COP30: الديون الخضراء والحرب وتعويضات المناخ
نظّم «منتدى البدائل العربي للدراسات» بالتعاون مع موقع «صفر» ندوة بعنوان: «COP30: الديون الخضراء والحرب وتعويضات المناخ». هدفت الندوة إلى مناقشة عدالة الالتزامات والتعهّدات الصادرة عن مؤتمر الأطراف في اتفاقية المناخ في باكو، وإمكانية ملاحقة منفّذي الإبادة البيئية، والبحث في توصيات ومخارج تضمن عدالة بيئية واقتصادية واجتماعية.
شارك في الندوة مارك أيوب، الباحث في سياسات الطاقة وزميل معهد عصام فارس في الجامعة الأميركية في بيروت، وأحمد الدروبي، مدير الحملات الدولية في شبكة العمل المناخي، وتناولا العلاقة بين الحرب والبيئة والديون المناخية، وانعكاسات الحروب في لبنان وغزّة على المناخ وإعادة الإعمار.
سلّط النقاش الضوء على فشل النظام الاقتصادي العالمي في مواجهة الأزمة المناخية، واستمرار الممارسات الاستعمارية من خلال الديون والتمويل المشروط، وانتشار الحلول الزائفة مثل أسواق الكربون ومشروعات التكنولوجيا المناخية، التي تكرّس التبعية وتؤجّل تحقيق العدالة البيئية المنشودة.
الحروب تغطّي على الكارثة المناخية
مارك أيوب
العناوين المرتبطة بقمة المناخ هذا العام كثيرة وثقيلة، لا سيما بعد ما شهدناه في خلال العامين الأخيرين من إبادة في غزة وحرب إسرائيلية على لبنان وما ترتب على ذلك من تداعيات. كما أن العالم يعيش اليوم حالة انشغال بأزماته الداخلية من دون أن يُعير اهتماماً كافياً لقضايا المناخ وتبعاتها.
ونحن نتحدث اليوم، تشهد جامايكا إعصاراً جديداً يُعدّ من تداعيات التغير المناخي. ومع ذلك، فإن القمم التي تنعقد والتعهّدات التي تُطلق في خلالها لا ينعكس منها شيء على أرض الواقع، وخصوصاً في ما يتعلق بحاجات الدول الفقيرة للتكيّف مع التغيرات المناخية ومواكبة آثارها المتسارعة.
يمكن أن أقدّم لمحة سريعة عن الخسائر والأضرار التي أصابت الخدمات الأساسية من كهرباء ومياه وبيئة في خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، للانطلاق من هنا نحو بعض التساؤلات عمّا يمكن أن نتوقعه في قمة البرازيل المقبلة.
إن أهداف الحرب لم تكن فقط القضاء على البشر والحجر، بل ضمان عدم عودة الحياة إلى هذه المناطق في أي وقت قريب
بحسب التقييم السريع للأضرار والحاجات الذي أجراه البنك الدولي في مطلع هذا العام، وهو تقييم أُنجز في ظروف صعبة ولم يتمكن من الوصول إلى جميع المناطق، قدّرت الأضرار في قطاعي المياه والكهرباء في لبنان بعد الحرب الإسرائيلية بحوالي 450 مليون دولار أميركي، أي ما نسبته 6% من مجمل الأضرار الكلية التي بلغت نحو 6.8 مليارات دولار. أما حاجات التعافي وإعادة الإعمار في هذين القطاعين فقدّرت بنحو 650 مليون دولار من أصل إجمالي يبلغ 11 مليار دولار.
قد تبدو هذه الأرقام متواضعة مقارنة بحجم الدمار العام، لكن المفارقة أن الحرب الأخيرة، بخلاف حرب تموز/يوليو 2006، لم تستهدف مراكز الإنتاج أو محطات الطاقة الرئيسة أو أعمدة التوتر العالي، بل أصابت في معظمها شبكات النقل والتوزيع في القرى الأمامية على الحدود بهدف تدمير امكانات العيش فيها. لذلك يمكن القول إن الأضرار كانت أوسع من من اختصارها بالقيم المالية او الجوانب التقنية.
تعرّض قطاع المياه تحديداً لخسائر تُقدّر تقريباً بثلاثة أضعاف خسائر قطاع الكهرباء؛ إذ بلغت أضرار الكهرباء نحو 100 مليون دولار، في مقابل 356 مليون دولار في قطاع المياه، إضافة إلى نحو 250 إلى 300 مليون دولار خسائر بيئية.
