
نحو الاقتصاد السياسي للبلطجة
كعادته في كل استحقاق يخوضه، يبالغ دونالد ترامب في تعظيم «إنجازاته» والإشادة بتأثيرها على المجتمع الأميركي، فضلاً عن دورها في استعادة عظمة أميركا المفقودة. وهكذا كان الحال عند توقيعه على قانون التعديلات الضريبية والإنفاق العام، الذي أقرّه الكونغرس الأسبوع الماضي، ووصفه ترامب بأنه «الأكثر شعبية في تاريخ الولايات المتّحدة». إلا أن استطلاعات الرأي كشفت عكس ذلك تماماً، فقد أشارت تقارير إعلامية، من بينها تقرير لشبكة CNN، إلى أن هذا القانون، الذي أطلق عليه ترامب وصف «الجميل والكبير»، يعد من أكثر القوانين غير الشعبية التي أقرت في البلاد منذ العام 1990، وفقاً لأربع دراسات أجرتها مؤسسات إعلامية، إحداها أعدّتها فوكس نيوز، المقرّبة من الجمهوريين والمفضلة لدى ترامب، إلى جانب مراكز أبحاث مستقلة.
لا يعتبر ترامب إذاً مبدأ تصفير عجز الموازنة أداة اقتصادية بحتة، بقدر ما هو وسيلة سياسية مباشرة لتمكين مصالح تحالف القوّة السياسي والديني والعسكري والتكنولوجي الذي يرتكز عليه
يمضي ترامب قدماً في سياساته الداخلية والخارجية، وينصِّب نفسه إمبراطوراً أعلى ذا صلاحيات مطلقة، خارج نطاق المساءلة والمحاسبة. يُحصِّن نفسه بمزيج من علاقات المصالح المتينة مع كارتيلات الصناعات العسكرية والنفطية وكبريات الشركات التي يمكّنها القانون الجديد من تحقيق ما لم يكن متصوّراً حتى في الخيال. ويضاف إلى ذلك، قدرته على ممارسة أقصى درجات الضغط على رجالات الحزب الجمهوري، وهذا ما حصل بعد سلسلة من الاجتماعات الطويلة والعاصفة التي دارت في المكتب البيضاوي، وقدرته غير المحدودة على استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للانقضاض على خصومه الخارجيين والداخليين على حد سواء. فكما أعلن الحرب على إيران وأنهاها، وأعلن نهاية الحرب بين الهند وباكستان، وروّج لرؤيته لمستقبل غزّة عبر منصّته الخاصة Truth Social، خاطب نواب الحزب الجمهوري محمِّلاً إياهم مسؤولية التأخّر في إقرار القانون.
ماذا في قانون ترامب «الكبير والجميل»؟
يُدخل القانون تعديلات جوهرية على السياسات الضريبية وهيكلة الإنفاق الحكومي في مختلف القطاعات الاجتماعية والاقتصادية، ويحدّد الإطار المالي للولايات المتّحدة في خلال العقد المقبل، وسيكون له أثر طويل الأمد حتى العام 2050. لكن بعيداً من ادعاءات ترامب وفريقه، يتفق الخبراء على أن آثاره ستكون سلبية على المدى الطويل، إذ سيزيد العجز السنوي في الموازنة بنحو 3 تريليونات دولار في خلال السنوات العشر المقبلة، بينما ستتضخّم خدمة الدين العام بنحو 551 مليار دولار في خلال الفترة نفسها. أما على صعيد النمو الاقتصادي، فيشير تقرير لمعهد بروكينغز إلى أن معظم التقديرات أجمعت على محدودية الأثر وهامشيته على مستوى النمو الاقتصادي وتعزيز الإنتاجية، إذ لن يتجاوز 0.4% بعد 10 سنوات و0.8% بعد 3 عقود. وفي تحليل أكثر تشاؤماً، توقع مختبر جامعة ييل للموازنة أن يرتفع الدين العام إلى 12 تريليون دولار بحلول العام 2055، ليصل العجز إلى 16 تريليون دولار، فيما ستتجاوز نسبة الدين إلى الناتج المحلي 186%، ما قد يهدّد بانهيار المالية العامة.
