يد خفيّة
تشييد القصور على المشاع والأبارتايد الاجتماعي في مصر
في الأسابيع الأخيرة، برز جدل على نطاق واسع في مصر بالتوازي مع نشر إحصائية جديدة، وكلاهما يظهران مدى عبثية ما آلت إليه الفجوات الطبقية في المجتمع.
ارتبط الجدل بتأدية أغنية «شيِّد قصورك» للشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم، في واحدٍ من أغلى المنتجعات المُسيّجة في الساحل الشمالي في مصر. والسخرية أن الأغنية التي تحتوي على كثير من المعاني الثورية وتدعو إلى التحرّر والمساواة، مثل بناء القصور الخاصّة في المجالات المشاعية «شيِّد قصورك عَ المزارع»، واستغلال العمّال «من كدِّنا وعمل إيدينا»، والسلطوية «السجن مطرح الجنينة»، تمّ تناولها في أكثر الأماكن مُمارسة للاستبعاد والفرز الطبقي في مصر.
وقبل انتشار الجدل بفترةٍ وجيزةٍ، نشرت مجلّة «عدسة» التابعة للجامعة الأميركية في القاهرة إحصائية عن زيادة عدد الشواطئ الخاصّة في مصر، وارتفاعها من 166 شاطئاً خاصاً إلى 229 بين عامي 2015 و2021، بالتوازي مع تراجع عدد الشواطئ العامّة من 425 شاطئاً عاماً إلى 75 في خلال الفترة نفسها. أمّا بالنسبة إلى المنطقة التي تمتدّ من الإسكندرية إلى مرسى مطروح، وتشمل الساحل الشمالي الذي كان مثار جدل أغنية «شيِّد قصورك»، فقد تراجع عدد الشواطئ العامّة من 107 شاطئاً عاماً في العام 2015 إلى 24 شاطئاً فقط في العام 2021، جرّاء تشييد قصور الأغنياء على السواحل المُفترض أن تكون مشاعية وفقاً للمادة 45 من الدستور المصري التي تكفل حقّ جميع المواطنين بالتمتّع بالشواطئ.
وعدا عن الاستيلاء على الشواطئ العامّة، يتمّ أيضاً طرد السكّان المحلّيين من أراضيهم من أجل تشييد تلك المنتجعات. ووفقاً لنشرة «عدسة»، تشارك الحكومة في مشروع «ساوث ميد» السياحي بحصّة في الأرض انتزعتها من قاطنيها بموجب قانون «نزع الأراضي للمنفعة العامة». ووفقاً لنشرة «عدسة» أيضاً، ضمّت القرية، التي صادرت الحكومة أراضيها لصالح مشروع «ساوث ميد»، 5 تجمّعات سكنية و3 مدارس ومرافق صحّية ومزارع. وهذا ما جعل تشييد القصور على المزارع ظاهرة فعلية، وليس مجرّد تعبير مجازي كما في الأغنية. قدّمت الحكومة تعويضات إلى الأهالي وصلت إلى 2,500 جنيه (50 دولاراً) للمتر الواحد، مقارنة بنحو 181 ألف جنيه (3,700 دولار)، سعر المتر الواحد في المشروع.
غطّت المجتمعات الجديدة مساحة 3,600 كيلومتر مربّع منها، أي ما يقارب أربعة أضعاف المساحة العمرانية الأصلية التي كانت موجودة حتى العام 1977
ولا يقتصر الأمر على منتجعات الساحل الشمالي فقط، بل يمتدّ إلى الحياة اليومية للناس في المدن السكنية الكبرى. في العام 2023، بلغ عدد سكّان القاهرة الكبرى نحو 18.8 مليون نسمة، من ضمنهم 1.5 مليون فقط يعيشون في المجتمعات الحضرية الجديدة (New Urban Communities)، وهو ما يمثّل أقل من 10% من إجمالي سكّان القاهرة الكبرى وفقاً لبيانات مؤسّسة «مرصد عمران». ووفقاً للمصدر نفسه، بلغت مساحة منطقة القاهرة الكبرى 5,020 كيلومتراً مربّعاً في نهاية العام 2023، وغطّت المجتمعات الجديدة مساحة 3,600 كيلومتر مربّع منها، أي ما يقارب أربعة أضعاف المساحة العمرانية الأصلية التي كانت موجودة حتى العام 1977. وعلى الرغم من أن المدن الجديدة تشمل الغالبية العظمى من منطقة القاهرة الكبرى من حيث المساحة، إلا أنها تحتوي على 15% من الوحدات السكنية فقط.