وعندما نتحدث عن الأضرار البيئية، فنحن نعني تدمير الغطاء النباتي وقطع الأشجار واستخدام الفوسفور الأبيض والقنابل الحارقة والمضيئة، وما خلفته من أضرار في التربة والحيوانات والطيور والأسماك. لا تزال هذه الأرقام أولية، إذ لا يمكن حتى الآن تقييم الأثر الكامل ولا وضع خطة واضحة لمرحلة ما بعد الحرب لأن الاحتلال ما زال موجوداً في بعض المناطق.
نتحدث هنا عن الخدمات الأساسية التي يمكن القول عند التأمل في تداعياتها إن أهداف الحرب لم تكن فقط القضاء على البشر والحجر، بل ضمان عدم عودة الحياة إلى هذه المناطق في أي وقت قريب، وربما حتى لسنوات طويلة مقبلة.
وإذا انتقلنا إلى موضوع البيئة، نجد أرقاماً صادمة. فمثلاً، استخدم الاحتلال نحو 290 قذيفة فوسفورية وقرابة 286 قنبلة حارقة على الأراضي اللبنانية. كما اقتلع حوالي 47 ألف شجرة زيتون بينها ألف شجرة معمّرة أُزيلت عمداً وعن سابق تخطيط وتصميم ونُقل بعضها حتى إلى داخل فلسطين المحتلة.
أطلقت حرب غزة وحدها في خلال الثمانية عشر شهراً الأولى انبعاثات تعادل ما تنتجه دولة صناعية كبرى في عقود كاملة
أما على مستوى الغطاء الحرجي، فقد تعرّض نحو 40% من المساحات الحرجية للقصف، أي ما يقارب 2,000 هكتار من الأراضي المحروقة، ولم يتمكن الأهالي أو المتخصصون حتى اليوم من الدخول إلى بعض تلك المناطق لمعرفة وضع التربة أو النباتات أو تأثيرات ذلك على الحياة البيولوجية والتنوع الحيوي في المستقبل.
إنها صورة قاتمة، ومع ذلك نحن نتحدث فقط عن لبنان، فماذا عن غزة؟
لقد تعرّض سكان قطاع غزّة لإبادة جماعية، وكانت البيئة هدفاً رئيساً من أهداف هذه الحرب لجعل غزة مكاناً غير صالح للعيش. دمّرت أكثرية المباني والبنية التحتية والمرافق الصحية وشبكات المياه والصرف الصحي. ولا حاجة للتذكير بما يعرفه الجميع: نحو 90% من الأراضي الزراعية في غزة اقتُلعت بالكامل وأصبحت غير صالحة للزراعة على المدى القصير. وتشير شركة توزيع الكهرباء في غزة إلى خسائر تُقدَّر بنحو 750 مليون دولار، في قطاع صغير جغرافياً، دُمّر فيه 90% من شبكة الكهرباء، ولم يبقَ من المحطات أو المخازن شيء تقريباً. كل ذلك يترك آثاراً بيئية خطيرة يصعب حصرها.
الانبعاثات التي لا تُحتسب
تُثير هذه الأرقام المروّعة أسئلة جوهرية قبيل انعقاد قمة المناخ المقبلة، ولا سيما في ما يتعلّق بملف إعادة الإعمار، أو ما يُعرف بإعادة الإعمار بعد النزاعات (Post-Conflict Reconstruction)، في الدول التي عصفت بها الحروب، وما خلّفته من تداعيات بيئية واقتصادية وإنسانية عميقة.
تكشف هذه المعطيات حجم الفراغ الخطير في المقاربات الدولية، وخصوصاً غياب إدراج آثار الحروب ضمن حسابات الانبعاثات الكربونية.
أطلقت حرب غزة وحدها في خلال الثمانية عشر شهراً الأولى انبعاثات تعادل ما تنتجه دولة صناعية كبرى في عقود كاملة. تشير التقديرات السابقة، التي عُرضت في قمم دبي وباكو وشرم الشيخ، إلى أن العمليات العسكرية عالمياً تساهم بما بين 5.5% و6% من مجمل الانبعاثات الكربونية.
