عكس السير
مفهوم نمط الإنتاج الكولونيالي
استئناف نقاش مع فكر مهدي عامل (3)
تقديم لا بدّ منه
لسائل أن يسأل: ما معنى بل جدوى فتح نقاش حول مفهوم نمط الإنتاج الكولونيالي وتطبيقه عند مهدي عامل بعد انقضاء قرابة نصف قرن عن كتابة مهدي عنه؟ في الرد على هذا السؤال، لي أجوبة عدة.
الأول، هو الحاجة لوضع المقولة واستخدام مهدي لها في زمانها ومكانها المحدّدين، في الفكر والممارسات، أي في حقبة التحرّر الوطني وبناء الأنظمة الوطنية ونشوء العالم الثالث كميدان نضالي مشترك بينها، بعد الحرب العالمية الثانية، وصولاً إلى الردّة المضادة لتلك الحركات والأنظمة بقيادة الولايات المتحدة في السبعينيات من القرن الماضي. والغرض هنا مزدوج: التذكير بأن رسم هذا الإطار الزمني يستوجب التمييز بين تلك الفترة والفترة الراهنة في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين وضرورة التمييز بين ذاك النمط من الإمبريالية وإمبريالية ما بعد الحرب الباردة، ووقعها على «الجنوب العالمي» بما فيها من تحوّلات جذرية. وهذا ما أراد قوله المؤرِّخ والباحث اليساري الفلسطيني ماهر الشريف عندما كتب في إحدى الندوات عن فكر مهدي عامل:
«فكر مهدي ينتمي إلى نظريات التبعية للستينات والسبعينات نحن في عصر جديد لم تعد الأموال تتحرّك من الشمال إلى الجنوب، بل بالعكس من خلال خدمة الديون وتوظيفات الطبقات الجنوبية الحاكمة في اقتصاديات المركز، [ولم تعد قسمة العمل الدولية بين بلدان مصدّرة للمواد الأولية وبلدان مصدرة للمنتجات الصناعية، تحول الإنتاج المباشر إلى الجنوب وها هي المتعدّدة الجنسيات الكبرى في الشمال تفرّع أعمال الإنتاج في بلدان الجنوب] هيمنة المصارف الكبرى، ثقافة عالمية جديدة وهيمنة رأسمالية الرقمية على الاقتصاد العالمي باندماجها مع رأس المال المالي والصناعي». («ما الذي تغيّر على بنية الإمبريالية بين الأمس واليوم؟»، النداء، 6 آذار/مارس 2021)
مهما يكن، فخلاصة المراد هنا هو الدعوة إلى التمييز بين حقبتين تاريخيتين بحيث لا يُساءل أو يحاسب مهدي على مساهمته من منظار الحقبة الجديدة بل أن ينظر إلى تلك المساهمة من ضمن تلك الحقبة التاريخية. وهذا يعني أيضاً وبالضرورة أن الشغل على الحقبة الجديدة يستدعي تفحّص الجديد في تميّزه عن السابق، وما يستدعيه من بلورة لأدوات معرفية جديدة.
