معاينة من يربح في سوق الخضار والفاكهة؟

من يربح في سوق الخضار والفاكهة؟

كل دولار يتم إنفاقه في السوق المحلية على استهلاك الخضار والفاكهة اللبنانية لن يحصل منه المزارع إلا على 10 سنتات فقط، بينما يحصل الوسيط وتاجر الجملة في أسواق الخضار على نحو 30 إلى 40 سنتاً، ويحصل تاجر المفرّق على ما بين 50 أو 60 سنتاً. في هذه الحسبة البسيطة لتركيب السعر، التي يقدّمها الأستاذ الجامعي والباحث في مجال الزراعة الدكتور بسام همدر، يظهر الجانب الأكثر ظلمة في أزمة الزراعة والمزارعين في لبنان: جانب الاستغلال في السوق.

المُنتِج، أي المزارع والعامل الزراعي، لا ينال سوى 10% من السعر الذي يدفعه المستهلك للحصول على غذائه، سواء كان ضرورياً أو كمالياً، فيما تذهب النسبة المتبقية، أي 90%، إلى تكاليف النقل والتوزيع والتخزين والتبريد، وأرباح تجّار الجملة والمفرّق الذين يعملون كوسطاء بين المنتج والمستهلك، ويزيدون هوامش أرباحهم عبر خفض سعر شراء المنتج ورفع سعر بيعه للمستهلك.

في ظل سياسات الدولة الداعمة للتجارة وغير الداعمة للزراعة، يعجز أكثرية المزارعين عن الوصول إلى السوق بشروط عادلة لهم وللمستهلكين، ويضطرون للخضوع لشروط الوسطاء وباعة الجملة الذين يملكون علاقات قوية مع متاجر البيع بالتجزئة، ما يمنح هؤلاء التجّار بحق لقب «سماسرة» القطاع الزراعي أو «بروكرز»، كما يسميهم عضو جمعية «جبال وائتلاف الزراعة البيئية» في لبنان جاد عواضة.

غالباً ما تكون الحيازات الزراعية بعيدة من المدن والتجمعات السكنية حيث الاستهلاك الأكبر، كما أن قسماً كبيراً من المزارعين لا يمتلكون معلومات كافية عن السوق والتجارة، فيأتي الوسيط ليفرض سيطرته عليهم. ويشرح عواضة الآلية المعتادة لذلك، فعندما يتواصل المزارع مع التاجر، يعرض المزارع سعراً يراه مناسباً له، فيبدأ التاجر بالمماطلة بهدف إجبار المزارع على قبول سعر أقل، ونظراً لخوف المزارع من فساد مزروعاته أو كسادها، يرضخ في النهاية لطلب التاجر، ويستغل التاجر أمرين لتحقيق هدفه: ضعف رقابة الدولة على الأسعار، وعدم توفيرها برادات للمزارعين لحفظ المحصول من التلف.

بقيت علاقة الإبتزاز والتبعية هذه مستمرة من دون أي تدخل من الدولة، حتى في ظل التغيرات التي شهدها القطاع الزراعي في خلال السنوات الأخيرة، في ظل العدوان الإسرائيلي على لبنان واستهداف الأراضي الزراعية والمحاصيل ، وتعذّر التصدير إلى الخارج وإغلاق الحدود، وشحّ الأمطار والتقلبات المناخية. 

