Preview ديفيد غرايبر في خلال أحد نشاطات حركة "احتلوا وول ستريت"

ضدّ الاقتصاد

ينمو شعور بين المتحكّمين في إدارة الاقتصادات الكبيرة بأنّ علم الاقتصاد بات غير نافع. وبات الآن كعلمٍ مُكرّس للإجابة عن أسئلة لم تعد موجودة.

تتجلّى هذه المسألة بوضوح في معضلة التضخّم. لا يزال الاقتصاديون يعلِّمون الطلّاب أن الدور الاقتصادي الأساسي للحكومة، أو الدور الأوحد كما يصرّ العديد منهم، يتمثّل في ضمان استقرار الأسعار. لا بدّ لنا من الانتباه للأخطار المُترتبة على التضخّم، فمن الخطأ المحض اكتفاء الحكومات بطباعة النقود. ومع ذلك، فإذا أفلح التنسيق بين الحكومة ومحافظي المصارف المركزية في لجم التضخّم، فلا مناص للسوق من أن تجد «معدّلها الطبيعي للبطالة»، ولا بدّ للمستثمرين من ضمان النمو السليم عبر الاسترشاد بدلائل الأسعار الواضحة. ظهرت هذه الفروض ضمن المذهب النقدي في الثمانينيات مع فكرة وجوب اقتصار الحكومة على إدارة المعروض النقدي. وفي تسعينيات القرن الماضي، أصبح يُنظَر إلى الجدل السياسي المنطلق من الاعتراف الشعائري بمخاطر الإنفاق الحكومي كأمرٍ بديهي. هذه هي الحال حتّى الآن، على الرغم من أن البنوك المركزية، منذ ركود 2008، راحت تطبع النقود على نحوٍ محموم في سعيٍ لخلق التضخّم وإجبار الأغنياء على استخدام أموالهم في شيء مفيد، ولكنّها لم تفلح في تحقيق أيّاً من الغايتين.

والآن نحن نحيا في عالمٍ اقتصادي يختلف عن عالم ما قبل الانهيار. حيث الانخفاض في معدّلات البطالة لا يقود إلى ارتفاع الأجور، وطباعة النقود لا تتسبّب في التضخّم. ومع ذلك، فلا تزال لغة النقاش العام والحكمة المُضمَّنة في مقرراتِ الاقتصاد على ما هي عليه.

في استطاعة المرء أن يستوعب قدراً معيّناً من التأخّر المؤسّسي. ربّما لا يكون الاقتصاديون المُهيمنون حالياً بارعون في استشراف الانهيارات المالية، أو في المساهمة في توفير الرفاه العام، أو في ابتكار النماذج اللازمة للحدّ من تغيّر المناخ، إلّا أنهم بارعون للغاية في الدفاع عن مراكزهم في السلطة الفكرية، والتي لا تتأثّر قَطّ بتلك الإخفاقات. ولكي يرى المرء شيئاً كهذا عليه أن ينظر في تاريخ الأديان. وإلى اليوم لا يزال علم الاقتصاد يُدرَّس لا كتاريخٍ من الأفكار - أي ليس ككلّ العلوم الاجتماعية الأخرى باعتباره ساحة للأفكار النظرية المُتناحرة - بل كما تُدَرّس الفيزياء والمعرفة المتدرّجة للكون، والحقائق الرياضية التي لا جدال فيها. مع هذا، فالنظريات الاقتصادية «المُنشقّة» موجودة بلا مراء (نظريات الاقتصاد المؤسّسي، النظرية الماركسية، النظرية النسوية، النظرية «النمساوية»، وما بعد الكينزية…إلخ)، بيد أنها أُقصيت جميعاً من أقسام النظريات التي تُعتبر «جادّة»، وحتّى التمرّدات التي قام بها طلبة الاقتصاد (من حركة «إصلاح تدريس الاقتصاد» في فرنسا، إلى «اقتصاد ما بعد الانهيار» في بريطانيا) فشلتْ في المطالبة بإدراجها ضمن المناهج الدراسية الأساسية.

وبالمحصلة يجري استبعاد الاقتصاديين المُنشقِّين، على الرغم من براعتهم المُثبتة في توقّع الأحداث الاقتصادية في العالم الحقيقي. وعلاوة على ذلك، فإن الفروض السيكولوجية الأساسية التي يقوم عليها الاقتصاد السائد (الكلاسيكي الجديد)، والتي دحضها السيكولوجيين الحقيقيين منذ أمدٍ طويل، قد بسطت نفوذها على الأكاديميا، وكان لها أثر عميق على الفهم الشعبي للعالم.

ولا يظهر هذا التعارض الدراماتيكي بين النقاش العام والواقع الاقتصادي مثلما يظهر في بريطانيا، وربّما لهذا كانت الدولة الأولى التي لاحت فيها علائم التصدّع. كان حزب «العمّال الجديد» من يسار الوسط هو الذي تَرأَّسَ فُقَّاعة ما قبل الانهيار، وأسفر تفاعل الناخبين على طريقة «تخلّصوا من الأوغاد» عن مجموعة من الحكومات المحافظة، التي ما لبثت أن تَبيّنَت وَقْع خطاب التقشّف - الخطاب التشرشلي الداعي إلى التضحية المُشتركة لأجل الصالح العام - على الجمهور البريطاني، وهو ما ضمن لهم الظفر بقبول شعبي واسع بالسياسات المكرّسة لتقليص البقية الباقية من دولة الرفاه البريطانية، وإعادة توزيع الموارد إلى الأعلى باتجاه الأغنياء. «لا توجد شجرة مسحورة تثمر النقود»، هكذا عبّرت تيريزا ماي عن الأمر في الانتخابات المبكرة لعام 2017 - وهي العبارة الوحيدة التي تحفظها الذاكرة من تلك الحملة الانتخابية التي تُعدُّ واحدة من أكثر الحملات شحوباً في التاريخ البريطاني. تلك العبارة التي ردّدتها وسائل الإعلام بلا انقطاع، ردّاً على الاستفسار المُتعلق بفرض المملكة المتّحدة رسوماً جامعية دون سائر البلدان في غربي أوروبا، أو السؤال عن اضطرار تلك الأعداد إلى النوم في الشارع.

