه «إلى اشتراكيي كل الأحزاب».

ومع ذلك، وعلى الرغم من كل حنينه للماضي، رأى هايك أيضاً حاجةً إلى تحديث الليبرالية الكلاسيكية. أراد العودة إلى «الاقتصاد الحر»، كما أسماه، من خلال نظام سياسي حيث، وفقاً لكاتب سيرته الذاتية بروس كالدويل، «يُحظَر أي تشريع يهدف إلى إعادة توزيع الدخل بشكل محدّد كهدف له». واجه مشكلة أساسية: كيفية منع الجماهير من استخدام حق الاقتراع العام الذي فازت به لاستعادة جزء على الأقل من فائض القيمة الذي امتصَّه رأس المال - أو حتى إلغاء الملكية الرأسمالية الخاصة لوسائل الإنتاج التي يستند حكم رأس المال إليها.

لقد استخدم هايك خفة اليد لهذا الغرض. فأنكر وجود الطبقات وتصور فرداً مجرداً تعتمد حريته - السلبية حصراً - على عدم خضوعه لسيطرة الدولة. وبذلك عرَّف كل سياسة ضريبية بأنها حرمان من الحرية. بالنسبة إلى البعض - لأنه لا تزال هناك عجول تختار جزاريها - فإن هذا المفهوم السلبي للحرية لا يزال يتردد صداه حتى اليوم. إنه خطاب للشخص البالغ الذي ظل طفلاً، والذي يعترض على توقعات الوالدين بغسل اليدين قبل تناول الطعام حتى لا يصاب بالمرض، أو المساعدة في ترتيب غرفته حتى لا يغرق في الفوضى. وفي الوقت نفسه، ترتبط هذه المقاربة الطفولية باغتراب أولئك المعزولين في المنافسة الرأسمالية وتحولها إلى الموقف الدارويني الاجتماعي المتمثل في «كل إنسان لنفسه». «الليبرتاريون»، وفقاً لتغريدة انتشرت على نطاق واسع في العام 2023، «مثل القطط المنزلية: مقتنعون تماماً باستقلالهم الشرس بينما يعتمدون تماماً على نظام لا يقدرونه أو يفهمونه».

 نظامٌ طبيعي؟

في كتابه «دستور الحرية»، روّج هايك لـ«سيادة القانون». وعلى النقيض من ماركس، فهو لا يرى أن رأس المال يولد وهو «ينقط من الرأس إلى القدم، ومن كل مَسَمٍّ، بالدم والأوساخ». بالنسبة إليه، الرأسمالية ليست جزءاً من عملية تدريجية عامة لعلاقات الإنتاج التي تم إنشاؤها وتحويلها ثورياً، أي مجتمع انتقالي يخلق الظروف لمجتمع اشتراكي متطور. بل هو يعتبرها اقتصاد سوق «طبيعياً». في الأساس، الخلاف بين الماركسيين وبولاني من ناحية والنيوليبراليين مثل هايك من ناحية أخرى يدور أيضاً حول النظام الذي يعتبر «غير طبيعي» في الواقع: الاشتراكية أم «السوق الحرة». في كثير من الأحيان، يناقض هايك وأتباعه أنفسهم عندما يصفون في بعض الأحيان، كما يفعل فريدمان في مقدمة الطبعة الإنكليزية الجديدة من كتاب «الطريق إلى العبودية»، السوق بأنه «حس سليم»، وفي أحيان أخرى يصفون الاشتراكية بأنها رد فعل عاطفي طبيعي على الرأسمالية، وراديكالية السوق بأنها عقلنة مُثقّفة للغاية.

وفقاً لهايك، نشأت الحضارة (حضارة السوق) من «عادات غير واعية» تحوّلت إلى «مقولات صريحة ومفصّلة» وبالتالي أصبحت على نحو متزايد «مجردة وعامة». وفي إشارة إلى أطروحة سميث حول «اليد الخفية»، كتب أن «الجهود العفوية وغير المنضبطة التي بذلها الأفراد كانت قادرة على إنتاج نظام معقّد من الأنشطة الاقتصادية». ينبغي للدستور أن يحصر دور الدولة في الإشراف على قواعد السوق وحماية الملكية الخاصة الرأسمالية. إن الديمقراطية والقرارات التي تتخذها الغالبية هي في جوهرها مُدمِّرة لهذا النظام. وبما أن السوق يميل نحو التوازن المستقر - التخصيص الأمثل للموارد والتنظيم الذاتي للاقتصاد - فلا يوجد فشل في السوق. بل الدولة هي سبب كل المشاكل.

