حالة لبنان في 1916 و2019
العولمة والمرض الهولندي والضعف أمام الصدمات الخارجية في اقتصاد صغير مفتوح
ملخَّص تنفيذي
تبحث هذه الورقة التشابهات بين اقتصاد جبل لبنان في العام 1912 على أعتاب مجاعة العام 1916 واقتصاد لبنان في العام 2004 الذي هيَّأ الأرضية للأزمة الاقتصادية والاجتماعية الكبرى في العام 2019. تبيِّن محاكاة قائمة على نموذج توازن عام بسيط أنّه ما دام اقتصاد لبنان يعتمد على التدفّقات الخارجية، فالأزمات سوف تستمر وسوف تظهر بأشكال مختلفة. وبصرف النظر عن الفترة موضوع البحث، تزيد التدفّقات الخارجية مستوى الأسعار المحلّية وتتسبّب بارتفاع سعر الصرف الحقيقي. ويؤدّي تدنّي الطاقات الإنتاجية وعدم كفاية الوظائف الجديدة إلى هجرة مرتفعة. وتزيد الهجرة بدورها من الاعتماد على التدفّقات الخارجية، ما يرفع بالتالي الأسعار المحلّية ويقلِّل التنافسية، ويؤدّي مجدّداً إلى مزيد من الهجرة والاعتماد على التدفّقات الخارجية. ترتفع المداخيل والأسعار، لكن الصادرات تنخفض، ويظل النمو في حالة من التقلّب. أدّى انقطاع تدفّقات رأس المال والسلع واستحالة الهجرة من لبنان بسبب الحرب العالمية الأولى إلى المجاعة في العام 1916. وفي العام 2019، أسفر انقطاع تدفّقات الرساميل عن أزمة كبيرة وهجرة كبيرة، كما تنبّأت بهما عمليات المحاكاة القائمة على هيكل الاقتصاد اللبناني في العام 2004. وتلتقط تلك العمليات بفعالية تأثير الصدمات الخارجية على الاقتصاد اللبناني وتتوافق مع التغيّرات الاقتصادية الفعلية في خلال الفترة من 2005 إلى 2020.
مُقدِّمة
منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى بداية القرن الحادي والعشرين، تمكّن لبنان من جذب كمّيات كبيرة من الموارد منفصلة عن النظام الإنتاجي للبلاد وعن التراكم الداخلي لرأس المال. وقد أمكن ذلك بفضل ثلاث خصائص رئيسة: جالية لبنانية كبيرة في الخارج، وميزة تفاضلية نسبية في التعليم، وقطاع مصرفي فعّال. كانت تحويلات الثروة من الجالية مرتفعة باستمرار، ولكن تغيّرت طبيعتها. وكانت هذه التحويلات في البداية تُرسَل إلى الأقارب أو تُستثمَر في السكن أو في قطاعات مختلفة من الاقتصاد. وقد تضخّمت في البداية بسبب تدفّقات الرساميل من المنطقة واتخذت تدريجياً شكل ودائع في القطاع المصرفي.
ففي إطار سعيه لجذب رؤوس الأموال التي فرَّت من فلسطين في العام 1948 ومن الدول العربية التي شهدت موجات من التأميم، سنّ لبنان قانون السرّية المصرفية في خمسينيات القرن العشرين ووضع الأسس القانونية لنظام مصرفي حديث. ساعدت هذه التدفّقات على إنشاء البنية التحتية الأساسية لقدرات لبنان الإنتاجية في الزراعة والصناعة والسياحة والخدمات في خمسينيات القرن العشرين وستينياته. في نهاية تلك الفترة، وصلت الطفرة النفطية إلى ذروتها مع زيادات مضطردة في أسعار النفط بدءاً من العام 1973. في موازاة ذلك، وبفضل المهارات المُكتسبة من نظام تعليمي جيّد وضعه المبشِّرون في القرن التاسع عشر، انتقل العاملون اللبنانيون بأعداد كبيرة إلى دول الخليج حيث عملوا مهندسين ومتخصِّصين وعمّال مهرة. وقد نقل هؤلاء المهاجرون بطبيعة الحال حصّة كبيرة من ثرواتهم المتراكمة في الخليج إلى لبنان وقطاعه المصرفي.
1. لبنان: لمحة تاريخية عن التدفّقات الخارجية
«الثروة والرفاهية التي تراها في هذا الجبل لا تأتي من أرضه، بل من الأموال التي ادخرها أبناء لبنان في المهجر». هذه الجملة من دراسة بتوجيه من الحاكم التركي لجبل لبنان في العام 1918، (لبنان، مباحث علمية واجتماعية – 1918)، ولا تزال صحيحة بعد أكثر من قرن.
تعرّض هذا الجزء من الشرق الأوسط مبكراً للحركة العالميّة للأشخاص والسلع ورأس المال في خلال العولمة الأولى. وتشير إحصاءات العام 1912 إلى أنّ 25% إلى 30% من سكّان جبل لبنان كانوا يعيشون ويعملون في الخارج. وأسباب هذه الهجرة، بحسب مصادر مُعاصرة، هي الأزمة المُتكرِّرة في اقتصادٍ اعتمد بشدّة على إنتاج الحرير الطبيعي وتصديره. ومن الأسباب الأخرى الكثافة السكّانية المرتفعة في جبل لبنان، أي بكثافة 110 فرد لكلّ كيلومتر مربّع، وهي نسبة عالية مقارنة بالمعايير العالميّة لتلك الفترة.
لعنة الحرير: الزراعة الأحادية وتراجع التصنيع والهجرة
منذ الربع الأوّل من القرن التاسع عشر وإطلاق المصانع الأولى لمعالجة الحرير الخام، أخذ التوت يحتكر الزراعة اللبنانية لتوفير أوراق التوت لمنشآت تربية دود القز. كانت الكلفة المُنخفضة لقوّة عاملة مُتركزة بكثافة في مناطق قريبة من الساحل والموانئ السبب الرئيس في تحفيز المستثمرين الأجانب على تطوير صناعة الحرير في جبل لبنان.1 زاد هذا النشاط التصديري من إيرادات جبل لبنان وأدّى إلى تحسين مستوى المعيشة وإلى نموّ سكّاني كبير. لكنّه تسبّب في استبعاد جميع الأنشطة الأخرى، وأسفر ازدهار قطاع الحرير عن أول «تراجع في التصنيع» في التاريخ اللبناني، مع تأثير واضح وقوي في حركة عناصر الإنتاج نحو قطاع الحرير على حساب القطاعات الأخرى، على غرار مقاربة المرض الهولندي لكوردن ونيري (Corden and Neary، 1982).
