Preview المساواة المناخية

المساواة شرطٌ لإنهاء الإنهيار المناخي
الأثرياء يحرقون عالمنا

وقعُ الحرارة التي تتجاوز الـ45 درجة مئوية على من يقطن في كوخ من الصفيح ليس نفسه على من يسكن منزلاً فاخراً مزوّداً بأحدث تقنيات التكييف. معلومةٌ بديهية تتقاطع مع دراسة أشمل عن وقع التغير المناخي على الفئات الاجتماعية المختلفة، أجراها ثلاثة باحثين في جامعتيْ Sheffield وUCL، تقول إن الأغنياء عموماً يعيشون في مساكن أكثر أمناً وأقل عرضة للفيضانات، فيما يعيش ذوي الدخل المحدود في مناطق أكثر تعرّضاً للإجهاد الحراري والفيضانات.

مليارديراً واحداً يُنتج أكثر من 8,000 طن من ثاني أكسيد الكربون في العام الواحد بسبب نمط حياته الذي يعتمد على استخدام اليخوت والطائرات الخاصّة

تتعاظم المخاطر البيئية على السكّان الفقراء في الوقت الراهن، بالتزامن مع تعاظم مخاطر الجوع وانعدام الأمن الغذائي، بسبب تفاقم الفوضى المناخية التي يتسبّب بها الأغنياء الآمنون أنفسهم، الذين يملكون نوعاً من الحصانة ضدّ تأثير الانهيار المناخي، فيما يُزجّ بالفقراء والمهّمشين في قلب الانهيار ويدفعون الأثمان الكبرى التي تصل إلى حدّ الموت إما بسبب الحرارة أو بسبب الجوع. 

قبل نحو عامين على سبيل المثال، خلُصت إحدى الدراسات عن الأثر الكربوني الذي يتركه الأغنياء إلى أن مليارديراً واحداً يُنتج أكثر من 8,000 طن من ثاني أكسيد الكربون في العام الواحد بسبب نمط حياته الذي يعتمد على استخدام اليخوت والطائرات الخاصّة. 

هذا الواقع يعكس صورة أكبر، حيث الدول الغنية هي المسؤولة تاريخياً عن الأزمة المناخية. تشير دراسة حديثة صدرت عن منظّمة «أوكسفام» بعنوان «المساواة المناخية: كوكب للـ99%» إلى أن أقوى استراتيجيات التخفيف من مخاطر الفوضى المناخية يتمثّل بتقليل ثروات أغنى الأغنياء بهدف الحدّ من انبعاثاتهم المُفرطة والخطيرة. وعليه، تظهر المساواة شرطاً جذرياً لوقف الانهيار الذي يهدّد كوكب الأرض.

الحياة الفاخرة كثيفة بالكربون

يختٌ واحد قادرٌ على إنتاج نحو 7,000 طن من ثاني أكسيد الكربون سنوياً. معلومةٌ تستند إليها الدراسة المذكورة لشرح ميل فاحشي الثراء إلى «حرق الكربون بشكل مُفرط سواء كان ذلك عبر طائراتهم الخاصة أو قصورهم أو سفنهم إلى الفضاء».

المساواة المناخية

ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل إن إفراط تلك الفئة في استهلاك السلع والأنشطة الفاخرة التي تغذّي انبعاثات الكربون يجعلها مرغوبة على نطاق أوسع من السكان، «ويؤدّي هذا دوراً مهماً في دفع الاستهلاك الزائد لدى الأغنياء، مما يعرّض مستقبل الناس والكوكب لخطر أكبر». 

إلى نمط الحياة الخاص بالأغنياء، تُعدّ استثماراتهم عاملاً إضافياً يفاقم من الوضع؛ ففي تحليل أجرته «أوكسفام» في العام 2022 على 125 مليارديراً، يتبيّن أن هؤلاء يُطلقون كمعدّل وسطي نحو 3 ملايين طن من ثاني أكسيد الكربون سنوياً من خلال استثماراتهم.

كذلك، تقول أرقام منظّمة «غرينبيس» إن الطائرات الخاصة الأوروبية أنتجت بين عامي 2020 و2023 نحو 5.3 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون.

وهكذا، يتبيّن أن الأثرياء الذين يُشكّلون أقل من 1% من سكّان الكوكب يؤثّرون بشكل أساسي في التغيّر المناخي عبر ثلاثة طرق، أولها الكربون الذي ينبعث جرّاء أنماط حياتهم اليومية الفخمة، ومن ثم استثماراتهم في الصناعات شديدة التلوّث ومصالحهم المالية الراسخة في الوضع الاقتصادي الراهن، وأخيراً من خلال التأثير غير المبرّر الذي يمارسونه على وسائل الإعلام والاقتصاد والسياسة.