حجته معادية للديمقراطية بشكل جوهري. في الأساس، تبدو المجتمعات له - وليس من قبيل الصدفة - مثل الأطفال الجاحدين الذين يطالبون بالمزيد والمزيد

وقد رد هايك على الحجة القائلة بأن يوتوبيا النيوليبراليين قد دُحضت من خلال ديستوبيا رأسمالية مانشستر بحجة مفادها أن الفقر في القرن التاسع عشر لم يكن في الواقع نتيجة للسياسات الاقتصادية الليبرالية. ولم يكن حتى بؤساً حقيقياً. بل إن «ثروة الأمم» المتزايدة التي جلبها السوق لم تؤدِّ إلا إلى زيادة توقعات الرخاء «للأجلاف الكبار» وقادت إلى اكتشاف «بقع مظلمة للغاية في المجتمع». لكن في الحقيقة، «لم تكن هناك طبقة لم تستفد بشكل كبير من التقدّم العام». وهو يشرح التناقض المتمثل في ظهور حركة عمّالية قوية كردّ فعل على فرضيات الرأسمالية الليبرالية بالقول إن تطبيق «السوق الحرة» لم يكن راديكالياً بما فيه الكفاية وأن تقدّمه «بطيء» للغاية.

إن حجته معادية للديمقراطية بشكل جوهري. في الأساس، تبدو المجتمعات له - وليس من قبيل الصدفة - مثل الأطفال الجاحدين الذين يطالبون بالمزيد والمزيد. و«طموحهم اللامحدود» - الذي «برّرته على ما يبدو التحسينات المادية التي حُقِّقت بالفعل» - في رأيه هو الذي تسبب في تحول بحيث «مع مطلع القرن، تم التخلي أكثر فأكثر عن الإيمان بالمبادئ الأساسية لليبرالية». علاوة على ذلك، فإن الاشتراكية بالنسبة إليه هي أيضاً ابنة خطأ المثقفين الذين يجرّون العمّال نحو شيء غريب عن طبيعتهم - الجماعية، وليس الفردية. الاشتراكية و«النزعات الشيوعية» (مايكلبري)، التي تمتد جذورها إلى المسيحية وجميع ديانات العالم والتي شكلت تاريخ البشرية، هي في الحقيقة رفض «للتقاليد الأخلاقية المتولدة بشكل عفوي والتي يقوم عليها نظام السوق التنافسي»، كما كتب هايك في «الغرور القاتل» (1988). الاشتراكية هي «نظام أخلاقي مصمّم بعقلانية... تعتمد جاذبيته على الجاذبية الغريزية لعواقبه الموعودة». وقد اشتكى من أنه «كلما تسلقنا سلم الذكاء، كلما تحدثنا مع المثقفين، كلما زاد احتمال مواجهتنا للقناعات الاشتراكية».

وفي نهاية المطاف، تدين راديكالية السوق ببقائها إلى حقيقة مفادها أنها - على الرغم من كونها مدمّرة - تستفز حتماً حركة مضادة تعمل على إعادة تنظيم الرأسمالية. وهذا يعني أن النيوليبراليين قد يتمسكون بوجهة نظرهم حول تأثير الأسواق «الحرة» على تعزيز الإنسانية. ويمكنهم دائماً الادعاء بأن اليوتوبيا الخاصة بهم لم تتحقّق بالكامل بعد في أي مكان.

لنعد إلى «دستور الحرية»: فالقواعد التي يجب أن يراقبها يجب أن تكون فقط «مجرّدة وعامة وغير شخصية». ويرى هايك أن «سيادة القانون» لا تتوافق بشكل أساسي مع سياسات إعادة التوزيع التي تفضِّل «العدالة الاجتماعية». تَظهر السياسات الضريبية والتنظيمية بالفعل في كتابه «الطريق إلى العبودية» باعتبارها حكماً تعسّفياً، وتظهر دولة الرفاهية الاجتماعية باعتبارها توتاليتارية. إن محاولة هايك التاريخية المعادية للحقيقة لتصوير الفاشية والشيوعية ليس كأعداء متبادلين، بل كإخوة لعائلة واحدة هي عائلة «الجماعية»، تستند أيضاً إلى هذا. وكلما أكّد الليبرتاريون اليمينيون اليوم على أن أدولف هتلر كان في نهاية المطاف «اشتراكياً وطنياً»، فإننا نتعامل مع لعبة فاقعة هرائية مستوحاة من هايك.