الطريف حقّاً في عبارة ماي هو عدم صحّتها. فهناك الكثير من أشجار النقود المسحورة في بريطانيا، كما في كلّ الاقتصادات المتقدّمة. تلك الأشجار تُسمى «بنوك». وطالما النقود الحديثة ليست سوى ائتمان، ففي استطاعة البنوك أن تخلق النقود من اللاشيء حَرْفيّاً، وهي تفعل ذلك ببساطةٍ عن طريق منح القروض. كلّ النقود المتداولة في بريطانيا حالياً تُخلق بهذه الطريقة. والجهل بهذا الأمر لا يقتصر على الجمهور وحده، فاستناداً إلى دراسة استقصائية حديثة أجرتها مجموعة الأبحاث البريطانية Positive Money، تبيّن أن 85% من البرلمانيين يجهلون تماماً المصدر الحقيقي للنقود (الغالبية منهم تعتقد أنه دار السكّ الملكية).

يدرك خبراء الاقتصاد تماماً الدور الحقيقي المنوط بالبنوك، ومع ذلك فقد أمضوا الشطر الأكبر من القرن العشرين في الجدال حول ما ينبغي فعله حين يتقدّم شخص بطلبٍ الحصول على قرض. تصرّ إحدى المدارس على ضرورة قيام البنوك بتحويل الأرصدة من الاحتياطي، وتقول مدرسة أخرى أنه يتعيّن عليها أن تنتج نقوداً جديدة، ولكن على أساس التأثير المضاعف فحسب (بحيث يُبدو أن قرض سيّارتك متجذّر في نهاية المطاف في صندوق التقاعد الخاص بمجموعة من الجدّات العجائز). القِلّة فقط - وغالبيتهم من الاقتصاديين المنشقّين، واقتصاديي ما بعد الكينزية، ومنظّري النقود الحديثة - تؤيّد ما يُسمّى بـ«النظرية المصرفية لخلق الائتمان»، حيث يُلَوِّح المصرفيون بعصا سحرية فتظهر النقود، وهم على ثقة أنهم حتّى وإنْ منحوا عميلاً قرضاً بقيمة مليون دولار، فسوف يعيده المُستلم إلى البنك في نهاية المطاف، بحيث تُلغى الاعتمادات والديون على نطاق المنظومة ككلّ. ومن هذه الزاوية، بدلاً من أن تكون القروض قائمة على الودائع، تُخلق الودائع نتيجة القروض.

الشيء الوحيد الذي لم يفكّر فيه أحد هو الالتحاق بوظيفةٍ في بنك لمعرفة ما يحدث فعلاً عندما يتقدّم المرء لاقتراض المال. في العام 2014، اتخذ خبير اقتصادي ألماني يُدعى ريتشارد فيرنر تلك الخطوة، واكتشف أنّ مسؤولي القروض في الواقع لا يتحقّقون من صناديقهم الحالية أو احتياطاتهم أو من أي شيء على الإطلاق. إنهم ببساطة يخلقون النقود من اللاشيء، أو على حدّ تعبيره، من «غبار جنّي».

في ذلك العام ارتأت بعض العناصر في الخدمة المدنية البريطانية المعروفة باستقلاليتها أن تضع حدّاً للأمر. أضحت مسألة خلق النقود نقطة خلاف حاسمة. رفضت الغالبية العظمى من الاقتصاديين المهيمنين في المملكة المتّحدة منذ فترة طويلة التقشّف نظراً لما يتمخض عنه من نتائج عكسية (وكما هو متوقّع، لم يكن للأمر أي أثر على النقاش العام). ولكن، عند مرحلة معيّنة، إنّ مطالبة التكنوقراط المنوط بهم إدارة النظام بإرساء كلّ القرارات السياسية على افتراضات خاطئة بخصوص شيءٍ أوليّ مثل طبيعة النقود، تصبح أشبه مطالبة المهندسين المعماريين بالعمل على أساس أن الجذر التربيعي لـ47 هو في الواقع π. يدرك المهندسون المعماريون أن المباني ستتهاوى وسيهلك الناس.

قبل فترة طويلة، طرح بنك إنكلترا (المُعادل البريطاني للاحتياطي الفيدرالي، ويتمتّع اقتصاديوه بحرّية أكبر في التعبير عن آرائهم لأنهم ليسوا جزءاً من الحكومة) تقريراً رسمياً مفصّلاً بعنوان «خلق النقود في الاقتصاد الحديث»، وغنياً بمقاطع الفيديو والرسوم المتحرّكة التي تشير إلى النقطة نفسها: إن الكتب المدرسية الاقتصادية الحالية، ولا سيّما العقيدة النقدية الأورثوذكسية، على خطأ. الاقتصاديون المنشقّون على حقّ. المصارف الخاصّة تخلق النقود. وكذلك البنوك المركزية مثل بنك إنكلترا تخلق النقود هي الأخرى، في حين أن النقدويون مخطئون تماماً في الإصرار على أن وظيفتها تنحصر في إدارة المعروض النقدي. والواقع أن المصارف المركزية لا تتحكّم بأي شكل في المعروض النقدي، تتلخّص وظيفتها الرئيسية في تحديد سعر الفائدة أي تحديد المبلغ الذي يفترض للمصارف الخاصّة أن تفرضه على الأموال التي تخلقها. وبالتالي، فإن جميع المناقشات العامّة تقريباً المُتّصلة بهذه الموضوعات تستند إلى فرضيات زائفة. على سبيل المثال، إذا كان بنك إنكلترا محقّاً فيما يقوله، فإن الاقتراض الحكومي لم يحوّل الأموال من القطاع الخاص، وإنّما خلق أموالاً جديدة تماماً لم تكن موجودة من قبل.