لا يعتبر ترامب إذاً مبدأ تصفير عجز الموازنة أداة اقتصادية بحتة، بقدر ما هو وسيلة سياسية مباشرة لتمكين مصالح تحالف القوّة السياسي والديني والعسكري والتكنولوجي الذي يرتكز عليه. هكذا يرضى صقور اليمين المحافظ بإضافة تريليونات الدولارات في مقابل تحقيق انتصار أيديولوجي كبير في ما يتعلق باستكمال الانقضاض على ما تبقى من برامج حماية اجتماعية ممكنة للفئات الأكثر فقراً وهشاشة. كما للوضع الخاص للولايات المتّحدة، كإمبراطورية تتحكّم بإنتاج عملة التداول العالمية (الدولار)، ما يميزها عن أي دولة أخرى في العالم. بالحقيقة، مهما كبُر عجز موازنتها وتضخم دينها العام نسبةً إلى حجم اقتصادها فهي قادرة على تمويله عبر طباعة المزيد من الأوراق النقدية وهذا ما لا يمكن لأي دولة أخرى القيام به.
تمويل دولة ترامب البوليسية
بملاحظة مكوِّنات الإنفاق بحسب القانون، يتبيّن الجنوح الكبير نحو عسكرة الإنفاق العام وتعظيم دور الدولة البوليسية، وهذا ما يقع في صلب الحوكمة النيوليبرالية. فالسياسات التي أقرّت تسعى إلى إعادة إنتاج القوّة العسكرية للولايات المتّحدة بما يضمن لترامب المقدرة على تهديد أي كيان في العالم قد يعترض على سياساته من الصين وإيران ورسيا وصولاً إلى كندا وحلفائه في الناتو. بالتوازي مع تمتين الدولة البوليسية في الداخل الأميركي، بما يعزّز من قدرته على تنفيذ رؤيته المعادية للمهاجرين والمكمّلة لأيديولوجيا التفوّق الأبيض. فلا مجال للاختلاف أو التباين مع رؤية ترامب، حتى أنّ إيلون ماسك، حين اعترض على القانون، وُصف بأنه «غير أميركي» ويجب إعادته إلى جنوب أفريقيا حيث وُلد ومحاكمته وسجنه، وفق تعبير ستيف بانون، كبير المستشارين الاستراتيجيين لترامب، سابقاً، وذي الميول اليمينية المتطرّفة.
وجّه القانون الجديد جزءاً كبيراً من الزيادة في الإنفاق نحو إدارة الهجرة والحدود (ICE)، إذ سيتضخّم تمويل المؤسّسة المخصّص لإدارة مراكز الاعتقال والسجن وبنائها بحوالي 265% بحلول العام 2029، ليصل إلى 45 مليار دولار في السنة، بالمقارنة مع ما لا يتعدّى 3.4 مليار دولار اليوم. وبحسب دون مونيهان، الأستاذ في جامعة ميتشيغان، يقترب هذا الرقم من إجمالي الميزانية المجمّعة لخمسين سجن فدرالي موجود حالياً في الولايات المتّحدة. وبذلك تصبح ميزانية السجون لدى ICE أكبر من ميزانية وكالة التنمية الأميركية التي ألغاها ترامب بقرار تنفيذي، أو من ميزانية برنامج الدعم الغذائي (SNAP) بحسب القوانين الجديدة. إلى ذلك، سيخصّص حوالي 14 مليار دولار لخدمات النقل والاعتقال بحلول العام 2029. فضلاً عن الميزانية الحالية، التي تقدّر بحوالي 750 مليون دولار و8 مليارات دولار لتوظيف عناصر جديدة (حوالي 10 آلاف عنصر بحلول العام 2029) والإبقاء على الكادر البشري الحالي (6 آلاف عنصر). بالإضافة إلى حوالي 46 مليار دولار لاستكمال العمل على الحائط الفاصل على الحدود مع المكسيك. وبحسب المجلس الأميركي للهجرة يمكن لهذه الزيادة في الإنفاق أن توسّع من قدرات المؤسّسة لتصبح قادرة على اعتقال حوالي 116 ألف شخص بشكل يومي. وبحسب بيان المجلس فإن إجمالي الإنفاق على تحسين قدرات منظومة الهجرة والحدود ستصل إلى 170 مليار دولار بحلول العام 2029 في حين سترتفع الميزانية السنوية الاجمالية لـ ICE بحوالي 3 مرات لتصل إلى حوالي 37.5 مليار دولار في السنة بما يسمح من تصنيفها في المرتبة 16 على المستوى العالمي من حيث حجم الإنفاق العسكري متجاوزة دول كالبرازيل وإسرائيل وإيطاليا.
