الإسبريسو الصيني: نزاع عرقي في إيطاليا المعاصرة
- مراجعة لكتاب غراتسيا تينغ دينغ، «الإسبريسو الصيني: النزاع العرقي ومساحة الود في إيطاليا المعاصرة»، الذي يرصد صعود اقتصاديات الشتات الصيني في قلب الثقافة الإيطالية بعد أزمة 2008، حيث باتوا يمتلكون نسبة متزايدة من المقاهي. من خلال بحث ميداني امتدّ لأكثر من 14 شهراً، تكشف دينغ كيف أصبح «الإسبريسو الصيني» مرآة للتوتر بين الاعتزاز الإيطالي بالهوية الثقافية والخوف من فقدان رموزها، وبين واقعٍ يومي من التعايش «الودّي المصطنع» في المقاهي التي تجمع الإيطاليين والمهاجرين في علاقات قوة غير متكافئة.
في مطلع القرن الحالي، شدّت الطالبة الصينية، غراتسيا تينغ دينغ، الرحال إلى إيطاليا، لمتابعة دروس الماجستير في اللغويات الاجتماعية التاريخية في جامعة ترينتو. حتى ذلك الوقت كان الوجود الصيني المرئي في إيطاليا نادراً. بضعُ مطاعم صغيرة وكثير من العمّال مختبئين في ورشات صغيرة حيث كانوا يعملون ويعيشون. وعندما عادت سائحة في العام 2012 ذُهلت أمام عدد المقاهي التي استحوذ عليها صينيون. قادها ذلك الذهول إلى دراسة هذا التحوّل السريع واللافت وجعلت منه موضعاً لأطروحة الدكتوراه. ما عاينته دينغ في إيطاليا ليس استثناءً أوروبياً، فلو قُمت بجولة قصيرة في شوارع باريس مثلاً لوجدت أن غالبية مقاهي التبّغ الصغيرة يملكها صينيون، إذ تدار حوالي 40% من مقاهي التبغ في منطقة الحوض الباريسي من قبل مهاجرين من أصل آسيوي.
لكن الفارق بين إيطاليا وأي بلدٍ أوروبي آخر هو المركزية التي تحظى بها القهوة، ولاسيما الإسبريسو، في الثقافة المحلية، بوصفها جزءاً مما يحكيه الإيطاليون عن أنفسهم وهويتهم، شأنها شأن البيتزا. فالمقاهي جزء أساسي من النسيج الحضري لإيطاليا المعاصرة، وفضلاً عن كونها أماكن لاستهلاك القهوة، تعمل أيضاً كمساحات هجينة، فهي حانات ومتاجر صغيرة لبيع التبغّ وغالباً مساحات لألعاب الترفيه. لذلك تنتشر بشكل واسعٍ في المدن، وحتى في البلدات الصغيرة والنائية، حيث يصل عددها إلى حوالي 150 ألف، أي ما يعادل مقهى لكل 400 ساكن. وهذه المركزية الثقافية للمشروب من جهة، وتسرب ملكية المقاهي إلى أيدي «الغرباء» من جهة ثانية، هو ما يعطي رسالة غراتسيا تينغ دينغ، التي صدرت في كتاب عن جامعة برينستون بعنوان «الإسبريسو الصيني: النزاع العرقي ومساحة الود في إيطاليا المعاصرة». فرادةً غير مسبوقة منهجاً وموضوعاً.
