Preview هل هيمنة الدولار مُهدّدة في ظل التغيّرات الجيوسياسية العالمية؟

هل هيمنة الدولار مُهدّدة في ظل التغيّرات الجيوسياسية العالمية؟

لا يزال الدولار الأميركي العملة الأكثر استخداماً حول العالم بلا منازع، 80% من التجارة العالمية تموّل عبره، كما أنه يمثل 60% تقريباً من الاحتياطات العالمية من العملات الأجنبية. لم يبرح الدولار عن كونه الأداة الأساسية لتسوية المعاملات، وإصدار السندات الحكومية، وشراء القروض وتسديد الديون، ودفع الأموال عبر الحدود.

في خمسينيات القرن الماضي، منذ أن أصبح الدولار العملة المهيمنة في العالم، كان من الواضح أن مكانة الولايات المتحدة كقوة مالية عظمى وحيدة سوف تمنحها تأثيراً استثنائياً على المصائر الاقتصادية للبلدان الأخرى. لكن، مع نشوء اصطفافات سياسية جديدة بقيادة الصين، تمتّنت بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، ومع صعود اقتصادات ناشئة، أبرزها الصين كذلك، فضلاً  عن أخرى  في آسيا وأفريقيا وأميركا الجنوبية، تفاقم الجدل بشأن استمرارية هيمنة الدولار وتاريخ صلاحية هذه الهيمنة.

هيمنة الدولار مستمرّة

اصطفافات سياسية جديدة

في شباط/فبراير 2022، عندما غزت روسيا أوكرانيا، استخدمت الولايات المتّحدة هيمنة الدولار بطريقة جديدة، إذ جمّدت قدرة البنك المركزي الروسي على الوصول إلى جزء ضخم من أصوله المحتفظة بالدولار، ونتكلم هنا عن حوالي 300 مليار دولار. 

اليوم، يقول بعض المتابعين إن على الولايات المّتحدة أن تخطو خطوة إضافية إلى الأمام، وأن تأخذ تلك الأموال من روسيا وتعطيها لأوكرانيا، لمساعدتها في رد الغزو الروسي وربما إعادة البناء بعد الحرب. هذه خطوة حسّاسة للغاية، وتثير قلق دول أخرى لديها خلافات مع الولايات المتّحدة، وتجعلها تفكر: «إذا كان بوسع الولايات المتّحدة أن تفعل هذا بروسيا، فماذا لو فعلت ذلك بنا؟».

من هنا، اضطرت العديد من الدول إلى تقليص اعتمادها الكبير على الدولار في معاملاتها الدولية واحتياطاتها المالية، وذلك بعد إعادة تقييمها لشركائها التجاريين على أساس المخاوف الاقتصادية والأمنية، ووفق إعادة توجيهها لتدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر على طول الخطوط الجيوسياسية، الأمر الذي أحدث علامات تفتت جديدة في الاقتصاد العالمي.

علامات التفتت الجديدة في الاقتصاد العالمي لا تزال خجولة، وعصية على الظهور في الصورة الكلية لتدفقات التجارة والاستثمار، ولا يمكن ملاحظتها من دون شيء من التأمل. لنتخيّل عالماً منقسماً إلى ثلاث كتل: كتلة من الدولار تميل إلى الولايات المتحدة، وكتلة تميل إلى الصين، وكتلة من دول عدم الانحياز. 

حصة العملات من احتياطيات النقد الأجنبي

وفقاً لهذا التقسيم، سوف نجد أنه في الفترة التي أعقبت الغزو الروسي لأوكرانيا، كان انخفاض التجارة بين الكتلة الصينية والاميركية أكبر بنحو 12% من انخفاض التجارة داخل الكتلة الواحدة، وكان الانخفاض في تدفّقات الاستثمار الأجنبي بين الكتلتين أكبر بنحو 20% من انخفاضه داخل الكتلة الواحدة.

في تناغم مع هذا الشرخ التجاري والاستثماري، تراجعت حصة الدولار الأميركي من تمويل التجارة داخل الكتلة الصينية، بينما زادت مساهمة الرنمينبي الصيني من حوالي 4% في أوائل العام 2022 إلى 8% في أوائل هذا العام. في المقابل، لن نجد في هذه الفترة تغيراً يذكر في حصص العملات من تمويل التجارة داخل الكتلة المنحازة للولايات المتحدة الأميركية.

هذه التغيّرات قد تكون فاتحة إيجابية لخطط مستقبلية، مثلاً ها هي الصين، بدعم من روسيا وجنوب أفريقيا، تدعو لتحدي هيمنة الدولار الهائل، حيث يقود الثلاثي عملية إنشاء عملة جديدة، من المقرّر أن يصدرها البنك المركزي المقترح لمجموعة البريكس.

اقتصادات ناشئة

على الرغم من تأثر هيمنة الدولار داخل الكتلة الصينية بالاصطفافات السياسية، التي تمتّنت بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، إلا أن الجدل حول الموضوع لم يبدأ حينها. فقد ارتفعت حصة العملات الاحتياطية غير التقليدية - أي غير الدولار واليورو والين الياباني والجنيه الاسترليني -  من مستويات لا تذكر في مطلع القرن إلى ما يقرب من 1.2 تريليون دولار و10% من إجمالي الاحتياطيات المحددة في العام 2021، بينما انخفضت حصة الدولار من حوالي 70% إلى حوالي 60% في الفترة نفسها.