ففي ظل هذه الأحداث، استطاع التجار حماية أرباحهم عبر  شراء المحاصيل من المزارعين بأسعار أدنى من كلفة إنتاجها.  يشير رئيس جمعية المزراعين أنطوان حويّك إلى أن الأسعار التي تُفرض على المزارع في سوق الجملة تعتبر «كارثية»، فكيلو البندورة مثلاً يُباع للتجّار بـ 33 سنتاً، بينما يكلّف المزارع بين 39 و45 سنتاً، والبطاطا تباع بنحو 30 أو 35 سنتاً بينما تكلف 40 أو 50 سنتاً… وعلى الرغم من هذه الخسائر التي يتكبدها المزارعون إلا أن التجار يقومون برفع أسعار الخضار والفواكه على المستهلك بشكل مهول ومن دون أن يستفيد المزارع في شيء من ذلك. تشير بيانات الإحصاء المركزي أنه بين حزيران/يونيو 2023 وحزيران/يونيو 2025، ارتفعت أسعار الخضار بنسبة 121%، وارتفعت أسعار الفواكه بنسبة 481%، وعلى مدار السنة الماضية فقط، أي بين حزيران/يونيو 2024 وحزيران/يونيو 2025، ارتفعت أسعار الخضار والفواكه بنسبة 30% و94% على التوالي.

الحلول كثيرة لكن الدولة تتجاهلها

بحسب عواضة، يجب أن نفكر في كيفية خلق سوق للمزارعين، مثل سوق أسبوعي يستبدل سوق الحسبة. وهذه الاستراتيجية نفسها التي يطرحها رئيس جمعية حماية المستهلك زهير برو، فقد اقترح سابقاً على المسؤولين فتح أسواق شعبية لتجاوز أرباح التاجر، بحيث يأتي المزارع مباشرة إلى المستهلك، حاملاً بضاعته معه، ويستفيد الطرفان في النهاية.

يؤكد برو أن البلديات هي الجهة المعنية بتنفيذ هذه الخطوة داخل الأحياء، مشيراً إلى أنهم تعاونوا مع بلدية بيروت وحدّدوا قطعتين من الأرض تصلحان لإقامة هذه الأسواق، لكن المشروع لم يرَ النور حتى الآن بسبب اعتراض وتخوف أصحاب الأملاك النافذين في المنطقة، ما حال دون تنفيذه.

في هذا السياق، يشير همدر إلى الدور الداعم الذي كانت تقوم به التعاونيات الزراعية، إذ كانت تتولى جمع المحاصيل من المزارعين وتسويقها، بالإضافة إلى مساعدتهم جزئياً في خفض تكاليف البذور والأسمدة وتقديم بعض الإرشادات لهم. وقد حققت هذه التعاونيات نجاحاً في الماضي في عدد من القرى والمناطق الزراعية، لكنها تحوّلت لاحقاً إلى تعاونيات ذات طابع زبائني لأسباب سياسية، فضلاً عن أنها معطلة منذ فترة بسبب الوضع الاقتصادي.

من يربح في سوق الخضار والفاكهة؟

يشير همدر إلى تجربة أخرى تهدف إلى التخلص من دور الوسطاء، وقد أعد على أساسها دراسة نُشرت في مجلة Supply Chain Management في التسعينيات. في هذه الدراسة، ربط همدر إحدى الشركات اللبنانية بعدد من المزارعين للتعامل معهم مباشرةً من دون وسطاء، وقد قدمت الشركة للمزارعين المواصفات المطلوبة، فقاموا بضبط إنتاجهم وفقاً لها. ونجحت هذه التجربة خصوصاً في محاصيل البطاطا والمخللات، ما أتاح للمزارعين سوقاً مضمونة. وتعتمد هذه التجربة على نموذج مشابه لتجربة أجريت في لندن في العام 1995، حيث تم ربط المزارعين بشركة Sainsbury's، إحدى أكبر سلاسل متاجر البيع بالتجزئة في بريطانيا، وأسفرت هذه التجربة عن زيادة أرباح المزارعين بنحو 18%.

توجد وسائل أخرى لتعزيز القوة التفاوضية للمزارع وحمايته من خسارة المحصول بسبب التلف. يشير أنطوان حويّك أنه عندما يكون هناك فائض في الإنتاج الزراعي في منطقة معينة، ولا يمكن تخزينه في البرادات، يصبح التصنيع خياراً مناسباً لإنقاذ المحصول. وقد أعدت غرف الزراعة مشروعاً لذلك في العام 2002، إلا أن السلطة السياسية رفضت تنفيذه، مع أن معامل التصنيع كانت قادرة على استيعاب نحو 80% من المشكلة.

