أوهام تمويل المناخ
في هذا العام الذي يتّجه ليكون الأشد حرارة على الإطلاق، عُقدت قمّة المناخ بنسختها التاسعة والعشرين (COP29) في باكو في أذربيجان، التي عُرفت بأنها قمّة «التمويل المناخي»، وانتهت إلى اتفاق على هدف حشد 300 مليار دولار من الدول الغنيّة لتمويل حاجات الدول النامية بحلول العام 2035 في مواجهة تداعيات التغيّر المناخي. لا يمثّل هذا الرقم سوى ثلث ما تحتاجه هذه الدول بأحسن الأحوال، وما زاد الخيبة من نتائج القمّة هو أنها لم تضع خطّة عمليّة للابتعاد من استخدام الوقود الأحفوري أيضاً.
يحدث كلّ ذلك في ظلّ أعنف الحروب الدموية التي يشهدها العالم، وعودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ما يجعل الحديث عن هدف أو رقم محدّدين لتمويل مواجهة التغيّر المناخي شيئاً من الوهم، لا سيما في ظل عدم التطرّق إلى شكل النظام الاقتصادي الذي يخفّف من استخدام الطاقة، والنظام العالمي الذي يقي البلدان من الحروب وتبعاتها البيئية الخطيرة والواقع المأساوي الذي سوف تعيشه المناطق والشعوب الخارجة منها مستقبلاً.
لا يمثّل الهدف التمويلي المقرّر سوى 30% من هدف التريليون دولار و23% من هدف التريليون و300 مليار دولار
هدفٌ زهيد مقارنة بالحاجات
ارتكزت المفاوضات في باكو على مدى أسبوعين (من 11 إلى 22 تشرين الثاني/نوفمبر) بشكل رئيس على الحاجة إلى الاتفاق على رقمٍ يسمح بتدفّق الأموال لمساعدة البلدان النامية الأقل مساهمة في التغير المناخي والأكثر مواجهةً لآثاره، والأقل جاهزية للتعامل معه. وبعد طرح مسودّات عدّة وخوض نقاشاتٍ حادّة استمرّت حتى الساعات الأولى من فجر الأحد 24 تشرين الثاني/نوفمبر، تمّ الإعلان عن هدفٍ أساسي بجمع «ما لا يقلّ عن 300 مليار دولار للدّول النامية بحلول العام 2035، فضلاً عن استمرار العمل لجمع 1,3 تريليون دولار من مصادر عدّة عامّة وخاصّة». فما هي خلفيّة كلّ هذه الأرقام؟
في العام 2009، تمّ تحديد هدف 100 مليار دولار سنويّاً تُدفع للدّول النامية بحلول العام 2020، وهو رقم لم يتمّ الوصول إليه إلّا في العام 2022. أمّا اليوم، فيشير تحليل صادر عن لجنة الأمم المتحدة الدائمة المعنيّة بالمناخ إلى الحاجة إلى حوالي 6 تريليون دولار لكي تتمكّن الدّول النامية من تطبيق خططها المناخيّة وتدابير التخفيف والتكيف، أي ما يعادل حوالي 1 تريليون دولار في العام من الآن وحتى العام 2030. في حين طرحت المجموعة الأفريقية وبعض الدول النامية في العام 2021 رقم 1,3 تريليون دولار سنوياً بحلول 2030، معظمها على شكل منح، وكان محور تلاقٍ هذا العام في باكو بين دول تحالف G77 (وهو أكبر تحالف للدول النامية في الأمم المتحدة، يضم 135 دولة) والصين، في ظل تكتّم الدول المتطورة والأكثر تلويثاً بشأن التزاماتها.
تمحور النقاش في خلال السنوات الماضية كما في هذه القمّة حول ثلاث أسئلة رئيسة: كم سنحتاج من الأموال للعقد المقبل؟ كيف يتمّ صرفها (قروض أم منح)؟ ومن هي لائحة الدول المانحة والمستفيدة؟ ويبرز الخلاف هنا بشأن التسميات، إذ أن قوائم البلدان المتقدّمة (تتضمّن 24 دولة بما فيها الولايات المتحدة وأوروبا واليابان) أًنشئت في العام 1992 وهي ما زالت متّبعة لتحديد من يدفع هذا النوع من التمويل، في حين أن الكثير من الدول التي صُنّفت نامية في حينها قد أصبحت قادرة على المساهمة أكثر (كالصين وبعض دول الخليج) - وقد وترك القرار النهائي الباب مفتوحا أمام المساهمات «الطوعية» من الدول النامية التي لم تقدّم في السابق تمويلاً رسميّاً للمناخ، كالصين مثلاً.