 الليبرالية السلطوية

باعتباره ليبرالياً كلاسيكياً، اتبع هايك نظرية لوك، الذي دافع عن مصالح الطبقات المالكة بحجة مفادها أنه يجب السماح لكل شخص بالاستيلاء على كل ثروات البيئة الطبيعية التي يستطيع الاستيلاء عليها. وذات يوم، قال الاشتراكي المبكر بيير جوزيف برودون: «الملكية سرقة». ويُحاجج هايك ضد هذا: ليس فقط التَشريك، ولكن حتى الضرائب سرقة.

وظلت الرأسمالية القائمة بالفعل بمثابة كعب أخيل بالنسبة إلى هايك. فالافتقار إلى المساواة الذي يتعيّن عليه تبريره ليس مجرّد نتيجة للأداء. لقد أقرّ بـ«الحوادث البيئية» - بمعنى أن أي شخص يرث الملايين أو المليارات كطفل و«يُشغِّلها لمصلحته» لا يجب أن يكون أينشتاين جديداً. لكن «الموهبة الطبيعية والقدرات الفطرية» هي أيضاً «مزايا غير عادلة». ويضيف: «الرغبة في إزالة آثار الصدفة، التي تكمن في جذور المطالبة بالعدالة الاجتماعية يمكن إشباعها… فقط من خلال القضاء على كل تلك الاحتمالات التي لا تخضع للسيطرة المتعمدة. لكن نمو الحضارة يعتمد إلى حد كبير على تحقيق الأفراد أقصى استفادة من أي مصادفة تواجههم». ويطلق هايك على هذا «الحرّية في ظل القانون»، ويرى أنها «اهتمامه المركزي». وأي مساواة غير «المساواة في القواعد العامة للقانون والسلوك» ستكون بمثابة «تدمير للحرية».

حقيقة أنهم لاحظوا وجود صلة تاريخية بين نمو الديمقراطية الجماهيرية والتغلّب على الليبرالية الاقتصادية عَنَت أن التاريخ الحقيقي للنيوليبرالية يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالسلطوية

إن الحفاظ على «النظام» (الرأسمالي) و«قواعده» (السوقية) أمر مقدس بالنسبة إلى هايك. لا يهم ما يريده «العامّة». على العكس من ذلك، يرى هايك أن جهود الناس لتقرير مصائرهم هي محض طغيان. هايك، ومعلمه لودفيغ فون ميزس، وطلابه فريدمان وجيمس بوكانان - باختصار، العقول المدبرة للنيويبرالية - واجهوا المشكلة نفسها التي واجهها كارل شميت والفاشية. حقيقة أنهم لاحظوا وجود صلة تاريخية بين نمو الديمقراطية الجماهيرية والتغلّب على الليبرالية الاقتصادية عَنَت أن الإرث المناهض للديمقراطية لليبرالية الكلاسيكية استمر في تفكيرهم - وأن التاريخ الحقيقي للنيوليبرالية يرتبط أيضاً ارتباطاً وثيقاً بالسلطوية.

النيوليبرالية والفاشية هما شكلان من أشكال التفكير البرجوازي كرد فعل على الديمقراطية الجماهيرية والاشتراكية. وكلاهما يواجه المشكلة التالية: في ظل ظروف الاقتراع العام، كيف نمنع الجماهير من مواجهة نقص المساكن وجنون الإيجارات من خلال الإسكان الاجتماعي، أو توفير المواد الغذائية الأساسية والصحة والتعليم والتنقل باعتبارها منافع عامة مجانية أو مدعومة بما يتماشى مع حقوق الإنسان الأساسية وليس كسلع، أو حتى تحويل الملكية الخاصة الرأسمالية للأرض والصناعة والبنوك لمصلحتهم الخاصة، بحيث يخدم الاقتصاد التَشريكي الشعب وليس العكس. لقد سعى المفكّرون الفاشيون من أمثال شميت إلى إلغاء حق الاقتراع العام لصالح دكتاتورية (رئاسية) صريحة. وهايك، الذي كان يكتب للبرجوازية الأنغلو-أميركية في التحالف المناهض لهتلر، علم جيداً أن هذه المعركة قد خُسرت. وبدلاً من ذلك ركَّزَ على تحييد العملية الديمقراطية. هايك هو المنظّر الرئيس لـ«ما بعد الديمقراطية» (وفقاً للمصطلح الفَطِن لكولنكراوتش). ويتلخّص عمله النظري في البحث عن وسائل إقامة دكتاتورية رأس المال من دون دكتاتورية سياسية دائمة. وهو يركز بالتالي على تقييد نطاق الحكومات المنتخبة بشكل أساسي. وتنزع نظريته بشكل منهجي سيادة الحكومات على السياسة المالية والاقتصادية. ومقارنة بشميت، فإن هذا يجعل هايك في نهاية المطاف الثوري المضاد البرجوازي الأكثر ذكاءً. ومع ذلك، فقد ظل أيضاً منفتحاً على الديكتاتورية الصريحة من أجل كسب الحرب ضد الديمقراطية والجماهير والرفاهية.

