5 مؤشِّرات على الفجوة السحيقة في استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي
الفجوة البنيوية في الوصول إلى الذكاء الاصطناعي واستخدامه تشبه الفجوة الرقمية القائمة أصلاً على أساس التفاوتات في توزيع الدخل بين البلدان والأفراد، لكنها أعمق بكثير. هذا ما أظهرته دراسة جديدة صادرة عن البنك الدولي، حلّلت إمكانات الوصول إلى الذكاء الاصطناعي واستخدامه، وتتبّعت مليارات الزيارات إلى 60 أداة من أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي، الأكثر استخداماً حتى منتصف العام 2025، وبيّنت التفاوتات الحادّة في استخدام هذه الأدوات بين من يستحوذون على القوّة والثروة ومن يخضعون لهم. فأكثرية الناس ما زالوا محرومين منها، وتبعاً لنتائج هذه الدراسة فإن مستوى دخلهم والمكان الذي يعيشون فيه واللغة التي يفهمونها هي من العناصر الأساسية لاستبعادهم.
كانت الفجوة الرقمية التقليدية تدور في جوهرها حول «الأسلاك والأجهزة»، أي مَن يمكنه الاتصال بالإنترنت وبأي سرعة. أمّا فجوة الذكاء الاصطناعي التوليدي فتضيف طبقات جديدة: ملكية النماذج والقدرة الحاسوبية، كلفة الوصول المستمر، والقدرة المؤسسية والمهارة على إدماج الذكاء الاصطناعي في العمل والتعليم اليومي. وهي أيضاً فجوة لغوية وثقافية، إذ تؤدّي الأدوات أداءً أفضل في اللغات والسياقات التي صُمّمت لأجلها، ما يخلق تأثيرات سوق محلية قويّة. تتفاعل هذه العوامل لتنتج تفوّقاً تراكمياً: البلدان الغنيّة تتبنّى وتهيمن أوّلاً، وتدرّب أكثر، وتوطّن أسرع، فتُركّز الفوائد لديها، بينما يتراجع الآخرون أكثر فأكثر. ليست المسألة عدم مساواة في الوصول إلى الإنترنت فحسب، بل ترسيخ مُبكِر لانعدام المساواة في اقتصادات الذكاء الاصطناعي المستقبليّة.
فيما يلي 5 خلاصات مستقاة من دراسة البنك الدولي تبيّن العلاقة بين مستوى الدخل الوطني وكثافة الاستخدام، وتُظهر كيف يتركّز المستخدمون وحركة المرور في الاقتصادات الغنيّة، وكيف تعيد العوامل البنيويّة، مثل جودة الإنترنت والتوافق اللغوي، رسم خريطة انتشار هذه التكنولوجيا.
أولاً، كلما ارتفع الدخل ازداد استخدام الذكاء الاصطناعي
استحوذ ChatGPT وحده على 77% من حركة المرور عبر الأدوات الـ60 الأكثر استخداماً في نيسان/أبريل 2025، وسجّل نمواً بنسبة 113% على أساس سنوي. وبالتالي تعكس البيانات التي يوفرها قاعدة تمثيلية واسعة، وهي تبيّن أن استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي يرتفع بحدّة مع ارتفاع الدخل القومي. فقد استخدم ChatGPT نحو 24% من مستخدمي الإنترنت في الدول ذات الدخل المرتفع، في مقابل 5.8% في الدول ذات الدخل المتوسّط الأعلى، و4.7% في الدول ذات الدخل المتوسّط الأدنى، و0.7% فقط في الدول ذات الدخل المنخفض.
ثانياً، الفجوة تتسع مع مرور الوقت بدلاً من تضييقها
ارتفعت حصة الدول الغنيّة من حركة المرور العالمية لمستخدمي الذكاء الاصطناعي من 55% إلى نحو 60% في خلال عام واحد، في حين تراجعت حصة الدول المتوسّطة الدخل، وبقيت حصة الدول الفقيرة هامشية.
