معاينة ما هي قصّة تلزيم الرقعة رقم 8؟

ما هي قصّة تلزيم الرقعة رقم 8؟

وافق مجلس الوزراء اللبناني في جلسته المنعقدة في 23 تشرين الأول/أكتوبر الماضي على منح رخصة للاستكشاف والإنتاج في الرقعة رقم 8 (البلوك 8) من المياه البحرية اللبنانية مع ائتلاف شركات توتال إنرجي الفرنسية، وقطر للطاقة، وENI الإيطالية، وهو التحالف نفسه الذي كان قد مُنح سابقاً حقوقاً للاستكشاف في الرقع 4 و9 في العام 2017. الإعلان جاء مفاجئاً في توقيته وفي سياق مسار الأحداث المرتبطة بقطاع النفط والغاز في لبنان، وأثار سلسلة من التساؤلات والتكهّنات. إذ أُعطيت الرخصة وفق دورة التراخيص الثانية التي كان من المفترض أنها قد أُقفلت في تشرين الأول /أكتوبر  2023، الّا أنّ التّحالف مُنح حق الاستفادة من قانون تعليق المهل رقم 328/2024 لإعادة إحياء عرضه لهذه الرقعة. من جهة أخرى، فقد جاءت تفاصيل العرض المقدّم مجحفة بحقّ لبنان من الناحيتين التقنيّة والمالية، وتأخذه أسيراً للتحالف لخمس سنوات مقبلة، في حين أنّ أي انتاج محتمل في حال تم اكتشاف كميات تجارية لن يتمّ قبل 7 إلى 10 سنوات. 

ما هي قصة الرقعة رقم 8؟

ما هي قصّة تلزيم الرقعة رقم 8؟

الرقعة رقم 8

تشكّل الرقعة رقم 8 إحدى الرقع العشر التي قُسمّت على أساسها حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانية من خلال المرسوم 6433/2011، وإحدى البلوكات الثلاث المحاذية للحدود البحرية مع إسرائيل. وهو البلوك الوحيد الذي لم يخضع للمسح الزلزالي ثلاثي الأبعاد الذي أجري بين الأعوام 2006 و2013، وغطّى ما يقارب 80% من مساحة المنطقة الاقتصادية، نتيجة النزاع الحدودي الذي كان قائماً مع إسرائيل والذي سُوّي في العام 2022.

في نيسان/أبريل من العام 2019، وبعد إقفال دورة التراخيص الأولى التي أفضت إلى تلزيم البلوكين 4 و9 لتحالف شركات توتال إنرجي الفرنسية وENI الإيطالية ونوفاتيك الروسية في العام 2017 (عادت واستُبدلت بقطر للطاقة)، أطلق لبنان دورة التراخيص الثانية عارضاً كامل بلوكاته البحرية غير الملزّمة. إلّا أن دورة التراخيص هذه تأجلت 5 مرّات في خلال 4 سنوات نتيجة جائحة كورونا والأزمة الاقتصادية وتداعياتها على المستويات كافة، إلى أن أُقفلت في 2 تشرين الأول /أكتوبر من العام 2023.

في ذلك الحين، قدّم اثتلاف توتال إنرجي-إيني-قطر للطاقة عرضي مزايدة على البلوكين 8 و10، المحاذيين للبلوك رقم 9 على الحدود الجنوبية. تضمّن العرض على البلوك رقم 8 مرحلة مسوحات زلزاليّة قبل اتخاذ قرار الحفر أو التخلّي (Seismic or Drop)، وقد وافق مجلس الوزراء حينها في 12 كانون الثاني/يناير 2024 على التلزيم، مشترطاً تقصير مدّة الاستكشاف لتصبح سنة واحدة وزيادة حصّة الدولة في حال حصول اكتشاف تجاري مستقبلاً في الرّقعة المذكورة.

لم يوافق تحالف الشركات على هذه الشّروط ولم يلتزم بما قرّره مجلس الوزراء، وبالتالي لم يوقّع على اتفاقية الاستكشاف والإنتاج، وبالتالي لم يتمّ تلزيم البلوكين 8 و10، وعادت ملكيّتهما بالكامل إلى الدولة اللبنانية.

ما علاقة شركة TGS بالرقعة رقم 8؟

بما أن مهلة دورة التراخيص الثانية قد انتهت في تشرين الأول /أكتوبر  2023، أُقفل ملفّها وقامت وزارة الطاقة والمياه بإطلاق دورة التراخيص الثالثة في كانون الأول/ديسمبر من العام نفسه، وحدّدت مهلة تقديم العروض لجميع البلوكات غير الملزّمة بحلول تموز/يوليو 2024، قبل أن يتمّ تأجيل هذا الموعد الى آذار/مارس 2025، ومن ثم إلى تشرين الثاني/نوفمبر 2025 المقبل، أي أن دورة التراخيص الثالثة لا تزال مفتوحة حتى اليوم.

في الوقت عينه، قرّرت الحكومة في كانون الأول/ديسمبر 2024 منح رخصة استطلاع غير حصريّة (Reconnaissance License) لشركة TGS للقيام بمسوحات جيوفيزيائية في الرقعة رقم 8، على مساحة تمتدّ لنحو 1,300 كيلومتر مربع. وتُعدّ شركة TGS ثمرة اندماج بين شركة PGS الأميركية وشركة TGS النرويجية، وقد سبق للشركتين أن أجرتا أوّل مسوحات زلزالية ثنائية وثلاثية الأبعاد في لبنان، وفي العام 2019، استحوذت TGS أيضاً على شركة Spectrum، وهي شركة تعمل أيضاً في مجال المسوحات، وقد عملت في لبنان سابقاً.