وباتت مستويات المعيشة المرتفعة لعدد مُتزايد من السكّان مقرونة بأداء قطاع الحرير وقدرته على توليد الإيرادات. وعليه، فإن أي صدمة لصناعة الحرير تُرجِمت على الفور إلى بطالة وتدهور في الظروف المعيشية.
بحلول نهاية القرن التاسع عشر، وبفضل التطوّر في النقل، تمكّنت صناعات النسيج الأوروبية من الحصول على الحرير الخام من الشرق الأقصى بكلفة أقل، فانخفض سعر الحرير (الجدول رقم 1). كما شهدت صناعة الحرير تقدّماً تقنياً كبيراً في الغرب مع زيادة إنتاجية العمّال. في خضم تلك المنافسة، خسر جبل لبنان مزايا المسافة القريبة من أوروبا والعمالة الرخيصة والوفيرة. مع وجود فرص قليلة لإعادة توجيه الأنشطة بسرعة، وغياب قيادة سياسية قادرة على إطلاق إعادة التوجيه، لم يتبقَ أمام نسبة كبيرة من السكّان سوى خيار الهجرة (الرسم رقم 1، والرسم رقم 2).
الهجرة والتحويلات في جبل لبنان 1880-1914
بالمقارنة مع الولايات العثمانية المجاورة، كان جبل لبنان بحكم وضعه الخاص يمنح المزيد من الحقوق والحرّية لغالبيته المسيحية. لذلك، حين اضطر سكّان جبل لبنان إلى الهجرة بسبب تدهور الظروف الاقتصادية، غلب على تلك الهجرة الانتقال إلى الغرب بدلاً من الانتقال إلى منطقة أخرى تحت الحكم العثماني المباشر. وصبّ هذا في مصلحة النخب المحلّية، التي سهّلت انتقال المهاجرين من الجبل إلى الأميركيتين مخافة اندلاع الاضطرابات الاجتماعية في جبل لبنان المكتظ بالسكّان. بدأ هذا الاتجاه في الصعود في ثمانينيات القرن التاسع عشر. ومع العام 1900، بلغ المعدّل السنوي للمغادرين من مينائي بيروت وطرابلس ما بين 4,000 و5,000 شخص. وفي العام 1914، حين كان عدد السكّان المقيمين في جبل لبنان بحسب التقديرات 350 ألف نسمة، قُدِّر عدد المغتربين بـ 120 ألف نسمة.
في بداية القرن العشرين، كان من الواضح أنّ التحويلات نحو جبل لبنان وصلت إلى نسب عالية مقارنة بحجم الاقتصاد. ويُبيّن الرسم رقم 3 تركيبة دخل جبل لبنان في العام 1914. أمّا الجدول رقم 2، فيستند إلى بيانات ما يُسمّى بلغة أوائل القرن العشرين «دخل الجبل». تغطّي هذه البيانات سنة غير محدّدة بين العامين 1910 و1914، وهي على الأرجح سنة 1912. بناء على هذه الأرقام، قمت باحتساب تقريبي يعادل التعريفات المُعتمدة اليوم للناتج المحلّي الإجمالي والدخل القومي الإجمالي المُتاح. وبحسب هذ الحساب، وفّرت صناعة الحرير 48% من الناتج المحلّي الإجمالي لجبل لبنان، في حين بلغ صافي التحويلات من الأميركيتين 54%، وبلغ الدخل القومي الإجمالي المُتاح 154% من الناتج المحلّي الإجمالي. وعلى الرغم من افتقار هذه الإحصاءات للدقّة العالية، فإنّها تشير إلى حجم ما وصلت إليه التحويلات في اقتصاد جبل لبنان الصغير. وكان لهذا المستوى من التحويلات أثر هيكلي عميق ودائم في الاقتصاد.
أثر التحويلات في اقتصاد جبل لبنان
اعترف الباحثون من بداية القرن العشرين بالأثر الإيجابي للتحويلات في دخل الأسرة ورفاهيتها. لكنهم اشتكوا من سوء استخدام هذه الأموال، وأشاروا إلى التطوير العقاري غير المُنضبط مع وجود ارتفاع مُفرط في أسعار الأراضي. يشير هذا الأمر ببساطة إلى حدوث زيادة في أسعار قطاع العقارات غير القابل للتبادل وذلك بسبب تأثير الإنفاق القوي الناجم عن التحويلات الكبيرة إلى الاقتصاد المحلّي. وبما أنّ الأرض أحد مدخلات النشاط الإنتاجي، فإن الزيادة الكبيرة في أسعارها انعكست سلبياً على الزراعة وعلى العديد من الأنشطة الصناعية. كما سبّب ازدهار قطاع العقارات المزيد من التعديلات البنيوية مع انتقال عناصر الإنتاج إلى أنشطة البناء. يتحدّث الباحثون عن نقل التكنولوجيا إلى الزراعة والصناعة على يد المهاجرين العائدين، لكنهم يرون تأثيرها هامشياً ومحدوداً. باختصار، عزّزت التحويلات في جبل لبنان تراجع التصنيع الناجم أساساً عن صناعة الحرير الخام الأحادية.
بحلول 1910-1914، باتت كلّ القطاعات القابلة للتبادل خارج المشهد الاقتصادي، وفي حين وصل الحرير إلى 61% من إجمالي الصادرات، أصبح جبل لبنان مستورداً صافياً للسلع القابلة للتبادل المموّلة من صافي التحويلات من الأميركيتين. يلخّص الجدول رقم 3 واردات جبل لبنان وصادراته لسنة غير مُحددة بين العامين 1910 و1914، وهي على الأرجح سنة 1912. يُظهِر الجدول عجزاً تجارياً يعادل 30% من الناتج المحلّي الإجمالي وبلغت نسبة فائض الحساب الجاري إلى الناتج المحلّي الإجمالي 24.5%. من الواضح أن التحويلات وصادرات الحرير شكّلت المصادر الرئيسة للمداخيل في جبل لبنان، فغذّت الطلب المُتزايد الذي تمّت تلبيته عن زيادة استيراد السلع. فعلى سبيل المثال، تشير الإحصاءات إلى أنّ واردات الأغذية والمشروبات كانت أكبر بثلاث مرّات من صادرات هذه المواد نفسها. كما أن واردات السلع المُصنَّعة من أوروبا كانت أعلى بثمانية أضعاف تقريباً من صادرات المواد المُصنَّعة غير المنسوجات والحرير. هذا الاعتماد على الصادرات الأحادية والتحويلات لتمويل استيراد المواد الغذائية والسلع المُصنَّعة سوف تكون له عواقب كارثية على جبل لبنان في خلال الأزمات الاقتصادية أو السياسية.
