كيف تخفّض الأونروا مصاريفها على حساب تعليم الفلسطينيين في لبنان؟
تتعمّق أزمة التعليم في مدارس الأونروا في لبنان مع وصول الاكتظاظ إلى مستويات غير مسبوقة، ليس بسبب نقص المساحات أو غياب الغرف الصفّية، بل نتيجة قرار واعٍ من وكالة غوث اللاجئين الفلسطينيين بتقليص عدد الصفوف بهدف خفض النفقات وتكييف ميزانيتها مع الخفض الكبير في التمويل المخصّص لها.
فوفق بيانات حديثة، يضمّ ثلث الصفوف في مدارس الاونروا أكثر من 40 تلميذاً في الصف الواحد، على الرغم من أنّ المعلّمين يؤكدون أن الحدّ التعليمي المقبول لا يتجاوز 30 طالباً. ومع ذلك، تعتمد الأونروا آلية «التشكيلات الصفّية» التي تُحشر بموجبها أعداد كبيرة من التلامذة في صفوف محدودة، حتى ولو كانت غرف إضافية جاهزة وغير مستخدمة. هكذا تحوّل ضغط التمويل والاعتبارات السياسية إلى سياسات تُقدّم التقشّف المالي على جودة التعليم، تاركة آلاف التلاميذ الفلسطينيين في بيئة دراسية خانقة لا تراعي الحد الأدنى من المعايير التربوية.
1. كيف تعمل التشكيلات الصفية
لا يعود الاكتظاظ إلى نقص في الغرف القابلة للاستخدام، إذ توجد فصول دراسية فارغة بالكامل، بل إن بعض المدارس لم تُفتَح هذا العام. فالمشكلة الحقيقية تكمن في آلية «التشكيلات الصفّية» التي تعتمدها الأونروا لتحديد عدد الشعب المفعَّلة في كل مرحلة دراسية، وهي آلية تقوم على تقليص النفقات التشغيلية بدلاً من استثمار المساحات المتاحة بصورة فعّالة.
مع بداية كل عام، تُصدر الأونروا «التشكيلات الصفّية» التي تحدّد العدد المفترض للطلاب في كل صف. ففي العام 2025، قرّرت الوكالة أن يكون عدد الطلاب في الصف الواحد بين 43 و45 طالباً. فإذا سجّلت إحدى المدارس 450 طالباً في الصف السابع، تقوم بقسمة العدد على 45 لتفعّل 10 شعب فقط. ويُعامل هذا الرقم بوصفه «مقدّساً» لا يجوز تجاوزه: فحتى لو وُجدت 12 غرفة جاهزة، تُترك غرفتان فارغتان وتُملأ الشعب العشر وحدها. وتمارس إدارة الأونروا ضغوطاً كبيرة لضمان التزام المدارس بهذه الأرقام، إذ تُرسل إنذارات فورية لأي مدرسة تتخطّى العدد المحدد ولو بشعبة واحدة.
واللافت أنّ هذه السياسة تُعلّق حين لا يصبّ تطبيقها في مصلحة زيادة التقشّف. فإذا سجّل مثلاً 455 طالباً في الصف السابع—أي بزيادة خمسة طلاب على القدرة الاستيعابية المُفترضة—غالباً ما تُحشر الزيادة داخل الشعب العشر القائمة، متجاوزة السقف المسموح به، بدلاً من فتح شعبة إضافية وتوزيع الطلاب بطريقة أكثر توازناً.
ببساطة، لو تخلّت الأونروا عن هذه الآلية ووزّعت الطلاب بشكل متوازن على جميع الغرف المتاحة، لباتت مضطرة إلى تعيين عدد أكبر من المعلّمين وربما تشغيل مدارس إضافية، ما سيضاعف الأعباء على ميزانيتها المنهَكة أصلاً.
2. كيف تُخفّض التشكيلات الصفّية التكاليف؟
تقوم التشكيلات الصفية على تقليص عدد المعلّمين وعدد المدارس إلى أدنى حدّ ممكن.
يشير مطّلعون على طبيعة العمل داخل الأونروا إلى أن الإدارة تعمل بلا هوادة على تقليص عدد الأساتذة، في سجال مستمر مع اتحاد المعلّمين في مدارس الوكالة. وتشمل هذه المساعي زيادة ساعات عمل المعلّمين ورفع نسبة المياومين، الذين لا تتحمّل الوكالة كلفة منحهم المزايا الاجتماعية ويمكن الاستغناء عنهم بسهولة.
