التوزيع الأولي وديمقراطية الملكية كضرورة اجتماعية وبيئية
أرفف مُكتظّة ومساكن خاوية

يتراجع وضع الحماية الاجتماعية على مستوى العالم والمنطقة، وعادة ما تكون الحجة عدم وجود موارد كافية لدى الحكومات لتمويل فعّال وكافٍ للبرامج الاجتماعية، خصوصاً في ظل سيادة السياسات النيوليبرالية وزيادة سطوة صندوق النقد الدولي المُطالب دائماً بتقليل عجوزات الموازنة والوفاء بالتزامات المديونية من خلال تخفيض الإنفاق الاجتماعي والأجور.

عادة ما يتم استدعاء محدودية الموارد تلك كتحدي رئيسي لدرجة أن العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية - وهو الوثيقة الأممية الأهم التي تخصّ الحقوق الاقتصادية والاجتماعية - يربط الوفاء بالحقوق الاقتصادية للسكان بالموارد المتاحة لدى حكومة كل بلد، وهو ما تستخدمه الحكومات كثيراً كعذر عن تقاعسها عن الوفاء بتقديم الخدمات الاجتماعية. تقول المادة الثانية من العهد: «تعهد كل دولة طرف في هذا العهد بأن تتخذ، بمفردها وعن طريق المساعدة والتعاون الدوليين، ولا سيما على الصعيدين الاقتصادي والتقني، وبأقصى ما تسمح به مواردها المتاحة، ما يلزم من خطوات لضمان التمتّع الفعلي التدريجي بالحقوق المعترف بها في هذا العهد».

في عصر النيوليبرالية زادت اختلالات التوزيع الأولي لصالح رأس المال والمقرضين وأصحاب الريع على حساب الأجور وفي بعض الأحيان الضرائب، وزادت أيضاً اختلالات التوزيع الثانوي فأصبح جزءاً متزايداً منها يذهب للفئات الأعلى دخلاً في صورة فوائد ودعم وحوافز

مشكلة هذا الطرح أنه يتماهى سواء بقصد أو من دون قصد مع التصوّرات النيوليبرالية عن الحماية الاجتماعية التي تقصر تحقيق الحماية الاجتماعية والحقوق الاقتصادية على التوزيع الثانوي من خلال سياسات المالية العامة والضرائب، والتي في الغالب في ظل النيوليبرالية تكون غير مباشرة كضرائب القيمة المضافة التي يتحمّل عبئها الفئات الدخل الأدنى والمتوسط. يحدث هذا بالتزامن مع زيادة اختلالات التوزيع الأولي للدخل بعد أن تم إعادة توجيهه إلى أعلى من أجور العمل لأرباح رأس المال على مدار نصف القرن الماضي.

التوزيع الثانوي للدخل والثروة هنا يعني أن بعد التوزيع الأولي للدخل من مجمل عمليات إنتاج القيمة (أرباح لرأس المال، وأجور للعمل، وإيجارات لأصحاب الأصول، وضرائب ورسوم للدولة، وفوائد للمقرضين والممولين)، تستغل الدولة الضرائب والرسوم تلك لتحقيق توزيع ثانوي، لا يكون بالضرورة لأسفل. من البديهي هنا أن كلما كانت اختلالات التوزيع الأولي أقل، كلما كان هناك احتياج أقل لتدخلات السياسة المالية الثانوية. في عصر النيوليبرالية زادت اختلالات التوزيع الأولي لصالح رأس المال والمقرضين وأصحاب الريع على حساب الأجور وفي بعض الأحيان الضرائب، وزادت أيضاً اختلالات التوزيع الثانوي فأصبح جزءاً متزايداً منها يذهب للفئات الأعلى دخلاً في صورة فوائد ودعم وحوافز.