2. بين النظرية والتاريخ: نموذج توازن عام لتحليل المرض الهولندي في جبل لبنان في العام 1912
مع بلوغ التصدير الأحادي للحرير والتحويلات الصافية من الأميركيتين نسبة 41% و54% من الناتج المحلّي الإجمالي على التوالي، كان اقتصاد جبل لبنان معولماً وشديد الانكشاف أمام الصدمات الخارجية. وتسمح مجموعة البيانات المتاحة عن العام 1912 لتطبيق نموذج توازن عام بسيط.
التبعية الاقتصادية والضعف أمام الصدمات الخارجية: حالة جبل لبنان من خلال نموذج توازن عام بسيط
أستخدم في ما يلي إطار التوازن العام البسيط لنموذج 1-2-3 الذي وضعه Devarajan et al (نموذج التوازن العام البسيط – 1997، وأبسط نموذج توازن عام لاقتصاد مفتوح – 1998) لتقييم أثر الصدمات الخارجية في اقتصاد جبل لبنان.
يستند نموذج 1-2-3 إلى نموذج هارود – صامويلسون – بالاسا المكوّن من قطاعين (القطاع القابل للتبادل والقطاع غير القابل للتبادل) لدراسة آثار التحويلات والتدفّقات والصدمات الخارجية. ينطوي النموذج على بلد واحد وقطاعين مُنتِجَين وثلاث سلع. واقتصاد هذا البلد مفتوح وصغير ويأخذ بأسعار السوق الدولية ولا يؤثِّر عليها. القطاعان المنتجان هما (أ) قطاع ينتج سلعاً للتصدير لا غير، و(ب) قطاع آخر ينتج سلعاً للسوق المحلّية لا غير. السلع الثلاث هي (أ) سلع التصدير، و(ب) السلع المُنتَجة والمستهلَكة محلّياً (السلع غير القابلة للتبادل بالأساس)، و(ج) السلع المستوردة. في ظل هذا النموذج، تكون التحويلات وأسعار الصادرات وأسعار الواردات متغيّرات خارجية. لا يأخذ النموذج أسواق عناصر الإنتاج في الاعتبار. في هذا النموذج، يتمّ تثقيل سعر الصرف الحقيقي (ر) بحصص الواردات والصادرات في إجمالي التجارة الخارجية للاقتصاد، بحسب المعادلة التالية ر= سسَوتخ+سسًصتخ، حيث (س) سعر السلع المحلية و(سَ) سعر السلع المستوردة و(سً) سعر السلع المُصدَّرة و(تخ) التجارة الخارجية و(و) الواردات و(ص) الصادرات. في هذه المعادلة، إذا زادت (ر)، فهذا يعني زيادة في سعر الصّرف الحقيقي.
يناسب هذا النموذج حالة جبل لبنان للأسباب التالية: (أ) اقتصاده صغير مفتوح؛ و(ب) لديه صناعة كبيرة تنتج سلعة واحدة مخصّصة للتصدير (الحرير)؛ و(ج) يعتمد على الواردات لجميع أنواع السلع الأخرى تقريباً، بما فيها المواد الغذائية. وتهدف المحاكاة إلى: (أ) تقييم أثر الصدمات الخارجية على الناتج المحلّي الإجمالي والدخل والأسعار؛ و(ب) اختبار العلاقة بين التحويلات والصادرات. لا بد من الإشارة إلى أن النموذج يقيِّم أثر التدفّقات الخارجيّة في الإنفاق، لكنه لا يستطيع تقييم ذلك الأثر من حيث حركة عناصر الإنتاج لكونه يتجاهل أسواق هذه العناصر.
توازن عام بسيط لجبل لبنان: المحاكاة والنتائج
جرى التحليل أدناه من خلال أربعة سيناريوهات: انخفاض بنسبة 90% في التحويلات، زيادة بنسبة 10% في التحويلات، انخفاض بنسبة 10% في أسعار الصادرات، وتعويض أثر هذا الانخفاض في الاستهلاك من خلال ارتفاع التحويلات. صمّمتُ السيناريوهات الأربعة بطريقة تقارن النظرية مع التاريخ وتتيح لنا فهم الثاني من خلال الأولى. يوجز الجدول رقم 4 نتائج السيناريوهات الأربعة جميعها. وقبل عمليّات المحاكاة، قمت بتصفير فائض الحساب الجاري من خلال زيادة الاستيراد، وزدت بمقابله الاستهلاك والاستثمار في الاستخدامات. يعني هذا الأمر افتراض أن جبل لبنان لم يحتفظ بأي احتياطيّات واستخدم كل الأموال المتاحة. وهذا التعديل يحيّد آثار، ولو كانت محدودة، وجود فائض كبير في الحساب الجاري (مدّخرات خارجيّة سلبية)، في نتائج المحاكاة. فضلاً عن ذلك، ليس هذا التعديل بعيداً من الواقع لأن جبل لبنان آنذاك لم يكن لديه سلطات نقدية.
يلخص العمود الأول تأثير انخفاض التحويلات بنسبة 90%. يظهر الأثر في الدخل قوياً ويولِّد انخفاضاً حادّاً في الاستهلاك والاستثمار. وهذا يتفق مع التطوّرات التاريخية: حين توقّف تدفّق التحويلات إلى جبل لبنان في 1914-1918 بسبب الحرب العالمية الأولى، سقطت البلاد في مجاعة كارثية. وانهارت الواردات، بما فيها الواردات الغذائية. ينخفض سعر الصرف الحقيقي بشدّة بسبب انهيار الطلب وأسعار السلع المحلّية. يعزّز الانخفاض في سعر الصرف الحقيقي الصادرات بنسبة 8%. وهذه الزيادة في الصادرات تُبقي الانخفاض في الناتج المحلّي الإجمالي الحقيقي طفيفاً عند 2.6%. في الواقع، يبيّن لنا التاريخ أن الصادرات توقّفت في 1914-1918 لأنّ الحرب العالمية الأولى أوقفت الحركة التجارية.
ويحاكي العمود الثاني تأثير زيادة التحويلات بنسبة 10%. يزداد الدخل والاستهلاك والواردات في حين يظل الناتج المحلّي الإجمالي الحقيقي من دون تغيير. تفقد البلاد القدرة التنافسية بسبب ارتفاع سعر الصرف الحقيقي مدفوعاً بزيادة الطلب على السلع المحلّية وارتفاع أسعار، وتنخفض الصادرات. تتفق هذه النتيجة مع المشاهدات المتعلّقة بارتفاع أسعار الأراضي، وهي سلعة محليّة أساسية غير قابلة للتبادل، مع زيادة التحويلات إلى جبل لبنان.