السياسات التي أقرّت تسعى إلى إعادة إنتاج القوّة العسكرية للولايات المتّحدة بما يضمن لترامب المقدرة على تهديد أي كيان في العالم قد يعترض على سياساته
على الصعيد العسكري، سيحصل البنتاغون على حوالي 150 مليار دولار تُدفع لمرة واحدة ضمن ميزانية العام 2025، ما سيرفع سقف الإنفاق العسكري الأميركي في هذا السنة إلى أكثر من تريليون دولار. وسيذهب القسم الأكبر منها، أي حوالي 33 مليار دولار لتحسين قدرات البنتاغون في تطوير السفن العسكرية، و24 مليار دولار لتمويل مشروع ترامب للقبّة الذهبية الذي ستشكّل حماية إضافية من خطر الهجمات الصاروخية وتحسّن الدفاعات الجوّية ضدّ هجمات من دول كالصين وإيران وكوريا الشمالية. ويهدف مشروع القبّة الذهبية إلى منح الجيش الأميركي القدرة على اعتراض الصواريخ من الفضاء الخارجي، قبل دخولها الغلاف الجوي، بتمويل أولي يقدّر بحوالي 175 مليار دولار مع توقع بأن تتخطّى الكلفة الفعلية للمشروع هذا الرقم بكثير. في المقابل، يخصّص القانون الجديد حوالي 20 مليار دولار لزيادة قدرات الولايات المتّحدة على تصنيع وتخزين الذخائر على اختلاف أنواعها وتحسين متانة سلاسل إنتاجها. كما يخصّص حوالي 13 مليار دولار لتطوير القدرات النووية و5 مليارات دولار لتعزيز قدرات وزارة الدفاع على حماية الحدود ومكافحة الإتجار بالمخدرات.
هدايا ضريبية للأغنياء
تستكمل حزمة الإعفاءات الضريبية التي أقرّها القانون الجديد رؤية ترامب للسياسات الضريبية التي اعتمدها في العام 2017، وشكّلت في حينها أحد أكبر الإعفاءات الضريبية - أكثر من 4 تريليون دولار - في تاريخ الولايات المتّحدة. وفي القانون الجديد، يحوّل ترامب هذه الإعفاءات - التي كانت مبرمجة لتنتهي بحلول العام 2025 - إلى تشريع دائم غير مرتبط بفترة زمنية محددة. وهكذا تستفيد كبريات الشركات الأميركية من تخفيض دائم للضريبة على الأرباح من 35% (بحسب القانون المعتمد قبل العام 2017) إلى 21% كحد أقصى. ويضاف إلى ذلك، اعتماد إعفاءات جديدة تتعلق بتكاليف الاستثمار في البنية التحتية الصناعية وبناء المنشآت الجديدة، فضلاً عن الاستثمار في قدرات التطوير والأبحاث. ويدخل القانون الجديد إعفاءات ضريبية محدّدة بمداخيل المتقاعدين، والضرائب على كلفة النقل العقاري، وتمويلات الأطفال حديثي الولادة، بالإضافة إلى إعفاءات ضريبية لقروض السيارات والمداخيل الناتجة عن ساعات العمل الإضافية والإكراميات.
في المقابل، تلغي القوانين الجديدة الإعفاءات الضريبية الصديقة للبيئة مثل تلك المخصّصة لشراء السيارات الكهربائية أو التعديلات المنزلية الصديقة للبيئة. كما ستتأثر مشاريع إنتاج الطاقة النظيفة بشكل مباشر من هذه التعديلات بما سيرفع من كلفة استهلاك الأسر الأميركية للكهرباء بحوالي 110 دولارات في السنة لكل أسرة، وقد تصل الزيادة إلى حوالي 200 دولار في بعض الولايات، كما ستتأثر محال تجارة التجزئة بهذا الأمر يما يحمّل الزيادة في الكلفة للمستهلك. كما ستزيد فاتورة الوقود السنوية التي سيدفعها الأميركيون لشركات النفط والغاز بحوالي 339 مليار دولار بحلول العام 2035. وبالمحصلة، ستخلق هذه الإعفاءات الضريبية أثراً معاكساً لمبدأ «روبن هود»، إذ ستسهم بشكل مباشر في توسيع الفجوة في توزيع الموارد بين الفقراء والأغنياء.
