تقويض الديمقراطية
تتعرض الديمقراطية لهجمة بسبب سطوة صندوق النقد الدولي وما يمثله من مصالح. يمارس صندوق النقد الدولي سلطة كبيرة في البلاد التي يقرضها لكن هذه السلطة ليست منتخبة وتختفي عادة وراء ستار التكنوقراطية لتمرير سياساتها. تتميز التكنوقراطية بادعائها وجود سياسات جيدة أو سيئة في المطلق، بدلًا من وجود رابحين وخاسرين لكل سياسة، فالنهج الأخير يدخل في إطار السياسة وإحداث التوازنات والتفاوض مع مجموعات المصالح المختلفة، وهو ما ينزع من صندوق النقد الدولي شرعيته، فهو دور لا يستطيع القيام به كمؤسسة نقدية خارجية غير منتخبة. البديل هنا إذن هو خلق خطاب مبني على الإجماع عن اقتصاد يوجد فيه سياسات سيئة وسياسات أخرى جيدة بشكل مطلق، ويكون دور الصندوق في هذه الحالة هو مراقبة ومتابعة الدول للتأكد من تطبيقها السياسات الجيدة.
يتبع أيضًا صندوق النقد خطاب "الضرورة" أو "الحتمية" أو "غياب البديل" لتبرير تدخله غير الديمقراطي في تحديد سياسات البلدان المقترضة. الحيلة الثالثة لتجاوز سؤال الشرعية هو عرض برامج الإصلاح وكأنها برامج أعدتها الحكومات الوطنية. يستخدم الصندوق مصطلح "برنامج الإصلاح المحلي" homegrown reform programme لتوصيف برامجه، يساعده هذا على إخلاء مسؤوليته عن نتائج البرنامج، وفي الوقت نفسه لتفادي الظهور في صورة المؤسسة الغربية القوية والغنية والتي تفرض شروطها بشكل شبه استعماري على البلدان الفقيرة. يمكن توقّع أن صندوق النقد الدولي في السنوات المقبلة سيكف عن استخدام مصطلح "شروط" أو conditionalities، وسيستبدله بمصطلح أخف خاصة في ظل قلق صندوق النقد المتزايد على مصداقيته وسمعته.
في تقرير الخبراء الخاص باتفاق التسهيل الممدد في مصر، كتب صندوق النقد الدولي الآتي عن المخاطر المرتبطة بسمعته:
"كما سيتعرض الصندوق لعدد من مخاطر المؤسسات غير المالية، أهمها مخاطر السمعة. قد يؤثر فشل الترتيب الموسع المقترح في تحقيق الانتعاش الاقتصادي، وتقليل مخاطر الديون، وتعبئة التمويل الكافي، على مصداقية الصندوق كمستشار موثوق به ومحفز لتعديل السياسات وإصلاحها. سيكون التنفيذ الكامل للبرنامج من قبل السلطات، والمراجعات الدورية للبرنامج لرصد السياسات وتعديلها حسب الحاجة، والاتصالات الاستباقية ضرورية للتخفيف من هذه المخاطر. وفي الوقت نفسه، فإن البديل المتمثل في عدم التعامل مع مصر من خلال ترتيبات موسعة من شأنه أن يزيد أيضًا من مخاطر السمعة، وربما حتى المخاطر الاستراتيجية للصندوق. لقد أعلنت مصر عن صعوبات واضحة في ميزان المدفوعات، والتي تفاقمت نتيجة للصدمات الخارجية، وقد يؤدي الفشل في مساعدة البلاد إلى التشكيك في فعالية الصندوق ودوره".
لعل المثال الأوضح على تخطي الديمقراطية كان استفتاء اليونان في عام 2015 على حزم الإنقاذ، التي اقترحها صندوق النقد مع المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي، فيما عرف ب"الترويكا" وقتها، والتي احتوت على الكثير من إجراءات التقشف العنيفة. رغم رفض أكثر من 61% من الناخبين، وصلت حكومة حزب سيريزا اليسارية الرافضة لسياسات التقشف لاتفاق مع الترويكا يحتوي على سياسات تقشف أكثر قسوة من تلك التي رفضها الناخبون في الاستفتاء. باختصار، برغم تصويت الناخبين مرتين ضد سياسات التقشف، مرة عندما انتخبوا حزب اشتراكي رافض لأجندة صندوق النقد والمؤسسات الأوروبية، ومرة عندما صوتوا في استفتاء على رفض حزمة الإنقاذ التقشفية، فإن تلك السياسات تم تمريرها على أي حال وبشكل أكثر قسوة بدون الرجوع للناخبين.
ما ذنب الصندوق في بلد غير ديمقراطي؟
قد يقول البعض أن الحكومات المنتخبة، اذا كان البلد ديمقراطي، عندما توافق على تلك الشروط، فان ذلك يعبر بشكل غير مباشر عن رأي الناخبين، وإذا كان البلد غير ديمقراطي فما ذنب صندوق النقد الدولي؟
يتدخل الصندوق في تحديد سياسات الدول في وقت الأزمات، ما يعني أن البلدان المقترضة ليس لديها خيارات كثيرة لصعوبة الحصول على قروض من أسواق المال وقت الأزمات الطاحنة، كما في حالة اليونان مثلا. عادة ما يتم خلط عدم وجود خيارات للاقتراض وقت الأزمات مع عدم وجود سياسات بديلة للتقشف على نهج صندوق النقد الدولي، ولكن عدم وجود خيارات للاقتراض في وقت الأزمة ليس الشيء نفسه كعدم وجود سياسات بديلة للتقشف، فيمكن أن تخرج البلاد من أزماتها بشكل أكثر كفاءة وعدالة، أو حتى إذا فرضت سياسات التقشف فهناك طرق أخرى لفرضها لا تنتقص من حقوق فئات الدخل الأدنى والمتوسط وتحافظ على ربحيات الرأسمالية الكبيرة.