الفصل العنصري المناخي

في الوقت الذي يجهد فيه الأثرياء في البحث والتعمّق في المخاطر المُحتملة من الانهيار المناخي بغية حماية أنفسهم (سبق أن أعلن رجل الأعمال إيلون ماسك عن خيار الذهاب إلى المريخ وإخلاء الأرض)، لا يملك غالبية الفقراء ترف الاطلاع على مستجدات المناخ، ولا المدّخرات التي تمكّنهم من الحصول على الرعاية الاجتماعية في حالات تعرّضهم للكوارث على الرغم من أن ملامح الانهيار المناخية يطالهم بالدرجة الأولى.

المساواة المناخية

ففي ظلّ تزايد تطرّف الظواهر الجوية، بات الانخفاض المزمن في إنتاجية المحاصيل أو ندرة المياه أمراً واقعاً أدّى إلى الارتفاع المتزايد في أسعار الغذاء والمأوى. تقول التقديرات إن هناك نحو 783 مليون شخص في العالم «غير متأكّدين من مصدر وجبتهم التالية»، في الوقت الذي تمكّن فيه مليارديرات الأغذية والزراعة من زيادة ثرواتهم الجماعية بنسبة 45% في الفترة الممتدّة بين عامي 2020 و2021.

إلى ذلك، ومع ارتفاع درجات الحرارة، فإنه من المتوقع أن تزيد الوفيات الناجمة عن الحرارة بشكل كبير في البلدان المنخفضة الدخل، في حين يملك الأغنياء الوسائل التي تمكّنهم من حماية أنفسهم من المستويات المميتة للحرارة.

من هنا يخلص معدّو الدراسة إلى أن «أغنى البلدان وأغنى الناس هم الأكثر عزلة عن الكارثة المناخية التي تسبّبوا فيها». والمفارقة أن هؤلاء الأثرياء يقودون أزمة المناخ في حين أن الأشخاص الذين يعيشون في فقر والفئات المهمّشة ودول الجنوب العالمي والدول الجزرية الصغيرة وغيرها من البلدان الضعيفة بشكل خاص هم الأكثر تضرّراً من تأثير تغيّر المناخ. هذه العملية الوحشية توصف بأنها «الفصل العنصري المناخي». 

من هنا، يتبيّن أن العمل على تحقيق المساواة من شأنه أن يساعد على وقف انهيار المناخ. ووفق البنك الدولي، إذا تم تقليص فجوة التفاوت، فإن كمّية انبعاثات الكربون اللازمة للقضاء على الفقر المدقع سوف تبلغ ثلث ما هي عليه في ظل المستويات الحالية من عدم المساواة. وتقدّر منظمة «أوكسفام» إن إعادة التوزيع العالمي للدخل من الممكن أن يرفع مستوى دخل الجميع إلى مستوى 25 دولاراً في اليوم أو أكثر مع خفض الانبعاثات العالمية بنسبة 10%، وهذا ما يعادل تقريباً إجمالي الانبعاثات في الاتحاد الأوروبي، مع تحديد متوسط الدخل السنوي لأغنى 10% في العالم بنحو 47 ألف دولار. 

فيما أعلن رجل الأعمال إيلون ماسك عن خيار الذهاب إلى المريخ وإخلاء الأرض، لا يملك غالبية الفقراء ترف الاطلاع على مستجدات المناخ ولا المدّخرات للحصول على الرعاية الاجتماعية في حالات تعرّضهم للكوارث

وعلى العكس من ذلك، إذا ظلت المستويات الحالية من عدم المساواة من دون تغيير، فإن رفع مستوى دخل كل فرد في العالم إلى الحد الأدنى، وهو 25 دولاراً في اليوم، سوف يتطلّب زيادة جميع الدخول، بما في ذلك دخول الأشخاص الأكثر ثراءً، بمقدار 50 مرّة، الأمر الذي من شأنه أن يدمّر الكوكب.

تغيير النظام الاستعماري

يواجه العالم حالياً أزمتين مزدوجتين تتمثّلان في انهيار المناخ وعدم المساواة. هاتان الأزمتان «التوأم» على حد تعبير دراسة «أوكسفام» لا تخلقان تحدّيات منفصلة بل إنهما متداخلتان لدرجة أن كل منهما تدفع الأخرى قدماً.

من هنا، كانت الدعوة الى اتباع نهج جديد جذري «إذا أردنا أن نحظى بأي فرصة للتغلّب على الكارثة التي تتكشّف أمامنا: كوكب يتسع لـ 99% من السكّان، حيث نعالج عدم المساواة الشديدة وانهيار المناخ معاً».