يستكشف الكتاب من خلال منهج المعايشة، الشروط والآليات والآثار المترتبة على الانتشار السريع للمقاهي التي يديرها صينيون في شمال ووسط إيطاليا منذ الأزمة الاقتصادية في العام 2008، وكيف يكشف هذا التطوّر الاقتصادي عن جدلية العرق والتعايش في المجتمعات الغربية. لكن نقطة قوة الكتاب هو العمل الميداني المكثف الذي قامت به الباحثة، لأكثر من 14 شهراً وتضمن زيارة أكثر من 100 مقهى، بل وكذلك العمل كنادلة في مقهى تملكه عائلة صينية لتدوّن عن قربٍ ملاحظاتها. وقد اعتمدت بالأساس على مدينة بولونيا كحقل إثنوغرافي. فهي سابع مدينة إيطالية من حيث الكثافة السكانية وتعتبر مدينة مهاجرين، حيث أن ثلثي سكانها المسجّلين حتى العام 2011 كان لديهم خلفية مهاجرة. فضلاً عن كونها ذات تاريخ يساري قوي. وتعتبر من أكثر المدن التي يمتلك فيها الأجانب المقاهي، إذ وصلت إلى أكثر من 16% في العام 2011، وكان نصفها مملوك للصينيين في العام 2014. وعلى الرغم من سمعة بولونيا اليسارية، لم يحمِ هذا التقليد الوافدين الجدد من آثار الهلّع الثقافي.
اقتصاديات الشتات الصيني
بدأ الانتشار السريع للملكية الأجنبية للمقاهي في إيطاليا، وتحديداً الصينية، بالتزامن مع بداية الركود الاقتصادي الكبير في العام 2008. تكشف التقارير السنوية لاتحاد الإيطالي للمؤسسات العامة عن توسع في الملكية الأجنبية للمقاهي بشكل سريع في شمال ووسط البلاد عقب الركود. في العام 2008، كان هناك حوالي 5,000 مقهى، أي ما يعادل 6.6% من إجمالي عدد المقاهي في البلاد، مملوكاً لأشخاص لم يولدوا في البلاد. بعد 10 سنوات، ارتفعت النسبة إلى حوالي 10%. ومن بين المقاهي المصنفة كشركة فردية، وهو الشكل القانوني الذي يتمتع بأعلى مستوى من الملكية الأجنبية، سجلت بعض المناطق الشمالية أرقاماً تصل إلى 20%. وفي خلال الفترة نفسها، زاد عدد العمال الأجانب أيضاً بشكل كبير، وبحلول العام 2018، كان ما يقرب من ربع العاملين في قطاع المقاهي مولودين خارج إيطاليا. وفي ميلانو، وإلى حدود العام 2019، من بين 4,891 شركة مسجلة كمقهى/حانة، لدى غرفة التجارة بالمدينة، كان 562 منها مملوكة للصينيين، بزيادة قدرها 27 % منذ العام 2011.
لم يكن الصينيون هم المالكون الأجانب الوحيدون للمقاهي الإيطالية، حيث توجد الكثير من المقاهي التي يديرها روس ورومانيون ومغاربة. لكن الإدارة الصينية كانت ولا تزال الأكثر انتشاراً ووضوحاً بسبب الاختلافات الظاهرية الواضحة لعمال المقاهي الصينيين وحصتهم الكبيرة في السوق. وخلق هذا الانتشار السريع للمقاهي الصينية حالة من «القلق الوطني»، ظهرت في وسائل الإعلام والصحف، بجناحيها اليساري واليميني، من خلال عشرات المقالات والتحقيقات عن الوجود الصيني المتزايد وعلاقته بالاستثمار عبر الوطني الصيني الأوسع نطاقاً، وسط حالة من الركود الاقتصادي في إيطاليا. وبرزت أصوات تعبر عن مخاوفها من «غزو» رأس المال الصيني، والقلق من أن يصبح الصينيون أصحاب عمل للعمّال الإيطاليين.