تحقيق توزيعات أولية أكثر عدالة يجب أن ينطوي على سياسات تنظيمية ترد الاعتبار للاقتصاد المعنوي على حساب التسليع المُهيمن على حياتنا الاجتماعية. ويعني الاقتصاد المعنوي هنا، وفقاً لتعريف مطوِّر المصطلح المؤرِّخ الإنكليزي الاشتراكي إدوارد بالمر تومبسون، أنه نمط من العلاقات الاقتصادية «مرتكز على رؤية تقليدية متّسقة للأعراف والالتزامات الاجتماعية، وللوظائف الاقتصادية المناسبة لأطراف عدّة داخل المجتمع». وتشمل تلك الأعراف - في سياق ثورات الفلاحين الإنكليز في بدايات العصر الرأسمالي التي درسها تومبسون - نمو مطالبة الفلاحين بتحديد أسعار السلع الأساسية وفقاً للحقوق الإقطاعية التقليدية التي رآها الفلاحون أفضل من سعر السوق، وعاقبوا كبار المزارعين الذين باعوا فائض إنتاجهم بأسعار أعلى خارج القرية في ظل احتياجات الفلاحين داخلها. اعتبر الفلاحون أن التربّح من ضرورات الناس مسألة غير أخلاقية. وسّع جيمس سكوت مفهوم الاقتصاد المعنوي ليشمل القيم والمعايير التي تعطي الأولوية للأمن الكفافي والدعم المتبادل على دوافع الربح القائمة على السوق.

التسليع المفرط على الجانب النقيض من الاقتصاد المعنوي هو التعامل مع أكثر احتياجات البشر أساسية مثل الغذاء والسكن على إنها سلع يمكن الإلقاء بها في النهر أو تركها تتعفّن بالأطنان لمجرد أنها لن تحقّق ربحاً في السوق. التسليع هنا من مظاهر تغول وتوغل السوق في كل مناحي الحياة التي لم تكن في السابق خاضعة لمنطق السوق بشكل كامل أو جزئي مثل الغذاء الذي كان ينتج بمنطق الزراعة الكفافية في مرحلة ما قبل الحداثة أو كمسؤولية الدولة من خلال سياسات الدعم التي لا تخضع الغذاء لمنطق الربحية في عصر الدولة الوطنية الحديثة. وصل التسليع أيضاً في عصر رأسمالية المرحلة المتأخرة ليشمل مناحي لا مادية ومنها التواصل الإنساني، فأصبحت أكثر أنواع التواصل الإنساني سلعة بياناتية تباع وتشترى وربما تشكل السلعة الأهم في عالمنا  لدرجة أن تم توصيفها «بالنفط الجديد».

الإهدار السلعي من أجل الربح 

نعلم جميعاً من المشاهدة اليومية أن أسباب الجوع أبعد ما تكون من نقص الغذاء، وأسباب التشرّد وأزمات السكن هي الأخرى أبعد ما تكون من نقص السكن. وهذه المشاهدات اليومية أدق من تحليلات علوم الاقتصاد النيوكلاسيكي الشائع التي لا تزال تصر أن السوق ومن ثم التسليع يشكل الاستغلال الأكثر كفاءة للموارد النادرة. بالنسبة للغذاء، العالم يهدر خُمْس الغذاء المنتج في العالم، أي ما يقدّر بحوالي مليار طن.

يقول تقرير لمجلس الدفاع عن الموارد الوطنية إن جزءاً كبيراً من الغذاء المهدر يحدث بسبب النظام الاقتصادي القائم على إنتاج الغذاء بناء على توقّعات السوق (أي القيمة التبادلية للغذاء) وليس الحاجات الغذائية للبشر (أي قيمته الاستخدامية). فلو كانت أسعار السوق منخفضة وقت الحصاد، قد تترك بعض الاغذية في الحقول لأن تكلفة حصادها من عمالة ونقل لن تغطي ثمنها وبالتالي لا يمكن بيعها بالربح. وفقاً للتقرير نفسه، 7% من محصول الولايات المتحدة لا يُحصَد على الإطلاق، وعندما يكون هناك فائض كبير لمحصول معيّن قد تصل تلك النسبة إلى 50%. يقول التقرير إن 6 مليار رطل من المحاصيل الزراعية لا يحصد على الإطلاق في الولايات المتحدة فقط.