ومن هنا يبرز السؤال الحاسم: كيف يمكن بعد حرب غزة وحرب لبنان وسواهما من الحروب الحديث عن التزامات مناخية حقيقية بينما لا تُدرَج الانبعاثات الناتجة عن الحروب في جداول المفاوضات المناخية العالمية؟
التحول الأخضر تحت سلطة الملوّثين
كيف يمكن الحديث عن «التحول الأخضر» أو «الاستثمار الأخضر» في دول يعيش سكانها تحت القصف ولا يعرفون إن كانت حياتهم ستستمر غداً؟ ثم إن الأموال المخصصة لإعادة الإعمار ستكون مشروطة من الدول المانحة، ما يثير تساؤلاً كبيراً: هل سيُؤخذ في الاعتبار الاستثمار في قطاعات خضراء عند تنفيذ مشاريع الإعمار؟
أما على الصعيد الدولي، فالمشكلة أعمق. تشير آخر الإحصاءات إلى أن أربع دول فقط – هي الولايات المتحدة، وكندا، والنرويج، وأستراليا – سوف تساهم في 70% من الانبعاثات العالمية بين 2025 و2035. وحتى البرازيل، التي ستستضيف قمة المناخ المقبلة، تُعد من بين أكبر عشر دول ملوِّثة في العالم.
في العام 2023 وحده، ضخّ أكبر 60 مصرفاً عالمياً نحو 700 مليار دولار في مشاريع غير خضراء
في المقابل، توقفت الولايات المتحدة عن دعم مشاريع المناخ، وأوقفت تمويل برامج الطاقة المتجددة، وسحبت تمويلها المخصص للتكيّف البيئي. فعلى سبيل المثال، توقفت وكالة التنمية الأميركية عن تمويل مشروعات «التكيف» بمبلغ قدره 500 مليون دولار منذ بداية العام 2025، كما جُمّد التمويل المناخي المقدر بنحو 11 مليار دولار.
وبالتالي، من الصعب اليوم الحديث عن «تحول أخضر» في ظل الحروب التي تعصف بشعوب المنطقة، وفي ظل توقف التمويل المناخي من كبار الملوثين واستمرار المصارف الكبرى في تمويل مشاريع الوقود الأحفوري. ففي العام 2023 وحده، ضخّ أكبر 60 مصرفاً عالمياً نحو 700 مليار دولار في مشاريع غير خضراء.
لهذا، يبدو من الصعب توقّع أي نتائج إيجابية على صعيد التمويل في قمة المناخ المقبلة ما لم يُفرض تمويل إلزامي على الملوّثين الكبار، خصوصاً في ما يتعلّق بصندوق الأضرار والخسائر الذي لا يزال يحتوي على 700 مليون دولار فقط منذ إنشائه قبل ثلاث سنوات، من دون أي مساهمات إضافية.
ينبغي أن تدفع الدول المنتجة للكربون تكلفة ما تجنيه من تلويث البيئة، وأن تتحمل مسؤولياتها تجاه الدول الأكثر تضرراً. لكن، هل هناك أفق حقيقي لذلك في قمة البرازيل المقبلة؟ لا أعتقد ذلك، لأن المقاربات ما زالت هي نفسها، ولم يطرأ أي تغيير جذري في فرض التمويل على اللاعبين الكبار.
الإبادة كصورة مبكرة لمستقبل المناخ
أحمد الدروبي
ألقى رئيس كولومبيا كلمة في افتتاح مؤتمر كوب 28 في دبي، الذي عُقد بعد نحو شهرين من بدء الإبادة في قطاع غزة، وقال فيها إن ما نراه اليوم هو نبذة عن المستقبل: عندما تشتد آثار التغير المناخي ويزداد تأثيرها على شعوب دول الجنوب. وأكد أنه إذا لم تتحرك شعوب العالم وحكوماته وهي ترى الإبادة الجماعية تُبث مباشرة، فلن تتحرك عندما تبدأ آثار التغير المناخي في تدمير حياة المليارات في دول الجنوب.
تختصر هذه الكلمات فشل النظام الدولي السياسي والاقتصادي القائم على الاستعمار والاستخراج والعنصرية والأبوية والطبقية. لذلك يجب دائماً أن نعود خطوة إلى الوراء لننظر إلى المنظومة الأشمل:المنظومة الرأسمالية النيوليبرالية، التي تفترض أن النمو اللامتناهي ممكن من دون أي اعتبار لحدود الكوكب أو لمبادئ العدالة وحقوق الإنسان وكرامة البشر.