الجواب الثاني، إن إثارة النقاش حول مفهوم نمط الإنتاج الكولونيالي له دلالة معاصرة بل آنية غرضي منها التنبيه من مصادرة مفهوم نمط الإنتاج الكولونيالي، ومساهمة مهدي عامل فيه، خارج سياقه التاريخي، ووضعه في خدمة نسخ عربية لنظريات الـ«دي كولونيال» التي إن كانت تشدّد على نقد النظم الثقافية للاستعمار، إلا أنها ترى إلى الطور الجديد من الإمبريالية الأميركية في العولمة النيوليبرالية وكأنه تكرار للمقولات والممارسات الكولونيالية في القرن التاسع عشر ومنتصف عشرينيات القرن العشرين. وتميل تطبيقات هذه النظرية العربية إلى تعميم خصائص الاستعمار الاستيطاني الإجلائي في فلسطين على عموم العالم العربي، أو على مشرقه أقلاً، بناء على رؤية اختزالية تتغافل عن الأشكال الجديدة من السيطرة والاستغلال وعن الدور الرئيس الذي تلعبه أيديولوجيا اقتصاديات السوق والتمييز الثقافي بين الأمم، في هذا العهد النيوليبرالي. إلى هذا، تقدّم النظرةُ المستجدة رؤيةً تغلّب الخارج على الداخل وتفرض عناصر جيو-استراتيجية مبسّطة على المنطقة قوامها مشاريع استعمارية للسيطرة لا تني تتكرّر، بمسمّيات مختلفة، تسعى إلى قلب المعادلات أو تغيير الخرائط في «الإقليم». وتخدم تلك النظرة، وتبرّر، أيديولوجيا وممارسات حركات مسلّحة، إن كانت تلعب دورها المقاوم في الصراع العربي الإسرائيلي، إلا أنها لا تكتفي بتعميم الصراع العربي الإسرائيلي على المنطقة، وإنما تختزله أيضاً بوجهه العسكري، وتنوب عن الجيوش الوطنية، وقد نمت بما هي بديل عنها أو أسهمت في تفكيكها. وتخضِع تلك النظرة كلَ مناحي الحياة الأخرى لهذه الأولوية، على اعتبار أن لا صوت يعلو فوق صوت المعركة. فيما هي تشارك في الأنظمة الاستبدادية والمافيوية، وتدعمها، وتستخدم قوّتها المسلّحة لحراسة الاستبداد والفساد والاستغلال والتغطية عليها. وعلى صعيد آخر، تسهم تلك المنظّمات في قمع الحركات الشعبية، وتنمّ عن استهتار مشهود بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية للمواطنين - ناهيك عن الحريات الخاصة والعامة - وتستبدل تلك الحقوق بالتوزيع العائلي والعشائري والمذهبي أو المناطقي للإحسان والتنفيعات. وتلتقي تلك الحركات، أخيراً ليس آخراً، مع العولمة النيوليبرالية في اثنتين من ركائزها الأساسية: سياسة الهويات والتمايز الثقافي (بين شرق وغرب) من جهة، والعداء للدولة ومؤسساتها عموماً، بما هي قبل كل شيء عامل أساسي في التوحيد المجتمعي، كما تعادي أدوار الدولة في التنمية والخدمة العامة والتوزيع الاجتماعي، من جهة أخرى.
تلتقي تلك الحركات مع العولمة النيوليبرالية في اثنتين من ركائزها الأساسية: سياسة الهويات والتمايز الثقافي، والعداء للدولة ومؤسساتها عموماً، بما هي قبل كل شيء عامل أساسي في التوحيد المجتمعي، كما تعادي أدوار الدولة في التنمية والخدمة العامة والتوزيع الاجتماعي
ثالثاً، يأتي نقاشي مع فكر مهدي عامل في سياق مراجعة نقدية عامة وذاتية أجريها منذ عقدين أقلاً، لليسار اللبناني من خلال فكر وممارسات الحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي والحركة الوطنية اللبنانية. وآخر آثارها كتابي الأخير «زمن اليسار الجديد» (الذي صدر مطلع هذا العام عن دار رياض الريس، 2024). فقد أسهمت بدوري، في نقد مقولات البورجوازية الوطنية، والطريق اللارأسمالي إلى الاشتراكية، وفي تعيين أزمة حركة التحرّر الوطني العربية في عجز القيادة البورجوازية الصغيرة وأنظمتها، بل في «سقوطها» بعد هزيمة 1967، وخلصت إلى الدعوة لقيادة الطبقة العاملة لحركة التحرّر العربية وبناء الاشتراكية. وعلى الصعيد اللبناني تشاركت مع مهدي في تشخيص الأزمة عشية الحرب الأهلية كما في تشخيص الحرب ذاتها وإن لم تكن معالجاتنا متقاربة دوماً، بل كانت متناقضة أحياناً كثيرة فيما يتعلق بتشخيص طبيعة الاقتصاد والطبقة الحاكمة والسلطة السياسية والمسألة الطائفية في لبنان. وسوف أتعرّض لهذه في حلقات قادمة.
رابعاً، للدور النقدي والنقدي الذاتي أعلاه وجهه الإيجابي الجدلي. وهو أن «الاشتباك» مع فكر مهدي يستدعي محاولة ملء ثغرات، والإجابة على أسئلة بقيت عالقة، والسعي الذي لا ينتهي إلى مزيد من البلورة النقدية للمفاهيم وتحيينها وشحذ الأدوات المعرفية واستخلاص المعارف من الممارسات.