في المحصلة،  تتنوّع التجارب الرامية للتخلص من الوسطاء أو إضعاف دورهم على الأقل، لكنها ستظل تواجه الفشل أو تواجه عقبات حقيقية ما لم تؤدِ الدولة دوراً فاعلاً في دعمها. يشير همدر إلى أن مشكلة الزراعة في لبنان تكمن في اعتمادها على المبادرة الفردية بسبب غياب دور الدولة، حيث يُترك المزارع أعزلاً في مواجهة أسواق غير عادلة، ويُحرم من استخدام التقنيات الزراعية، ويُدفع إلى الاستدانة من مرابين يفرضون عليه فوائد باهظة تصل أحياناً إلى 100%.

يتعجّب همدر من الحديث عن التجارة الحرة في لبنان «في حين يقدم الاتحاد الأوروبي دعماً للزراعة في بلدانه يزيد عن 300 مليار يورو سنوياً، وأميركا تدعم القطاع الزراعي والبيئي بأكثر من 27 مليار دولار. هذه الدول تعتمد على التجارة الحرة والاقتصاد الليبرالي، لكنها تدعم القطاعات الزراعية لأنها تدرك أهمية هذا القطاع  في معيشة الناس والحفاظ على الأرض».

هل يتعرّض جميع المزارعين للإبتزاز؟

لا يخضع جميع المزارعين للمستوى نفسه من الاستغلال. يؤكد عواضة أن أصحاب الأراضي الزراعية الصغيرة أو المزارعين الصغار هم أبرز الضحايا، في حين أن الشركات وأصحاب الحيازات الزراعية الكبيرة يحظون بظروف أفضل لولوج الأسواق، ويرتبطون مع سلاسل البيع المرتبطة بالإنتاج بدرجات متفاوتة، ويحظون بمعاملة مختلفة في سوق الحسبة بسبب كميات البضاعة الكبيرة التي يجلبونها معهم.

تُترجم هذه الحقيقة إلى غبن يلحق بالأكثرية ومزايا تُمنح للأقلية، إذ إن غالبية المشتغلين في القطاع الزراعي في لبنان هم من سكان الأرياف والمناطق القريبة من السهول الزراعية، كثير منهم يملكون أراضٍ صغيرة حول منازلهم يزرعونها ضمن إطار عائلي وغير رسمي.

من يربح في سوق الخضار والفاكهة؟

تؤكد البيانات الحكومية هذه الحقيقة، فوفقاً للمسح الزراعي الأخير في العام 2010، يمتلك أقل من 3,100 شخص، وهم أصحاب الحيازات الكبيرة التي تزيد مساحتها عن 100 دونم، حوالي ثلث الحيازات الزراعية، ويشكلون فقط 1.8% من مجمل أصحاب الحيازات، بينهم 15 شركة و51 مؤسسة طائفية. في المقابل، يمتلك حوالي 166,400 شخص الحيازات الأصغر التي تمثل الثلثين المتبقيين.

أحد المزايا التي يُحرم الفلاح الصغير منها هي التعاقد مع التاجر على أساس ضمان المحصول، حيث يتفق الطرفان على مبلغ محدد بغض النظر عن الظروف المستقبلية التي قد يمر بها القطاع الزراعي. وبحسب عواضة، غالباً ما يكون المزارعون الذين يضمن لهم الوسيط المحصول من كبار المزارعين أو أولئك القادرين على توفير منتجات نادرة في السوق، مثل مزارع مشهور ببيع ثمرة «دراغن فروت»، يتسابق التجار للتعاقد معه أولاً.

في هذا الإطار، يوضح أنطوان حويّك أن هناك اقتراح قانون معلّق في مجلس النواب منذ العام 2005، ينص على إنشاء ضمان وطني للمزارعين، بحيث يحصل المزارع بموجبه على تأمين مدعوم من الدولة، إلا أن المشروع لم ينجح لأسباب سياسية.