Preview النقابات المهنية المصرية

8 تحدّيات أمام النقابات المهنية المصرية

يناضل تيّار الاستقلال النقابي لاستعادة النقابات المهنية في مصر من براثن النظام السلطوي، في ظل حالة من الاحتقان الاجتماعي والسياسي والوطني، ونجح هذا التيّار بالفعل في تحقيق نتائج إيجابية في نقابات عدة، آخرها تقدّمه اللافت في انتخابات نقابة أطباء الأسنان الشهر الماضي، ولكن نجاح النقابات المهنية في تأدية دور محوري في مشروع التغيير الديمقراطي، كما يأمل الكثيرون، يستدعي تجاوزها معوقات عديدة تكبّل حركتها.

الشباب المهنيون يتصدّرون المشهد

تتزايد أعداد الأعضاء في النقابات المهنية، وقد تجاوزت 8 ملايين عضو في العام 2021 وفق الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. ولا تقتصر ملامح هذا الثقل على نمو العضوية في النقابات التي ارتفع عددها من 7 نقابات في نهاية أربعينيات القرن الماضي إلى 32 نقابة حالياً، بل ثمة تاريخ حافل لأقدم هذه النقابات وأعرقها في النضالات الوطنية والديمقراطية والاجتماعية للمصريين. أيضاً لا يمكن فهم تنامي الغضب وسط المهنيين بمعزل عن تأثير الانهيار الكبير في سعر الصرف والتضخّم المُفرط على القدرات الشرائية للمهنيين، وانحدار السواد الأعظم منهم إلى ما دون خطّ الفقر، بالتوازي مع الانهيار التام للخدمات العامة الأساسية، التي كانت الدولة تدعمها.

لا يمكن فهم تنامي الغضب وسط المهنيين بمعزل عن تأثير الانهيار الكبير في سعر الصرف والتضخّم المُفرط على القدرات الشرائية للمهنيين، وانحدار السواد الأعظم منهم إلى ما دون خطّ الفقر

وعلى الرغم من التضييق الأمني، أثمرت مفاعيل الأزمة السياسية والاقتصادية عن فوز «قائمة التغيير» بـ 8 مقاعد في مجلس إدارة النقابة العامّة لأطباء الأسنان، من أصل 12 مقعداً، في انتخابات التجديد النصفي التي أجريت الشهر الماضي، كما سيطرت القائمة على 16 نقابة فرعية من أصل 27 لتطيح بقائمة «المستقبل» المحسوبة على السلطة، وأكثر من هذا كاد المرشح الحقوقي الدكتور محمد بدوي أن يفوز بمنصب النقيب، على الرغم من التدخلات السلطوية لخدمة المرشّح المنافس. وهي تدخّلات بلغت حدّ الضغط على حاتم الجندي نقيب أطباء الأسنان في محافظة الدقهلية والقيادي في «مستقبل وطن»، حزب الغالبية القريب من رأس النظام، للتراجع عن الترشّح لمنصب النقيب، لتجنّب تفتيت الأصوات مع النقيب الحالي إيهاب هيكل، القريب أيضاً من دوائر السلطة، لصالح مرشّح المعارضة.

وقد تسبّب التدخل السافر لأجهزة السلطة في احتشاد غير مسبوق للناخبين، خصوصاً من الشباب، الذين بلغ عددهم 10 آلاف و470 صوتاً. حصد مرشّح السلطة إيهاب هيكل 4 آلاف و903 أصوات منها، بينما حصل منافسه محمد بدوي مرشح تيار الاستقلال على 4 آلاف و245 صوتاً.

ولم تكن النتائج الإيجابية لتيّار الاستقلال في نقابة أطباء الأسنان هي الحلقة الأولى في حركة استعادة النقابات، ولكن سبقتها حلقات أخرى بدأت في العام 2022. 