يقيّم العمود الثالث أثر انخفاض أسعار الصادرات بنسبة 10%. ينخفض الدخل ومعه ينخفض الاستهلاك. كما تنخفض الواردات نظراً لوجود عملات أجنبية بكمّيات أقل بسبب انخفاض الصادرات. يتراجع الناتج المحلّي الإجمالي الحقيقي ببطء بينما ينخفض سعر الصرف الحقيقي بسبب انخفاض أسعار السلع المحلية. إلّا أنّ الانخفاض في سعر الصرف الحقيقي أقل من الانخفاض في أسعار السلع المحلّية لأن السعر النسبي للسلع المحلّية غير القابلة للتبادل مقابل السلع القابلة للتبادل ينخفض انخفاضاً طفيفاً. فقد انخفض في المعادلة جزء من أسعار السلع القابلة للتبادل (الصادرات). في هذه الحالة أيضاً، يخبرنا التاريخ عن الأثر السلبي لانخفاض الأسعار الدولية للحرير في الدخل والاستهلاك.
يحاكي العمود الأخير الزيادة اللازمة في التحويلات لتعويض أثر انخفاض أسعار الصادرات بنسبة 10% على الاستهلاك الخاص للفرد. نفترض هنا أنَّ قسماً من السكّان نتيجة الانخفاض في الدخل والاستهلاك سوف يهاجر، وأن الجالية سوف تزيد تحويلاتها إلى الوطن. واللافت أنه لتعويض أثر انخفاض أسعار الصادرات بنسبة 10% على الاستهلاك الخاص للفرد، احتاج جبل لبنان إلى تلقي تحويلات أعلى بنسبة 16%. يترجم التأثير المشترك لانخفاض الصادرات وازدياد التحويلات ارتفاعاً في الدخل والواردات والطلب على السلع المحلّية، في حين يظل الناتج المحلّي الإجمالي الحقيقي من دون تغيير. تظل أسعار السلع المحلّية في انخفاض بسبب مزيج من الأثر الانكماشي المرتفع الناجم عن انخفاض أسعار الصادرات والأثر التضخّمي الأضعف لارتفاع التحويلات. ويزداد سعر الصرف الحقيقي على الرغم من انخفاض الأسعار المحلية لأنّ الانخفاض، في المعادلة، في أسعار جزء من السلع المتبادلة (الصادرات) قوي، فيزداد السعر النسبي للسلع المحلّية غير المتبادلة مقابل السلع المتبادلة. وتماشياً مع ارتفاع سعر الصرف الحقيقي، تنخفض الصادرات، ما يشير إلى وقوع خسارة في القدرة التنافسية. باختصار، إن انخفاضاً شديداً في أسعار الصادرات في السوق العالميّة يستتبع انخفاضاً في دخل السكّان وزيادة في الاعتماد على التحويلات التي بدورها تأتي بأثرٍ سلبي في التنافسية وتُخفِّض الصادرات.
3. عودة إلى المستقبل: نموذج توازن عام بسيط للمرض الهولندي في لبنان الحديث
بعد الحرب العالمية الأولى، امتدّ لبنان لما بعد جبل لبنان إلى حدوده الحالية ليشمل أراضي زراعية أكبر. لقد أودت المجاعة بحياة ثلث السكّان، والحال أن الهجرة استمرّت، وإنّما بمستويات أقل بكثير من ما قبل الحرب. بين العامين 1920 و1950، طوّرت البلاد اقتصاداً أكثر تنوّعاً وتخلّت عن نموذج الصناعة الأحادية الذي كان سائداً في عصر الحرير. استمرّت التحويلات المالية في أداء دور مهم، ولكن أقل مما كان عليه في فترة 1880-1914. في أواخر الخمسينيات، دفعت التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية أعداداً متزايدة من سكّان الريف إلى ترك مناطقهم. بعضهم هاجر، لكن القسم الأكبر منهم استقرّ في المدن. وقد تمكّن الجيل الثاني من سكّان المدن من الحصول على تعليم أفضل واجتذبته بدءاً من أوائل السبعينيات الاقتصادات المزدهرة في بلدان الخليج الغنية بالنفط. ومنذ ذلك الحين، عادت التحويلات المالية والتدفّقات الخارجية لتكون عنصراً رئيساً في الدخل القومي الإجمالي المُتاح. تسبّبت حرب 1975-1990 بهجرة كبيرة إلى الخارج وزيادة الاعتماد على التدفّقات الخارجية، حيث تعرّضت قطاعات كبيرة من الاقتصاد لأضرار بالغة مباشرة وغير مباشرة بسبب الحرب. وفي الفقرات التالية، سأتناول التدفّقات الخارجية بمجموعها، إذ إن تطوّر القطاع المصرفي قلّص الحدود بين التحويلات وتدفّقات رأس المال، ما أتاح دراسة الأثر الاقتصادي للمتغيرَيْن مجتمعين.
الاعتماد على التدفّقات والتحويلات في لبنان الحديث: نظرة من خلال الحسابات القومية
تعكس الحسابات القومية للبنان الأثر القوي للحرب في الاقتصاد اللبناني من حيث انخفاض الطاقات الإنتاجية والاعتماد البنيوي على التدفّقات الخارجية. فقد أضعفت الحرب، من خلال التدمير الواسع لرأس المال، الطاقات الإنتاجية للاقتصاد وزادت من الاعتماد على الاستيراد المموّل من تدفّقات كبيرة من الدخل والتحويلات ورأس المال. ويقارن الجدول رقم 5 تركيبات الناتج المحلّي الإجمالي والحسابات الخارجية بين فترة ما قبل الحرب (1972) وفترة ما بعد الحرب (1994) والعام 2004. اخترت العام 2004 لكونه العام الذي انتهت فيه حقبة إعادة الإعمار بعد الحرب. اغتيل بطل تلك الحقبة، رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في شباط/فبراير 2005. ومنذ ذلك الحين، لم يُطرَح أي مشروع اقتصادي وسياسي آخر على المجتمع اللبناني، وركّز الحكام على إطالة عمر نظام ما بعد إعادة الإعمار الذي ورثوه عن الحريري، إلى حين انهياره في نهاية العام 2019.