وأعتقد أن مهدي سيكون أول من يوافق على أهمية هذا التنقير في المفاهيم والأدوات النظرية. وإن اتخذ النقاش طابعاً سجالياً أحياناً، فلن يكون قد خرج عن تقليد نقدي عوّدنا المفكر والمناضل الشهيد على ممارسته إلى حده الأقصى.
في مفهوم نمط الإنتاج الكولونيالي
ينتسب مفهوم نمط الإنتاج الكولونيالي إلى نتاج وسجالات غنية ومتنوّعة كان الدافع إليها ما أثارته حركات التحرّر الوطني في أوساط اليسار العالمي من أسئلة عن الاقتصاد والمجتمع والدولة في بلدان العالم الثالث في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي. وقد كان التحدّي كبيراً لعدم كفاية المفاهيم السائدة ولغلبة الطابع المركزي الأوروبي على بعضها. ومنها التتابع الميكانيكي لأنماط الإنتاج الخمسة (مجتمع مشاعي، مجتمع بدائي، إقطاع، رأسمالية، اشتراكية) كما في السردية الستالينية؛ والإشكالات الكثيرة التي تثيرها مقولة البناء التحتي والبناء الفوقي والعلاقة أحادية الجانب بينهما؛ والوصف السائد للمجتمعات قبل الرأسمالية في العالم الثالث بوصف عمومي هو الإقطاعية؛ وما استدعى ذلك من تعيين مراحل وسيطة للانتقال إلى الاشتراكية منها مرحلة الرأسمالية الوطنية أو الصيغة المعدّلة عن مرحلة «الانتقال اللارأسمالي إلى الاشتراكية»؛ وأخيراً ليس آخراً، الحدود التي وضعتها السردية السوفييتية المحدثة عن صراع بين معسكرين، الرأسمالي والاشتراكي، إلخ. وقد نشرت في تلك الفترة دفاتر ماركس التمهيدية لرأس المال «أسس نقد الاقتصاد السياسي» (الغروندريسة) ومقدمتها المنهجية بالغة الأهمية وما تضمنتها من ملاحظات ومفترضات عن التشكيلات الاجتماعية السابقة على الرأسمالية، بما فيها «نمط الإنتاج الآسيوي». فكان لها أبلغ الأثر في إثراء النقاش والسماح ببلورة مفاهيم أكثر تحديداً وعينية من المفاهيم السائدة.
وقد أثار المشاركون في تلك الورشة الكبيرة على امتداد عقدين من الزمن عدداً من المسائل جهدوا لإعطاء أجوبة عليها:
- كيف ولماذا نشأت الرأسمالية في أوروبا وأميركا ولم تنشأ في بلدان العالم الثالث على الرغم من وجود تراكم رأسمالي مبكر في التطور التاريخي للأخيرة؟
- كيف تشخيص أنماط الإنتاج قبل الرأسمالية في تلك البلدان؟ وما علاقتها بنمط الإنتاج في البلدان الرأسمالية الصناعية المتقدمة؟
- هل إن الرأسمالية في بلدان الجنوب هي رأسمالية أم مرحلة انتقالية نحو الرأسمالية؟
- ما وجهة تطوّر نمط الإنتاج في القارات الثلاث؟ هل مصير أنماط الإنتاج قبل الرأسمالية التجدّد أم الاضمحلال؟
- كيف الخروج من التخلّف والتبعية للإمبريالية وانتقال بلدان العالم الثالث إلى الاشتراكية؟ إلخ.
نمط إنتاج الخدمات عند بيار فيليب راي
تعود صياغة مفهوم «نمط الإنتاج الكولونيالي» لعالم الأنثروبولوجيا الماركسي الفرنسي بيار فيليب راي، في كتابه «التحالفات الطبقية» (Les alliances de classes - 1973) ومؤلفات أخرى في مجرى سعيه لتمييز مفاهيم ماركسية لظاهرة «التخلّف» بالتركيز بالدرجة الأولى على مفاهيم أنماط الإنتاج وعلاقات الإنتاج.