ففي كانون الأول/ديسمبر 2022، شهدت مصر انتفاضة المحامين في مواجهة سعي السلطة لزيادة الأعباء المالية عليهم من دون تمييز بين المحامين الشباب وأصحاب المكاتب الكبرى. ونجح المحامون في تنظيم حملة للاحتجاج على تطبيق الدولة للتسجيل في الفاتورة الإلكترونية. ومن أهم مظاهر تلك الحملة ممارسة المحامين حق التظاهر، المحظور بحكم القانون، في معظم محافظات مصر. وقبلها بشهرين فقط، أسقط المحامون في الانتخابات المرشّح القريب من السلطة سامح عاشور، الذي انتخب مرات عدة نقيباً للمحامين، ولكنه أشاح وجهه عن مصالح المحامين وارتمى بالكامل في حضن سلطة الثورة المضادة. 

وفي آذار/مارس 2023، فاز خالد البلشي، المناضل النقابي، ورئيس تحرير موقع «درب» المحجوب في مصر، بمقعد نقيب الصحافيين في مواجهة المرشح الرسمي للدولة؛ ليُلهِم انتصاره المحبَطين من إمكانية التغيير. ومن حينها، بدأ البلشي بإعادة نقابة الصحافيين تدريجياً لتأدية دورها في الدفاع عن الصحافيين وحرية الصحافة بعد سنوات من التأميم الحكومي للنقابة. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2023، استقبل سلم نقابة الصحافيين مظاهرة احتشد فيها آلاف الصحافيين والقوى السياسية والشباب الغاضب للتنديد بالمجازر الصهيونية، وتقدّمها البلشي وأعضاء المجلس، وذلك للمرة الأولى منذ ست سنوات.

أيضاً، في أيار/مايو الماضي، وبعد جمعية عمومية غير مسبوقة، انتصرت إرادة المهندسين ورفضت الغالبية العظمى سحب الثقة من النقيب المستقل طارق النبراوي، في هزيمة كبرى لغالبية أعضاء هيئة المكتب المحسوبين على حزب الغالبية «مستقبل وطن».وهي الجمعية التي انتهت بمهزلة اقتحام البلطجية لمقرها، والاعتداء على المهندسين، وتمزيق عدد من أوراق الاقتراع، وهي وقائع تم تصويرها بالصوت والصورة. وعلى الرغم من أعمال البلطجة، لم يتزعزع عضد نشطاء المهندسين ونقيبهم، وصمّموا على اعتماد نتيجة الاستفتاء بتأييد بقاء النقيب المستقل وإحالة البلطجية إلى النيابة.

الملاحظ في معارك النقابات الثلاث هو مدى ترابط القضايا النقابية مع القضايا السياسية والاجتماعية والوطنية. ولا يعني هذا بطبيعة الحال أن هناك صعوداً ميكانيكياً وحتمياً لتيار الاستقلال وسط النقابات المهنية الفاعلة، الذي واجه هزائم وتراجعات كما شهدنا في انتخابات نقابة الأطباء البشريين الأخيرة حيث تعرض لهزيمة بعد تدخلات سافرة من السلطات، ولكنه عاد وحقّق نتائج إيجابية في نقابة الأسنان.

صراع طويل على الهيمنة

تعدّ التنظيمات النقابية المهنية القويّة أحد أهم أشكال تنظيمات المجتمع المدني، ولطالما كانت هدفاً للأنظمة السلطوية في المنطقة العربية سواء بالسيطرة عليها أو تفريغها من مضمونها وأهدافها وأبعادها وقياداتها عن العمل المهني والسياسي الذي يمكن أن يفضي إلى تشبيكات قد تهدّد النظم أو تحقّق مصالح المنتمين إلى تلك التنظيمات.

تعدّ التنظيمات النقابية المهنية القويّة أحد أهم أشكال تنظيمات المجتمع المدني، ولطالما كانت هدفاً للأنظمة السلطوية في المنطقة العربية سواء بالسيطرة عليها أو تفريغها من مضمونها وأهدافها وأبعادها وقياداتها

منذ بدايات القرن العشرين، وفي ظل الاحتلال البريطاني، سعى نظام حكم أسرة محمد علي الوراثي إلى تدجين الجمعيات والنقابات التي نشأت في خضم النضال الاجتماعي والوطني للمصريين منذ نهاية القرن التاسع عشر، وهو ما دفع جريدة «الرائد المصري» في عددها 612 الصادر في العام 1902 للقول بأنه «من العار الفاضح أن توضع القوانين لغايات سياسية ومقاصد استبدادية يقصد بها تسليح الهيئة الحاكمة بقوة تقتل بها من تود قتله من الشرائح بصورة قانونية».

