
معضلة الارقام في لبنان : الجوهر سياسي
شكّلت الندوة المخصّصة لمناقشة كتاب الاقتصادي نجيب عيسى «الاقتصاد السياسي اللبناني وإعاقة التنمية» مناسبة لتسليط الضوء على واحدة من المعضلات الكبيرة التي تواجه الباحثين والباحثات، وهي عدم وجود قاعدة احصائية موثوقة وشاملة، يمكنهم الركون اليها في ابحاثهم، لا سيما عند تحليل "ازمة النظام الاقتصادي" وتجلياتها في مراحل عدة من حياة لبنان، و"اسبابها الخارجية المتمثلة بالتبعية للنظام الرأسمالي العالمي كما بالطائفية السياسية التي تحرس النظام الاقتصادي اللبناني ويحرسها"، وهي الاهداف التي وضعها عيسى لكتابه الجديد. لذلك، يشير عيسى في مقدمة كتابه الى "صعوبات جمة تعترض الباحث في الاقتصاد اللبناني وبخاصة عندما يمتد بحثه على مدى زمني طويل، حيث يواجه اشكالية توافر بيانات احصائية تفي المطلوب على صعيدي الشمول والدقة والسلاسل الزمنية المتجانسة".
دولة بلا ارقام
لا تعرف الدولة اللبنانية مساحة الارض التي تزعم سيادتها عليها، ولا تعرف عدد سكان هذه الارض. الـ10 الاف و452 كيلو متر مربع ليس الا شعار سياسيا، ينسبه لمؤرّخ إدمون ربّاط إلى «بشير الجميل الذي أطلقه في ذروة عمله السياسي قبل مقتله عام 1982». وآخر إحصاء سكاني شامل أجري عام 1932، قبل استقلال الجمهورية اللبنانية، ومنذ ذلك الوقت، يجري تقدير عدد سكان لبنان بطرق اعتباطية خاضعة للحسابات السياسية والطائفية. والحسابات الاقتصادية المختلفة ناقصة بصورة فادحة ولا تصدر بانتظام وهي متأخرة دائما، ويعود احدث حسابات قومية الى عام 2021. وهناك تلاعب متكرر في حسابات ميزان المدفوعات الخارجية، وفي حسابات المالية العامّة وميزانيات الجهاز المصرفي، وتختفي البيانات عن الارباح والاجور والضرائب والنقود والاقتصاد اللانظامي ومساهمات المنظمات غير الحكومية والاستثمارات الخاصة والعامّة… الخ. ما يجعل كل ما هو متداول بمثابة تخمينات تحمل هامش كبير من السهو والخطأ.
يرى الاقتصادي كمال حمدان أن جوهر المشكلة سياسي بالدرجة الأولى، وطرح في مداخلته في الندوة تساؤلات عن سبب غياب إحصاءات أساسية بالغة الأهمية، ولا سيما في هذه المرحلة. ولكن ملاحظة حمدان، وهو الخبير في هذا الميدان، لا تقتصر على غياب الاحصاءات، بل تتعداها الى التشكيك بنتائج المسوحات الميدانية التي تُجرى بين الحين والآخر، والأرقام التي تُنشر للرأي العام عبر وسائل الإعلام.
اذا، معضلة الارقام في لبنان ليست في ما هو مغيّب منها فحسب، بل في ما هو موجود ومتداول وايضا. ويضيف عضو المنتدى الاقتصادي والاجتماعي هشام أبو جودة في مداخلته عنصرا اضافيا، وهو وجود تلاعب بالبيانات الاقتصادية في لبنان من قبل القائمين عليها، بهدف تبرير النموذج الاقتصادي القائم وإقناع الناس بوجود مخاطر اعلى منه في حال تغييره.