هذا التفاوت بنيوي. تُظهر النماذج الإحصائية العابرة للدول أنّ نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي مؤشّر قوي لحركة المرور ولنمو المستخدمين، حتى بعد احتساب مستوى انتشار الإنترنت وجودة شبكات الاتصالات. بمعنى آخر، الدول الأعلى دخلاً تُضيف مستخدمين بوتيرة أسرع وتُكثّف الاستخدام بسرعة أكبر، ما يوسّع الفجوة في عدد الزيارات لكل مستخدم مع مرور الوقت بدلاً من تضييقها. فحيثما ترتفع الدخول يتبنّى الناس الذكاء الاصطناعي التوليدي بأعداد أكبر وبوتيرة أسرع، فتتراكم مزايا مبكرة مع ترسّخ التكنولوجيا في العمل والتعليم.
ثالثاً، كلما اتّسعت قاعدة الاتصال بالإنترنت ازداد استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي
يتوقّف استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي على الإنترنت المستقر والسريع وذات الكلفة المنخفضة. فعندما تكون الشبكات موثوقة وواسعة الانتشار يتّسع الاستخدام، وعندما تكون ضعيفة أو بطيئة يتعثّر. تُظهر دراسة البنك الدولي سلّماً طبقياً بحسب الدخل في عدد الزيارات لكل مستخدم إنترنت، حيث تتجاوز الدول الغنيّة المعدّل العالمي، بينما تبقى الدول الفقيرة دونه بكثير. وتجسّد الاقتصادات الصغيرة المتقدّمة ما يمكن للبنية التحتيّة القويّة أن تحقّقه: تسجّل سنغافورة ولوكسمبورغ وليتوانيا والدنمارك والنرويج وهولندا بعضاً من أعلى المعدلات في العالم، غالباً بأكثر من 4 زيارات شهرياً لكل مستخدم.
تعتمد المنهجيّة على الاستخدام الفعلي للإنترنت عبر الحواسيب والهواتف المحمولة، ما يعني أنّ الدول التي تفتقر إلى إنترنت موثوق أو تغطية واسعة تميل إلى أن تكون ممثَّلة تمثيلاً ناقصاً في البيانات، وهو ما يعكس ضعف المشاركة الحقيقي. تُظهر التحليلات أنّ نسبة السكان المتصلين بالإنترنت مؤشّر إيجابي قوي على نمو المستخدمين وحركة المرور، إلى جانب الناتج المحلي الإجمالي للفرد. فكلما اتّسعت قاعدة الاتصال تسارع نمو الذكاء الاصطناعي التوليدي.
رابعاً، الاستخدام في البلدان المتوسطة والفقيرة محصور في مجموعة صغيرة من المستخدمين المهرة
تتقدّم الدول الغنيّة بسبب تقاطع 3 عوامل فيها: القدرة على الدفع، إدماج التكنولوجيا عبر المؤسسات، وتوافر المهارات. فالاشتراكات وخطط البيانات السريعة والأجهزة القوية أسهل منالاً عندما تكون الدخول مرتفعة، ما يجعل الاستخدام أوسع وأكثر استدامة. كما تعمّق الاستخدام بوضوح، إذ ارتفعت الزيارات لكل مستخدم في الدول الغنية بنسبة 50% وتضاعفت متوسّطات مدّة الجلسات، في دلالة على وصولٍ مدفوع ومنظّم. ثم تأتي المؤسسات التعليمية وأصحاب العمل لدمج الذكاء الاصطناعي في المهام اليومية، فيتجاوز الاستخدام نطاق الأفراد المتحمّسين ليشمل الصفوف الدراسية وأماكن العمل. يحوّل الإلمام الرقمي ومعرفة الذكاء الاصطناعي على نطاق واسع الفضول إلى عادة، لأنّ المستخدمين يعرفون كيف يطرحون الأسئلة المناسبة، ويقيّمون الإجابات، ويستخدمون أدوات الذكاء الاصطناعي في سياقات حقيقية.