استلهم راي أعمال لوي آلتوسّر الذي رأى أن ماركس اكتفى بعرض نظري لنمط الإنتاج الرأسمالي، في حين أن المطلوب هو الاهتمام بتشكيلات مجتمعية عينية تضم أنماط إنتاج عدة، خصوصاً في مراحل الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية ومن الرأسمالية إلى الاشتراكية. وقد بلور آلتوسّير لذلك مفهوم «التمفصل» وهو مفهوم مزدوج قوامه «الجمع» و«التعبير». فالتمفصل هو صفة العلاقة بين البنية الاقتصادية والبني المجتمعية الأخرى مثل البنية السياسية، تجمع بينها وتسمح للبنية السياسية أن يعبّر فيها عن البنية الاقتصادية.
يفتتح راي البحث في مفهوم «نمط الإنتاج الكولونيالي» باعتباره نظاماً رأسمالياً عالمياً يشمل البلدان الإمبريالية والبلدان التابعة في بنية كونية تتفرّع إلى بنيتين فرعيتين متناقضتين داخلها. وتجمع علاقة «التمفصل» بين البنيتين بحيث تسيطر واحدتهما على الأخرى، في مسار صراعي بين نمط الإنتاج الرأسمالي وأنماط الإنتاج السابقة على الرأسمالية. ويتضمّن هذا المسار المجابهات قدر ما يتضمّن التحالفات بين الطبقات الناجمة عن أنماط الإنتاج تلك. وعادة ما يتوسّل هذا الصراعُ العنفَ لكسر مقاومة أنماط الإنتاج السابقة على الرأسمالية والمعيقة لتطورها.
اعتمد راي تعريف لينين للرأسمالية ويمكن استخدامه هنا بمقياسيه «الإنتاج السلعي المعمّم والعمالة غير المالكة للأرض»، فميّز ثلاثة أطوار لنمط الإنتاج الكولونيالي في بلدان العالم الثالث: 1) طور التدعيم، حيث التفاعل التجاري مع الرأسمالية الأوروبية عزّز نمط الإنتاج قبل الرأسمالي وعلاقات الإنتاج والاستغلال التي تنطوي عليه؛ وهو المقابل للحقبة الكولونيالية الغربية؛ 2) طور تجذّر الرأسمالية في البلد الكولونيالي واخضاعها نمط الإنتاج قبل الرأسمالي لسيطرتها مع انها تظل تستخدمه لأغراضها الذي يقابل حقبة الإمبريالية المالية؛ 3) الاختفاء الكامل لنمط الإنتاج السابق/أنماط الإنتاج السابقة على الرأسمالية، وهو الطور الذي لم تكن قد بلغته بلدان العالم الثالث مطلع السبعينيات في رأي بيير فيليب راي.
حدّد راي مشكلات العالم الثالث على أنها العجز عن تكرار النمط الأوروبي في النشأة والمسار. إلا أنه خلص إلى أن نمط الإنتاج الكولونيالي يظل مرحلة انتقالية وجهتها الانضواء الكامل للبلدان الخاضعة له في النظام الرأسمالي العالمي
حدّد راي مشكلات العالم الثالث على أنها العجز عن تكرار النمط الأوروبي في النشأة والمسار. فلن تنجح الرأسمالية في الإزالة الكاملة لأنماط الإنتاج السابقة عليها، ولعلاقات الإنتاج والاستغلال التي تميّز تلك الأنماط. إلا أنه خلص إلى أن نمط الإنتاج الكولونيالي يظل مرحلة انتقالية وجهتها الانضواء الكامل للبلدان الخاضعة له في النظام الرأسمالي العالمي، ما يطرح مسألة الانتقال إلى الاشتراكية.
أود التشديد هنا على أمرين:
الأول، نمط الإنتاج والتشكيلة الاجتماعية. استمر راي في الحديث عن نمط إنتاج كولونيالي مع أنه يقول إن «المجتمع» مفهوم وهمي ويتبنى في مقابله مفهوم «التشكيلة الاجتماعية» الذي أعاد له لوي آلتوسير الاعتبار. والتشكيلة الاجتماعية بنية مركبة من عدة أنماط إنتاج وعلاقات إنتاج ومن المستويات الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية يحتل فيها الاقتصاد الدور المقرّر، حيث الدولة هي بنية تمثيل الطبقات المتناقضة وصراعاتها. ويترتب على ذلك عدد من الأمور.
- لا وجود لنمط إنتاج إن لم يكن منتمياً إلى تشكيلة اجتماعية تتوفر فيها الشروط المذكورة أعلاه.