في العام 1972، ظل لبنان منفتحاً على التدفّقات العالمية للسلع والخدمات ورأس المال. وبلغ مجموع التدفّقات الخارجية من دخل وتحويلات ورأس مال 20% من الناتج المحلّي الإجمالي، وهي نسبة مرتفعة ولكنها أقل بكثير من نسبة 54% المُسجّلة قبل 60 عاماً. واللافت أن قسماً صغيراً من هذه التدفّقات وصل إلى الاقتصاد المحلّي لتمويل الواردات لغرض الاستهلاك المحلّي والاستثمار. أما القسم الأكبر من التدفّقات فقد ساعد على بناء احتياطيّات من العملات الأجنبية وشراء الذهب. كان قطاعُ التصديرٍ نشيطاً وشكّل أكبر مصدر للعملات الأجنبية بنسبة 38% من الناتج المحلّي الإجمالي، فساعد على تغطية الجزء الأكبر من الواردات. وظل الاستهلاك عند 79% من الناتج المحلّي الإجمالي.
بعد الدمار الناجم عن الحرب ونزوح عناصر الإنتاج الكبير على شكل هجرة قوية إلى الخارج بين العامين 1975 و1990، ظهرت صورة مختلفة جذرياً في العام 1994 مقارنة بالعام 1972. وكانت العولمة الثانية في ذروة انطلاقها، وتلقّى الاقتصاد في العام 1994 ما يوازي 70% من الناتج المحلي الإجمالي على شكل دخل وتحويلات ورأس مال. موّلت هذه التدفّقات استيراداً وصلت نسبته إلى 66% من الناتج المحلّي الإجمالي، فتعزّز الاستهلاك الخاص ليصل إلى 111% من الناتج المحلّي الإجمالي. تقلصت الصادرات إلى أقل من 9% من الناتج المحلّي الإجمالي. بلغت الاستثمارات نسبة عالية، 32% من الناتج المحلّي الإجمالي، لكن حصّة كبيرة من هذه الاستثمارات كانت في الإسكان والعقارات، مع أثر ضئيل على القدرات الإنتاجية. وإذا نظرنا إلى مصادر الناتج المحلّي الإجمالي حسب القطاعات، نلحظُ زيادة في حصّة الصناعة والزراعة، وهما القطاعان اللذان استفادا من انخفاض قيمة العملة في فترة 1985-1988. تراجع قطاعا النقل والاتصالات بسبب الأضرار الجسيمة ببنيتهما التحتية وإعادة توجيه النقل الإقليمي بعيداً من لبنان في خلال الحرب. كما عانت التجارة والخدمات، لا سيّما في ظل تراجع السياحة. باختصار، كان الناتج المحلّي الإجمالي الحقيقي في العام 1994 يبلغ 60% من قيمته في العام 1972، و42% من حيث حصّة الفرد، في حين صارت البلاد تعتمد بشكل كبير على التدفّقات الخارجية لاستيراد السلع والخدمات لغرض الاستثمار والاستهلاك.
استرد لبنان مع العام 2004 العديد من سماته في العام 1972، لكن مع قطاعٍ عام متضخّم إذ وصل الاستهلاك والاستثمار العام إلى 18% من الناتج المحلّي الإجمالي في مقابل 12% في العام 1972. غالبية هذه الزيادة أتت من الاستهلاك العام الذي وصل إلى 15% من الناتج المحلّي الإجمالي في مقابل 9% في العام 1972. بدأ قطاع التصدير في التعافي منذ العام 1994، لكن مستواه لم يبلغ إلّا نصف ما كان في العام 1972 (19.9% من الناتج المحلّي الإجمالي في 2004 في مقابل 38% في 1972). الأهم من ذلك أن التركيبة القطاعية للناتج المحلّي الإجمالي أظهرت أثر عقدٍ من التدفّقات الخارجية على بنية الاقتصاد بين العامين 1994 و2004. فقد شهدت حصّة القطاعات المنتِجة للسلع القابلة للتبادل في الزراعة والصناعة انخفاضاً حاداً، في حين نمت بقوّة القطاعات المنتِجة للسلع غير القابلة للتبادل في قطاع الخدمات والقطاع العام. تمثّل هذه جميعها علاماتٍ على تراجع التصنيع مع اتجاه عناصر الإنتاج إلى القطاعات غير القابلة للتبادل التي نمت مُتأثرة بمستويات عالية من الإنفاق. الجدير بالملاحظة أن الناتج المحلّي الإجمالي، بالقيم الحقيقية، كان يساوي في العام 2004 نحو 93% من قيمته في العام 1972 ونحو 56% من حيث حصّة الفرد منه.
نموذج توازن عام بسيط للبنان الحديث: المحاكاة والنتائج
يحاكي التحليل أدناه أثر تغيّر التدفّقات الخارجية بنسبة 10% في الاقتصاد اللبناني لأعوام 1972 و1994 و2004. لقد استبعدت الاحتياطيّات الأجنبية في الحالة الأساس، وأبقيت فقط على صافي المدّخرات الخارجية الذي يعوّض عجز الحساب الجاري. يفترض هذا التعديل أن أي زيادة في المدّخرات الخارجيّة تُوَجّه مباشرة وبالكامل إلى الاقتصاد مع وقع مباشر على الطلب والأسعار. تشمل المحاكاة زيادة التدفّقات الخارجية بنسبة 10% ونقصانها بالنسبة نفسها. لا أحاكي أي صدمة على أسعار الصادرات، بسبب تنوّع الصناعة والصادرات والزراعة في لبنان الحديث. مع هذا التنويع في القطاعات القابلة للتبادل، لن تُحدِثَ الصدمة في أي قطاع تأثيراً مماثلاً لتغيّر أسعار الحرير في العام 1912. نهدف هنا إلى تقييم مدى ضعف لبنان أمام الصدمات الخارجية وأثرها في الاقتصاد. يلخِّص الجدول رقم 6 نتائج التحليل.
تُظهِر محاكاة العام 1972 اقتصاداً محمياً نسبياً ضدّ التغيّرات في التدفّقات الخارجية. ومن حيث الاستخدامات، جرى تغطية الاستهلاك والاستثمار المحلّيين إلى حدّ كبير من خلال السلع والخدمات المحلّية، في حين قدّمت الصادرات تغطية كبيرة للواردات. وساعدت التدفّقات الخارجيّة على سدّ فجوة صغيرة ولم يكن لها تأثير قوي في الدخل، وبالتالي على الطلب. تعزّز زيادة التحويلات المالية والمدّخرات الخارجية بنسبة 10% في العام 1972 الدخل والاستهلاك والاستثمار، ويرتفع الناتج المحلّي الإجمالي قليلاً. خسائر البلاد في القدرة التنافسية تبقى طفيفة، ويرتفع سعر الصرف الحقيقي بسبب ارتفاع الطلب وارتفاع أسعار السلع المحلّية. تنخفض الصادرات قليلاً، في حين تكون الزيادة في الواردات مرتفعة نسبياً. ويأتي تأثير انخفاض التدفّقات الخارجية بنسبة 10% مماثلاً لتأثير ارتفاعها إنّما معكوساً.