قد يظن البعض أن انخفاض الكثافة السكانية سببه أن غالبية الأرض هناك صحراوية خالية، وهذا صحيح بالطبع. لكن بالنظر إلى نسبة الوحدات السكنية للسكّان، نجد أن متوسّط عدد الأفراد لكلّ وحدة سكنية في القاهرة القديمة يبلغ حوالي 2.66 شخصاً. في المقابل، يبلغ متوسّط عدد الأفراد لكل وحدة سكنية في المجتمعات الجديدة حوالي 1.19 شخصاً فقط.
على عكس القاهرة القديمة، سيطرت المدن المُسيَّجة، التي كانت أراضيها مشاعاً ثم خُصخِصت لمصلحة شركات التطوير العقاري بأسعار بخسة، على غالبية الأراضي في القاهرة الجديدة حيث تعيش أقلية من السكان. تجادل هذه المقالة بأن تفشّي المدن المُسيّجة في مصر يشكِّل نمطاً من الأبارتايد الاجتماعي، ويهدف إلى خلق عوالم تسيطر فيها الأقلية على غالبية الأراضي والموارد مع تجنّب أي احتكاك بالفئات الاجتماعية التي تشكِّل الغالبية، إلا في إطار الحدّ الأدنى الحتمي التي تفرضه حاجاتهم إلى قوّة عملهم.
ظهر مصطلح «أبارتايد» في السياق الجنوب أفريقي، ويعني ببساطة «الفصل» باللغة الأفريكانية المشتقّة من الهولندية، وأصبحت لاحقاً اللغة الرسمية لسكّان جنوب أفريقيا البيض من أصول هولندية، بالإضافة إلى الإنكليزية التي أصبحت اللغة الرسمية لسكّان جنوب أفريقيا البيض من أصول إنكليزية. كان الأبارتايد في جنوب أفريقيا قائماً على نظام تعدّدي للفصل العنصري، وشكّل نظاماً اجتماعياً مُتشابكاً، يقسم السكّان إلى أربع فئات رئيسة، وهم البيض والسود والملوّنين (أي المختلطين في سياق الفصل الجنوب أفريقي) والهنود.
يفصل هذا النظام بالقطع بين البيض والسود، لكنّه يفصل أيضاً بين فئات من السود وحتى البيض من أصول هولندية وإنكليزية، وبينهم وبين الملوّنين، وبين كلّ هؤلاء والهنود. على الرغم من هذا التشابك، لا يزال راسخاً في مخيّلتنا أن نظام الأبارتايد كان يفصل بشكل ثنائي جامد بين البيض والسود. وكان الهدف من فصل السكّان السود عن بعضهم البعض، وعن السكّان الهنود أو المختلطين، نشر سياسة التفريق لاستمرار دعم وجود مجتمعات بيضاء صافية لا تحتكّ بالفئات الأخرى إلّا عند حاجتها إلى قوّة عملهم. كانت الأقلية البيضاء، التي لا تتخطّى الـ 10% من مجمل السكان، تعيش على 87% من أراضي جنوب أفريقيا. و«حُبِست» الغالبية السوداء في البانتوستانات المكتظّة، حيث يمنع المرور إلى غالبية الأراضي «البيضاء» إلا للعمّال بتصريح.
