معاينة عن الهزيمة

رسم: محمد خياط

عن الهزيمة

يصعب عليّ وصف طعم الهزيمة، يبدو ذلك مستحيلاً، فهو شعور ولكنه في الوقت نفسه أكثر من مجرد شعور، هل هو القهر؟ القهر شعور أيضاً، ليس بالانكسار فقط وإنما بالعجز أيضاً. ولكن ما أشعر به ليس طعماً على طرف لساني، وليس حصراً حال نفسية أو معنوية. إنه أكثر من ذلك، انه شيء دخيل عليّ، ومستغرب أكثر. لماذا أقول إنه دخيل؟ ظننت أنني عشت الهزيمة قبل ذلك. ظننت أنني وأننا هُزمنا في العام 2011 حين فشلنا في إدخال لبنان في بحر الانتفاضات العربية. لا ليس كذلك، بل ربما حين فشلنا في حراك العام 2015، أو غيرها من المحطات حين مشينا في الشوارع وظننا أن النصر قريب. لا ليست تلك المحطات هزيمة، بل كانت كما تبيّنت هزيمة مزيفة ومثيرة للشفقة كما كانت التحرّكات التي أنتجتها.

لم أعرف الهزيمة قبلاً، إنها شيء مستجد على نفسي وجسدي. كيف أصفها؟ ربما شعور بالدوخان، لا ليس تماماً. هل هي أرق؟ لا أعتقد، أنا أنام جيداً. هل هي المشي في شوارع مدينة هاجرت إليها حيث أحاول الإنتماء، أسير على أرصفتها، أنظر إلى عيون الناس فيها، ولكن لا أرى نفسي، أرى طيف انهزام وحيداً. هل هي الرغبة بأن يرى أحد الناس هزيمتي ويهزّ رأسه بإيماءة ليقول لي أراك منهزماً؟ لا أحد يرى ذلك، يرون حنظلة معلّقاً على رقبتي، ويظنون أنه تصميم جميل لا أكثر. بعضهم يوقفوني ليقولوا لي إنهم يحبون قلادتي، أبتسم بتهذيب وأمضي في هزيمتي، وهم يمضون في يومياتهم. ربما الهزيمة هي حنظلة الصغير حول عنقي يقول لي لست مهزوماً، ولكن لا أستطيع سماعه فأضطر إلى التوهم. لا، إنها أكثر من ذلك. هل الهزيمة سرطان جلدي؟ حرقة بول أم زنّار نار يحرق بطني أو جسمي؟ لا أعلم، ما أعلمه أن الهزيمة هي كل ما أرى.

أصل إلى مطار بيروت بعد اتفاق «وقف» إطلاق النار، الحركة طبيعية. الواصلون سعيدون، أستغرب… ألستم مهزومون مثلي؟ ربما هذه هي الهزيمة، أن تشعر بها وحدك. لا أظن ذلك. أشاهد الأخبار، أتصفح تويتر، أقرأ الغضب، أشاهد الناس في جميع أصقاع الأرض تصرخ بكل اللغات «من النهر إلى البحر، فلسطين حرة». أرفع رأسي فأتذكر أنني في بيروت لأدرك أن الصراخ يعلو لنزع السلاح. تحتلّني الهزيمة. 

على بعد كيلومترات قليلة تحصل إبادة شعب بأكمله. أشعر بالقهر مجدداً. أنسى أين أنا، أنظر الى حنظلة الصغير على رقبتي، أبتسم لوهلة. أسمع صوتاً بعيداً، صوتاً مزعجاً كأنه مولد كهرباء، أدرك إنها بيروت لم تتغير. تقول لي صديقتي «هل تسمع صوت المسيرة الإسرائيلية؟». إذاً ليست مولد كهرباء. لا يختفي الصوت، يطول ويطول، إنه في خلفية كل شيء، في الأحاديث العميقة والسطحية. أسمعه حين أتناول الغذاء، حين أمشي في الشارع وأحاول الهروب من السيارات التي تهاجمني، نسيت مدى ضيق الأرصفة في بيروت. صوت المسيّرة يمتزج مع صوت التلفاز، وأنا أشرب القهوة على الشرفة. صوت لعين لا يذهب، يعود، ينأى أحياناً وثم يدنو: «على الدولة بسط سلطتها على جميع الأراضي اللبنانية». يعلو أكثر: «على لبنان أن يكون حيادياً ونخرج من لعبة المحاور». يثقب صوت المسيرة الإسرائيلية أذنيّ: «لبنان دفع ثمناً كبيراً من أجل القضية الفلسطينية، نريد أن نرتاح». يتحوّل الصوت إلى رنات لا متناهية، عالية، بغيضة: «علينا تنفيذ شروط صندوق النقد الدولي لوضع لبنان على سكة الإصلاح». ما هذا الصوت المقيت فوق رؤوسنا؟ أين الضربة الإسرائيلية المقبلة؟

أصل إلى مطار بيروت بعد اتفاق «وقف» إطلاق النار، الحركة طبيعية. الواصلون سعيدون، أستغرب… ألستم مهزومون مثلي؟ ربما هذه هي الهزيمة، أن تشعر بها وحدك.