الأغذية المهدرة في العالم كافية لإطعام ملياري شخص، وهذا أكثر من ضعف عدد الأشخاص الذين يعانون من نقص التغذية. ويشكّل عدد البلا مسكن نحو 2% من سكان العالم، أي أن 20% فقط من العقارات الشاغرة كافية لتوفير مأوى لهم جميعاً

الأغذية المهدرة حول العالم كافية لإطعام ملياري شخص، وهذا أكثر من ضعف عدد الأشخاص الذين يعانون من نقص التغذية في جميع أنحاء العالم. أي إذا تم توفير نصف الأكل المهدر فقط، فسيتم القضاء نهائياً على الجوع. هنا، لا توجد حاجة لزيادة إنفاق الدولة للقضاء على الجوع، لكن ببساطة الحد من نزوع الرأسمالية إلى الإهدار العنيف للموارد للحفاظ على القيمة وتحقيق الربح في المجالات التي يعتمد عليها البقاء بمعناه الأكثر أساسية وبيولوجية.

يقول التقرير أيضاً إن معايير السوق الشكلية تؤدي إلى إهدار كميات هائلة من الغذاء لعدم ربحيتها، حيث يترك المزارعون الكثير من المنتجات في الحقل لأن الموزّعين وتجّار التجزئة لن يقبلوها بسبب معايير شكلية بحتة لا علاقة لها بقيمة المنتج كغذاء. بالنسبة للمزارعين، يعد حصاد هذه المنتجات وتوصيلها إلى المحتاجين أكثر تكلفة من تركها في الأرض لتتعفّن.

يضيف التقرير أيضاً أن كميات كبير من الغذاء تهدر بسبب رغبة المحال التجارية في الإبقاء على الأرفف مكتظة بشكل دائم، فالدراسات السلوكية للمشترين تقول إن احتمالية شرائهم تقل عندما لا تبدو الأرفف وفيرة، لذلك بالنسبة لتجّار التجزئة من المنطقي اقتصادياً تخزين كميات من المواد الغذائية أكثر من اللازم، حتى عندما يعلمون أنه سينتهي بهم الأمر إلى التخلّص من الكثير منها. وينقل التقرير عن أحد مصانع تعبئة الطماطم الكبيرة أنه في منتصف الموسم يمكنه ملء شاحنة بنحو 22,000 رطل من الطماطم المهدرة كل 40 دقيقة. ويقدر أحد عمّال تعبئة الحمضيات والعنب أن ما بين 20% إلى 50% من المنتجات التي يتعامل معها غير قابلة للتسويق ولكنها صالحة للأكل تماماً. 

أما بالنسبة للسكن، فالأرقام أقل إتاحة وصعوبة في تجميعها مقارنة بالغذاء، لكننا نعرف أن في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، حوالي 10% من كل المنازل المبنية شاغرة. ومن المتوقع أن تزيد هذه النسبة في بلدان الجنوب وبلدان منطقتنا بسبب انخفاض الضرائب العقارية وغياب القوانين الفعّالة للحد من شغور العقارات. في القاهرة الكبرى على سبيل المثال، تصل نسبة الشغور إلى 44% أو ما يعادل 1.8 وحدة سكنية لكل أسرة، وفي لبنان تصل النسبة إلى 23%. ويشكّل عدد السكان بلا مسكن نحو 2% من سكان العالم، أي أن 20% فقط من عدد العقارات الشاغرة في أقل تقدير كافية لتوفير مأوى لكل الذين هم بلا مأوى. هنا أيضاً لا تبنى المساكن وفقاً لقيمتها الاستخدامية وإنما لقيمتها التبادلية، فأصبح الغرض الرئيسي الآن من التطوير العقاري هو حفظ القيمة وامتصاص فوائض رأس المال الزائد. مكافحة الشغور العقاري سيهبط أيضاً بقيمة العقارات والإيجارات التي زادت في العقود الأخيرة بمعدلات أعلى كثيراً من الأجور والتضخم بسبب المضاربة وكونها مخزن للقيمة لرأس المال الفائض في العالم. هذا من شأنه أن يخفف أعباء الإنفاق على الطبقات المضغوطة اقتصادياً، وأيضاً يعيد توجيه بعد رؤوس الأموال تلك إلى أنشطة اقتصادية إنتاجية تخلق فرص عمل.