أدّت الدول النفطية بقيادة السعودية والمجموعة العربية دوراً أساسياً في الاعتراض على أي نصّ يذكر الوقود الأحفوري صراحة وطمس أي ذكر لمقررّات قمة دبي في العام الماضي
بالمحصّلة، أثار هذا الإعلان وطريقة تمريره سخطاً لدى بعض الدول النامية، بما في ذلك كوبا والهند ونيجيريا وبوليفيا، التي اعترضت على «حجمه الضئيل» بما لا يستجيب لمتطلباتهم للنمو المستدام والحفاظ على سلامة شعوبهم. إذ لا يمثّل الهدف التمويلي المقرّر سوى 30% من هدف التريليون دولار و23% من هدف التريليون و300 مليار دولار، مع امتداده من 2026 الى 2035 بدلاً من 2030، ما يعني أنّ على الشعوب توقّع المزيد من الكوارث المناخية في العقد المقبل من دون القدرة المالية الكافية على مواجهته، ما قد يخلق مساراً أكثر صعوبة و أكثر كلفة نحو تحقيق الاستقرار المناخي.
من جهة تمويلية أخرى، بقيت مساهمات الدول في صندوق الخسائر والأضرار الذي أقر العام الماضي في دبي ضئيلة جدّاً، على الرغم من اكتمال الهيكل الإداري للصندوق هذا العام في باكو والبدء فعليّاً بمقاربة الحاجات. وحدها السويد أضافت هذا العام 200 مليون دولار الى الصندوق ليصل إجمالي ما تم جمعه إلى 720 مليون دولار فقط، ما يمثّل أقلّ من 1% من الحاجة. وقد صدر بيان جماعي عن عددٍ من بنوك التنمية المتعددة الأطراف تعهّدوا فيه برفع نسب تمويلهم المناخي للدول المنخفضة أو المتوسّطة الدّخل بحلول العام 2030، ومن أبرز الموقعين على البيان مجموعة البنك الدولي، والبنك الآسيوي للتنمية، والبنك الأفريقي للتنمية، والبنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية (EBRD)، وبنك الاستثمار الأوروبي (EIB)، والبنك الإسلامي للتنمية، وغيرها.
فوز تحالف الوقود الأحفوري
بالإضافة إلى ضآلة التمويل المناخي، فشلت القمّة في تقديم تصوّرٍ لكيفيّة المضي قدماً بتعهّدات العام الماضي في دبي، وتحديداً التعهّد الرئيس بالتحول بعيدا من الوقود الأحفوري، وتقرّر تأجيل القرار إلى قمّة العام المقبل في البرازيل. وقد أدّت الدول النفطية بقيادة السعودية والمجموعة العربية دوراً أساسياً في الاعتراض على أي نصّ يذكر الوقود الأحفوري صراحة وطمس أي ذكر لمقررّات قمة دبي في العام الماضي، تماماً كما فعلت في البيان الختامي لقمّة العشرين (G20). وقد دُعمت بطريقة غير مباشرة من قبل الدولة المضيفة للقمة، والتي وصف رئيسها النفط والغاز في الجلسة الافتتاحية بأنهما «هدية من الله» نافياً تهمة الدولة النفطية. علماً أن أذربيجان تحصل على ثلثي عائداتها من النفط والغاز، وهو تاسع أعلى رقم في العالم، كما أنها من أبرز مصدّري النفط إلى إسرائيل ومن أبرز داعمي حرب الإبادة على غزة المسبّبة لكوارث مناخية لعقود وأجيال مقبلة.
من جهة أخرى، اتُّهمت أذربيجان باستخدام دورها كرئيسة القمّة لعقد اجتماعات لمناقشة صفقات محتملة في قطاع النّفط والغاز، بحسب تقرير نشرته BBC قبل أيّام من انطلاق القمّة، تماماً كما حصل في دبي في العام الماضي. وشهدت قمّة باكو حضور حوالي 1,773 مناصر لمصادر الطاقة المرتبطة بالوقود الأحفوري، وهي نسبة مشاركة كبيرة للسنة الثانية على التوالي (حضر حوالي 2,456 مناصر في دبي في العام الماضي) تعدّت أعداد وفود الدول المشاركة كافّة (ما عدا أذربيجان والبرازيل وتركيا)، ما يؤشّر الى قرار هذه الدول، ومن خلفها لوبي الشركات العالمية، بالانخراط في نقاشات المناخ ومنع أي مسٍّ بمصالها.