يتوقّع المرء أن يُحدِث تصريح كهذا شيئاً من الضجّة، وقد حصل ذلك بالفعل في بعض الدوائر المحدودة، ومن ثمّ أصدرت البنوك المركزية في النرويج وسويسرا وألمانيا أوراقاً مماثلة، لكن بالعودة إلى المملكة المتّحدة، فقد ساد الصمت المطبق. وعلى حدّ علمي، لم يُذكّر تقرير بنك إنكلترا كثيراً، لا من خلال «بي بي سي» ولا عبر أي نافذة إخبارية تلفزيونية غيرها. استأنف كُتّاب الأعمدة مقالاتهم، كما لو أنّ النقدوية من البهيديهيّات. وتابَعَ رجال السياسة استجواباتهم عن مصدر الأموال اللازمة للبرامج الاجتماعية. بدا الأمر كما لو أن ثمة نوع من التوافق الودّي، يسمح للتكنوقراط بالعيش في عالم نظري، بينما يحيا السياسيين والمعلِّقين في عالمٍ مغايرٍ تماماً.

مع ذلك، تشير الدلائل إلى الطبيعة المؤقّتة لهذا الترتيب. إن إنكلترا - وبنك إنكلترا على وجه الخصوص - تزهو بريادتها في الاتجاهات الاقتصادية العالمية. اكتسب المذهب النقدوي مكانته الفكرية النظرية في السبعينيات بعد أن تبنّاه الاقتصاديون في بنك إنكلترا. ومن ثم تلقّفه النظام المُتشدِّد لتاتشر، ثم تلقّفه بعد ذلك رونالد ريغان في الولايات المتّحدة، ومن هناك صُدِّر إلى كلّ مكان.

أغلب الظن أنّنا بصدد نمط مماثل اليوم. في العام 2015،  بعد عامٍ من ظهور تقرير بنك إنكلترا، سمح حزب العمّال للمرة الأولى بإجراء انتخابات مفتوحة لقيادته، حيث آلت مقاليد السلطة إلى الجناح اليساري للحزب بقيادة جيريمي كوربين ووزير الظلّ الحالي للخزانة جون ماكدونيل. في تلك الفترة، كان يُعدّ اليسار العمّالي أكثر تطرّفاً مقارنة بجناح تاتشر في حزب المحافظين في العام 1975. لقد كانوا المجموعة السياسية الرئيسية الوحيدة في المملكة المتّحدة المُنفتحة على الأفكار الاقتصادية الجديدة على الرغم من مساعي الإعلام الحثيثة لإحاطتهم بهالة الاشتراكية المُتشدّدة التي برزت في السبعينيات. وفي حين انشغلت المؤسّسة السياسية طوال السنوات القليلة الماضية بالصراخ حول خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كان مكتب ماكدونيل - ومجموعات دعم الشباب العمّالي - مستغرقٌ في عقدِ ورش عمل ومبادرات سياسية عائمة حول كلّ شيء تقريباً، بدءاً من أسبوع العمل ذي الأربعة الأيام والدخل الأساسي الكلّي إلى الثورة الصناعية الخضراء و«الشيوعية الفاخرة المؤتمتة بالكامل». ودعوة الاقتصاديين غير التقليديين للمشاركة في مبادرات التعليم الشعبي الهادفة إلى تغيير المفاهيم المتعلّقة بالكيفية الحقيقية لعمل الاقتصاد. قوبلت الكوربينية بمعارضة شبه هستيرية من كلّ قطاعات المؤسّسة السياسية تقريباً، لكن سيكون من الرعونة غضّ الطرف عن احتمال وجود شيء تاريخي يختمر الآن.

إحدى العلائم الدالة على ظهور شيء جديد في التاريخ، تتمثّل في قراءة العلماء للماضي على ضوءٍ جديد. وفي هذا الصدد، فإن أحد أهم الكتب التي ظهرت في المملكة المتّحدة خلال السنوات الأخيرة هو بلا ريب كتاب روبرت سكدليسكي «النقود والحكومة». من الناحية الظاهرية يسعى للإجابة على سؤال لماذا كان العلم الاقتصادي السائد عديم الفائدة في السنوات التي سبقت وتلت أزمة العام 2008. أمّا في الحقيقة فهو يمثّل محاولة لإعادة سرد تاريخ الانضباط الاقتصادي من خلال النظر في أمرين (النقود والحكومة) ينفر كلّ الاقتصاديين من الحديث عنهما.

يبدو سكدليسكي مؤهّلاً لسرد هذه القصّة. إنه يجسِّد نمطاً إنكليزياً فريداً: المنشّق اللطيف، المُنغمس تماماً في المؤسّسة إلى حدّ أنه لم يفكِّر في إمكانية عدم قدرته على التعبير عمّا يعتقده فعلاً، والذي تتسامح المؤسّسة مع وجهات نظره بالضبط لهذا السبب.

ولد سكدليسكي في منشوريا، وتدرّب في أكسفورد، ودرَّس الاقتصاد السياسي في وارويك، اشتهر بأنّه مؤلِّف السيرة الذاتية النهائية لجون ماينارد كينز المكوَّنة من ثلاثة مجلّدات، قبع على مدى العقود الثلاثة الماضية في مجلس اللوردات بصفته بارون تيلتون، ينتسب في أوقات مختلفة إلى مجموعة متنوِّعة من الأحزاب السياسية، وأحياناً لا ينتمي إلى أيٍّ منها على الإطلاق. خلال سنوات بلير المُبكرة، كان من المحافظين، وشغل منصب المتحدِّث باسم المعارضة في الشؤون الاقتصادية في الغرفة العليا، وهو حالياً مستقل على مقاعد البدلاء، حيث ينحاز بشكل كبيرٍ إلى حزب العمّال اليساري. بعبارة أخرى، إن ولاؤه لعَلَمه الخاص، علم المصالح. على مدى السنوات العديدة الماضية، استغل سكدليسكي منصبه في أكثر الهيئات التشريعية نخبوية في العالم لعقد سلسلة رفيعة المستوى من الندوات حول إصلاح الانضباط الاقتصادي. وهذا الكتاب هو، بمعنى معيّن، الثمرة الأولى لهذه المساعي.