هنا تُوظّف التشكيلات الصفّية لتكون ورقة رابحة في يد الوكالة أمام اتحاد المعلّمين، فهي لا تقتصر على حشر أكبر عدد ممكن من التلاميذ في أقل عدد من الصفوف، بل أيضاً تخصيص عدد أقل من الأساتذة في عدد أكبر من الصفوف، لكي تتمكّن من تحقيق هذا الأمر عبر تحميل الأساتذة ساعات تدريس إضافية تتجاوز الحدّ المقرر - أدناه 20 ساعة لدى أساتذة الثانوي - بإضافة ساعة أو ساعتين، بدلاً من فتح صف جديد وتعيين كادر تعليمي إضافي لتقاسم ساعات التدريس معهم.
تُظهر أحدث بيانات المركز التربوي للبحوث والإنماء نجاح الأونروا في مسعاها؛ إذ تفيد بأنه في العام الدراسي 2023/2024 بلغ معدّل عدد الطلاب لكل معلّم في مدارس الأونروا 22 طالباً، مقابل 19 طالباً لكل معلّم في المدارس الخاصة المجانية، و13 طالباً لكل معلّم في التعليم الخاص، و7 طلاب فقط لكل معلّم في المدارس الرسمية.
تُظهر البيانات التاريخية ان الوكالة خفّضت تدريجياً عدد مدارسها بنسبة 20% في خلال العقد ونصف العقد الأخير، من 75 مدرسة في العام الدراسي 2009-2010 إلى 60 فقط في 2024-2025، وفق بيانات كل من المركز التربوي للبحوث والإنماء والاونروا.
تدعي الأونروا أن اختيارها لعدد المدارس المفتتحة يعتمد على عدد الطلاب، إلا أن البيانات التاريخية تشير إلى ان وتيرة تقليص عدد المدارس سارت جنبا الى جنب مع وتيرة الزيادة في عدد الطلاب، حيث أن متوسط عدد الطلاب في مدارس الأونروا ارتفع بنسبة 32% في هذه الفترة، من متوسط 435 طالباً لكل مدرسة في العام الدراسي 2009-2010 إلى متوسط 573 طالباً لكل مدرسة في 2024-2025.
3. كيف يؤثّر نقص التمويل والضغط السياسي على مستقبل التلاميذ؟
من المتوقع أن يستمر الاكتظاظ في المدارس والصفوف من دون تحسن قريب في خلال السنوات الآتية، بل قد يتفاقم الوضع أكثر، إذ قد يواجه طلاب الأونروا في لبنان مصيراً مشابهاً لزملائهم في الأردن وسوريا والضفة الغربية وقطاع غزة، وإن اختلفت درجات التأثر. فالقطاع التعليمي للأونروا سيتأثر باستفحال الأزمة المالية التي تمر بها الوكالة والضغوط السياسية المصاحبة لها، شأنه شأن قطاعات الصحة والسكن والمياه وغيرها.
منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، تتعرّض الأونروا لضغوط سياسية كبيرة من إسرائيل، تهدف إلى الغاء وجودها، عبر شن الهجمات عليها وعرقلة عملها وحجب التمويل عنها، بما في ذلك التمويل الأميركي، الذي تم تعليقه في العام 2024 في خلال إدارة جو بايدن، واستمر في خلال عهد ترامب، وكانت الولايات المتحدة قبل حجب التمويل أكبر مموّل للأونروا في العالم.
أسفرت المساعي الإسرائيلية - إلى جانب خفض التمويل الأميركي للنشاطات الإنسانية حول العالم في خلال عهد ترامب - عن تراجع الدعم المالي للوكالة. ففي تشرين الأول/نوفمبر 2025، أشار المفوّض العام للأونروا، فيليب لازاريني، إلى أن الوكالة تواجه عجزاً يقدّر بنحو 200 مليون دولار أميركي بين نهاية 2025 وبداية 2026، أي نحو خُمس المتطلّبات التي قدّرتها المؤسسة للعام 2026 وبلغت مليار و77 مليون دولار، نصفها سينفق على خدمات التعليم.
يشير لازاريني إلى أن الإيرادات المتوقعة في الربع الأول من العام 2026 منخفضة جداً، وعلى عكس السنوات السابقة، فإنها لا تكفي لتغطية العجز الكبير من العام 2025. وأضاف أن الحفاظ على عمليات الأونروا بالمدى والنوعية الحاليين قد لا يكون ممكناً، محذراً من أن أي تقليص لهذه العمليات سيكون له «عواقب وخيمة» على الاستقرار الإقليمي، لا سيما في قطاع غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا والأردن.