بحسب الأرقام، فإنّ فرض ضريبة بنسبة 60% على دخل الأثرياء الذين يشكّلون 1% من أصحاب الدخل على مستوى العالم، من شأنه أن يخفّض مستوى الكربون بنحو 700 مليون طن، أي أكثر من إجمالي الانبعاثات في المملكة المتحدة. كما أن من شأنه أن يجمع 6.4 تريليون دولار لتمويل الطاقة المتجدّدة والانتقال بعيداً من الوقود الأحفوري.

وعليه، فإن العالم يحتاج إلى «تحوّلٍ متساوٍ». لكن كيف ذلك؟

تركّز الدراسة على أن مسار التحوّل يتم عبر ثلاثة مستويات، أولها ما سمّته «التخفيض الجذري لعدم المساواة»، ومن ثم العمل المناخي التحويلي أي التخلّص من الوقود الأحفوري، وأخيراً التحوّل الجذري لأهدافنا الاقتصادية كمجتمع «الذي هو وحده القادر على إنقاذ كوكبنا مع ضمان الرفاهية للجميع».

بمعنى آخر، تربط الدراسة بين هذه المسارات كخلاص ممكن لإنقاذ الكوكب عبر تحقيق المساواة والتخلّص من النظام الاقتصادي الذي «له جذور في الاستعمار ولا يزال يعتمد على أنظمة التجارة الاستعمارية الجديدة التي تستخرج القيمة والثروة من العمّال في الجنوب العالمي لتوفير المزيد من الثروة للمساهمين الأثرياء في الشمال العالمي». 

يواجه العالم حالياً أزمتين مزدوجتين تتمثّلان في انهيار المناخ وعدم المساواة. هاتان الأزمتان «التوأم» لا تخلقان تحدّيات منفصلة بل إنهما متداخلتان لدرجة أن كل منهما تدفع الأخرى قدماً

ووفق التقديرات، فإنه غالباً ما يكون الماضي الاستعماري مسؤولاً عن 90% من الانبعاثات الزائدة، ودول الشمال العالمي على وجه التحديد مسؤولة عن 92% من تلك الانبعاثات. 

في المقابل، يبدو أن أصحاب الثروات، دُولاً وأفراد، لا يزالون حتى اليوم يرفضون تحمّل كامل مسؤوليّاتهم في سداد ديونهم المناخية أو حتى عاجزة عن الوفاء بالتزاماتها الحالية بتمويل المناخ. كما أنهم يواصلون مقاومة الدعوات المطالبة بتعويضات عن الأضرار الماضية والمستمرّة التي سبّبها الاستعمار والتوسّع الاستعماري، وكلاهما يرتبط في كثير من الأحيان بتأثيرات المناخ.

ففي العام 2009 على سبيل المثال، وفي مؤتمر الأطراف الخامس عشر في كوبنهاغن، التزمت البلدان المتقدّمة بزيادة التمويل لدعم العمل المناخي في البلدان النامية إلى 100 مليار دولار سنوياً بحلول العام 2020. وحتى الآن، فشلت هذه الدول فشلاً ذريعاً في الوفاء بهذا الوعد، حيث وصل دعمها إلى حدود الـ83.3 مليار دولار فقط في العام 2020.


المجتمعات الأكثر مساواة تعاني بشكل أقل

وفق دراسة «أوكسفام»، تظهر الأدلة أن المجتمعات الأكثر مساواة هي أكثر قدرة على إدارة المخاطر بشكل جماعي، وبالتالي التأثير يكون أقل بكثير مقارنة مع البلدان التي تعاني من عدم المساواة، سواء من خلال توزيعها بشكل أكثر عدالة أو عن طريق خفض المستوى العام أو لجهة قدرتها على التعامل مع صدمات الطقس المتطرف. على سبيل المثال، وجدت دراسة شملت 573 كارثة فيضانات كبرى في 67 دولة متوسطة ومرتفعة الدخل أن عدد القتلى بسبب الفيضانات أعلى سبع مرّات في البلدان الأكثر تفاوتاً مقارنة بالبلدان الأكثر مساواة.

الهيمنة على السياسات

يُظهر تحليل منظمة «أوكسفام» أن جميع أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي، الذين يصدّقون على معاهدات المناخ العالمية نيابة عن الولايات المتّحدة، يحصلون على راتب يضعهم بين أعلى 1% من الجهات المصدّرة لانبعاثات الكربون على مستوى العالم. ويندرج المفوضون الأوروبيون ضمن هذه الفئة أيضاً. وبالإضافة إلى دخولهم المرتفعة، فإن العديد من المشرّعين الأثرياء لديهم أيضاً استثمارات كبيرة في صناعة الوقود الأحفوري. وتشير التقديرات إلى أن أعضاء الكونغرس الأميركي يحصلون على 93 مليون دولار سنوياً من أسهمهم في صناعات الوقود الأحفوري.