أمّا في البلاد الفقيرة، فيبقى الاستخدام محصوراً في مجموعة صغيرة من المستخدمين المهرة، بينما تعيق الكلفة وضعف الإدماج المؤسسي والتدريب انتشار الاستخدام على نطاق أوسع. لذا تكمن الفجوة الكبرى اليوم في كيفية استخدام الأدوات ليس فقط في أعداد مَن يستخدمها.
يتوسّع الذكاء الاصطناعي التوليدي بأسرع وتيرة في الاقتصادات المبنيّة على الخدمات والمعرفة والمؤسسات الرسمية، ما يعني أنّ فوائده تتركّز هناك، بينما تُستبعَد الاقتصادات الأقل تنظيماً. استحوذت الدول الغنيّة على حصة متزايدة من حركة المرور العالمية نحو أدوات الذكاء الاصطناعي الستين الأولى، فيما تراجعت حصة الدول المتوسّطة الدخل، في إشارة إلى اندماجٍ أسرع حيث تستطيع المؤسسات والقوى العاملة الماهرة استيعاب التكنولوجيا. هذه المسألة حاسمة لأنّ الذكاء الاصطناعي التوليدي بات محوراً للمشاركة الاقتصادية: الشركات توسّع التدريب والإدماج في العمل، ويحذّر الباحثون من أنّ الدول المتأخرة في التبنّي ستُقصى من مكاسب الإنتاجية والابتكار المتوقعة. كما تقع أوسع الفجوات في مَن يستخدم الذكاء الاصطناعي أصلاً، ما يعني أنّ ردم الهوّة يتطلّب توسيع قاعدة المشاركين، لا مجرّد زيادة الاستخدام بين المستخدمين الحاليين. فيما تُدمِج الاقتصادات الغنيّة الذكاء الاصطناعي التوليدي في أماكن العمل والمدارس، فهي تُراكم تفوّقها المبكر، في حين يهدّد بطء الانتشار في الأسواق غير الرسمية أو الأقل اتصالاً بحرمان مناطق بأكملها من جولة التطوّر الإنتاجي المقبلة.
خامساً، احتكار إنتاج النماذج واللغة والثقافة كمحددات لاستخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي
ينحصر إنتاج الذكاء الاصطناعي في عدد محدود من الاقتصادات الغنيّة، ويلتقي هذا الاحتكار مع اللغة والثقافة ليحدّد مَن يتبنّى التكنولوجيا ومَن يستفيد منها. فعلى سبيل المثال، يجذب روبوت المحادثة الفرنسي Le Chat نحو 69% من مستخدميه من أوروبا، في حين تهيمن المنصّات الصينية مثل DeepSeek وDoubao وYuanbao على سوقها المحلية بنسبة تفوق 90% من الاستخدام، وهو ما يعكس التوافق اللغوي والسيادة الرقمية. وتعمّم دراسة البنك الدولي هذا النمط باعتباره دليلاً على أنّ القرب اللغوي والإقليمي يعيدان تفتيت التكنولوجيا «العالمية» إلى منظومات إقليمية منفصلة. بالمقابل، يبقى ChatGPT الاستثناء الأميركي الأبرز بفضل انتشاره العالمي وتعدديته اللغوية، محتفظاً بـ 77% من إجمالي حركة المرور نحو الأدوات الستين الأكثر استخداما في نيسان/أبريل 2025. لهذا السبب تصف الدراسة فجوة الذكاء الاصطناعي التوليدي بأنّها امتدادٌ للفجوة الرقمية، ليست كمسألة عرض نطاق فحسب، بل أيضاً كمسألة تتعلق بملكية النماذج والقدرة الحاسوبية، واللغات والثقافات التي تخدمها.