باختصار، أزمات السكن والغذاء التي تُعتبر من الاحتياجات الأساسية للبشر، لا تعود إلى نقص في الموارد، بل إلى عدم التوفيق بين الفائض والاحتياج، وسياسات النقص المصطنع التي تهدف إلى الحفاظ على القيمة في ظل وفرة كبيرة تهدّد بانهيار القيمة. بقليل من التعديل والتنظيم من الممكن أن يتحرك هذا الغذاء المهدر وتلك المساكن الشاغرة وسلع أخرى داخل الاقتصاد المعنوي. إتاحة هذه الموارد المهدرة شأنه أن يخفض أيضاً من أسعار الغذاء المُسَلَع، وكذلك الأمر بالنسبة للسكن.

ملكية أكثر ديمقراطية تعزّز من التوزيع الأولي

في الماضي، كانت الأرض الزراعية هي القناة الرئيسة لتركز الثروة والقوة السياسية، فكان الإصلاح الزراعي الذي حدث في غالبية أنحاء العالم من خلال وضع سقف لملكية الأراضي وإعادة توزيع الفوائض على صغار الفلاحين ضروري من أجل إحداث أي تقدم اجتماعي واقتصادي وحتى علمي. لكن الآن يؤدّي العقار هذا الدور في التراكم إلى حد ما،  والحاجة إلى إصلاح عقاري - على غرار الإصلاح الزراعي - باتت ضرورية لسد الفجوة بين الموارد المهدرة من الأرض الزراعية والسكن لهؤلاء الذين هم في حاجة إليها، عن طريق فرض ضرائب وغرامات على الشغور والإهدار، وصولاً إلى تحويلها لوقفيات أو تعاونيات وبالتالي فتح مجالات شاسعة لتبادل الغذاء والسكن والمنتجات الصناعية الفائضة داخل أطر الاقتصاد المعنوي. 

توزيع أكثر عدالة للثروة المدرّة للدخل في المجتمع قادر على تحقيق توزيع أولي أكثر عدالة وحتى تحقيق الحلم النيوليبرالي في تراجع الإنفاق الاجتماعي لكن ليس كجزء من حرب النيوليبرالية ضد الفقراء على مستوى التوزيعين الأولي والثانوي، لكن لأن الحاجة إلى هذا الإنفاق ستقل

يجب أيضاً تطوير آليات لجعل الملكيات أكثر ديمقراطية. يكاد تعريفنا الحالي للديمقراطيات يقتصر على إجراء انتخابات دورية لوظائف عامة تكاد أن تكون مشلولة أمام مصالح رأس المال والشركات، فتوزيع أكثر عدالة للثروة المدرة للدخل في المجتمع قادر على تحقيق توزيع أولي أكثر عدالة للدخل وحتى تحقيق الحلم النيوليبرالي في تراجع الإنفاق الاجتماعي لكن ليس كجزء من حرب النيوليبرالية المزدوجة ضد الفقراء على مستوى التوزيع الأولي والثانوي، لكن لأن الحاجة إلى هذا الإنفاق ستقل.

التوزيع الواسع للثروة والملكية ليس مجرد حلم طوباوي، بل هو واقع متحقّق بدرجات متفاوتة والمطلوب فقط تعميقه. من نماذج ذلك على سبيل المثال لا الحصر، حصول الموظفين والعمال على نسب من أرباح أو أسهم الشركات التي يعملون بها، وترسيخ وتفعيل القوانين التي تحد من المضاربة في البورصة وتضمن توزيع ملكية الأسهم بشكل أوسع في المجتمع، بالإضافة إلى التمويل العقاري الميسر لمساكن بأسعار ميسرة لأصحاب الدخول المنخفضة تمكنهم من تملك عقاراتهم بالتوازي مع زيادة التكلفة التمويلية والضريبية للمساكن الإضافية أو منازل الأجازات، وفرض ضريبة على الشغور تقلل من الإيجارات والمضاربة في السوق العقارية، وحتى إلزام الشركات والحكومات على الحصول على الجزء الأكبر من تمويلها من خلال إصدار شهادات استثمار أو سندات منخفضة القيمة تمكن قواعد عريضة من المشاركة في عوائد الإقراض التي عادة ما تقتصر على نخبة مالية ضيّقة، فضلاً عن زيادة الأجور من خلال تقوية شوكة النقابات العمّالية، ودعم الأعمال الصغيرة والمتوسطة ووقف دعم الشركات العملاقة على حسابهم.