وجد هايك ضالَّته في التقليد النظري الليبرالي - مونتسكيو، وبنجامين كونستانت، ولوك - وفي تاريخ الولايات المتحدة. وفي دستور الولايات المتحدة لعام 1776، وجد الحل النهائي لمشكلة البرجوازية، حتى كأقلية اجتماعية تحدد سياسة الدولة. وكما أظهر المؤرخان تشارلز بيرد وتيريبوتون، فقد نشأ دستور الولايات المتحدة بالروح نفسها كمُنتَج للثورة المضادة ضد «اللحظة الديمقراطية» للحرب الثورية المناهضة للاستعمار في ذلك الوقت، والتي جعلت الاقتراع العام غير قابل للمُنازعة.

كان بولاني واحداً من أوائل المراقبين لكيفية تآكل الديمقراطية في الدساتير، عندما كتب أن الولايات المتحدة «عزلت المجال الاقتصادي كلياً عن سلطة الدستور، وبالتالي وضعت الملكية الخاصة تحت أكبر حماية يمكن تصوّرها وخلقت مجتمع السوق [الرأسمالي] الوحيد المؤسس قانوناً في العالم. وعلى الرغم من الاقتراع العام، كان الناخبون الأميركيون عاجزين أمام الطبقات المالكة». وفي وقت مبكر يعود إلى العام 1939، حاجج هايك في كتابه «الحرّية والنظام الاقتصادي» بأنه «بوسعنا أن نخطّط لنظام من القواعد العامة التي تنطبق على الجميع بالتساوي، والمصمّمة بحيث تظل دائمة». وما ينبغي أن ينطبق على الأفراد يجب أن يكون الآن ملزماً أيضاً للديمقراطيات البرلمانية.

 الدستور الاقتصادي

استخدم هايك وطلابه آليتين لتأسيس تنمية اجتماعية مدفوعة بالسوق: أولاً، من خلال دساتير (اقتصادية) مُلزِمة قانوناً، وثانياً، الإضعاف المنهجي لكفاءات السياسة الاقتصادية والمالية للدولة القومية من خلال سياسة الفَدْرَلَة. وبالتالي، كان لكل من المركزية واللامركزية دور تلعبه: فمن ناحية، مَركَزَة سلطات صنع القرار في هيئات غير ديمقراطية مثل البنوك المركزية، التي أُعلِنَ أنها «مستقلة»، أي غير خاضعة للمساءلة والرقابة ديمقراطياً، وفي معاهدات دولية ذات وضع دستوري ملزم قانوناً للدول. ومن ناحية أخرى، لامَركَزَة أجهزة الدولة المحلية التي تتمتّع بالقليل من صلاحيات التوجيه والسيطرة المالية وما إلى ذلك.

تاريخياً، أصبح «تدويل الدول» (روبرت دبليو كوكس) الأداة الأساسية «للدستورية الجديدة» (ستيفن جيل) المستندة إلى هايك. وقد أدى ذلك إلى تقييد الدول القومية من خلال دساتير ملزمة قانوناً للرأسمالية العالمية مثل «الاتفاقية العامة بشأن التعريفات الجمركية والتجارة»، و«منظمة التجارة العالمية»، واتفاقيات حماية الاستثمار، والدستور الاقتصادي للاتحاد الأوروبي بمعايير تقاربه النيوليبرالية («التعديلات المُتَّزِنَة للميزانية» في الدساتير، وما إلى ذلك)، والهيئات الخارجة عن تأثير البرلمانات الوطنية مثل «مجموعة السبع» و«المفوضية الأوروبية».