وفي خمسينيات القرن الماضي، في خلال عهد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، دمجت السلطة السياسية المنظمات العمالية والمهنية في الدولة لتؤدّي دوراً محورياً في خدمة تنظيمها السياسي وتوجّهها الأيديولوجي. 

ولم يقف الأمر عند هذا الحدّ بل استخدمت سلطة الدولة أساليب عديدة لمحاصرة النقابات المهنية وتطويعها وتكبيلها من الداخل. وفي أوقات أخرى، تدخلت بشكل مباشر لحلّ مجالسها، وهو نهج تكرر مرّتين مع الصحافيين بموجب قرارات إدارية، الأولى في 15 نيسان/أبريل 1954 والثانية في 15 آذار/مارس 1967، كما تكرّرت مع غيرهم.  

واستمرّ هذا الأسلوب حتى نهاية عهد الرئيس الأسبق أنور السادات في العام 1981، الذي أصدر قراراً همايونياً ضد نقابة المحامين بفرض مجلس معيّن بديلاً عن المنتخب. كما لجأت سلطة الدولة إلى «منظومة العدالة» من خلال استمرار اختصاصها بإصدار قوانين النقابات المهنية وتعديلاتها منذ العهد الملكي، سواء بمراسيم للسلطة التنفيذية أو تشريع برلمانات خاضعة لسيطرتها أو باللجوء إلى ساحات المحاكم وأحكامها.  

وفي التسعينيات، صدر القانون 100 لعام 1993 الذي حمل تسمية «قانون ضمانات ديموقراطية النقابات المهنية»، بعد اجتماع في العام 1990 عقده قادة عدد من النقابات المهنية في نقابة الأطباء، أحد معاقل «الإخوان المسلمين» حينها، وطالبوا الرئيس الأسبق حسني مبارك بالتخلّي عن رئاسة الحزب الوطني، وإلغاء العمل بقانون الطوارئ، ورفع القيود على حرّية الصحافة وتكوين الأحزاب، وإجراء انتخابات عامة نزيهة. وهكذا انتقل الصراع على النقابات المهنية واستقلاليتها إلى مرحلة جديدة دامت نحو 18 عاماً، فرضت فيها حراسة على بعض النقابات وجمّدت الانتخابات في عدد آخر، حتى تم إلغاء القانون بحكم من المحكمة الدستورية في 2 كانون الثاني/يناير 2011.

وقبل انتفاضة 25 كانون الثاني/يناير 2011، مثلت 3 نقابات حراك تأطير مطالب التغيير السياسي في البلاد وهي: نادي القضاة، نقابة الصحافيين ونقابة المحامين، وعُرِفت إعلامياً في تلك الفترة بـ «مثلث الرعب». وجرت في العام 2010، محاولة تأسيس «اتحاد النقابات المهنية» خارج عباءة الدولة، وتمثلت أبرز مطالبه في إسقاط القانون رقم 100 الصادر في العام 1993، واستقلال الموارد المالية للنقابات، وتحسين مداخيل المهنيين، وأن يقتصر تغيير قانون النقابة على اقتراحات جمعيتها العمومية، واستمرار رفض التطبيع مع إسرائيل، وهو المبدأ الذي أقرّته الجمعية العمومية في العديد من النقابات منذ توقيع اتفاقية كامب ديفيد وحتّى الآن.

معضلات عديدة

بيد أن الطريق إلى استقلالية النقابات المهنية في مصر ما زال طويلاً، ويستدعي نضال القوى الديموقراطية لتقديم نماذج ملهمة في النقابات التي تهيمن على مجالس إدارتها، وإخضاع هذه التجارب للنقد والتقييم، فضلاً عن التصدّي للمعضلات التي تكبّل حركة النقابات وقدرتها على تأدية دور محوري في مشروع التغيير الديموقراطي، ومن أبرزها:

في كل المجتمعات الديمقراطية تمارس النقابات العمل السياسي، وتشتبك مع كل القضايا العامة، وتشارك في صنع السياسة العامة بصفتها جزءاً من المجتمع المدني، بل أنها تنضم بصفتها المؤسّسية كنقابات إلى عضوية الأحزاب السياسية

أولاً: تقسيم الطبقة العاملة. حرصت سلطة تموز/يوليو 1952 على تفتيت الحركة العمّالية وإضعافها وإدماجها بجهاز الدولة. وفي هذا السياق، تم الفصل بين العاملين بأجر؛ ليصبح أصحاب الشهادات العليا الأُجراء أعضاء في نقابات مهنية، وباقي الأُجَراء أعضاء في نقابات عمّالية.