يخبرنا عيسى في كتابه "أن الحسابات الوطنية الرسمية ظلت غائبة حتى العام 1964"، أي أن مؤشرات كلية كالناتج المحلي الإجمالي ظلّت غائبة 44 سنة بعد نشوء لبنان الكبير، و20 عاماً بعد الإستقلال، وذلك إلى أن "قامت مديرية الاحصاء، التي استحدثها العهد الشهابي، باصدار حسابات وطنية رسمية سنوية حتى العام 1972، ويمكن القول إنها اتسمت بمستوى مقبول من الشمول والدقة".
في فترة الحرب الأهلية، بين عامي 1975 و1990، توقفت مديرية الاحصاء عن العمل، وتوقف تحديث الحسابات الوطنية. ويشير حمدان إلى أن الدولة توقفت ايضا عن إصدار مؤشر التضخم طيلة هذه الفترة، وهو ما ترك أثارا كارثية على المحاسبة الوطنية وتصحيحات الأجور، او ما يُعرف بـ«نزع أثر التضخم عن المؤشرات الاقتصادية».
يدير حمدان مؤسسة البحوث والاستشارات، وهو يعمل فيها منذ تأسيسها. يروي انه وزملاء له قرروا العمل على سد النقص، وصمموا مؤشرا لاسعار الاستهلاك واصدروه دوريا، واصبح المصدر الوحيد لقياس التضخم في فترة الحرب، حتى عام 1990 عندما رأت حكومة الرئيس الراحل سليم الحص أنه من غير المقبول أن تقوم مؤسسة خاصة باحتساب المؤشر، ولكن بعد مرور سنتين وتغيير الحكومة لم يُصدر مؤشر التضخم عن الدولة، فاضطرت المؤسسة في نهاية المطاف إلى إصداره مجددًا.
يشير عيسى في كتابه الى أن "الحكومات المتعاقبة في الجمهورية الثانية بقيت حريصة على أن لا تَمُد ادارة الاحصاء المركزي بالموارد المالية والبشرية اللازمة لإصدار بيانات تتمتع بالمواصفات المطلوبة". ويضيف عيسى أن "بيانات الحسابات الوطنية، التي عادت تلك الإدارة الى اصدارها بعد منتصف تسعينات القرن الماضي، بقيت جزئيةـ إصافة إلى أنها شهدت أكثر من مرة تغييرا في المنهجية المتبعة في احتساب المجاميع الاقتصادية الكلية".
سجل اسود في الاحصاءات
لا يتمتع لبنان بسجّل جيّد في مجال الاحصاءات، وقد ازداد التردي في البيانات المتاحة بعد الانهيار النقدي والمصرفي في عام 2019. وانخفضت درجة لبنان على مؤشر القدرة الإحصائية للبنك الدولي World Bank’s statistical capacity بشكل حاد من 51.1 في العام 2018 إلى 44.4 في عامي 2019 و2020.
يكرر صندوق النقد الدولي ملاحظاته في التقارير التي يصدرها عن لبنان، اذ أن «بيانات الحسابات القومية ضعيفة ويرجع ذلك أساساً إلى ضعف تغطية مصدر البيانات وحسن توقيتها وعدم كفاية الموارد». ويعتبر البنك الدولي أن تحليل الاقتصاد الكلي (في لبنان) يمثل تحدياً واضحاً، ويعد من الأمثلة اللافتة في هذا الصدد تجميع ونشر الحسابات القومية في لبنان: إذ يتم تجميعها على أساس سنوي (بدل أساس ربعي كل ثلاث شهور)، ويتم نشرها بتأخير قد يتجاوز السنتين أو ثلاث سنوات في بعض الأحيان (أخر حسابات منشورة تعود للعام 2020).