نظام ينهب الجنوب باسم المساعدات
تدير هذا النظام الاقتصادي العالمي مؤسسات وبنوك دولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وهي مؤسسات أُنشئت في خلال الحقبة الاستعمارية أثناء الحرب العالمية الثانية، وما زالت تعمل بعقلية استعمارية حتى اليوم. ومن أبرز الأدلة على ذلك دراسة أجراها الدكتور جيسون هيكيل قبل 4 سنوات، قدّر فيها أن هناك تحويلاً سنوياً للثروات من دول الجنوب إلى دول الشمال يبلغ نحو 1.5 تريليون دولار. فمهما وُعدت دول الجنوب بمساعدات، فإن الأموال في النهاية تعود إلى دول الشمال، لأن النظام الاقتصادي مصمم بهذه الطريقة، حيث تُحتكر التكنولوجيا والمعرفة هناك. صحيح أن الصين اليوم تُحدث خللاً في هذا النظام، لكنها لم تغيّر بعد بنيته الأساسية.
أما دول الشمال، فقد التزمت عبر منظمة OECD بتخصيص 0.6% من ناتجها المحلي الإجمالي كمساعدات لدول الجنوب. إلا أننا حتى قبل الحرب في أوكرانيا لم نتجاوز 0.35%، وبعد الحرب ارتفع الرقم إلى 0.55%، لكن معظم الأموال ذهبت إلى أوكرانيا. وبالتالي، حتى ما يسمى بـ«المساعدات»، وهي في الواقع جزء من دينٍ استعماري وتعويضات تاريخية، لم يُلتزم به فعلياً.
وفي إطار المناخ، الوعد الذي قُطِع في مؤتمر كوبنهاغن في العام 2009 كان يقضي بتوفير 100 مليار دولار سنوياً بين عامي 2020 و2025 كتمويل مناخي. لكن هذا الرقم لم يتحقق. بل إن الأموال التي صُرفت كانت في كثير من الأحيان تحويلات شكلية من المساعدات التقليدية إلى التمويل المناخي. على سبيل المثال، تبني اليابان مدرسة في إفريقيا وتضع ألواحاً شمسية على السطح، ثم تحتسب كلفة المشروع كلها كتمويل مناخي. أما بريطانيا فكانت تزيد ما تسميه «التمويل المناخي» وتخفض في المقابل من المساعدات المباشرة. وهكذا، فإن الاتفاقيات الإطارية مثل اتفاقية الأمم المتحدة للتغير المناخي واتفاق باريس تبقى غير ملزمة فعلياً.
إذا لم تتحرك شعوب العالم وحكوماته وهي ترى الإبادة الجماعية تُبث مباشرة، فلن تتحرك عندما تبدأ آثار التغير المناخي في تدمير حياة المليارات في دول الجنوب
وعلى الرغم من أن هذه الاتفاقيات تنص على «المسؤولية المشتركة ولكن المتباينة»، فإن دول الشمال تسعى إلى طمس هذا التباين وتحميل الجميع المسؤولية بالتساوي. دراسة نُشرت في العام 2023 للباحثين أندرو فانينغ وجيسون هيكيل، قدّرت الدَّين المناخي المترتب على دول الشمال نتيجة تجاوزها حقها العادل من الانبعاثات، وخلصت إلى أن هذه الدول مدينة للعالم بنحو 192 تريليون دولار يجب دفعها بين 2025 و2050. هذا الرقم وحده كفيل بتغيير وجه الكوكب، ومع ذلك لا يشمل حتى ديون الاستعمار التاريخي ولا ما نجم عن قرون من الاستغلال والانتهاكات في دول الجنوب.
لذلك نحن بعيدون جداً عن تحقيق العدالة المناخية.
صحيح أن مؤتمرات المناخ أحدثت فارقاً نسبياً، إذ انخفضت التوقعات بارتفاع درجات الحرارة من 4.5 أو 4.7 درجات مئوية قبل اتفاق باريس إلى نحو 2.7 درجة اليوم، وربما أقل. لكن هذا التحسن جاء على حساب دول الجنوب، وليس عبر مسارٍ عادلٍ لتقاسم الأعباء.
التدمير المزدوج للحرب والتكنولوجيا
هناك تراجع واضح اليوم في الالتزامات. فمع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، نشهد، كما حدث في ولايته الأولى ولكن بوتيرة أشد، تشجيعاً مباشراً لاستخدام الوقود الأحفوري وزيادة عمليات الاستخراج. كذلك أدت الحرب في أوكرانيا إلى طفرة في الصناعات الاستخراجية، حين حاولت الدول الأوروبية الاستغناء عن الغاز الروسي فاستثمرت بكثافة في استخراج الغاز والنفط، وخصوصاً في دول الجنوب الإفريقية.