إنه يميط اللثام عن حربٍ مُطلقة بين منظورين نَظَرِيين عريضين يفوز بها الفريق نفسه على الدوام لأسباب لا تتعلّق بالتطوّر النظري أو بالثقابة التنبؤية. وفيما يبدو أن جوهر الفكرة يتركّز بالأساس على طبيعة النقود. هل الأدق أن يُنظَر إلى النقود باعتبارها سلعة مادية، أي مادة ثمينة تخدم تسهيل التبادل، أم يتعيّن النظر إليها على أنها ائتمان قبلّ كل شيء، أو طريقة لمسك الدفاتر، أو سندات دين متداولة؟ تُثار هذه المسألة بشكل مستمرّ منذ آلاف السنين. إنّ ما نسمّيه «النقود» هو على الدوام مزيج من كليهما، وكما لاحظت بنفسي في (الدين 2011)، يتأرجح مركز الثقل بين الجانبين ذهاباً وإياباً طوال الوقت. في العصور الوسطى، كانت المعاملات اليومية عبر أوراسيا تجري عادة عن طريق الائتمان، وكان يُنظر للنقود باعتبارها تجريداً. كان صعود الإمبراطوريات الأوروبية العالمية في القرنين السادس عشر والسابع عشر، والفيضان المقابل من الذهب والفضّة المنهوبين من الأميركيتين بمثابة العامل الحاسم في تغيير المفهومات، ومن الناحية التاريخية، فإن النظرة المُطابقة بين السبائك والنقود تُنزع للتركيز على فترات من العنف العام والعبودية الجماعية والجيوش الدائمة المُفترسة، والتي مثّلت الطريقة التي تَعرّف معظم العالم من خلالها على الإمبراطوريات الإسبانية والبرتغالية والهولندية والفرنسية والبريطانية. أحد الابتكارات النظرية المهمّة المبنية على نظريات النقود الجديدة القائمة على السبائك، كما يلاحظ سكدليسكي، تتجسّد فما أصبح يُطلق عليه النظرية الكمّية للنقود (ولأن الاقتصاديين مولعون بالاختصارات، فعادةً ما يشار إليها في الكتب المدرسية بـ QTM).

طُرحت النظرية الكمّية للنقود للمرّة الأولى عن طريق محامٍ فرنسي يدعى جان بودان، ضمن نقاش حول سبب التضخّم الحادّ في الأسعار، والذي أدّى إلى زعزعة الاستقرار في أعقاب الغزو الأيبيري للأميركيتين مباشرة. ارتأى بودين أن التضخّم لا يزيد عن كونه مسألة عرض وطلب: كان التدفّق الهائل للذهب والفضّة من المستعمرات الإسبانية يقلّص من قيمة النقود في أوروبا. وكان المبدأ الأساسي يلوح كمسألة بديهية بنظر خبراء التجارة في ذلك العهد، لكن تبيّن أنه يقوم على عدد من الفروض الخاطئة. ذلك لأن كلّ الذهب والفضّة المستخرج من المكسيك لم يصل إلى أوروبا، ولم يتحوّل إلى نقود قَطّ. فقد نُقِل معظمه إلى الصين والهند مباشرةً لشراء التوابل والحرير وغيرها من «الكماليات الشرقية»، وبقدر ما نجم عن هذا من آثار تضخّمية في الوطن، فقد كان الأساس لنوع أو آخر من سندات المضاربة. ودائماً ما يكون ذلك صحيحاً عند تطبيق النظرية الكمّية للنقود: حيث يبدو بديهياً، إنّما فقط إذا أُهمِلَت العوامل الحاسمة.

في حالة تضخّم الأسعار في القرن السادس عشر، على سبيل المثال، ما أن يأخذ المرء في الاعتبار الائتمان، والادخار، والمضاربة، فضلاً عن ارتفاع معدّلات النشاط الاقتصادي، والاستثمار في التقنية الجديدة، ومستويات الأجور (المتّصلة بدورها بالقوة النسبية للعمّال وأرباب العمل والدائنين والمدينين)، حتى يغدو من المحال تحديد العنصر الحاسم: هل المعروض النقدي يدفع الأسعار، أم الأسعار هي التي تدفع المعروض النقدي. ومن الجانب الفنيّ، يعود هذا إلى الاختيار بين ما يُسمّى بنظريات المنشأ الخارجي والمنشأ الداخلي للنقود. هل يتوجّب النظر إلى النقود كعامل خارجي، اقتداءً بأولئك الإسبان والدبليون الذين قيل إنهم اجتاحوا أنتويرب ودبلن وجنوة في عهد فيليب الثاني، أم أنه ينبغي تصوّرها كنتاجٍ للنشاط الاقتصادي نفسه، باعتبار دمغها وسكّها وتداولها، أم أنها تُخلق كأدوات ائتمانية كالقروض من أجل تلبية الطلب، وهو ما يعني بالطبع أن جذور التضخّم تكمن في مكان آخر؟

في عبارة صريحة: من الواضح أنّ النظرية الكمّية للنقود خاطئة. إن ثمن الجُبن لن يتأثّر بمضاعفة كمّية الذهب إذا ما حصل الأثرياء على كلّ الذهب ودفنوه في أقبية منازلهم، أو استخدموه في صنع غواصات مطلية بالذهب (وبالمناسبة، هنا يكمن السبب في فشل التيسير الكمّي، واستراتيجية شراء السندات الحكومية طويلة الأجل لتداول النقود). إن الأمر الحاسم في الواقع يتمثّل في الإنفاق.

ومع ذلك، فمنذ عهد بودين وإلى الآن، يربح أنصار النظرية الكمّية للنقود دائماً، كلّما اندلع نقاش كبير حول السياسة. في إنكلترا، تبلور النمط في العام 1696، بعد إنشاء بنك إنكلترا مباشرة، في مجرى الجدل حول التضخّم في زمن الحرب بين وزير الخزانة ويليام لاوندز، والسير إسحاق نيوتن مدير دار سكّ العملة آنذاك، والفيلسوف جون لوك. اتفق نيوتن مع وزارة الخزانة على أنه يجب تخفيض قيمة العملات الفضّية رسمياً لمنع الانهيار الانكماشي. اتخذ لوك موقفاً نقدياً مُتطرّفًا، مُحتجاً بأنه على الحكومة أن تقتصر على ضمان قيمة الممتلكات بما في ذلك العملات المعدنية، وأن التلاعب سوف يربك المستثمرين ويخدع الدائنين. فاز لوك. وكانت النتيجة انهياراً انكماشياً. خلق التقلّص الحادّ في المعروض النقدي انكماشاً اقتصادياً مُفاجئاً أسفر عن توقّف مئات الآلاف عن العمل وتمخض عن بؤس جماعي ومجاعة وأعمال عنف. وما لبثت الحكومة أن تحرّكت لتعديل السياسة، أولاً من خلال السماح للبنوك بتحويل ديون الحرب الحكومية إلى نقود في شكل أوراق نقدية، وفي النهاية بالتخلّي عن المعيار الفضّي تماماً، ولكن في خطابها الرسمي، أصبحت أيديولوجية لوك عن الأموال الصعبة، المُنحازة للدائن، أساساً لكلّ النقاش السياسي اللاحق.