- هذه الشروط الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية لوجود نمط إنتاج تتأمن وتتعدّل أو تتحوّل نتيجة صراعات طبقية مخصوصة تجري في ظروف معينة في المستويات المتعددة المذكورة أعلاه.
- طبيعة نمط الإنتاج الغالب تقرّر الطابع الغالب على التشكيلة الاجتماعية برمّتها. ونمط الإنتاج الغالب يقرر أيضاً أياً من مستويات التشكيلة الاجتماعية يحتل الموقع المقرر. فمثلاً، الاقتصاد هو المستوى المقرر في الرأسمالية، فيما المستوى الأيديولوجي هو المقرّر في مجتمع الرق والمشاعية.
الثاني، مسألة الانتقال إلى الاشتراكية التي يثيرها راي في خلاصة تشخيصه وتحليله لنمط الإنتاج الكولونيالي. وهي خلاصة إشكالية. فما الذي يعنيه بالضبط؟ هل إن انتقال نمط الإنتاج الإمبريالي، أي الدول الرأسمالية الصناعية الكبرى، إلى الاشتراكية ينهي تصفية أنماط الإنتاج السابقة على الرأسمالية وتضمن انتقال البنية الكونية (الإمبريالية-الكولونيالية) برمّتها إلى الاشتراكية؟ أم أن طرح مسألة الانتقال إلى الاشتراكية تعني أن انتقال بلدان نمط الإنتاج الإمبريالي ذاتها إلى الاشتراكية يسمح بتحرير بلدان نمط الإنتاج الكولونيالي من الكولونيالية والتشكيلات الاجتماعية السابقة على الرأسمالية؟ وكان للرأيين موقع ودور في النقاشات السائدة في تلك الفترة.
بناجي ومفهوم الاستغلال
يرد مفهوم نمط الإنتاج الكولونيالي أيضاً في أعمال المؤرخ الماركسي الهندي جاريوس بناجي ومنها «النظرية بما هي تاريخ» (2011) و«تاريخ موجز للرأسمالية التجارية» (2020) يؤكد بناجي باكراً (1972) على تعدّد أنماط الإنتاج وعلاقات الإنتاج في التشكيلة الاجتماعية الكولونيالية كما على تعدد علاقات الإنتاج في نمط الإنتاج الواحد. وهو يستخدم مفهوم «التشكيلة الاجتماعية» لتعيين مرحلة معيّنة من تطور الإنتاج، تشمل أنماط إنتاج متعدّدة.
العنصر الذي يشدّد عليه بناجي من عناصر نمط الإنتاج الكولونيالي هو استخدام الرأسمالية علاقات الإنتاج قبل الرأسمالية كوسائط لممارسة الاستغلال المضاعف على الطبقات العاملة والفلاحين. والنقطة المركزية التي يثيرها هي أن الاستغلال ليس يقتصر على الاستغلال داخل علاقات الإنتاج. ذلك أن استغلال العمل سابق على علاقات الإنتاج الرأسمالية ومستمر خلاله. ويعرّف بناجي هذا الاستغلال على أنه نمط معيّن من الاستحواذ على الفائض الاجتماعي من المنتجين المباشرين وله أوجه وأطوار عدة: العبودية والقنانة والسخرة واستغلال عمل النساء والأطفال والاستغلال الذي يتم بواسطة السلطة السياسية والعنف، كما يشمل استغلال رأس المال التجاري للمزارعين والفلاحين.