اقتصاد العام 1994 ضعيفٌ ومكشوف، مع انخفاض الطاقات الإنتاجية في جميع القطاعات. بعد أربع سنوات من انتهاء الحرب، يضخّ لبنان تدفّقات خارجية في الاقتصاد لتعزيز الدخل المُتاح وتمويل الواردات الكبيرة التي تلبّي الطلب المحلّي الكلّي المتزايد. وفي العام 1994، كان لزيادة التدفّقات الخارجية بنسبة 10% تأثير مماثل في الدخل والواردات، مع ارتفاع في الاستهلاك والاستثمار. تنخفض القدرة التنافسية بحدّة مع ارتفاع قوي في سعر الصرف الحقيقي وأسعار السلع المحلّية، بينما تنخفض الصادرات بشكل كبير. ولا تؤثّر الزيادة في التدفّقات إيجابياً على نمو الناتج المحلّي الإجمالي، في حين يؤدّي انخفاض التدفّقات الخارجية بنسبة 10% إلى تراجع الناتج المحلّي الإجمالي بنسبة 0.4%. وهذا يعني أن حساسية الاقتصاد تجاه تأثير إنفاق التدفّقات الخارجيّة تزداد حين تصل حصّتها من الناتج المحلي الإجمالي إلى مستويات عالية، مع بقاء حصّة الصادرات منخفضة. نتيجة أخرى لارتفاع حصّة التدفّقات من الناتج المحلّي الإجمالي هي زيادة حساسية أسعار السلع المحلّية تجاه الزيادة في التدفّقات الخارجيّة.
في العام 2004، اختتم الاقتصاد اللبناني عقداً من التدفّقات الخارجية بكميات كبيرة حرفت الاقتصاد نحو التخصّص في القطاعات غير القابلة للتبادل على حساب الأنشطة القابلة للتبادل. استعادت الصادرات بعض ديناميات ما قبل الحرب، لا سيّما في مجالي الخدمات والسياحة. بيد أنّ الاعتماد على التدفّقات الخارجيّة لتمويل الواردات لغرض لاستهلاك والاستثمار المحليَيْن ظل مرتفعاً. آثار هذه التدفّقات في سعر الصرف الحقيقي وأسعار السلع المحلّية مماثلة لنظيرتها في العام 1912. توقّعت المحاكاة أن يؤدّي انخفاض التدفّقات الخارجية بنسبة 10% إلى خفض حصّة الفرد من الاستهلاك الخاص بنسبة 2.7%. إن انعكاس التدفّقات الخارجية نحو خروج صاف من لبنان بدءاً من العام 2011 وتفاقم هذا المنحى في الأشهر السابقة على الأزمة التي تكشّفت في تشرين الأول/أكتوبر 2019، أدّت بالفعل إلى انكماش الاستهلاك وتراجع الرفاه فتسبّبت في هجرة كبيرة إلى الخارج.
بين التوقّعات والواقع: المحاكاة والمشاهدات الفعلية في الفترة من 2005 إلى 2020
يقارن التحليل أدناه بين محاكاة أثر صدمات التدفّقات الخارجية على المتغيّرات الاقتصادية وبين التغيّرات الفعلية المُسجّلة في الحسابات القومية وميزان المدفوعات. يبيّن الجدول رقم 7 أن المحاكاة تتطابق إلى حدّ كبير مع المشاهدات الفعلية من 2005 إلى 2020.
وبالفعل، ففي حين تظهر نتائج محاكاة صدمة إيجابية حيث تزداد التدفّقات الخارجية بنسبة 10%، ارتفاعاً في الدخل بنسبة 4.9%، بلغ متوسّط التغيّر السنوي الفعلي في تلك التدفّقات نسبة 14.1% بين العامين 2005 و2010، وأدّى إلى زيادة الدخل بنسبة 6.8% في المتوسّط، وأدّى التغيّر الفعلي بنسبة 7.0% في الفترة 2011-2016 إلى زيادة الدخل بنسبة 2.1% في المتوسّط. وزاد الاستهلاك والاستثمار الخاصان الفعليان كما توقّعت المحاكاة، فضلاً عن زيادة الاستيراد والطلب المحلّي على السلع المحلّية. لكن في حين ارتفعت حصّة الفرد من الاستهلاك في الفترة 2005-2010، فقد انخفضت في الفترة 2011-2016، بسبب الزيادة السريعة في عدد السكّان المقيمين (الرسم رقم 4) مع تدفّق اللاجئين من سوريا، وهو تطوّر لم يكن بإمكان عمليّات المحاكاة توقّعه.
في محاكاة الصدمة السلبية حيث تنخفض التدفّقات الخارجيّة بنسبة 10%، ينخفض الدخل بنسبة 4.8%، وقد كانت نسبة الانخفاض الفعلية في التدفّقات 10.8% في المتوسّط في فترة 2017-2019 ونتج عنها انخفاض في الدخل بنسبة 2.8%. وانخفض الاستهلاك الخاص والاستثمارات والاستيراد والطلب المحلّي الفعلي على السلع المحلّية كما كان متوقعاً. اللافت أن الانخفاضات المتوقّعة والمشاهدَة في الاستهلاك متقاربة للغاية (1.4% و1.3% على التوالي). لكن حصّة الفرد من الاستهلاك الفعلي بالكاد تغيّرت، ما يشير إلى تسارع الهجرة إلى الخارج وانعكاس اتجاهات اللجوء السوري (الرسم رقم 4).
النتيجة الأكثر لفتاً للنظر هي التشابه بين التغيّرات المشاهدَة في العام 2020، عام الأزمة الكاملة، والمحاكاة مع استخدام بنية اقتصاد جبل لبنان للعام 1912. وهنا، باستثناء انحدار النمو الذي يتجاوز التوقّعات إلى حدّ كبير، والصادرات وأسعار السلع المحلّية التي تُظهِر اتجاهات معكوسة،2 فإن كل التغيّرات الأخرى تقع في نطاق محاكاة العام 1912. والواقع أنه في محاكاة انهيار التدفّقات الخارجية بنسبة 90% في اقتصاد العام 1912، ينخفض الدخل بنسبة 39.7%. أمّا في العام 2020، فقد بلغ الانخفاض الفعلي في التدفّقات الخارجية 50.3%، وأسفر عن انكماش الدخل بنسبة 16.5%. كما ينخفض ضمن نطاق المحاكاة واتجاهها كلّ من الاستهلاك الخاص وحصّة الفرد من الاستهلاك الخاص والواردات والطلب المحلّي على السلع المحلّية.