وفقًا لـسدليسكي، كان النمط يعيد نفسه مراراً وتكراراً، في العام 1797، وأربعينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر، وفي أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، مع تبنّي تاتشر وريغان للنقدوية. دائماً ما نلتقي بتسلسل الأحداث نفسه: تتبنى الحكومة سياسات الأموال الصعبة. تحدث الكارثة. تتخلّى الحكومة بهدوء عن الأموال الصعبة. يتعافى الاقتصاد. ومع ذلك، تصبح فلسفة الأموال الصعبة، أو تكرّس لتصبح، فلسفة عالمية وأساسية وعامّة.

كيف يمكن تبرير هذه السلسلة الاستثنائية من الإخفاقات؟ طبقاً لسكدليسكي، يقع اللوم على عاتق الفيلسوف الاسكتلندي دفيد هيوم، الذي كان من أوائل المدافعين عن النظرية الكمّية النقدية، وكذلك أول من ادّعى أن فكرة الصدمات قصيرة الأجل - كتلك التي قال بها لوك - إذا أدّت إلى إطلاق العنان لقوى التنظيم الذاتي للسوق، فسوف تؤدّي إلى فوائد طويلة الأجل: منذ هيوم، ميّز الاقتصاديون بين الآثار قصيرة المدى والآثار طويلة المدى للتغير الاقتصادي، بما في ذلك آثار التدخّلات السياسية. وقد أدّى هذا التمييز إلى تعزيز نظرية التوازن، وذلك عبر وضعها في شكلٍ يضمن أخذ الواقع في الاعتبار. في علم الاقتصاد، يشير المدى القصير عادةً إلى الفترة التي ينحرف خلالها السوق (أو اقتصاد الأسواق) مؤقتاً عن توازنه طويل الأجل تحت تأثير «الصدمة»، مثله مثل البندول الذي أزيح مؤقتاً من مركز السكون. تُوجِب هذه النظرة على الحكومات أن تترك الأمر للأسواق لكي تكتشف مواقع التوازن الطبيعية. لن تسفر التدخّلات الحكومية الهادفة إلى «تصحيح» الانحرافات إلّا عن تعميق الوهم الأساسي.

تنطوي النظريات المماثلة على خللٍ منطقي، ألا وهو أنه لا سبيل إلى دحضها. ما من طريقة لاختبار الفرضية القائلة بأن الأسواق تصحِّح نفسها دائماً في النهاية، إلّا إذا كان لدى المرء تعريف جليِّ لمعنى «النهاية»؛ لكن بالنسبة للاقتصاديين، تبيّن أن هذا التعريف يعني «مهما طال الوقت لبلوغ النقطة التي أستطيع فيها القول إن الاقتصاد قد استعاد توازنه». بالطريقة نفسها، إن عبارات مثل «البرابرة يفوزون دائماً في النهاية» أو «الحقيقة تربح في النهاية دائماً» لا سبيل إلى البرهنة على بطلانها، لأنها تعني عملياً «عندما يفوز البرابرة، أو عند تسود الحقيقة، سوف أعلن عن انتهاء القصة».

حتّى هذه المرحلة، كانت كلّ القطع في مكانها: من الممكن تبرير سياسات التضييق النقدي، التي أفادت الدائنين والأثرياء، بأنها «علاج قاسٍ» لتوضيح إشارات الأسعار حتى تستطيع السوق العودة إلى حالة صحّية من التوازن على المدى الطويل. في وصفه للكيفيّة التي يجري بها هذا كلّه، يستأنف سكدليسكي التاريخ الذي بدأ كارل بولاني في رسمه للمرّة الأولى في الأربعينيات: القصة التي تروي كيف كانت الأسواق الوطنية، التي يفترض أنها ذاتية التنظيم، نتاجاً لهندسةٍ اجتماعيةٍ دقيقة. جزء من ذلك اشتمل على وضع سياسات حكومية تستهدف عن وعي إثارة استياء «الحكومة الكبيرة». كتب سكدليسكي: 

تمثّل الابتكار الحاسم في ضريبة الدخل، التي فُرضت للمرّة الأولى في العام 1814، ثمّ جدّدها [رئيس الوزراء روبرت] بيل في العام 1842. وبحلول العام 1911-14، باتت تُشكل المصدر الرئيسي للإيرادات الحكومية. توفّرت ضريبة الدخل على فائدة مزدوجة تمثّلت في منح الدولة البريطانية قاعدة إيرادات آمنة، فضلاً عن مواءمة مصالح الناخبين مع الحكومة البخيلة، لأن التصويت قد اقتصر على دافعي الضرائب المباشرين. أصبحت «النزاهة المالية» في عهد غلادستون هي «الأخلاق الجديدة».

في الواقع، لا يوجد مبرّر لقيام الدولة الحديثة بتمويل نفسها عبر تخصيص نسبة من أرباح المواطنين. هناك العديد من الطرق للقيام بذلك. العديد من الطرق الأكثر كفاءة، مثل الأراضي أو الثروة أو الضرائب التجارية أو الاستهلاكية. وهي أكثر كفاءة لأن إنشاء جهاز بيروقراطي في استطاعته مراقبة الشؤون الشخصية للمواطنين على النحو الذي يقتضيه نظام ضريبة الدخل، هو بحدّ ذاته أمرٌ مُكلفٌ للغاية. 