يُصنف الصينيون بشكل عام على أنهم لطفاء وودودون ومجتهدون، إلا أن الإيطاليين يعتقدون أن نجاحهم الاقتصادي تحقق من خلال حيل غير عادلة
وربما كان هذا القلق مدفوعاً أحياناً بنزعات عنصرية. لكنه يلمس شئياً أساسياً وهو تصاعد قوة اقتصاديات الشتات الصيني في العالم الغربي بعد أزمة 2008. فقد استغل المهاجرون ورجال الأعمال الصينيون في أوروبا، سياق ما بعد الأزمة لاكتساب مواقعاً في السوق، وفي جميع القطاعات. وأصبحوا فاعلين اقتصاديين مرئيين. وفقاً لأرقام دليل الهجرة الصينية إلى أوروبا لعام 2024، فإن عدد المقيمين الصينيين في أوروبا يتراوح بين 1.27 و1.4 مليون نسمة تقريباً. وتُعتبر إيطاليا من بين الدول التي تضم أكبر جالية صينية في أوروبا، حيث يتجاوز عدد المسجلين رسمياً فيها 300 ألف، ويعيش فيها عدد أكبر بكثير بشكل غير نظامي. وينحدر حوالي 90% منهم من مقاطعة تشجيانغ. ومن بين العمال الأجانب، يبلغ معدل توظيف العمال الصينيين حوالي 67.8%، بالمقارنة مع 56.3% بين جميع الأجانب. ويدير المغتربون الصينيون عدداً كبيراً من الشركات الفردية. وإلى حدود العام 2017، كان هناك حوالي 50,737 شركة يقودها صينيون، أي بمعدل 1 لكل 6 مقيمين صينيين. ويمثل أصحاب الأعمال الصينيون أكثر من 10% من إجمالي رواد الأعمال في إيطاليا. كما تساهم الجالية الصينية بشكل كبير في الإيرادات العامة الإيطالية، كالضرائب ومساهمات الضمان الاجتماعي بقيمة تناهز 250 مليار يورو. في المقابل تراجعت قيمة التحويلات المالية المرسلة نحو الصين بنحو 71.4% على مدى السنوات الخمس الماضية، ما يشير إلى تحول نحو الاستثمار المحلي في إيطاليا.
قبل العام 2008 أنشأ الكثير من المهاجرين الصينيين الوافدين إلى إيطاليا شركات في مجال النسيج والملابس، تعمل كورشات صغيرة ومتوسطة وفقاً للتعاقد من الباطن مع شركات إيطالية كبيرة. وكانت ميزتها التنافسية تكمن في انخفاض التكاليف العامة من خلال نماذج العمل العائلية، وسرعة إنجاز الأعمال، وشبكات التجارة ثنائية اللغة التي تربط أوروبا وآسيا، والتنسيق الدقيق لسلسلة التوريد في المناطق الصناعية المحلية. لكن الأزمة المالية أنهت هذا النموذج. ومع انخفاض الطلب على الصناعات التحويلية، تحوّل بعض رواد الأعمال الصينيين المهاجرين نحو مصادر دخل أكثر استقراراً ومرونة، وكان أهمها قطاع المقاهي والمطاعم، التي بات عددها يزيد عن 3,570 مطعماً في عموم البلاد. وبسبب نموذج عملٍ يقوم على أسعارٍ مخفضة، والعمل لساعات طويلة واستغلال العمالة العائلية المرنة أو غير مدفوعة الأجر، نجحوا في التوسعّ. وربما يشكل هذا التجذّر في قطاع المقاهي، بداية زحف صيني نحو قطاعات القهوة الأخرى ولاسيما التحميص والقهوة العضوية وآلات القهوة والكبسولات. وعلى مدى العقد الماضي، شهدت صادرات القهوة المحمصة الإيطالية نمواً قوياً، وصلت قيمتها في العام 2023 إلى حوالي 2.6 مليار دولار. في بلدٍ يبلغ فيه استهلاك الفرد حوالي 5.51 كلغ من القهوة سنوياً. وتبلغ فيه قيمة سوق القهوة 5.61 مليار دولار. ومن المتوقع أن تنمو إلى حوالي 7.44 مليار دولار بحلول العام 2030. وهذا يعني معدل نمو سنوي مركب يبلغ حوالي 5.81%.