تسجّل مصر واحداً من أعلى معدّلات الإنفاق الشخصي على الصحّة في العالم ويبلغ نحو 55% من الإنفاق الكلّي على الصحّة، في حين أن المتوسّط العالمي يبلغ 17%، والمتوسط في المنطقة حوالي 25%
يشبه هذا ما أفضى إليه وضع العمران في مصر، وتحديداً في الساحل الشمالي والقاهرة والمدن الكبرى، حيث تعيش أقلية من السكّان على غالبية الأراضي، ولا يُسمح لغالبية السكّان بالمرور إلى غالبية الأراضي المصرية إلا بتصريح خاص، غالباً ما يكون من أجل العمل.
إن وجود لا مساواة اقتصادية ومكانية حادّة ليس أمراً جديداً. كانت مستويات اللامساواة أكبر ربّما في بعض المراحل السابقة من التاريخ. لكن ماذا الذي يختلف هذه المرّة؟
مكانياً، أصبحت العزلة والبُعد من مركز المدينة من علامات الثراء، فيما السكن المركزي من علامات الفقر. أمّا في السابق. فقد كانت المسألة معكوسة، إذ كان السكن في قلب المدينة الحيوي والمليء بالخدمات وأماكن الخروج من علامات الثراء، وقد كان ضرورياً نظراً إلى عدم القدرة على التنقّل لمسافات بعيدة في وقت قصير. ويعني هذا أنه على الرغم من الطابع الحصري لأحياء الأثرياء قديماً واقتصار مراكز المدن عليهم، لم تكن أبداً المدن مُسيَّجة، ولم تبعد كثيراً من الأحياء الشعبية بسبب حاجتها إلى العمالة في ظل عدم وجود وسائل نقل حديثة وطرق تسمح للانتقال مسافات طويلة بشكل يومي. حتّم ذلك وجود تقارب مكاني وقدرٍ من الاختلاط في المساحات العامة. حدث التباعد المكاني الراهن بالتزامن مع الاقتراب الافتراضي الذي يزيد من اللامساواة الإدراكية، إذ توضح الأبحاث أن الناس عادةً لا يلاحظون توزيع الدخل (والثروة) بالكامل، وأن تخميناتهم عن عمق الفجوة الاقتصادية تعتمد على مجموعات مرجعية «متمركزة على الذات». ويعني هذا أن إحساس الناس باللامساواة يتعاظم مع تعاظم التعرّض الاجتماعي التي تتيحه وسائل التواصل الاجتماعي، خصوصاً مع انتشار فيديوهات «تيك توك» على شاكلة سؤال المراهقين الأغنياء في المدن المُسيّجة «بتصرِف كام في اليوم؟».
يجعل الأثر النيوليبرالي الأزمة تطال جانبيْ السور. إن قاعدة سلم الثروة داخل المدن المُسيّجة، وهي شريحة رفيعة ما زالت تتحرّك داخل مجال قد يحدث فيه حراك اجتماعي لم يعد مُتاحاً للغالبية الساحقة من السكان، تدفع أثماناً باهظة للتمايز في محاولة الصعود إلى الجانب المحظوظ من السور والانتماء إليه. صعدت هذه الطبقة إلى مستوى لا يسمح لها بتحمّل سوء جودة الخدمات العامّة المنهارة، ولكن في الوقت نفسه، لا يمكنها تحمّل تكلفة الخدمات الخاصّة والمجتمعات المغلقة والأندية الخاصّة من دون الكثير من المعاناة.
يظهر هذا من تسجيل مصر واحداً من أعلى معدّلات الإنفاق الشخصي على الصحّة في العالم ويبلغ نحو 55% من الإنفاق الكلّي على الصحّة، في حين أن المتوسّط العالمي يبلغ 17%، والمتوسط في المنطقة حوالي 25%. في بلد يعيش أكثر من نصف سكّانه في فقر وعلى حافة الفقر، يعني هذا أن غالبية الطبقة الوسطى لا تحصل على الخدمات العلاجية المجّانية. كذلك الأمر بالنسبة إلى التعليم، إذ نجد أنه كلّما زاد الدخل كلّما زاد الإنفاق على التعليم كنسبة من الدخل، ويرجع هذا إلى كون الطبقات المتوسطة لم تعد ترغب في إرسال أطفالها إلى المدارس الحكومية، ما يجعلها تنفق نحو سُدْس إنفاقها الكلّي على التعليم فقط، بسبب ارتفاع تكاليف المدارس الخاصّة. تبلغ هذه النسبة في بلدان الاتحاد الأوروبي أقل من 1% من إنفاق الأسر الكلّي، وفي أميركا اللاتينية 5%.