لكن هذا لا يصيب النقطة الحقيقية: إذ يجدر بضريبة الدخل أن تكون ذات طبيعة تدخلية ومثيرة للسخط. من المفترض أن تشعر على الأقل بالظلم. وعلى غرار الليبرالية الكلاسيكية (والنيوليبرالية المعاصرة)، لا يزيد الأمر عن خدعة سياسية بارعة - التوسّع في الدولة البيروقراطية التي تتيح لقادتها التظاهر بالدفاع عن الحكومة المحدودة.

أمّا الاستثناء الرئيسي الوحيد لهذا النمط فكان منتصف القرن العشرين، وهو ما بات يوصف بالفترة الكينزية. لقد كانت فترة سمح فيها أولئك الذين يحتكمون بالديمقراطيات الرأسمالية، والذين أصيبوا بالرعب من الثورة الروسية واحتمال قيام الطبقات العاملة في بلدانهم بالتمرّد الجماعي، بمستويات لا سابق لها من إعادة التوزيع، والتي قادت بدورها إلى الازدهار المادي الأكثر شمولاً في تاريخ البشرية. لقد رُويتْ قصّة الثورة الكينزية في الثلاثينيات، والثورة المضادة النيوكلاسيكية في السبعينيات، مرّات ومرّات، لكن سكدليسكي يَهِبُ القارئ إحساساً جديداً بالصراع الأساسي. 

كان كينز نفسه خصماً مغالياً للشيوعية، لأنه شعر أن الرأسمالية كانت أكثر قابلية لحفز التقدم التكنولوجي السريع، الذي من شأنه أن يقود إلى تقليص الحاجة إلى العمل المادي. كان يرغب في تحقيق التوظيف الكامل ليس اعتقاداً منه بروعة العمل، وإنّما لأنه كان يرغب في وضع حدّ للعمل، إذْ تَصوَّر مجتمعاً سيبدو فيه العمل البشري أثراً عتيقاً بالقياس إلى التكنولوجيا السائدة. وفي عبارة مغايرة، افترض كينز أن الأرض كانت تتحرّك على الدوام تحت أقدام المحلّلين، وإنّ موضوع العلم الاجتماعي غير مستقرّ بطبيعته. وانطلاقاً من حيثياتٍ مماثلة جادل ماكس ويبر، بأنه لن يكون من الممكن أبداً لعلماء الاجتماع التوصّل إلى شيءٍ عميقٍ على غرار قوانين الفيزياء، لأنه ما أن تحين اللحظة التي يقتربون فيها من الحصول على المعلومات الكافية، يكون المجتمع نفسه، وما أحسّ المحلّلون بأنّها أمور خليقة بالمعرفة، قد تبدلوا تبدلاً كبيراً بحيث تصبح المعلومات التي تم جمعها عادمة النفع. من ناحية أخرى، صمّم معارضو كينز على تأصيل نظرياتهم في مثل هذه المبادئ العالمية.

من المتعذّر على غير المنخرطين أن يروا ما كان على المحك بالفعل، لأن الجدل قد أعيد سرده حالياً على أنه نزاع تقني بين أدوار الاقتصاد الجزئي والاقتصاد الكلّي.

أصرّ الكينزيون على أن الأول يناسب الدراسة المتعلّقة بسلوك الأُسر الفردية أو الشركات سعياً لتحسين ميزتها في السوق، ولكن ما أن يبدأ المرء في التحوّل إلى الاقتصادات الوطنية حتّى ينتقل إلى مستوى من التعقيد مغاير تماماً، حيث تسود أنماط مختلفة من القوانين. كما أنه من المستحيل استيعاب طقوس التزاوج عند الخنازير عن طريق تحليل مجموعة التفاعلات الكيميائية التي تجري في نطاق خلاياها، فإن أنماط التجارة أو الاستثمار أو تقلّبات أسعار الفائدة أو التوظيف لا تنحصر في كونها مجرّد مجموع لكلّ المعاملات الصغيرة. للأنماط، كما يصفها فلاسفة العلم، «خصائص ناشئة». كان لا بدّ من الوقوف أولاً على المستوى الجزئي (تماماً كما كان من الضروري اكتشاف المواد الكيميائية التي تتركب منها الخنازير) لفهم الكلي، بيد أن ذلك بذاته لم يكن كافياً.

إن أعداء الثورة، بدءاً من المنافس القديم لكينز، «فريدريش هايك» في كلّية لندن للاقتصاد، وشتّى الشخصيات البارزة الذين انضمّوا إليه في جمعية مونت بيليرين، قد استهدفوا الفكرة القائلة بأنّ الاقتصادات الوطنية أكبر من مجموع أجزائها. من الوجهة السياسية، يعزو سكدليسكي ذلك إلى العداء لفكرة فن الحكم (أي المنفعة الجماعية بالمعنى الأشمل). وبالفعل، يمكن اختزال الاقتصادات الوطنية إلى الناتج الإجمالي لملايين القرارات الفردية، وبالتالي، ينبغي على كلّ عنصر من عناصر الاقتصاد الكلّي أن يكون «دقيقاً» على نحو منهجي.

ويعود الطابع الجذري لهذا الموقف جزئياً إلى تزامنه مع فترة التحوّل العميق للاقتصاد الجزئي نفسه، ذلك التحوّل الذي بدأ بالثورة الحدّية في أواخر القرن التاسع عشر، من مجرّد تقنية لتحديد الكيفية التي تُتخذ بها القرارات في السوق، إلى فلسفة عامة للحياة البشرية. وقد جرى ذلك بفضل اقتراح سلسلة من الافتراضات التي اعترف الاقتصاديون أنفسهم ببطلانها: دعونا نفترض، على حدّ قولهم، الفاعل العقلاني البحت الذين تسوقه المصلحة الذاتية ولا سواها، والذي يعي على وجه الدقّة ما يريد ولا يعدل عن رأيه أبداً، ويتمتّع بإمكانية الوصول الكامل إلى كافة معلومات التسعير المعنية. انطلاقاً من تلك الفروض، تمكّنوا من بلورة معادلات دقيقة وتنبؤية تتعلّق بالكيفية التي تسمح بالتوقّع الدقيق لسلوك الأفراد. 