استهداف الفقراء والفئات الأكثر هشاشة
يكرّس هذا القانون مفهوم الدولة النيوليبرالية كجهاز يتدخّل في أدق التفاصيل السياسية والاقتصادية والاجتماعية لتثبيت وتحصين رؤيتها الاجتماعية. في هذا السياق، نجد الاستهداف المباشر لبرامج التدخل الاجتماعي في الولايات المتحدة، وعلى رأسها برنامج التغطية الصحية Medicaid، حيث سيُجرى اقتطاع حوالي تريليون دولار من الإنفاق الحكومي المخصص للبرنامج في السنوات العشر المقبلة، ما قد يحرم حوالي 17 مليون من الأميركيين من التغطية الصحية بحلول العام 2034. بالمحصلة، سيصبح حوالي 300 مستشفى في مناطق ريفية تحت خطر مباشر من حيث ندرة التمويل، وسيكون الأطفال والأفراد البالغون غير المسنّين من أكثر الفئات المستهدفة بهذه الاقتطاعات، بالإضافة إلى الأفراد المعوقين. لتصبح الهشاشة الاجتماعية الموسعة هدفاً مباشراً للحوكمة النيوليبرالية بل أداة مباشرة لإدارة الحياة بين الأفراد والجماعات، وليست نتاجاً عنها. بمعنى آخر، إن توسيع الهشاشة الاجتماعية (أفقياً وعمودياً) في مجالات العمل والسكن والصحة والتعليم والتربية والهجرة والحريات العامة والحقوق هو شرط تأسيسي لنجاح الدولة النيوليبرالية.
إن توسيع الهشاشة الاجتماعية في مجالات العمل والسكن والصحة والتعليم والتربية والهجرة والحريات العامة والحقوق هو شرط تأسيسي لنجاح الدولة النيوليبرالية
يتضمن القانون جملة من الإجراءات التي ستحدّ من إمكانية الاستفادة من خدمات البرنامج، بما سيقلّل من أعداد من يحق لهم التقدّم للاستفادة من خدمات البرنامج. ويأتي مشروع SNAP المعني بتأمين حد أدنى من الأمن الغذائي لمحدودي الدخل، والذي يستفيد منه حوالي 42 مليون أميركي، في المرتبة الثانية من حيث الاقتطاعات. إذ سيجري تخفيض ميزانيته بحوالي 300 مليار دولار للفترة نفسها، بما سيؤدي إلى حرمان حوالي مليوني أميركي من الأكثر فقراً من المساعدات الغذائية الأساسية، في حين قد يصل عدد الأسر المتضررة جزئياً - بخسارة ما يقارب 146 دولاراً شهرياً - إلى حوالي 5 ملايين أسرة. كما تعدل القوانين الجديدة الأطر الناظمة للقروض الطلابية، بما يجعلها أكثر صرامة وأقل تغطية لمختلف المراحل الدراسية، ويرفع من سقوف الدفعات الشهرية. بالمحصلة، ستخسر الأسر الأميركية الأقل دخلاً (أقل 20% من الأسر) حوالي 2.9% من دخلها السنوي (ما يعادل 700 دولار)، في مقابل زيادة بحوالي 2% (ما يعادل 30 ألف دولار) في الدخل السنوي للأسر الأعلى دخلاً (أغنى 1% من الأميركيين).
حقّق ترامب، ومن خلفه مستشاره الأخطر ستيفن ميلر - المنظّر الأول للعدائية تجاه المهاجرين والغارق في الأيديولوجيا اليمينية المتطرفة - «انتصاره» الأكبر، على الرغم من الخلاف الشديد مع صقور الحزب الجمهوري فيما يتعلق بالسياسات المالية المحافظة التي ترفض توسيع العجز في مقابل تقديم برامج الحماية الاجتماعية الأميركية كجائزة كبرى. وربما، يكون من المفيد توسيع البحث في ما يمكن تسميته بالاقتصاد السياسي للبلطجة في سعينا لفهم المحرّك الأساس لمسار حكم دونالد ترامب في فترته الرئاسية الثانية. للبحث تتمة.