أغارت مسيّرة على موتوسيكل في الهرمل اليوم. ولكن لا داعي للقلق، استهدفت عنصراً من حزب الله أو حماس أو أحد الفصائل الفلسطينية الأخرى. هل نطلب فروج أم بيتزا؟ أعتقد أني أفضّل سندويشة شاورما. هل ترى المسيّرة عامل الدليفري وهو يوصل الأكل فيستوحي الجندي الذي يسيّرها أفكاراً من أجل عشائه هو أيضاً؟ أتساءل هل سيوقف المسيّرة حتى ينتهي من تناول طعامه؟ ولكن الصوت ما زال، فأتمنى أن يختنق في لقمته. يعود ويعلو صوت المسيّرة:«إنه لبنان الجديد، سيعود الازدهار». وأنا أسمع صوت المسيّرة أتذكر قرية عيترون، وكيف تم محوها من قبل الجيش الإسرائيلي، أتذكر كم تألمت. 

في أيلول/سبتمبر وتشرين الأول/أكتوبر 2024 لم أكن في بيروت. كنت للمرّة الأولى أعيش الحرب على لبنان من بعيد. أعيش حداداً بلا معزّين، وفي الوقت نفسه أخجل من أهلي وأصدقائي، ماذا عساي أن أقول لهم؟ أختار الصمت بين بعض الرسائل الخجولة. لم أستطع رؤية الكثير من الفيديوهات عن الحرب. أصبحت ضعيفاً، قدرتي على التحمل تتهاوى. كنت وأنا أسير في المدينة التي هاجرت إليها أفكر بكل شيء، أرى شريط صور في ذهني للقرى المدمرة، أتذكر قانا. أنظر إلى الناس تذهب إلى أيامها مستغرباً لماذا ليسوا في حداد مثلي. لم أكن أعرف إن كان علي أن أشفق عليهم أم أحسدهم.

أشرد في أفكاري. أنسى صوت المسيرة… أتذكر مشواري اليومي إلى المكتب، حين كنت أمشي على الأرصفة الواسعة تحت ظلال الشجر من دون ضجة زمامير السيارات، أتوهم لوهلة أنني عدت إلى الخارج. فجأة تنقطع الكهرباء فأتذكر أنني ما زلت في بيروت، فإذا بالصوت يعود، لا مكان للهدوء هنا... لكن هناك منزل لديه إنارة، قاطنوه يسمعون الأخبار بصوتٍ عالٍ تزامناً مع صوت المسيّرة: «من أجل أن نبدأ إعادة الإعمار يجب حصر السلاح في يد الدولة».

أسير في شوارع بيروت، أنظر الى الناس والمباني والبارات والقهاوي... وكل شيء، أتذكر أغنية مرسيل خليفة «يا مدينة خيراتك إلنا نحنا زرعناها». يعود الصوت الكريه، لماذا لا أستطيع أن أشرد في مدينتي من دون سماع صوت المسيّرة؟ دعيني أعيش كليشيه المغترب، حتى هذا لا أستطيع الحصول عليه. هل هذه هي الهزيمة؟ بعد ساعات تغير الطائرات الحربية الإسرائيلية على مبنى في ضاحية بيروت الجنوبية. ولكن لا داع للقلق، على الأرجح استهدفت الغارة مخزن سلاح. طغى صوت الغارة على صوت المسيرة: «نواف سلام رئيساً إصلاحياً كفوءاً، تخلى عن رئاسته لمحكمة العدل الدولية التي تنظر بإبادة إسرائيل في غزة ليكون رئيس وزراء لبنان. سيحمل البلد إلى برّ السلام». الأسبوع المقبل، سيأتي المبعوث الأميركي إلى لبنان لبحث تطبيق اتفاق وقف إطلاق النار من أجل: «وضع لبنان على سكة الإصلاح».

هناك منزل لديه إنارة، قاطنوه يسمعون الأخبار بصوتٍ عالٍ تزامناً مع صوت المسيّرة: «من أجل أن نبدأ إعادة الإعمار يجب حصر السلاح في يد الدولة».