أما هذه الدول، وفي ظل غياب التمويل المناخي وتراكم الديون، فهي مضطرة إلى الاستمرار في استخراج الوقود الأحفوري على الرغم من وعيها بالمخاطر. نأخذ مثلاً موزمبيق: يوازي دينها العام ناتجها المحلي الإجمالي، ولا تتجاوز نسبة السكان المتصلين بالشبكة الكهربائية 40%، ومع ذلك اكتُشفت فيها كميات هائلة من الغاز والبترول. ومن الطبيعي أن نقول إن استخراج هذه الموارد يضرّ بالكوكب، لكن من الصعب مطالبة هذه الدول بوقف الاستغلال وهي تعاني أوضاعاً اقتصادية كارثية.
لكن لا بدّ أيضاً من التذكير بأن نمط الاستخراج نفسه نمطٌ استعماري. فمثلاً، نيجيريا، وهي أكبر منتج للبترول في القارة الأفريقية، تستورد 100% من حاجتها من البنزين المستخدم في السيارات والمصانع، لأنها لا تمتلك التكنولوجيا الخاصة بالتكرير. هذه التكنولوجيا لم تُنقل إليها عمداً، ولذلك تنفق نيجيريا نسبة كبيرة من عائداتها النفطية على استيراد البنزين للاستهلاك المحلي.
تخلّف الأنشطة العسكرية بدورها آثاراً هائلة على التغيرات المناخية وتُسبب انبعاثات ضخمة كما أشير سابقاً. ومع ذلك، الاتفاقية الإطارية للأمم المتحدة بشأن التغير المناخي واتفاق باريس لا تأخذان الانبعاثات العسكرية في الاعتبار، على الرغم من أنها تمثل نسبة هائلة من الإجمالي العالمي.
من هنا، تأتي حجج ومطالبات المجتمع المدني العامل في قضايا العدالة المناخية، الذي يشير إلى المفارقة بين الإنفاق العسكري الهائل في دول الشمال مقارنة بالمبالغ الضئيلة المخصصة لمواجهة أكبر تهديد للبشرية، وهو التغير المناخي. فالأزمة هنا أزمة أولويات ناتجة عن نظام اقتصادي وسياسي دولي يستمر في تكريس التفاوت بين دول الشمال ودول الجنوب، وبين الطبقات الفقيرة والغنية.
نشهد اليوم تهديدات جديدة بسبب ازدياد الاعتماد على الوقود الأحفوري في السنوات القادمة. فالتطور المتسارع في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي في خلال السنوات الأربع أو الخمس الأخيرة، وما يتطلبه من استهلاك ضخم للطاقة، بدأ يدفع الكثير من الدول إلى التراجع عن سياسات الابتعاد عن الوقود الأحفوري، وزيادة الاستثمار فيه لتوفير الطاقة اللازمة لتطوير ونشر هذه التكنولوجيا. وهكذا تتحول المنافسة التقنية إلى سباق محموم يرسّخ التبعية للوقود الأحفوري.
لذلك نحن بحاجة إلى إعادة النظر في النظام الاقتصادي العالمي القائم، لأنه فشل على كل المستويات وبكل الأشكال.
وهم الحلول الخضراء واستعمار المناخ الجديد
أُقرّ تأسيس صندوق الخسائر والأضرار في قمة كوب 27 في شرم الشيخ في العام 2022، وبدأ العمل عليه رسمياً في خلال افتتاح قمة كوب 28 في دبي. وقد ساهمت الفيضانات الكارثية في باكستان في صيف 2022 في تسريع إنشاء الصندوق، بعدما دمّرت مئات القرى وآلاف الكيلومترات من الطرق، وأتلفت نحو ثلث المحاصيل الزراعية، وأودت بحياة أكثر من 1700 شخص، فيما قُدّرت خسائرها بنحو 40 مليار دولار. ومع ذلك، كانت المساعدات الدولية هزيلة، ونسبة كبيرة منها جاءت على شكل ديون لا منح، وهذه إحدى المشكلات الجوهرية في التمويل المناخي، إذ إن تعريف التمويل المناخي غير واضح.