في كتابه الشهير "لماذا لا نتخلف عن السداد" Why not default يقول الباحث في الاقتصاد السياسي جيروم روس أن البلدان السلطوية أكثر التزامًا بتسديد الديون في المتوسط بسبب قدرة حكامها على تمرير سياسات تقشفية عنيفة إرضائًا لأسواق المال العالمية، في حين أن القادة المنتخبون ديمقراطيًا قد يكونوا أكثر ميلًا لتحدي أسواق المال والاستثمار لتفادي الاصطدام بالجماهير والتبعات الإنتخابية لتمرير سياسات تقشفية عنيفة وسياسات تعديل هيكلي مؤلمة.
يعود هذا الأمر إلى عهود سابقة فيضرب روس مثالًا بعائلة روتشيلد الشهيرة التي ذاع صيتها كعائلة مصرفية في نهايات النصف الثاني من القرن الثامن عشر، كان لديهم تفضيل واضح لإقراض الأنظمة شديدة المحافظة التي لم يكن لديها حرج من تمرير سياسات غير شعبية وقمع عنيف لانتزاع الثروة والمداخيل من السكان لخدمة الديون الخارجية. في آونة أحدث، يضرب روس مثالًا بالأرجنتين، والتي قامت بتحدي الدائنين الأجانب بعد التحول الديمقراطي الذي حدث في بداية الثمانينات. عند توليه منصبه في ديسمبر 1983، أعلن الرئيس المنتخب ديمقراطيًا راوول ألفوسين على الفور وقفًا اختياريًا لمدفوعات الفائدة لمدة ستة أشهر، وبدأ في الدعوة علانية إلى تشكيل كارتل للمدينين في أمريكا اللاتينية للضغط على الدائنين الأجانب لتقديم شروط أفضل للسداد.
أعلن ألفونسين وقتها إن الأرجنتين لن تسدد ديونها عن طريق تجويع شعبها، وأن مسئوليته كرئيس ديمقراطي منتخب تعني أن "الدولة لا يمكن أن ترضخ أمام مصالح مجموعات مالية دولية أو مجموعات محلية صاحبة امتيازات". كانت الحكومة الديمقراطية الجديدة في الأرجنتين أكثر تحديًا لمصالح المقرضين الدوليين مقارنة بالنظام الاستبدادي القائم في المكسيك الذي كان الأكثر امتثالًا للمصالح نفسها. من جانبهم، لم يظهر دائني الأرجنتين فقط عدم حماسهم لمسألة الانتقال الديمقراطي، لكنهم كانوا يستهزئون به أيضًا. بعد الاجتماع مع المفاوضين الأرجنتينيين الجدد الخاضعين للمساءلة الديمقراطية، اشتكى أحد كبار المصرفيين من "أننا توقعنا الحصول على حقائق وأرقام، وصورة مفصلة لخطط البلاد الاقتصادية على المدى المتوسط إلى الطويل، لكن كل ما حصلنا عليه هو بعض التفاهات حول الديمقراطية الجديدة في الأرجنتين". يختتم روس الجزء الخاص بالأرجنتين بالمجادلة أن معدل الامتثال للسداد إزداد في فترة التسعينات مع الرجوع عن الإصلاحات الديمقراطية، والتي أعطت صلاحيات ضخمة للرئيس على حساب البرلمان مما جعله أشبه بالديكتاتور المنتخب.
الديمقراطيات اكثر ميلا لتحدي الدائنين
لكن هذه الحالات أكثر من مجرد حالات فردية، فيستعرض روس دراسات تؤكد أن الديمقراطيات كانت أكثر ميلًا في الواقع إلى إعادة جدولة ديونها، وأن التغييرات المتعلقة بالإصلاحات المؤسسية الديمقراطية نادرًا ما كان لها تأثير سريع وهام على عائدات السندات، ما يشير إلى أن المستثمرين غالبًا ما كانوا إما غير مدركين (أو غير متأثرين) بالخصائص المؤسسية للمقترضين المحتملين. أخيرًا، وجدت دراسة حديثة أن "السياسيين المنتخبين ديمقراطيًا يستجيبون بسياسات أكثر عدوانية تجاه الأسواق المالية الخارجية" من نظرائهم الأوتوقراطيين ، وهو أمر منطقي إذا اعتبرنا أن السياسيين المسؤولين ديمقراطياً أكثر عرضة للقلق بشأن التداعيات الانتخابية لإجراءات التعديل الهيكلي المؤلمة.
يعني كل هذا باختصار إن عند تعامل صندوق النقد مع قادة مختارين ديمقراطيًا، فيتم ضرب عرض الحائط بالمطالب الديمقراطية، كما في حالة اليونان، وعندما يتعامل الصندوق مع الأنظمة الأتوقراطية فيستفيد من قدرتهم على تمرير سياسات شديدة القسوة وغير شعبية للإبقاء على القدرة على تسديد الديون، سواء للصندوق نفسه أو للمستثمرين من الأفراد والمؤسسات الخاصة والعامة الأجنبية.