إلى هذا، يعيّن بناجي خاصتين إضافيتين لنمط الإنتاج الكولونيالي. الأولى، أن نمو المال والتجارة وتغلغل الرأسمالية في بلدان العالم الثالث ليس يدل بذاته على أن علاقات الإنتاج باتت علاقات إنتاج رأسمالية. والثاني، هو ملاحظته غياب التوسّع الرأسمالي في ظل نمط الإنتاج الكولونيالي. ذلك أن النهب الكولونيالي هو النمط الرئيس للتراكم الأولي في تلك البلدان. ويعدّد الماركسي الهندي أبرز مظاهر ذلك التراكم على النحو الآتي:
- دور رؤوس الأموال الواردة من المستعمرات في تمويل التصنيع في المراكز الكولونيالية، وهذه أكبر حجماً من رؤوس الأموال المستثمَرة في المستعمرات أصلاً؛
- الاستنزاف المتوسّع لرؤوس الأموال في المستعمرات بواسطة استيراد السلع الاستهلاكية، والمواد الأولية، وأيضاً بواسطة الريوع، والفوائد على الاستثمارات رؤوس الأموال الأجنبية، وغيرها؛
- ضعف التراكم في القطاعات الإنتاجية في بلدان العالم الثالث. ومن أبرز العقبات أمام التصنيع استنزاف رؤوس الأموال المحلية، وغلبة الاستثمار في التجارة والمال على الاستثمار في الإنتاج، وسيطرة الاستيراد على السوق المحلي؛
- إن نزع ملكية الفلاحين (السَحْت) لا يؤدي إلى تحويلهم إلى بروليتاريا حديثة في الصناعة، حسب النموذج الأوروبي، بل أنتج شبه بروليتاريا ريفية محرومة من الأرض أو جماعات فلاحية تعيش على الإنتاج السوقي الصغير، كما أدّى أيضاً إلى تكوّن شبه بروليتاريا مدينية («بروليتاريا رثة») من أصل ريفي. ويستدرك بناجي قائلاً إن إقفال البحار بين الحربين العالميتين، الأولى والثانية، أدى إلى نشوء قاعدة اقتصادية لبورجوازية وطنية تناقضت بدرجات متفاوتة مع الاستعمار.
مهما يكن، تخلّى جايروس بناجي في طور لاحق من شغله عن مفهوم نمط الإنتاج الكولونيالي وحسم بأن المرحلة الانتقالية في بلدان العالم الثالث سوف تفضي إلى غلبة الرأسمالية لكنها ستكون رأسمالية «مشوّهة».
حمزة علوي والفلاحون في الثورة
من جهته، أطلق عالم الاجتماعي الماركسي الباكستاني حمزة علوي (1921-2003) في شغله على الهند، تسمية نمط إنتاج الكولونيالي على تلك التشكيلة الاجتماعية الوسيطة بين الرأسمالية والإقطاع، أو الجامعة لهما. وفي مجال استغلال الرأسمالية علاقات الإنتاج قبل الرأسمالية، أشار علوي بنوع خاص إلى أن تحالف الرأسمالية الكولونيالية مع الإقطاع أدى إلى توفير أيد عاملة رخيصة للصناعة، كما شدّد على دور الرأسمالية التجارية في الاستغلال المباشر للفلاحين، بالإضافة إلى استغلالهم بواسطة ملاك الأراضي. بناء على هذه النظرة، خلص حمزة علوي في بحث له بعنوان «الفلاحون والثورة» (1965) إلى أن الفلاحين المتوسطين هم القوة الثورية في الريف المؤهلة لأن تكون حليفة الطبقة العاملة المدينية في النضال من أجل التحرّر الوطني والاشتراكية.
نظرية التبعية
نشأ مفهوم نمط الإنتاج الكولونيالي في تمايز عن نظريات التبعية. ففي حين يتمحور الأول حول أنماط الإنتاج والتبعية البنيوية التي ترفض الاعتراف بداخل وخارج في العلاقة داخل البنية الإمبريالية - الكولونيالية، تشدّد الثانية على التطوّر المتفاوت على الصعيد العالمي تنجم عنه ثنائية مركز/أطراف بما هو قانون دائم للعلاقة بينهما، وتركّز نظرية التبعية على العوامل الاقتصادية في تفسير التخلف وعجز بلدان الأطراف عن ممارسة التنمية المتمحورة ذاتياً التي سمحت بتثوير أنماط الإنتاج في بلدان المركز. فتنسب هذا وذلك إلى غلبة الوجهة الخارجية لبلدان الأطراف التي تنتج للخارج وتستهلك السلع الواردة من الخارج. ومن شأن التبعية للسوق الخارجي أيضاً الإبقاء على أنماط الإنتاج الاقطاعية وقبل الرأسمالية التي تقيم مع الرأسمالية علاقة متناقضة هي مزيج من محافظة وتفكيك.