تعهّد المجتمع الدولي بتوفير 100 مليار دولار سنوياً بين 2020 و2025، لكننا لم نصل إلى هذا الرقم. تختلف التقديرات من مصدر إلى آخر، ففي أفضل الأحوال يمكن القول إن ما تحقق لا يتجاوز 70% من المبلغ، وفي أسوئها لا يتعدى 30%. لكن الأخطر أن 70% من هذا التمويل جاء في شكل قروض وليس منحاً، ما يعني أنه عبء إضافي على دول الجنوب بدل أن يكون تعويضاً عن المسؤولية التاريخية لدول الشمال.
ولعلّ المثال الأوضح هو ما يجري في مصر. فالدولة تفتخر بمشروع بنبان، أحد أكبر محطات الطاقة الشمسية في العالم. في مرحلته الأولى، أُنشئت 13 محطة صغيرة، منها 12 تابعة لشركات أجنبية، معظمها أوروبية، حصلت على قروض من البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، ثم باعت الكهرباء للحكومة المصرية بأسعار مرتفعة وأعادت الأرباح للبنك الأوروبي. وهكذا تحمّل المجتمع المصري وميزانية الدولة عبئاً إضافياً بدل الاستفادة. لذلك لا يمكننا أن ننظر إلى التمويل المناخي ككتلة واحدة متجانسة، فهناك مشكلات كبيرة في نوعيته وجدواه.
الأزمة هنا أزمة أولويات ناتجة عن نظام اقتصادي وسياسي دولي يستمر في تكريس التفاوت بين دول الشمال ودول الجنوب، وبين الطبقات الفقيرة والغنية
وبسبب شح التمويل المناخي وتهرّب دول الشمال من مسؤولياتها التاريخية، باتت الحلول الكاذبة تنتشر وتُقبل من بعض دول الجنوب باعتبارها الطريق الوحيد للحصول على تمويل للتنمية المحلية. ومن أبرز هذه الحلول أسواق الكربون، التي تمثل شكلاً من ظاهرة الغسل الأخضر: تشتري شركات أو دول ملوِّثة صكوك انبعاثات من مشاريع تدّعي أنها تقلّل الانبعاثات، من دون أن يحدث أي خفض فعلي. نظام REDD+ مثلاً هو من أسوأ النماذج؛ إذ تُعلن دولة أنها كانت ستقطع غابة وقررت ألّا تفعل، فتحصل على أموال مقابل ذلك، لكنها تذهب لقطع الغابة المجاورة! وهكذا لا يقلّ الانبعاث الكلي، بل يستمر كما هو، في حين تُسجَّل الأرباح الورقية باسم «البيئة».
وتُروَّج اليوم حلول زائفة أخرى مثل احتباس الكربون في باطن الأرض داخل آبار النفط المستنفدة. طُوّرت هذه التكنولوجيا منذ السبعينيات، ولم تثبت جدواها الاقتصادية، لكنّ بعض الدول، وخصوصاً في العالم العربي، بدأت تنفيذ مشاريع في هذا المجال، لا لخفض الانبعاثات فعلياً، بل لاستغلال ثاني أكسيد الكربون لزيادة استخراج الوقود الأحفوري من الآبار القديمة.
أما الأخطر اليوم فهو ما يسمى «إدارة الإشعاع الشمسي» (Solar Radiation Management)، أي مشروعات تقوم على أفكار جنونية مثل إطلاق مرايا عملاقة إلى الفضاء لعكس أشعة الشمس، أو رشّ مركّبات الكبريت في طبقات الجو العليا.
المشكلة أن هذه العمليات يمكن أن تخلق طبقة عاكسة لأشعة الشمس، لكن إذا توقفت يوماً، سترتفع الحرارة فجأة وبشكل كارثي يؤدي إلى ما يسمى «الصدمة الحرارية النهائية» (Terminal Shock)، أي انهيار الحياة على الأرض تقريباً.
الأسوأ أن حقوق براءات الاختراع لهذه المواد مملوكة لشركات وأفراد في وادي السيليكون مثل جيف بيزوس وبيل غيتس، ما يعني أنهم قد يحتجزون الكوكب رهينة لمشاريعهم إن طُبّقت فعلياً. والشركة الأبرز في هذا المجال حالياً، التي أُسِّست في العام الماضي، تُروّج لهذه التكنولوجيا وبدأت بيعها فعلاً، وهي شركة أميركية – صهيونية تُدعى ستار داست (Stardust). ويُقال إن أول زبائنها دولة الإمارات العربية المتحدة.