هدفت الرخصة إلى جمع المعطيات الجيولوجية عن الرّقعة رقم 8 غير الممسوحة سابقاً، ومعالجتها ودمجها بالمعلومات والمسوحات المنفّذة سابقاً، كما وزيادة قيمة الرقعة التجارية وتنافسيتها عند عرضها في دورات التّراخيص التالية، ما يساهم في اختصار الفترة الزمنية اللازمة قبل اتّخاذ قرار الحفر من قبل الشركات العالمية (والتي قد تصل إلى عام كامل)، إذ إنّ مدة جمع المعطيات ومعالجتها قد يستغرق حوالي 6 أشهر بالحدّ الأقصى.

ونتيجة لهذا المسار، قامت TGS بكلّ الإجراءات الإدارية للبدء بعمليّات المسح، واستقدمت بالفعل الباخرة اللازمة لذلك في خلال شهر تشرين الأول/أكتوبر المنصرم، إلّا أن وزارة الطاقة والمياه عادت وطلبت من الشركة وقف جميع الأنشطة ومغادرة المياه اللبنانية، وتأجيل المسح لتاريخ يُحدّد لاحقاً، من دون معرفة الأسباب الحقيقية الكامنة وراء ذلك.

تفاصيل الرخصة المعطاة لتوتال وشركائها في الرقعة 8

فجأة، وبعد تأجيل مسوحات TGS الى أجلٍ غير مسمى وإخراج السفينة من الرقعة 8، حطّ عرض ائتلاف توتال إنرجي-إيني-قطر للطاقة مجدّداً على طاولة مجلس الوزراء بشأن الرقعة نفسها. المفارقة أنّ العرض المقدّم والرخصة الممنوحة جاءت نتيجة دورة التراخيص الثانية التي كانت قد أُقفلت، الّا أن التحالف ومجلس الوزراء استخدما ذريعة قانون تعليق المهل 328 الصادر في 4 كانون الأول/ديسمبر 2024، الذي علّق جميع المهل العقديّة ومنها ما هو منصوص عليه في دفتر شروط العرضين المقدّمين بشأن الرقعتين 8 و10 في أواخر العام 2023، وعاد إلى السريان بدءاً من الأول من نيسان/أبريل 2025، لتقديم عرضهم اليوم بشأن الرقعة رقم 8.

وفي التفاصيل، قسّمت الرخصة الممنوحة إلى فترتين تمتدّ على 5 سنوات. في خلال فترة الاستكشاف الأولى (3 سنوات)، التزم الائتلاف بإتمام مسح زلزالي ثلاثي الأبعاد في الرقعة رقم 8 (حوالي 1,200 كيلومتر مربّع) بعد أن كان العرض السابق يترك القرار للشركات بالقيام بهذا المسح من عدمه. أمّا في خلال فترة الاستكشاف الثانية (سنتان)، فيتعيّن على الائتلاف حفر بئر استكشافي واحد في هذه الرّقعة. ومن الناحية المالية، أتت عناصر تقاسم الإنتاج بين الدولة وائتلاف الشركات أقلّ ممّا كان متاحاً في البلوكين 4 و9، ما يعزّز ويعكس ضعف وضعية الدولة التفاوضية.

ما تداعيات كلّ ذلك؟

على عكس مسوحات TGS التي كانت ستوفّر معلومات جيوليوجية قيّمة في خلال فترة 6 أشهر إلى سنة كحدٍّ أقصى، أصبح اليوم هناك متّسع من الوقت أمام شركات الائتلاف للقيام بالمسح الزلزالي في خلال 3 سنوات. بمعنى أبسط، يمكن لتوتال وشركائها أن يغيبوا عن لبنان سنتين ونصف، ويباشروا بالمسح الزلزالي قبل نهاية السنة الثالثة، فيكونوا قد أتمّوا واجباتهم التعاقدية، ليعودوا في السنتين الأخيرتين لحفر بئر واحد، وهذا الأخير لا يعني إنتاج الغاز، فبحال جاءت نتائج الحفر إيجابية، سيتمّ حفر آبار أخرى قبل الإنتاج الفعلي، والذي قد يستغرق ما لا يقل عن 3 سنوات. أي أن الإنتاج الفعلي لن يحصل قبل 2033 أو 2035 بأحسن الأحوال، في حين تتلهّى الدولة بإعادة إحياء الوهم المتجدّد بامكانيّة استخراج الغاز. بذلك، يكون لبنان قد رهن نفسه لتوتال والتحالف الذي ناور سياسيّاً على مدى العقد المنصرم، وقام مؤخّراً بتأجيل تسليم نتائج الحفر في الرقعة رقم 9 لمدّة ناهزت 18 شهراً من دون معرفة الأسباب.

من جهة أخرى، لا بدّ من الاشارة الى أنّ اسرائيل كانت قد وقّعت في آذار/مارس من هذا العام عقوداً لاستكشاف الغاز ومنحت رخصاً في الرقعة المائية المقابلة للبلوك رقم 8 أو ما يعرف Zone I، وذلك لتحالف شركات SOCAR الآذرية، وBP البريطانية وNewMed Energy الإسرائيلية، والذي يُتوقّع أن يباشر أعماله بسرعة قد تسبق وتيرة الاستكشاف في لبنان.