ثانياً: نقابة للملاك والأجراء معاً. تُشبه النقابات المهنية في مصر نظام الطوائف القديم في العصور الوسطى الإقطاعية، إذ تضم الطائفة كل العاملين بالحرفة من معلم وأسطى وصبيان وأصحاب دكاكين.  تضمّ نقابة المهندسين، على سبيل المثال، أصحاب ومديري شركات التطوير العقاري والاتصالات والمؤسسات الصناعية، على غرار المهندس الملياردير نجيب ساويرس والمئات مثله، إلى جانب صغار المهندسين العاملين لديهم جميعهم في نقابة واحدة! وبالطبع يؤدي وجود الملاك إلى جانب الأُجَراء في نقابة واحدة إلى شل الحركة المطلبية نتيجة تضارب المصالح، الذي يصبّ غالباً في صالح الطرف الأقوى بطبيعة الحال.

ثالثاً: نقابات كجهة ترخيص لا ناظماً للمشتغلين فيها. أعطت قوانين النقابات المهنية في مصر مجالس النقابات الحق في إصدار تراخيص مزاولة المهنة. وقد كرّس هذا الوضع طابعها الطائفي ومنحه صفات احتكارية، ولم يجعلها شبيهة بنظام الطوائف القديم فحسب وإنما امتداداً له ونسخة عنه، إذ يحتكر «شيخ الطائفة الحرفية» حقّ المنح والمنع لرخصة العمل بالحرفة. والأصل في المجتمعات الحديثة أن حق العمل في أي مهنة أو حرفة ممنوح لكل من يرغب. وفي الحالات التي يجب فيها التأكّد من صلاحية الراغب في العمل على ممارسة المهنة، كالأطباء مثلاً، أي حصوله على شهادة علمية مضمونة وموثقة من جهات معتمدة، فإن من يمنح ترخيص العمل هو صاحب المصلحة أي المجتمع، عبر خبراء تختارهم مجالسه التشريعية والسلطات التنفيذية الملحقة بها. أما النقابات «الحديثة» فدورها هو تنظيم كل من يعمل بالمهنة بالفعل، وليس إعطائه رخصة العمل، وذلك لضمان دفاعها عن المصالح الجماعية للمشتغلين بالمهنة. 

رابعاً: بنيان نقابي مشوَّه. لا تقوم النقابات على أساس وجود لجان قاعدية لها في مؤسّسات العمل المختلفة (الشركات، والمصانع، والصحف، إلخ)؛ ما يضعف من تأثير دورها النقابي، ويؤدّي إلى هيمنة بيروقراطية نقابية على مجريات عملها، تتشكل لها سريعاً مصالح مع أصحاب الأعمال والدولة، وتبتعد عن هموم الأُجَراء. هذا إلى جانب عدم تجانس الجسم النقابي داخل النقابة الواحدة. على سبيل المثال تضمّ نقابة المحامين، المحامين العاملين بالدولة إلى جانب العاملين بالمكاتب الخاصة، ولكل قطاع منهما همومه وقوانينه التي تحكمه.