الخاصية الأولى لنمط الإنتاج الكولونيالي هي أن نمو المال والتجارة وتغلغل الرأسمالية في بلدان العالم الثالث ليس يدل بذاته على أن علاقات الإنتاج باتت علاقات إنتاج رأسمالية، والثانية هي غياب التوسّع الرأسمالي في ظل نمط الإنتاج الكولونيالي، ذلك أن النهب الكولونيالي هو النمط الرئيس للتراكم الأولي في تلك البلدان
ودعا أصحاب نظرية التبعية، وأبرزهم أندرو غوندر فرانك وسمير أمين، إلى التنمية المتمحورة ذاتياً في البلدان التابعة لكسر الاستقطاب وتجاوز التفاوت في النمو بين مركز وأطراف. وأكدوا عجز الرأسماليات الوطنية أو الانظمة الشعبوية المرتكزة إلى البرجوازية الصغيرة عن تحقيق تلك التنمية. وأبرز مساهمات سمير أمين في هذا المجال نظرية القيمة على الصعيد العالمي، ودعوته بلدان العالم الثالث إلى القطيعة الاقتصادية (مفهوم «فك الارتباط») مع السوق العالمي الرأسمالي لضمان نجاح التنمية المتمحورة على الذات.
وجدير بالذكر أن نظرية التبعية تعرضت للنقد والإهمال في الأيديولوجيا السوفييتية، ولدى الأحزاب الشيوعية عموماً، على اعتبارها تركّز على تناقض المركز/الأطراف على حساب التناقض بين معسكر الاشتراكية ومعسكر الرأسمالية.
قضايا الانتقال في التاريخ
ننتقل الآن إلى السؤال لماذا لم يؤدِّ تطور رأس المال التجاري والوسائل العلمية والتقنية التي توصلت إليها كبريات الأمبراطوريات والدول الآسيوية والأفريقية، منذ القرون الوسطى، إلى إطلاق مسار تطور اقتصادي مشابه للذي سلكته أوروبا في القرن التاسع عشر دون سواها؟
قبل الإجابة المباشرة على السؤال، تجدر الإشارة إلى الحوار حول قضايا الانتقال من الإقطاع إلى الرأسمالية في أوروبا ذاتها. وكان له أثر منهجي كبير على الحوارات اللاحقة المتعلقة بمسارات التطور التاريخي بين أوروبا وسائر بلدان العالم.
بدأ الحوار في العام 1946 على شكل سجال بين موريس دوب البريطاني وپول سويزي الأميركي ويمكن القول إنه لا يزال يتوالى فصولاً وتتوسّع دائرة المشاركين فيه ويزداد غنى مع بروز اكتشافات جديدة في كافة مستويات المعرفة. ودارت أبرز الأسئلة بين الاقتصاديين الماركسيين والخلافات على الأسباب: هل انهار النظام الإقطاعي تحت وطأة تناقضاته وصراعاته الداخلية (نمو الإنتاج السوقي الصغير والتراكم الأولي لرأس المال، ولادة المدن، النزاع على الريع وعلى الأرض) أم تحت وطأة عوامل خارجية (أبرزها توسع التجارة العالمية)؟. وطاول البحث تعيين الطبقة أو الطبقات المسؤولة عن انهيار النظام الإقطاعي والانتقال إلى الرأسمالية وعن طبيعة الطبقة الحاكمة خلال تلك العملية؟ إلخ. وسوف أتطرّق إلى هذا الموضوع خلال النقاش المباشر مع مفهوم مهدي للثورة البورجوازية في أوروبا ومع أطروحته عن مميزات نشأة البورجوازية اللبنانية عن مثيلتها الأوروبية.
التشكيلات الاجتماعية قبل الرأسمالية
توزّعت الأجوبة والاجتهادات على سؤال عن عدم نشوء رأسمالية من النمط الأوروبي في القارات الثلاث. التقى معظمها على التشكيك بأحقية مفهومي «نمط الإنتاج الآسيوي» ونمط الإنتاج الإقطاعي ادعاء الشمول الكوني.
نحت سمير أمين مفهوم «نمط الإنتاج الخراجي» لفهم مسار تطور التاريخ العربي (باشر طرحه في بحث باسم مستعار (أحمد القدسي) في مجلة «مانثلي ريفيو» الأميركية، عام 1968) وطوّره لاحقاً. وأبرز عناصره: 1)، استحواذ الخلافة على الخراج بالدرجة الأولى من الشعوب الواقعة تحت الحكم العربي؛ 2) الدور الوسيط للخلافة العربية في النشاط التجاري بعيد المدى بين أوروبا وآسيا وأفريقيا، بما هو مصدر العيش الأول لسكان المدن العربية، أكثر منه استغلال السلطة للسكان الريفيين؛ 3) غياب الملكية الفردية في الأرض (المملوكة للخليفة) مع وفرة من الجماعات الريفية المتفرّقة المالكة لحق الانتفاع فيها فقط.