أنشأ هايك الأسس الجوهرية لنظام سوق بلا بديل، لا يمكن للحكومات التشكيك فيه إلا تحت وطأة الخوف من سقوطها. ومن روح هايك، تأسَّست قواعد «منظمة التجارة العالمية» بشأن المعاملة المتساوية لرأس المال الوطني والدولي، ما جعل من المستحيل على الدول التابعة أن تسعى إلى الاستقلال

وهكذا عزّزت الدستورية الجديدة القوة البنيوية لرأس المال، أي حركته، التي تعمل على فرض إعانات من الدول وتنازلات في الأجور من جانب النقابات العمّالية في دورة دائمة، وتمكين هروب رأس المال، ونتيجة لذلك، سقوط الحكومات في حال خطّطت لإعادة التوزيع أو التَشريك. كما عزّزت الوزارات (خصوصاً المالية) الأقرب إلى هذا النظام، على حساب الحقائب الاقتصادية والعمالية والاجتماعية.

وعلى هذا فقد أنشأ هايك الأسس الجوهرية لنظام سوق بلا بديل، في ظل قواعد لا ينبغي للحكومات أن تشكك فيها إلا تحت وطأة الخوف من سقوطها. ومن روح هايك، تأسَّست قواعد «منظمة التجارة العالمية» بشأن المعاملة المتساوية لرأس المال الوطني والدولي، مما يجعل من المستحيل على الدول التابعة أن تسعى إلى الاستقلال. لقد أنشأ هايك الأساس لـ«اتفاقية الجوانب التجارية لحقوق الملكية الفكرية»، ما سمح لشركات الأدوية باحتكار حتى النباتات والبذور، بغض النظر عن مئات الآلاف من المزارعين الهنود الذين ينتحرون نتيجة لذلك. يمكن أن يُنَسب الفضل إلى هايك في نهاية المطاف في اتفاقيات حماية الاستثمار مثل «الاتفاقية الاقتصادية والتجارية الشاملة» و«شراكة التجارة والاستثمار عبر الأطلسي»، والتي على أساسها يمكن للشركات عبر الوطنية مقاضاة الدول للحصول على تعويضات مروعة عن خسارة أرباح رأس المال في المستقبل إذا اتخذت الحكومات قرارات ديمقراطية مثل حظر التدخين أو التخلص التدريجي من الطاقة النووية.

بالإضافة إلى هذه اللادمقرطَة، طوَّر هايك أيضاً وسيلة أخرى لإكمال دكتاتورية رأس المال. وكانت هذه الوسيلة هي الفَدْرَلَة. استناداً إلى الافتراض القائل بأن «إنشاء دولة عالمية [ديمقراطية] ربما يكون خطراً أكبر على مستقبل الحضارة من الحرب»، سعى هايك، وفي أعقابه بوكانان، إلى تحقيق اللامركزية المنهجية في وظائف الحكومة، «الاقتصاد السياسي للفيدرالية المفتوحة» (آدمهارمز) و«المنافسة بين الحكومات المحلية». يكتب هايك:

«ما زال يتعيَّن علينا أن نتعلّم كيفية الحد من صلاحيات جميع الحكومات بشكل فعّال وكيفية تقسيم هذه السلطات بين صفوف السلطة.... من المرجّح أن يُشكِّل إنشاء دولة عالمية خطراً أكبر على مستقبل الحضارة من الحرب.... في حين أنه كان دائماً من سمات أولئك الذين يفضّلون زيادة السلطات الحكومية دعم التركيز الأقصى لهذه السلطات، فإن أولئك المهتمين بشكل أساسي بالحرية الفردية دافعوا بشكل عام عن اللامركزية». 

أدرك هايك إمكانية الضَبْط المالي للحكومات المحلية عندما تتنافس مع بعضها البعض على رأس المال واستثماراته المباشرة، والتي لم تعد مقيدة بضوابط رأس المال.

كما أثبت مبدأ اللامركزية نفسه فائدته من حيث تجفيف دولة الرفاهية المكروهة، لأن السلطات المحلية عادة ما تكون غير قادرة على تلبية الضغوط الاجتماعية من أجل الإسكان الاجتماعي، ومدارس أفضل، والإسكان للأشخاص الذين يتمتعون بحق اللجوء، وما إلى ذلك - مشيرة إلى أن أيديها مقيدة بالسياسة المالية. أثناء الأزمة المالية العالمية، اضطرت الولايات الأميركية فرادى، بفِعل مكابح الديون الإقليمية، إلى الاختيار بين زيادة الضرائب أو التخفيضات الاجتماعية. ومن ثم أصبحت التخفيضات الاجتماعية جزءاً لا يتجزأ من الدساتير بنيوياً.