لا يوجد ما يقال في ابتكار النماذج المُبسطة. بل يمكن القول إنها تجسّد الطريقة الواجبة على العلوم الإنسانية. لكن يتعيّن على العلم التجريبي بعد ذلك أن يمحص تلك النماذج عبر قياسها إلى السلوك الفعلي للناس، وأن يعدّلها على هذا الأساس. وهذا بالتحديد ما لم يفعله الاقتصاديون. وفي المقابل، اكتشفوا أن تلك النماذج إذا ما صيغت رياضياً على نحو يستعصي على الفهم، فسيكون من المُمكن خلق عالم يصير من المحال فيه دحض تلك المقدّمات. يشارك الفاعلين جميعاً في تعظيم المنفعة. فما هي المنفعة؟ («كل ما يقوم الفاعل بتعظيمه!»). وفّرت المعادلات الرياضية للاقتصاديين أساساً للادعاء بأن نظريتهم تمثّل الفرع العلمي الاجتماعي الأوحد الذي تمكّن من الارتقاء إلى مستوى العلم التنبؤي. (حتى وإن كانت توقّعاتهم الثاقبة تتصل بسلوك الأفراد المدرّبين على النظرية الاقتصادية). 

على هذه الخلفية تمكّن الإنسان الاقتصادي من السيطرة على الأكاديمية بأكملها، وبحلول الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، تبنَّت كافة التخصّصات العلمية في مجال إعداد الشباب لشغل المناصب السلطوية (العلوم السياسية والعلاقات الدولية وما إلى ذلك) نوعاً معيّناً من «نظرية الاختيار العقلاني» المشتقّة، في نهاية المطاف، من الاقتصاد الجزئي. وفي الثمانينيات والتسعينيات، بلغت الأمور حدّاً بات فيه تأهل مدراء المؤسّسات الفنية أو المنظّمات الخيرية يستلزم الإلمام على الأقل بـ «علم» السلوكيات الإنسانية، الذي ينطلق من افتراض تأصُّل الأنانية والجشع في الطبيعة البشرية.

كانت هذه، إذن، «الأسس الدقيقة» التي طالب المصلحون الكلاسيكيون الجُدد بردّ الاقتصاد الكلّي إليها. والاستفادة من بعض مواطن الضعف التي لا يمكن تستيرها في الصياغات الكينزية، ولا سيّما عجزها عن تفسير الركود التضخّمي في السبعينيات، عمدوا إلى تجاهل البنية الفوقية الكينزية المتبقية، والارتداد صوب سياسات الأموال الصعبة والحكومة الصغيرة التي سادت خلال القرن التاسع عشر. حلّ النمط التقليدي بأعقاب ذلك. لم ينجح المذهب النقدوي. وسرعان ما جرى التخلّي عن هذه السياسات، أولاً في المملكة المتّحدة، ثمّ في الولايات المتّحدة. ومع ذلك، فقد كان التدخّل فعّالاً من الناحية الأيديولوجية، فحتى عندما سيطر «الكينزيون الجدد» كجوزيف ستيغليتز أو بول كروغمان على النقاش حول الاقتصاد الكلّي، ظلوا يخضعون للشعور بضرورة الحفاظ على المؤسّسات الصغيرة الجديدة.

المشكلة، كما يؤكّد سكدليسكي، تتلخّص في أن تكاثر الافتراضات الأولية السخيفة لا يجعلها أقل سخافة. أو على حد تعبيره، «تقود المقدّمات المخبولة إلى نتائج مخبولة»:

إن فرضية السوق الفعّالة، التي أشاعها يوجين فاما هي تطبيق للتوقّعات العقلانية للأسواق المالية. تنصّ فرضية التوقّعات العقلانية على أن الوكلاء يستخدمون على النحو الأمثل جميع المعلومات المُتاحة حول الاقتصاد والسياسة على الفور لتعديل توقّعاتهم.

وهكذا، وعلى حدّ تعبير يوجين فاما: «ففي سوق تتسم بالكفاءة، تقود المنافسة بين العديد من المشاركين الأذكياء إلى وضع يكون فيه السعر الفعلي للأوراق المالية بمثابة تقدير جيّد لقيمتها الجوهرية».

وبعبارة أخرى، لقد اضطررنا إلى الادعاء بأن الأسواق، بموجب تعريفها، لا يمكن لها أن تخطئ. على سبيل المثال، إذا كانت الأرض التي بُني عليها المجمع الإمبراطوري في طوكيو خلال الثمانينيات أعلى قيمة من جميع الأراضي في مدينة نيويورك، فالسبب في ذلك أن هذا هو ما تستحقّه بالفعل. الانحرافات، إذا ما وُجدت فهي عشوائية بحتة ومؤقّتة وبلا أهمّية في الأخير. وبما هي «عشوائية» فلا مجال للتنبؤ بها. وفي كل الأحوال، سوف يسارع الفاعلون العقلانيون للتدخل لاكتساح الأسهم المقوّمة بأقل من قيمتها الحقيقية. يعقب سكدليسكي بجفاف:

ثمة مفارقة هنا. فمن جهة، تذهب النظرية إلى أن السعي إلى الربح من المضاربة هو سعي بلا طائل، على أساس أن الأسهم دائماً ما يتمّ تسعيره بشكل صحيح ولا سبيل إلى التنبؤ بتحركاته. ولكن، من جهة أخرى، إذا لم يسعى المستثمرون وراء الربح، فعندئذٍ لن تكون السوق فعّالة، طالما أنه لن يكون ثمة آلية للتصحيح الذاتي.

ثانياً، إذا تمّ تسعير الأسهم على نحوٍ صحيح دائماً، فلن يتسع للسوق إنتاج الفقّاعات والأزمات.

تسرّبت هذه النظرة إلى السياسة: «لم يكن المسؤولون الحكوميون، بدءاً من [رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي] آلان غرينسبان، مستعدين لانفجار الفقّاعة، بالضبط لأنهم كانوا غير مستعدّين حتى للحكم بأنها كانت فقّاعة». لقد جعلت فرضية السوق الفعّالة من التنبؤ بالفقّاعات أمراً مستحيلاً، وذلك لأنها استبعدتها مسبقاً. 