الهلّع الثقافي
خلق هذا الثقل الصيني في قطاع القهوة مفارقةً بين الإعجاب بالصين كقوة اقتصادية صاعدة في مقابل الهلّع من فقدان رأس مال ثقافي يدّر ريعاً كبيراً في قطاعات السياحة والضيافة والتأثير الثقافي العالمي. وصار الامتناع عن بيع المقاهي للصينيين نوعاً من «السلوك الوطني». في المقابل تصف مقالة في جريدة محلية رجلاً إيطالياً باع مقهاه لعائلة صينية بأنه «خائن». وهنا تظهر تحولات الملكية كبناء اجتماعي وخطابي يتجاوز وظيفة الملكية الاقتصادية. ومن ذرائع هذا الهلع الثقافي سردية التشكيك في قدرة الصيني على صنع القهوة الإيطالية كما يصنعها الإيطالي. لكن خطاب الأصالة هذا يتعارض مع الواقع المعاش، حيث ينجح صانعو القهوة الصينيون في التفاعلات مع زبائنهم المحليين، ويبدو أن المستهلكين الإيطاليين يتعودون على القهوة التي يعدها الصينيون، على الرغم من تنهداتهم عن «الغزو».
منذ منتصف السبعينات، استقبلت إيطاليا ملايين العمال المهاجرين، وخصوصاً في المناطق الصناعية الشمالية. وقد حلت هذه المجموعات الجديدة محل سكان الجنوب الإيطالي، الذين كانوا يُعاملون سابقاً كمهاجرين داخليين. وتجلّى هذا التحول في طبيعة القوى العاملة، في تصاعد الخطاب القومي المناهض للمهاجرين، والذي يفترض أن الوافدين الجدد لديهم ميل طبيعي نحو الإجرام، ويتم تصويرهم كمنظمات تشبه المافيا. إلى ذلك، يُصنف الصينيون بشكل عام على أنهم لطفاء وودودون ومجتهدون، إلا أن الإيطاليين يعتقدون أن نجاحهم الاقتصادي تحقق من خلال حيل غير عادلة، وغالباً ما تُتهم شركاتهم بغسيل الأموال والتهرب الضريبي والعمالة غير المصرح بها. لكن هذا الخطاب العام تجاه المهاجرين، ظل دائماً بعيداً من إمكانيات تهديد الهوية الإيطالية. غير أن التسرب إلى عوالم القهوة، جعله يتحول إلى هلع، يتجاوز المكون القومي اليميني إلى بقية أطياف المجتمع. وذلك بسبب الثقل النفسي والتاريخي لمسألة «القوة الثقافية الإيطالية»، التي ترتبط بالماضي الروماني وعصر النهضة والطعام واللباس، وتساهم في ترسيخ نظام التمييز القائم على رأس المال الاجتماعي والثقافي للعائلة الإيطالية البيضاء.
يصف الكتاب التعايش اليومي بين واقع هيمنة الصينيين على المقاهي وتقبل المستهلك الإيطالي لذلك، وبين الهلع الواعي واللاوعي من هذه الهيمنة بــ «الوّد الملفّق». فالمقاهي تعد منطقة اتصال، حيث تتلاقى المجموعات السكانية - الإيطاليون والمهاجرون - وتتفاعل في سياق علاقات قوة غير متكافئة للغاية، وهو ما يدفعّ المهاجرين إلى تصنّع الوّد. في سبيل الحفاظ على الألفة الاجتماعية للمقاهي، على الرغم من التوترات العرقية والإثنية السائدة في النقاشات العامة ووسائل الإعلام. وهو ما يكشف عن مفارقة التناقض بين التعايش الظاهري متعدد الأعراق الذي يسود في الحياة اليومية، والعداء المنتشر ضد المهاجرين في المجتمع الأوروبي الأوسع. لكن مفارقة الإسبريسو الصيني تتجاوز السرد الأوروبي المتمحور حول استقبال المهاجرين. فهي تكشف عن أن المهاجرين الصينيين، الذين يُعتبرون غرباء ثقافيين، يتولون أدواراً أساسية في إنتاج الذوق وصنع المكان، وإعادة تشكيل المدينة الأوروبية، بوصف المقهى أحد أكثر أماكنها مركزية.