خامساً: مركزية الخدمات. ينظر قطاع عريض من المهنيين إلى نقاباتهم المهنية باعتبارها جهة للحصول على الخدمات المحرومين منها بفعل ما يسمّى «سياسات الإصلاح الاقتصادي»، وليس على أنها أداة للنضال من أجل تحسين أوضاعهم المعيشية والاجتماعية والثقافية، وللضغط من أجل أن تقوم الدولة بدورها في تقديم خدمات صحّية حقيقية لمواطنيها، على سبيل المثال. وبسبب رغبة مجالس النقابات في الحصول على ثقة الجمعية العمومية، فإنها تسعى إلى تنمية مواردها بفرض دمغة على النشاط المهني لأعضائها؛ مما يضيف أعباء جديدة على كاهل محدودي الدخل، بينما تعتمد نقابات أخرى على الدعم الحكومي ما يطرح قضيتين مهمتين؛ الأولى تكمن بضرورة أن تعود النقابة إلى دورها الأساسي كمدافع عن مصالح أعضائها في مواجهة تعسف الإدارات والدولة، بينما الخدمات تظل مسؤولية الدولة والجمعيات الأهلية. والقضية الثانية هي أهمية الاستقلال المالي للنقابات عن الحكومة، إذ لا يمكن الكلام عن أي استقلالية للنقابات عن الدولة، بينما الدولة هي من تغطّي ميزانية النقابة. 

سادساً: حظر التعددية. أدّى الربط بين ترخيص مزاولة المهنة وعضوية النقابات المهنية إلى جعل عضويتها إجبارية، وهو ما يتعارض مع الحريات النقابية والحق في التعددية. تحظر القوانين المصرية تعددية النقابات المهنية، وامتد هذا الحظر إلى دستور العام 2014 على الرغم من منحه حق التعددية النقابية للنقابات العمالية. ويجب العمل بطول نفس لإلغاء هذا الحظر، والسماح بتعدّدية النقابات المهنية أسوة بالعمّالية، ما يتيح أمام العضو اختيار النقابة المكافحة التي تعبر عن مصالحه.

سابعاً: الانتقاص من صلاحيات الجمعية العمومية. لا تنشأ النقابات المهنية بإرادة الجمعية العمومية، ولكن عبر إصدار قانون من المجلس التشريعي، كما أن أي تعديل على قوانينها لا بد أن يمرّ على المجلس التشريعي، وهو ما يُعد تعدّياً على الجمعية العمومية للنقابات صاحبة الحق الأصيل في إعلان النقابة ووضع قوانينها وتعديلها.

ثامناً: فزاعة العمل السياسي. تمنع الدولة المصرية منذ تموز/يوليو 1952، بكل الطرق، النقابات المهنية والعمّالية من الاشتباك مع قضايا المجتمع، بذريعة أن النقابات يجب أن تهتم فقط بأوضاع أعضائها المعيشية، بينما السياسة لها مكان آخر. وفي العام 1993، أصدرت الدولة القانون 100 الذي قونن هذا الحظر وحال دون عمل النقابات المهنية بالسياسة. وأتى ذلك، على الرغم من حرص الدولة الدائم على دمج النقابات المهنية وقياداتها في تنظيمها السياسي الرسمي؛ سواء كان الاتحاد الاشتراكي أو الحزب الوطني أو مستقبل وطن حاليّاً، فضلاً عن حرصها الدائم على الهيمنة على تلك النقابات وشل فاعليتها. والحقيقة أن الفصل بين الاقتصادي والسياسي يتناقض مع مصالح العاملين بأجر، ومن واجب النقابات أن تدافع عن حرية أعضائها في ممارسة نشاطهم النقابي والسياسي، وأن تتصدّى لأي عراقيل أو اضطهاد يتعرضون له.

في كل المجتمعات الديمقراطية تمارس النقابات العمل السياسي، وتشتبك مع كل القضايا العامة، وتشارك في صنع السياسة العامة بصفتها جزءاً من المجتمع المدني، بل أنها تنضم بصفتها المؤسّسية كنقابات إلى عضوية الأحزاب السياسية. من هنا، يعد تجاوز القوى الديمقراطية لهذه التحدّيات ضروري، ليس فقط لكي تكون هذه النقابات قادرة على مواجهة الهجمة الشرسة على مستوى معيشة العمّال الذهنيين، أو على من أصطلح تسميتهم بـ«ذوي الياقات البيضاء»، ولكن أيضاً من أجل استعادة الديمقراطية. لأن دمقرطة المجتمع لا يمكن تحقيقها، بمعزل عن النقابات المهنية والعمالية بصفتها جماعات ضغط تسعى لانتزاع حقوق ومطالب أعضائها.