إذا كانت هناك إجابة على السؤال الشهير الذي طرحته الملكة والمتعلّق بالسرّ في عدم القدرة على التنبؤ بالانهيار، فستكون هذه. 

عند هذه النقطة، نكون قد أكملنا الدائرة. ففي أعقاب هذا الإحراج الكارثي، ارتد الاقتصاديون الأرثوذكس إلى المركز الذي يبرعون فيه - السياسة الأكاديمية والسلطة المؤسّسية. في المملكة المتّحدة، اتخذ التحالف الديمقراطي الليبرالي المحافظ الجديد أولى خطواته في العام 2010 بإعادة تشكيل نظام التعليم العالي عبر مضاعفة الرسوم الدراسية ثلاث مرّات، وتأسيس نظام أميركي النمط للقروض الطلابية. يلوح للعقل السليم أنه إذا كان نظام التعليم يعمل بنجاح (فمع كل نقاط ضعفه، يُعدّ النظام الجامعي البريطاني واحداً من أفضل الأنظمة في العالم)، في حين يعمل النظام المالي على نحوٍ بلغ من السوء أنّه كاد يدمّر الاقتصاد العالمي، فلربّما كان الأدنى إلى المنطق إصلاح النظام المالي بحيث يقترب من أداء النظام التعليمي وليس العكس. يمكن أن تكون المحاولات العدوانية للقيام بالعكس محض خطوة أيديولوجية. لقد كان هجوماً شاملاً على الفكرة القائلة بأنه يستحيل على المعرفة أن تصير سلعة اقتصادية.

وقد اُتُخِذَت خطواتٍ مماثلة لتعزيز السيطرة على الهيكل المؤسّسي. أصبحت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) - وهي الهيئة التي كانت تزهو باستقلالها ذات يوم - في ظل حكم المحافظين، أشبه ما تكون بشبكة البثّ الحكومية. ففي غالبية الأوقات يقوم المعلّقون السياسيون بقراءة حرفية لأهم النقاط التي تضمّنها خطاب للحزب الحاكم، والمبنية من الناحية الاقتصادية على  تلك النظريات التي فقدت صدقيتها. ينطوي النقاش السياسي على افتراضٍ مفاده أن «العلاج القاسي» المُعتاد و«النزاهة المالية» لغلادستون يشكّلان الحل الوحيد.  في الوقت نفسه، بدأ بنك إنكلترا في طباعة النقود بجنون، ومن ثم سارع بتسليمها إلى الـ 1% في محاولة فاشلة لبدء التضخّم. وفي عبارة مُلطّفة، كانت النتائج العملية غير ملهمة. حتى في ذروة التعافي، في خامس أغنى دولة في العالم، يوجد مواطن بريطاني واحد من اثني عشر يكابد الجوع، بما في ذلك اضطراره إلى قضاء أيامٍ كاملة من دون طعام. إذا كان «الاقتصاد»  يُعرّف بأنه وسيلة السكّان في تزويد أنفسهم باحتياجاتهم المادية، فإن الاقتصاد البريطاني يعاني من اختلال وظيفي متزايد. والجهود الدؤوبة التي تبذلها الطبقة الحاكمة في بريطانيا لحرف الأنظار عن صلب الموضوع (خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي) لا يمكن لها أن تدوم إلى الأبد. في النهاية، لا مفرّ من معالجة القضايا الحقيقية. تشبه النظرية الاقتصادية الحالية سقيفة تغصّ بالأدوات البالية. لا بمعنى أن الرؤى المفيدة لا وجود لها، وإنّما بمعنى أن العلم الحالي مُجَهّزٌ بالأساس لحلِّ مشكلات تنتمي إلى قرنٍ آخر.

إنّ كيفية تحديد التوزيع الأمثل للعمل والموارد بغرض خلق مستويات عالية من النمو الاقتصادي، لا تتطابق مع المشكلات التي نواجهها الآن: على سبيل المثال، كيفية التعامل مع زيادة الإنتاجية التكنولوجية، وخفض الطلب الحقيقي على العمل، والإدارة الفعّالة لأعمال الرعاية من دون تدمير الأرض. كل هذا يتطلّب علماً مختلفاً. إن «الأسس الدقيقة» للاقتصاد الحالي هي بالتحديد ما يسدّ الطريق. سوف يتعيّن على العلم الجديد القابل للتطبيق إمّا أن يعتمد على المعرفة المتراكمة للنسوية والاقتصاد السلوكي وعلم النفس وحتى الأنثروبولوجيا للاهتداء إلى نظريات تستند على حقيقة السلوك الفعلي للناس، أو أن يتبنّى فكرة المستويات الناشئة من التعقيد مرة أخرى أو أن يتبنّى كلاهما، وهو الأرجح. 

لن يكون هذا بالأمر السهل، من الناحية النظرية. أمّا من الناحية السياسية، فسوف يكون بالغ الصعوبة.  إن تحطيم قُفل الاقتصاد النيوكلاسيكي الُمعلق على أبواب المؤسّسات الكبرى، وهيمنته شبه اللاهوتية على الإعلام - ناهيك عن أساليبه الغامضة في صياغة تصوّراتنا عن الدوافع البشرية وآفاق الإمكانات البشرية - هو احتمالٌ مقلق. من المحتمل أن تكون هناك حاجة إلى نوعٍ من الصدمة. ما الذي يستلزمه الأمر؟ انهيار آخر من نوعية انهيار العام 2008؟ شيءٌ من التغيير السياسي الجذري في الحكومة العالمية السائدة؟ تمرّد شبابي على نطاقٍ عالمي؟ مهما كان سيقع في المستقبل، فإن كُتُباً من طرازِ هذا الكتاب - وربّما هذا الكتاب نفسه - سوف تضطلع بدورٍ محوري.

نُشِر المقال في The NewYork Review of Books وأعيد نشره على موقع ديڤيد غرايبر في 5 كانون الأول/ ديسمبر 2019