أعاد النّص الأخير التأكيد على دور «الوقود الانتقالي»، والذي فسّره الخبراء على أنه يعني الغاز من بين المصادر الأحفورية الأخرى، ما يعني غطاءً للاستمرار بالاستثمارات وتطوير مشاريع الوقود الأحفوري
نتيجة لذلك، أعاد النّص الأخير التأكيد على دور «الوقود الانتقالي»، والذي فسّره الخبراء على أنه يعني الغاز من بين المصادر الأحفورية الأخرى، ما يعني غطاءً للاستمرار بالاستثمارات وتطوير مشاريع الوقود الأحفوري.
تداعيات الحروب غير محسوبة
وسط هذا التخبّط، يبرز سؤال جوهري عن مدى تأثير النشاط العسكري المتزايد حول العالم والصراعات الدائرة في الشرق الأوسط على انبعاثات الغازات المسبّبة للاحتباس الحراري. في الواقع، لا توجد طريقة سهلة لقياس تأثيرات النشاط العسكري المباشر على المناخ لأنها مستبعدة من الإحصاءات الرسمية كما من جردة الغازات الملوّثة وذلك بسبب الافتقار إلى الآليات الخاصّة باحتسابها يموجب اتفاقية باريس للمناخ، وبالتالي غير مبلّغ عنها في ظل استمرار الصراع في الشرق الأوسط وحرب الإبادة على غزّة.
تشير التقديرات في العام 2022 على أبواب قمّة شرم الشّيخ إلى أنّ البصمة الكربونية العسكرية العالمية تساهم بنحو 5,5% من الانبعاثات العالميّة، أو حوالي 2,750 مليون طن من انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون من جميع الأنشطة العسكرية والدفاعية، وذلك بعيد الحرب الروسية-الأوكرانية وقبل بدء حرب الإبادة على غزة وحرب إسرائيل على لبنان وحرب السودان. وارتكزت هذه التقديرات على أربع معايير رئيسية منها عدد الأفراد العسكريين الناشطين في حينها، الانبعاثات «الثابتة» للفرد من خلال استخدام الطاقة في القواعد العسكرية (ويتصدّرها الجيش الأميركي بأشواط)، الانبعاثات «المتحرّكة» المتأتية من استخدام الطائرات العسكرية والسفن الحربية والمركبات، كما وتلك الناشئة من مضاعفة سلسلة التوريد للأنشطة العسكرية.
من هنا، يصعب تقدير الحاجات في ظلّ عدم فرض ضرورة التبليغ عنها أولّاً كما ووضع تصوّرات عمليّة لمواجهتها. مع العلم أيضاً أن جهود إعادة الإعمار الطويلة الأمد قد تؤدي إلى إطلاق عشرات الملايين من الانبعاثات المناخيّة.
البصمة الكربونية العسكرية العالمية تساهم بنحو 5,5% من الانبعاثات العالميّة، أو حوالي 2,750 مليون طن من انبعاثات ثاني أوكسيد الكربون من جميع الأنشطة العسكرية والدفاعية
وصول ترامب قد يقلب الصورة
تحدث كل هذه النقاشات في ظلّ تحوّلٍ رئيسي يتمثّل بعودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في 2025، وهو الذي تنصّل من اتفاقية باريس للمناخ في خلال ولايته الأولى (2016-2020). إحدى العبر الأساسية من قمّة باكو هي سيطرة السّياسة المحلية على غرف المفاوضات أكثر من أي وقت مضى، حيث برز تركيز حكومات الدول المتقدمة على أولويّات ميزانيّاتهم بعيداَ من التعهد بتمويل جديد كبير، حيث لا يُتوقّع الحصول على مساهمات أميركية خلال رئاسة ترامب. فهذا الأخير معروف بدعمه لمزيد من عمليّات الحفر المتعلّقة بالوقود الأحفوري، وكانت من أبرز عناوين حملته الأخيرة، اذ تشير بعض التقديرات أن الانسحاب من اتفاقات المناخ وإعادة النظر برزمة الدعم التي أقرتها ادارة بايدن، والمعروفة بـ Inflation Reduction Act، سوف تزيد الانبعاثات الأميركية بحوالي 4 مليارات طن من ثاني أكسيد الكربون بحلول العام 2030.
أمرٌ آخر مثير للاهتمام كمحصّلة للقمّة هو صعوبة الوصول إلى أهدافٍ طموحة، تمويليّة أو غيرها، في زمن التعددية القطبية وفي ظلّ صراع النفوذ العالمي الدائر حاليّاً. وعلى الرغم من وجود الولايات المتحدة والصين في القمّة، كانت التحالفات شديدة المرونة، إذ عملت كلّ دولة لتأمين مصالحها، والحديث عن انقسام إلى كتل متنافسة في مفاوضات المناخ أمر تبسيطي للغاية.