إن لديناميات سعر الصرف الحقيقي أهمّية خاصّة. في الواقع، كان من المفترض أن يؤدّي انخفاض التدفّقات الخارجيّة في الفترة 2017-2019 إلى انخفاض سعر الصرف الحقيقي، لكنّ هذا لم يحدث، واستمرّ السعر في الارتفاع، ويرجع ذلك إلى استمرار سياسة ربط الليرة اللبنانية بالدولار بحكم الأمر الواقع، مُشكّلاً بالتّالي أحد أعراض المبالغة في تقييم العملة اللبنانية. وهذه الزيادة المستمرّة في سعر الصرف الحقيقي تسبّبت بانخفاض الصادرات بنسبة 1% إلى 1.5% في المتوسّط بين العامين 2011 و2019. ومع إغلاق القناة الرئيسة للتدفّقات الخارجية عبر القطاع المصرفي في العام 2020 والانخفاض الحادّ في هذه التدفّقات، انخفض سعر الصرف الحقيقي بالتوازي مع انهيار سياسة تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية. وقد حدث هذا الانخفاض في سعر الصرف الحقيقي على الرغم من ارتفاع الأسعار المحلّية التي تأثّرت بالسياسة النقدية التوسّعية الهائلة التي اتبعها المصرف المركزي. إلّا أن الزيادة في أسعار الواردات، الناجمة عن انهيار سعر الصرف، فاقت الزيادة في الأسعار المحلية وخفّضت سعر الصرف الحقيقي.
باختصار، من اللافت أن نرى إمكانية محاكاة التطوّرات الفعلية في العام 2020 من خلال سيناريو أزمة مطبّق على بنية اقتصاد العام 1912 وليس على بنية اقتصاد العام 2004. وهذا يعني أن السياسة الاقتصادية المُتبعة بين العامين 2004 و2019، حرفت اقتصاد لبنان تدريجياً نحو هشاشة وانكشاف واعتماد على التدفّقات الخارجية سادوا قبل قرن. آنذاك، تسبّبت صدمة الحرب العالمية الأولى في تجويع السكّان. في الوقت الحاضر، أفضى بنا المسار نحو الأزمة، وأدّت الأزمةُ نفسها إلى خفض عدد السكّان المقيمين بنحو 900 ألف نسمة بين العامين 2015 و2022، منهم 300 ألفاً بين العامين 2020 و 2022 (الرسم رقم 4)، على الرغم من القيود على السفر بسبب وباء كوفيد-19. وبالتالي، بعد قرن من الزمن، يجري التكيّف مع الأزمة في لبنان مرّة أخرى من خلال المجتمع والسكّان، في العام 1916 من خلال المجاعة، وفي العام 2020 من خلال الهجرة إلى الخارج.
خاتمة
في أوائل القرن العشرين، شهد جبل لبنان تراجعاً في التصنيع بسبب تطوّر صادرات الحرير الخام. أسفر النمو الكبير لقطاع الحرير إلى حركة عناصر إنتاج وتأثير للإنفاق يتطابقان مع ما وصف كوردن ونيري. إن تراجع التصنيع واحتكار قطاع الحرير للصناعة والزراعة والصادرات خلق في جبل لبنان اعتماداً مُفرطاً على سوق الحرير وضعفاً أمام الصدمات فيها. شكّلت الهجرة إلى الخارج والتحويلات استجابة النظام التلقائية لتقلّب الدخل والاستهلاك المُرتبط بتقلّب صادرات الحرير وأسعاره. حسّنت تحويلات المهاجرين الدخل والاستهلاك وكان لها أثر قوي على الإنفاق. زاد هذا الأخير الطلب على السلع المستوردة والمحلّية وزاد أسعارها، ما أدّى بدورها إلى ارتفاع سعر الصرف الحقيقي وتراجع التصنيع واستبعاد القطاعات التصديرية غير الحرير، فازداد الاعتماد على التحويلات. وصل الاعتماد على صادرات الحرير والتحويلات إلى مستويات أدّى معها توقّف الحركة الدولية للسلع والرساميل والأشخاص إلى المجاعة في العام 1916.
بين العامين 1972 و 2004، عاد لبنان إلى سمات قريبة من سمات جبل لبنان في العام 1912 من حيث الاعتماد على التدفّقات الخارجيّة والهشاشة أمامها. في العام 1972، قبل الطفرة النفطية في الشرق الأوسط، كان لبنان يتلقّى تدفّقات خارجيّة كبيرة، ولكن مع تأثيرات قليلة في الدخل والأسعار والناتج المحلّي الإجمالي. وقد تمّت مراكمة وتحييد معظم هذه التدفّقات في احتياطي العملات الأجنبية والذهب. بين العامين 1975 و1990، كانت الحرب المدمّرة صدمة كبيرة للبلد وأتت استجابة النظام التلقائية على شكل هجرة إلى الخارج وتدفّقات خارجية مُتزايدة. حافظت هذه التدفّقات الخارجية على مستوى الدخل والاستهلاك في خلال الحرب وسمحت بالانتعاش السريع للدخل والاستهلاك والاستثمار بعد الحرب. وفي العام 1994، كان التدفّقات الخارجية الكبيرة أثر كبير على الإنفاق مع زيادة الطلب على السلع المستوردة وعلى السلع المحلّية التي ارتفعت أسعارها. وهذا بدوره أدّى إلى ارتفاع سعر الصرف الحقيقي وإلى تراجع التصنيع واستبعاد القطاعات التصديرية على مدار عقد كامل بين 1994 و2004.
في العام 2004، أمسى لبنان بلداً مديناً، مع حصّة كبيرة للقطاعات غير القابلة للتبادل واعتماد بنيوي على التدفّقات الخارجية، ما خفّض قدرته التنافسية وشجّع على الهجرة إلى الخارج في أنماط مُشابهة لما حدث قبل 92 عاماً. لكنّ أوجه التشابه مع العام 1912 تتوقّف هنا. في الواقع، لم يكن جبل لبنان قادراً على اتخاذ أي خيار سياسي لكونه كياناً تابعاً داخل الإمبراطورية العثمانية. في لبنان العام 2004، كانت الخيارات السياسية واضحة: تبنّت البلاد سياسة تثبيت سعر الصرف الإسمي بين الدولار الأميركي والليرة اللبنانية. كما اعتمد لبنان نظام العملة المزدوجة حيث استخدم الدولار الأميركي والليرة اللبنانية بالتساوي في جميع أنواع المعاملات. وقد قلّل هذان الإجراءان من دور سعر الصرف الاسمي كأداة تصحيح من شأنها التأثير في سعر الصرف الحقيقي والقدرة التنافسية. كما سمح هذان الإجراءان للمصارف باجتذاب كمّية مُتزايدة من الرساميل التي وُجِّهت إلى القطاع العام والمستوردين والقطاعات غير القابلة للتبادل. فتفاقم ارتفاع سعر الصرف الحقيقي ومعه الخسارة في القدرة التنافسية.