عندما وصلت إلى بيروت في زيارتي الأخيرة كنت أتوقع رؤية دمار عظيم، ولكني رأيت فقط بعض المباني المتضررة من مسيّرة أغارت عليها.. فمعظم الدمار في الضاحية الجنوبية، والجنوب والبقاع. عادت النشاطات الثقافية والحفلات والمهرجانات. فلبنان عصيّ على كل شيء إلا رغبته في الحياة على الرغم من أنف شهدائه وضحايا الغارات الإسرائيلية الذين رفضوا الحياة. يوسع الجيش الإسرائيلي النقاط الخمس التي احتلها في الجنوب. لا داعي للقلق، سينسحبون حين يتم حصر السلاح بيد الجيش. فأتذكر حين تظاهرنا أمام السفارة المصرية وكان حسني مبارك يبني الجدار على حدود رفح، أبرحنا الجيش ضرباً. لا بأس فالجيش هو الوحيد القادر على حمايتنا. أشرد قليلاً، أنظر إلى البحر من على درابزين الكورنيش في بيروت. لطالما أحببت ذلك. أذكر في سنتي الأولى في الجامعة الأميركية لم يكن لدي الكثير من الأصدقاء، فكنت أذهب إلى الكورنيش وأقرأ كتاباً كل يوم بعد انتهاء صفوفي. أتذكر صديقاً وحيداً في الجامعة كان يسكن في رأس بيروت، قال لي مرة أن الكورنيش جميل ولكن أصبح مليئاً بالشيعة. لم أفهم وقتها. في صيف 2006، كنت أركض على الكورنيش، عاري الصدر، اتصل بي صديقي ليقول لي: «نحن شعباً لا ننسى أسرانا»، كان ساخراً لأنه يعادي الحزب، يومها  أعلن الحزب عن تنفيذ عملية الوعد الصادق. لم أتوقف كثيراً وواصلت الهرولة، ولكن بعد يوم أو يومين بدأ القصف على بيروت. أذكر رؤية البارجة التي احترقت مباشرة على الهواء، وأنا أتذكر حرب تموز تجتاح ذاكرتي صوت المسيّرة. غريب لم يكن هناك مسيّرات في العام 2006. تباً لك. عادت تلك البغيضة، بصوت أعلى كأنها اخترقت جدار دماغي. إذهبي أيتها اللعينة: «من غير الممكن أن يكون الحديث عن السلام مع إسرائيل محظوراً، علينا أن نسقط المحظورات، إنه لبنان الجديد». تخطر على بالي مهى، صديقتي الغزاوية، وأتذكر أنني لم اكلمها أبداً منذ بدء الإبادة. إنها في لندن، ولكن كيف حال عائلتها وأصدقائها، هل ما زالوا أحياء. هل انمحوا من السجل كغيرهم من الفلسطينيين؟ سامحيني، ولكن لا أستطيع استجماع القوة لأكلمك.

أشعر بالاختناق. كيف أختنق من مدينتي؟ أرتاح لأن موعد سفري بات قريباً. أستطيع العودة إلى الخارج. أتساءل، هل سيختفي صوت المسيرة حين أسافر أم أنه عشّش في دماغي؟ أرتاح قليلأ لفكرة العودة إلى الكليشيه الاغترابي، هناك يمكنني أن أتظاهر أن المسيّرة غير موجودة، يمكنني العودة إلى مأتمي الشخصي، يمكنني أن أنسى لبنان وأن أتذكر أن العالم كله يصرخ من النهر إلى البحر. هناك يمكنني أن أمسك حنظلة الصغير حول رقبتي وأخاطبه لأقول له لندر ظهرنا للعالم وننظر فقط إلى مكانٍ حيث ناسه يأبون أن يبادوا، حيث هناك مسيّرات لامتناهية ولكن صوتها حتماً ستثقب دماغ مشغليها، حتى لو بعد حين. أرتاح قليلاً. أودّع أهلي وأصدقائي كأني أغادرهم للمرّة الأولى، أتمزق، هل الهزيمة هي العجز أمام الرحيل؟ أصل إلى الخارج، عند الجمارك. قلبي يدق، هل سيأخذوني إلى التحقيق ليتأكدوا أنني فعلاً مهزوم؟ هل سيستجوبنني لكي يتحققوا من أن صوت المسيرة أقنعني؟ أحاول ألا أتصبب عرقاً… حان دوري...«أين كنت؟»، أقول له كنت في لبنان، ينظر إلي، ينظر إلى بطاقتي الخضراء ويقول لي «ويلكم هوم». أبتسم مرتاحاً، لم يحقق معي، حتماً إنه أول شخص في هذه المدينة رأى هزيمتي.