يفسِّر هذا التفسّخ الاجتماعي غير القائم على الهوية، ولو جزئياً، غياب حراك اجتماعي مساواتي يقاوم هذا النمط من الأبارتايد والخصخصة العنيفة للمجالات العامة والمشاعية لصالح الفئات الأغنى والأكثر نفوذاً
أصبحت كل طبقة مُنعزلة مكانياً في فسيفساء مُعقّدة. لكن نظرياً، الهدف واحد، وهو انعزال الأغنياء عن الفئات الأقل حظاً، وحصولهم على أكبر قدر مُمكن من الموارد وتحديداً الأرض، فضلاً عن إنشاء نظام مُعقّد تنعزل فيه كلّ درجة في كلّ طبقة عن الأخرى مكانياً، مع محاولة جرّ الطبقة الوسطى إلى هذا المستنقع بشكل يحول دون تشكيل مطالب موحّدة لشريحة واسعة من السكّان. وعلى الرغم الضغط الهائل على الطبقة الوسطى الآخذة في الانكماش، عادة ما نجد نسبة كبيرة منها تتماهى مع الموجة الانعزالية كمؤشّر على تشبثهم بالقطاعات الأعلى دخلاً.
ما يختلف هذه المرة أيضاً، أنه على عكس المراحل السابقة للتاريخ في مصر، وعلى عكس نموذج الأبارتايد الأصلي، لا تتقاطع اللامساواة المكانية بشكل واضح مع تقسيمات هوياتية. في مراحل تاريخية سابقة، كانت النخبة تتشكّل في الأغلب من عناصر تركية/شركسية أو أوروبية، ما يسهّل حشد المطالب الاقتصادية على أسس هوياتية غير اقتصادية، كما حدث في ثورة عرابي الشهير التي برز فيها شعار «مصر للمصريين»، أو من خلال الحركة الوطنية الدستورية التي طالبت بالاستقلال عن الإمبراطورية البريطانية وإلغاء الامتيازات الأجنبية في العقود الأولى من القرن العشرين. باختصار، لا يوجد حلول مساواتية مثل تلك التي نتجت عن الانقسامات الكولونيالية التي تتشكّل فيها النخب من أجانب، أو حتى الانقسامات العرقية في عالمنا الحالي، كما في الولايات المتّحدة حيث تصبح الهوية اختصاراً (shorthand) لكلّ المظالم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. لكن عندما لا يكون في النمط المكاني فصل ثقافي أو إثني أو لغوي واضح كما في النمط الكولونيالي، ولكنه يشبهه في الوقت نفسه، سوف تبدأ الثقافة واللغة في التباعد مع الوقت بسبب العزل ووجود أنظمة تعليم وإعلام متوازية لكل فئة، وهو ما بدأنا نلمس آثاره بالفعل في الظاهرة التي تسمّى الانحراف اللغوي (linguistic drift)، وهذه العملية هي البداية لتأسيس لهجات جديدة، قد تصبح على المدى الطويل لغات منفصلة.
يفسِّر هذا التفسّخ الاجتماعي غير القائم على الهوية، ولو جزئياً، غياب حراك اجتماعي مساواتي يقاوم هذا النمط من الأبارتايد والخصخصة العنيفة للمجالات العامة والمشاعية لصالح الفئات الأغنى والأكثر نفوذاً. لكن هذا القدر المتطرّف من الانعزال المكاني المصاحب لفجوات اقتصادية متزايدة، سوف يخلق حتماً تباعداً هوياتياً غير اقتصادي (extra-economic)، على مستوى التعليم والثقافة واللغة والعقيدة، والصحّة أيضاً، ما سوف يصعّب مستقبلاً من صيانة هذا النمط المتطرّف من الفصل الاجتماعي.