في السياق ذاته، تناول عالم الجغرافية الماركسي الفرنسي إيف لاكوست السؤال عن عدم تحول التراكم الرأسمالي من خلال التجارة في أراضي الخلافة العربية الإسلامية إلى رأسمالية إنتاجية. فاقترح في كتابه اللامع عن ابن خلدون (1966) أن نتاج المؤرِّخ وعالم الاجتماع العربي الكبير يحوي عناصر للإجابة على السؤال. واتخذ لاكوست تجارة الذهب المغربية كمثال على شراكة بين الحاكم والتجّار الذين يحتاجون الدولة لضمان أمن نشاطهم التجاري. أما الأرباح المتراكمة لدى التجار والحاكم والحاشية من ذاك النشاط التجاري، فلم تدخل في حيّز الإنتاج ولا وظّفت في استملاك وسائل الإنتاج. استمر التجار في لعب دور الوسطاء في السوق الدولية، وظل الحاكم يتصرّف ببيت المال وما فيه من رسوم وضرائب. إلى هذا، حَرَم الحاكم النخبَ المالية من تملّك الأرض التي كان يوزّعها على شيوخ القبائل بما هي حيازات.
على الرغم من هيمنة النظرية البنيوية على قسم كبير من تلك المساهمات فما لبث أن عاد البحث في الثنائي البناء التحتي/البناء الفوقي ولكن بمقاربات مبتكرة عند پيري أندرسن وإيمانويل فالرستين وموريس غودلييه تشاركت في أطروحة تقول إن الأبنية الفوقية للقرابة والدين والقانون أو الدولة تتدخل بالضرورة بما هي عناصر مكوّنة في علاقات الإنتاج في التشكيلات الاجتماعية الكولونيالية. وهي مساهمة أنبأت بمفاهيم تجري حالياً عن التقاطع بين العرق والجنس والطبقة والدين.
الانتقال إلى الاشتراكية: النقاش السوفييتي والكوبي
أخيراً ليس آخراً، في هذا الاستعراض للثراء الفكري خلال الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، لا بد من ذكَر كوبا التي كانت مسرحاً لإثارة موضوع جديد هو مشكلات وآليات الانتقال إلى الاشتراكية في البلدان المتحرّرة حديثاً. دارت أبرز النقاشات مدار الخطة والسوق، وكيفية تحقيق «التراكم الأولي الاشتراكي»، ودور النقد في الاقتصاد الانتقالي (باتجاه الاستغناء التدريجي عنه)، ودور الحوافز المادية والحوافز المعنوية في زيادة الإنتاج والإنتاجية، وغيرها. وقد تواجه في النقاش تشي غيفارا، مدعوماً بالاقتصادي الماركسي البلجيكي إرنست ماندل، من جهة، وممثلو المدرسة السوفييتية في التنمية، من جهة أخرى.
وقد استلهم السجالُ الكوبي إلى أبعد حد سجالاً شهيراً دار مطلع الثورة الروسية حول قضية الانتقال إلى الاشتراكية شارك فيه لينين وتروتسكي وستالين وبوخارين وبريوبراجنسكي وآخرون. 1
جاءت حصيلة النقاش الكوبي بالضد من أطروحات غيفارا وماندل، ولصالح الصيغة السوفييتية الدولتية، فكانت من العوامل التي دفعت تشي إلى الانسحاب من المساهمة السياسية المباشرة في الدولة الكوبية والانتقال إلى تنفيذ شعاره «ليكن أكثر من فيتنام واحدة» لدعم نضال الشعب الفيتنامي ضد الغزو الأميركي، ما قاده إلى مغامرتين لإطلاق بؤرة ثورية مسلّحة في الكونغو ثم في بوليفيا بالنتيجة المعلومة.
- 1يمكن مراجعة السجالين السوفييتي والكوبي في: عدة مؤلفين، «مرحلة الانتقال إلى الاشتراكية. قضايا الاقتصاد الانتقالي»، ترجمة فواز طرابلسي، دار الطليعة، بيروت، 1971.