
عمّال العالم في الشارع
خلال الأشهر الثلاثة الماضية، شارك ما لا يقلّ عن 1.8 مليون عامل في تظاهرات وإضرابات عمّالية، امتدّت من أميركا اللاتينية إلى جنوب آسيا وشرق أفريقيا، تعبيراً عن تصاعد حدّة الصراع الاجتماعي حول الأجور وحقوق العمل. في كولومبيا والمكسيك والأرجنتين خرج مئات آلاف العمّال في قطاعات الصناعات الغذائية والتعليم والرعاية الصحّية والخدمات اللوجستية، مطالبين برفع الأجور ومواجهة التضخّم الذي بلغ مستويات كارثية في بعض تلك الدول. وفي الهند نزل مئات آلاف من المواطنين إلى الشارع في 9 تموز/يوليو الماضي للاحتجاج على السياسات الاقتصادية الرأسمالية التي تُهلك معظم القطاعات العمالية.
تُعدّ موجة الاحتجاجات التي تجتاح دول أميركا اللاتينية الأكبر منذ تحرّكات عام 2018، حين خرج أكثر من مليوني عامل احتجاجاً على سياسات الخصخصة وخفض الدعم. في المكسيك، أطلق أكثر من 20 ألف معلّم تابعين لـ«التنسيقية الوطنية للعاملين في التعليم» إضراباً مفتوحاً سرعان ما تحوّل إلى حراك مطلبي واسع، أدّى إلى إغلاق الطرق الرئيسية والمطار، وشهدت المسيرات صدامات مع الشرطة. يطالب المعلّمون بإلغاء قانون التقاعد المثير للجدل لعام 2007 الذي خصخص إدارة المعاشات ورفع سن التقاعد تدريجياً.
وسرعان ما امتدّت موجة الاحتجاجات العمّالية هذه إلى كولومبيا والأرجنتين والبرازيل. ففي الأرجنتين، أضرب الباحثون والأطباء والممرضون لأسبوع كامل احتجاجاً على الاقتطاعات الضخمة التي ينفذها النظام الحالي ضد قطاعي الرعاية الصحية والبحث العلمي. وقد انضم هؤلاء العاملون إلى المتقاعدين الذين يعتصمون أسبوعياً تنديداً بخفض المعاشات التقاعدية.
أما كولومبيا فقد شهدت خلال شهر أيار/مايو إضراباً وطنياً واسعاً استمرّ 48 ساعة بدعوة من أبرز اتحادات النقابات، تأييداً لمبادرة الرئيس غوستافو بيترو لإجراء استفتاء وطني بشأن إصلاحات في قوانين العمل والرعاية الصحية، بعد أن عرقلها الكونغرس اليميني مراراً. وشهد الإضراب إغلاق طرق رئيسية وتعطيل وسائل النقل العام وتنظيم مسيرات حاشدة وسط المدن.
وفي البرازيل، أضرب معلّمو ساو باولو احتجاجاً على خفض الأجور الذي فرضه العمدة اليميني المتطرّف للمدينة والذي يدفع أيضاً باتجاه خصخصة المدارس، كما تظاهر مئات المعلّمين في برازيليا وفي مختلف أنحاء البلاد للمطالبة بزيادات في الأجور.
وتصاعدت حدّة الاحتجاجات في الأوروغواي، في العاصمة مونتيفيديو تحديداً، حيث اندلعت صدامات بين عمّال قطاع صيد الأسماك وقوات الشرطة أمام مقرّ الرئاسة، ويأتي هذا التصعيد بعد أسبوعين من إضراب عمّالي أعلنته "نقابة عمّال البحر" وشارك فيه نحو 2000 صيّاد احتجاجاً على ما وصفوه بعدم احترام بنود الاتفاقات الموقّعة عام 2024. وأفادت تقديرات القطاع أن الخسائر تجاوزت 15 مليون دولار بعد أن توقفت الأساطيل البحرية بشكل شبه كامل منذ منتصف شهر حزيران/ يونيو.
وفي بنما، تحرّك المعلّمون أيضاً وتحالفت معهم مهن أخرى نفّذ عمّالها إضرابات ضد سياسات الرئيس اليميني خوسيه مولينو، الذي أعلن الإضراب «غير قانوني» وفرض حالة طوارئ لقمع المحتجين. ثم انضمّ إلى الإضراب عمّال البناء وعمّال ومزارعو الموز وتفاقمت الأمور عندما قامت شركة Chiquita لإنتاج الموز في مقاطعة بوكاس ديل تورو بصرف نحو 5,000 من العمّال اليوميين بعد مشاركتهم في التحرّكات الاحتجاجية، وأعلنت الشركة أن الفصل الجماعي جاء بسبب "التخّلف عن العمل من دون مبرّر" كما أعلنت الحكومة عن خسائر تجاوزت 75 مليون دولار نتيجة الإضرابات.
وشهدت معظم هذه التحرّكات اشتباكات مباشرة مع الشرطة وقوات الأمن خصوصاً في الأرجنتين، أسفرت عن إصابة واعتقال مئات المتظاهرين. وفي كينيا، قُتل نحو 51 قتيلاً من المحتجيّن خلال الشهرين الماضيين إثر استخدام قوات الأمن القوة المفرطة لتفريق المظاهرات الداعية إلى العدالة ومحاربة الفساد وضد خطط التقشّف وفرض ضرائب جديدة.
في الهند، وتحت شعارات أبرزها «لا للخصخصة، نعم للخدمات العامة» شارك مئات آلاف العمّال في تظاهرات حاشدة وإضراب عام ليوم واحد دعت إليه ونظّمته 10 نقابات عمّالية مركزية، رفضاً لقرارات إطالة ساعات أيام العمل وتدهور أوضاع حقوق العمّال والقوانين التي ترعى العلاقات الوظيفية ورفضاً لخصخصة مرافق عامة مثل السكك الحديدية وشركات الكهرباء، معتبرين أن السياسات الحكومية الحالية تشكّل «ضغطاً على الفقراء لإنقاذ الشركات الكبرى».
لعبت النقابات العمّالية دوراً محورياً في تنسيق الاحتجاجات في مختلف البلدان، رغم تفاوت قوّتها من بلد إلى آخر. ففي أميركا اللاتينية، لا تزال النقابات في قطاعات التعليم والصناعات الزراعية الأكثر تنظيماً وقدرةً على الحشد، إذ نجحت اتحادات كولومبيا والبرازيل في تعبئة عشرات آلاف العمّال خلال أسابيع معدودة. في الهند، أعادت النقابات العمّالية التاريخية والتنظيمات القطاعية والحزب الشيوعي الهندي الزخم للتحرّكات ضد الخصخصة رغم الضغوط السياسية والقانونية التي تتعرّض لها. وفي بنما، أظهرت نقابات عمّال الموز واتحادات المعلّمين قدرتها على شلّ مفاصل أساسية من الاقتصاد عبر إغلاق الطرق المؤدية إلى قناة بنما. ومع ذلك، يواجه العمل النقابي في المنطقة تحديات كبيرة، أبرزها القوانين المقيدة والضغوط الأمنية وغياب مظلّة تضامن إقليمية قادرة على مواجهة الشركات المتعدّدة الجنسيات التي تلعب دوراً اقتصادياً ـ سياسياً محورياً في البلد.
أما في كينيا، فقد كشفت الإضرابات الأخيرة محدودية قدرة بعض النقابات الرسمية على فرض شروطها ما دفع الموظفين العموميين إلى تجاوز الهياكل التقليدية عبر لجان قاعدية أكثر مرونة.