حرية القِلَّة

وهكذا أثبت هايك أنه السلاح الأكثر حِدَّة للعداء البرجوازي للديمقراطية. و«الديمقراطية المتوافقة مع السوق» التي طالبت بها المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل في أعقاب أزمة منطقة اليورو، والتي تخضع للأسواق المالية الدولية، تقوم على تفكيره.

ليس هناك شك «في أن الوعد بمزيد من الحرية أصبح أحد أكثر أسلحة الدعاية الاشتراكية فعالية». وهذه الحرية كالحرية من الاستغلال والوقت المُكرَه، هي الشرط الأساسي لحياة يقرر مصيرها كل من يتعين عليهم أن يعيشوا من عملهم المأجور

كان التنظير لديكتاتورية رأس المال ضمن نظام الاقتراع العام وبالتالي العثور على أذن مسموعة بين البرجوازية خلال أزمة الرأسمالية الفوردية في السبعينيات من القرن الماضي بمثابة انتصار تاريخي لهايك - ما جعله أقوى داعية لحرية القِلَّة على حساب حرية الكَثْرة. واليوم تدعي الليبرالية مفهوم الحرية لنفسها. كان هايك، مع ذلك، مُدركاً للطبيعة المثيرة للجدل لهذا المفهوم. ليس هناك شك «في أن الوعد بمزيد من الحرية أصبح أحد أكثر أسلحة الدعاية الاشتراكية فعالية». هذه الحرية الأوسع لا تتحقق في الواقع إلا من خلال الاشتراكية: كحرية من الاستغلال والوقت المُكرَه، وهي الشرط الأساسي لحياة يقرر مصيرها كل من يتعين عليهم أن يعيشوا من عملهم المأجور.

يشير عداء هايك النخبوي للديمقراطية إلى أن راديكالية السوق من غير الممكن أن تكون في مصلحة غالبية الطبقة العاملة بأجر. وحتى لو لم يتوصل إلى استنتاجات فاشية - كان ميزس لا يزال يرحب في عام 1927 بالفاشية باعتبارها «خلاص الحضارة الأوروبية» - فقد افترض، مع ذلك، أن الثورة المضادة ضد دولة الرفاهية ربما يجب أن تكون دكتاتورية لأن الجماهير، وفقاً لنظرية «الحِمل الزائد» التي طرحها هو وبوكانان، لن تصوت أبداً ضد الرفاهية. ولذلك طالب هايك في السبعينيات من القرن الماضي بحرمان «المتلقين الصافيين للتحويلات»، أي جميع موظفي القطاع العام، وجميع المتقاعدين وجميع العمال العاطلين عن العمل، من حق التصويت.

ولذلك، دعم النيوليبراليون بشكل مباشر الانقلاب ضد الاشتراكية الديمقراطية في تشيلي في العام 1973 والدكتاتورية العسكرية لأوغستو بينوشيه. فقط تاتشر و«شعبويتها السلطوية»، التي جمعت بين تفكيك دولة الرفاهية والنداءات القومية والحرب، وبالتالي جمعت بين هايك وشميت، أظهرت بعد 6 سنوات أن النيوليبرالية ممكنة حتى لو أُبقي على الاقتراع العام. لكن في أواخر العام 1981، أعلن هايك في إحدى المقابلات أنه يُفضِّل دائماً دكتاتورية السوق على ديمقراطية دولة الرفاهية. قال هايك: «المنافسة، في نهاية المطاف، هي دائماً عملية يجعل فيها عدد صغير من الضروري لأعداد أكبر أن تفعل ما لا تحبه، سواء كان ذلك العمل بجدية أكبر، أو تغيير العادات، أو تكريس درجة ما من الاهتمام، أو التطبيق المستمر، أو الانتظام في عملهم الذي لن تكون هناك حاجة إليه من دون المنافسة».

وشكّك هايك في «ما إذا كان يمكن لسوق تؤدي عملها بنجاعة أن تنشأ في ظل ديمقراطية غير محدودة». وفي هذا الصدد، كان بالتأكيد على حق.

 

 نُشِر هذا المقال في Jacobin في 8 أيار/مايو 2024، وتُرجِم وأعيد نشره في موقع «صفر» بموافقة من الجهة الناشرة.