الإحصاءات اللبنانية ضعيفة الى درجة أن عدد السكان ليس معروفا بدقة. وتعد المسوحات السكانية من الادوات الأساسية لأي دولة، ويتم عادة إجراء تعداد سكاني دوري. إلا أنه في لبنان، لم يُجرَ أي تعداد منذ عام 1932. ومن هنا يتساءل حمدان في الندوة: «هل نحن 4 ملايين مقيم أم 6 ملايين؟». فحسب قوله، يرد كلا الرقميْن في مصادر مختلفة، ما يجعل كل ما يتعلق بالمتوسطات والمؤشرات النسبية إلى عدد السكان – مثل قياسات per capita – غير موثوق بها بشكل جدي. لقد امضى حمدان 49 سنة في مؤسسة البحوث والاستشارات، اجرى في خلالها عشرات الأعمال الميدانية والتحقيقات التي شملت العديد من الاحصاءات الاقتصادية، ومع ذلك بقي من الصعب الحصول على أرقام يمكن الدفاع عنها أو التأكد من مدى تمثيلية العينات المستخدمة. تظهر على شاشات التلفزة إحصاءات متباينة، لكنها تظل مشوشة وغير دقيقة.
هل البيانات الاقتصادية مهمّة الى هذا الحد؟
الارقام ليست سحرا، فهي بذاتها لا تُغيّر في الواقع ولا في الميول، ولكن صناعة الارقام في لبنان تخدم الايديولوجيا المهيمنة والمصالح السياسية والاقتصادية الكامنة فيها. في هذا السياق، يشير ابوجودة في مداخلته الى جدول ورد في كتاب عيسى، يحتوي على بعض مؤشرات الاقتصاد الكلي بين عامي 2018 و2023، ومرجعها هو البنك الدولي الذي يسمّيه أبو جودة "مرجع النموذج الاقتصادي اللبناني". وفقاً لابو جودة: "إذا عدنا إلى أرقام عام 2023، نجد أن الناتج المحلي بحسب البنك بلغ 18.2 مليار دولار، فيما شكّلت الصناعة 12.8% منه، أي ما يعادل نحو 2.3 مليار دولار. لكن عند النظر إلى نسبة الصادرات من الناتج المحلي الإجمالي، نجدها 24.7%، أي ما يقارب 4.5 مليار دولار. وبما أن الصناعة تمثل حوالي 80% من الصادرات، فهذا يعني أن حجم الصادرات الصناعية يصل إلى نحو 4 مليارات دولار، فهل يُعقل أن تفوق قيمة الصادرات الصناعية مجمل الناتج الصناعي نفسه، هذا تناقض واضح يكشف وظيفة هذه الأرقام".
قد يكون خبراء البنك الدولي استقوا معلوماتهم من الادارات الحكومية، او عمدوا الى ابقاء مساهمة الصناعة من مجمل الناتج المحلي عند مستوى قريب من ما كان عليه قبل الأزمة، أي 12% في 2018. ولكنهم خبراء بما يكفي لاستبعاد فرضية الخطأ غير المقصود، والاعتقاد ان الهدف هو عدم الاعتراف بتوسّع النشاط الصناعي بعد الانهيار في عام 2019، ليس على صعيد التصدير وانما على صعيد الطلب المحلي. يقول ابو جودة: ماذا لو علم الناس أن مساهمة الصناعة أصبحت تشكل 34% أو 35% من إجمالي الناتج؟ هل هذا سيجعلهم اكثر قبولا لفرض تغييرات بنيوية على النموذج الاقتصادي اللبناني لجعله اكثر ملائمة للانتاج بدلا من الاتكال على التجارة والمصارف والتحويلات فحسب؟
تُنسب الى الرئيس الراحل سليم الحص عبارة مشهورة: "ان الرقم في لبنان وجهة نظر". يتم غالبا استخدام هذه المقولة للتشكيك بالارقام المتداولة والتخفيف من وقعها، الا انها تعني ان تغييب القاعدة الاحصائية وحجب بيانات مهمّة واشاعة بيانات متلاعب بها… كلها وسائل لافقاد الرقم قوّته واستبداله بالسرديات السهلة والبسيطة، وجعل الحقيقة، او الواقع المعاش نفسه، كما لو انه هو وجهة نظر.