منذ فترة طويلة، أشار متخصّصون في المجال إلى أن هيمنة الدولار هي هيمنة هشة في نهاية المطاف، على الرغم من كونها هيمنة مطلقة وعضوية. فمع صعود الاقتصادات الناشئة ومساهمتها في الاقتصاد العالمي، انخفضت حصة الولايات المتحدة من الناتج الإجمالي العالمي، حيث كانت تساوي  16.3% في العام 2015 وأصبحت تساوي 15.6% في العام 2023، وهي في انخفاض مستمر منذ ذلك الحين باستثناء العام 2020.

المثير للاهتمام أن الانخفاض في حصة الدولار من احتياطات النقد الأجنبي لم يشكّل تحولاً نحو اليورو، والجنيه الإسترليني، والين الياباني، أو أي من العملات الأخرى التي أدّت تاريخياً دوراً دولياً هاماً، بل إن انخفاض حصة الدولار كان مصحوباً بارتفاع في حصة ما يسمّى بالعملات الاحتياطية غير التقليدية، والتي تعرف بأنها عملات أخرى غير العملات الأربعة المذكورة.

باستخدام بيانات صندوق النقد الدولي، يظهر أن التحول عن الدولار كان ربعه تحولاً إلى الرنمينبي، العملة الصينية، وثلاثة أرباعه تحوّلاً إلى باقي العملات الاحتياطية غير التقليدية الأخرى. يعد هذا التحوّل إلى العملات الاحتياطية غير التقليدية كبيراً، كما أنه واسع النطاق أيضاً، حيث تم تحديد 46 دولة في نهاية العام 2020، تبلغ حصة العملات غير التقليدية من الاحتياطيات الرسمية لديها 5% على الأقل.

ساعد على هذا التحوّل في الاحتياطات، تزايد سيولة الأسواق بهذه العملات، أي رسوخها ومرونة استخدامها في المعاملات. ففي الماضي، لم يكن تداول العملات سهلاً كما هو الحال اليوم.

لم يكن لدى سوى عدد قليل من البلدان أسواق مالية راسخة حيث يمكنك بسهولة شراء وبيع عملاتها، وهذا يعني أنه إذا أردت تبادل الأموال بين البلدان المفتقرة لهكذا أسواق، فإن الأمور تصبح معقدة بعض الشيء. كان عليك المرور عبر عملة وسيطة - عادة الدولار الأميركي.

على سبيل المثال، تخيل أنك تمتلك شركة في المكسيك وتحتاج إلى الدفع لمورد في كندا. بدلاً من استبدال البيزو المكسيكي الخاص بك بالدولار الكندي مباشرةً، سيتعين عليك أولاً تحويل البيزو المكسيكي الخاص بك إلى الدولار الأميركي. بعد ذلك، يمكنك استخدام تلك الدولارات لشراء الدولار الكندي.

كانت هذه الخطوة الإضافية ضرورية لأن سوق الدولار الأميركي كان الأكثر سيولة وكفاءة، كان لديها أكبر عدد من المشترين والبائعين، مما يعني أنه يمكنك بسهولة تحويل عملتك والحصول على أفضل سعر صرف. في الوقت الحاضر، اختلفت الأمور، هناك عدد متزايد من الدول التي قامت بتطوير أسواق لتداول عملات مختلفة عن العملات الأربع الكبرى.

حصة الرنمينبي والدولار من المدفوعات الأجنبية للصين

أما بالنسبة إلى التحول الى الرنمينبي الصيني بالذات، فالأمر لا يتوقف فقط على قوانين تطوّر الأسواق الاوتوماتيكية، فالدولة شرعت بسياسات وخطط لتدويل عملتها، مدعومة بتزايد الواردات والصادرات، واستثمارات الحزام والطريق، وشبكة عالمية من مقايضات العملات بالرنمينبي، ويقال إن تتويج هذا التطور هو إصدار الصين للعملة الرقمية للبنك المركزي، وهي اليوان الرقمي.

كانت حصة الرنمينبي في جميع المعاملات التي تقوم بها الكيانات غير المصرفية الصينية عبر الحدود مع نظيراتها الأجنبية قريبة من الصفر قبل 15 عاماً ولكنها ارتفعت لتصل إلى حوالي 50% في أواخر العام 2023. في المقابل، انخفضت حصة الدولار الأميركي  في هذه العمليات من حوالي 80% في العام 2010 إلى 50% في العام 2023.

كما قلنا سابقاً، أشار الباحثون إلى أن هيمنة الدولار هشة في نهاية المطاف، ولكنها مطلقة وعضوية. مطلقة لأنه لا توجد عملة دولية أخرى تقترب من تحدي الدولار كوسيلة دولية للدفع ووحدة حسابية ومخزن للقيمة، وهي عضوية لأن هذه الهيمنة لا تنبع من قواعد منظمة، فقد تزايدت هيمنة الدولار على الرغم من انتهاء التحويل من الدولار إلى الذهب في العام 1971، وذلك بفعل سيولة وسلامة سندات الخزانة الأميركية، في مقابل ما تعانيه عملات الدول الأخرى، بسبب عدم كفاية الأوراق المالية الحكومية الصادرة بهذه العملات والتي يستطيع المستثمرون الاحتفاظ بها كأصول آمنة. حتى الآن وعلى الرغم من التغيّرات الخجولة، لا تزال التوقعات بتراجع هيمنات الدولار مستندة على أرضية متأرجحة.