ألقى الاقتصاد السياسي بثقله على مسار خيارات السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية. استخدم المصرفيّون أسعار الفائدة المرتفعة لجذب المزيد من الرساميل، وكانوا على يقين من أن إعادة استخدامها ستدرّ عليهم عوائد كبيرة. واستحسن السياسيون توافر الأموال التي أعادوا توجيهها نحو قواعدهم. وكان المستوردون يشجّعون السياسات التي توسّع الأسواق لمنتجاتهم. وضغط المصرفيّون والمُلّاك والمطوّرون العقاريون من أجل المبالغة في تقييم الأصول العقارية واستخدامها على نطاق واسع لضمان عمليات الإقراض والتسليف. مهّدت هذه الخيارات السياسية المتعمّدة الطريق إلى الانهيار في العام 2019 حين بلغ انعكاس التدفّقات الخارجية ذروته في أزمة كبرى ذات تأثير غير مسبوق على المجتمع لم نشهد مثله منذ مجاعة العام 1916. لكن بدلاً من المجاعة، تستنزف هجرة جماعية إلى الخارج القوى الحيّة للمجتمع اللبناني، وهو تكيُف يُضعف المجتمع ويعزّز قبضة بنى السلطة القائمة على مصيره.
صدرت هذه الدراسة باللغة الإنكليزية عن البنك الدولي، وترجمهافريق موقع 0 إلى اللغة العربية. تعيد هذه الدراسة استخدام عناصر من رسالة قدّمت لنيل الماجستير في الاقتصاد من كلّية الآداب والعلوم في الجامعة الأميركية في بيروت في 24 أيلول/سبتمبر 2007.
المراجع
Bou Habib, Chadi Adib. 2007 - The effects of capital inflows on a small open economy growth or Dutch disease? a study of the Lebanese case. American University of Beirut.
Bourbonnais, Regis. 1993 – Econométrie, cours et exercices corrigés. Published by Dunod.
Bussolo, Maurizio, Medvedev, Denis, 2007 – Do remittances have a flip side? A general equilibrium analysis of remittances, labor supply responses, and policy options for Jamaica. Policy Research Working Paper No. 4143. Published by the World Bank.
Chami, Ralph, Fullenkamp, Connel, & Jahjah, Samir, 2003 – Are immigrant remittance flows a source of capital for development? Working Paper No. 03/189. Published by the International Monetary Fund.
Chami, Ralph, Fullenkamp, Connel, & Jahjah, Samir, 2005 – Are immigrant remittance flows a source of capital for development? Staff Papers Vol. 52, No. 1. Published by the International Monetary Fund.
Corden, W. Max, & Neary, J. Peter, 1982 – Booming sector and deindustrialization in a small open economy. Vol.92. No. 368. The Economic Journal.
Dessus, Sebastien & Astrup, Claus, 2005 – Exporting goods or exporting labor?: long term implications for the Palestinian economy. Published in the Review of Middle East Economics and Finance, Vol. 3, No.1, 39-61.
Devarajan, Shantayanan, Go, Delfin S., Lewis, Jefferey D., Robinson, Sherman, & Sinko, Peka, 1997 – Simple general equilibrium modeling. Chapter 6 in “Applied methods for trade policy analysis – A handbook”, Cambridge University Press.
Devarajan, Shantayanan & Go, Delfin S., 1998 – The simplest general equilibrium mode of an open economy. Journal of policy modeling, published by Elsevier Science Inc.
Domaç, I., & Shabsigh, G., 1999 – Real exchange rate behavior and economic growth: evidence from Egypt, Jordan, Morocco and Tunisia. Working Paper No. 99/40. Published by the International Monetary Fund.
Firro, Kais, 1990 - Silk and Agrarian Changes in Lebanon, 1860-1914. International Journal of Middle East Studies, Vol. 22, No. 2 (May, 1990), pp. 151-169
Harberger, Arnold C., 2004 – The real exchange rate: issues of concept and measurement. University of California, Los Angeles.
International Monetary Fund, 1999 – Back to the future: postwar reconstruction and stabilization in Lebanon. Occasional Paper No. 176.
International Monetary Fund, 1999 – Economic dislocation and recovery in Lebanon Occasional Paper No. 120.
Khater, Akram, 2017 - Why did they leave? Reasons for early Lebanese migration. Khayrallah Center for Lebanese Diaspora Studies, North Carolina State University.
Khater, Akram, 2001 - Inventing Home - Emigration, Gender, and the Middle Class in Lebanon, 1870-1920. University of California Press
Krugman, Paul R., & Obtsfeld, Maurice, 2003 – International Economics, theory and policy. Sixth Edition, published by Addison Wesley.
Ministry of Planning, Central Administration of Statistics, 1974 - Recueil de Statistiques Libanaises, Année 1973 (Lebanon Statistical Abstract, 1973).
Nowak, Jean-Jacques, 1998 – Syndrome néerlandais et théorie du commerce international (Dutch Disease and theory of international trade). Published by Economica.
Opoku-Afari, Maxwell, Morrissey, Oliver & Lloyd, Timaballero, 2004 – Real exchange rate response to capital inflows: a dynamic analysis for Ghana. Research paper No. 04/12. Published by the Center for Research in Economic Development and International Trade, University of Nottingham.
Pindyck, Robert S., & Rubinfeld, Daniel L., 1998 – Econometric models and economic forecasts. Fourth edition, published by McGraw-Hill.
Pitts, Graham Auman, 2021 - Was Capitalism the Crisis? Mount Lebanon’s World War I Famine. Environment & Society Portal, Arcadia (Spring 2021), no. 3. Rachel Carson Center for Environment and Society. doi:10.5282/rcc/8801
Presidency of the Council of Ministers, 2022 - Central Administration of Statistics, Annual National Accounts 2004-2020.
Presidency of the Council of Ministers, Economic Accounts mission, 2006 - Economic Accounts of Lebanon, 2004.
World Bank, 2023 - World Development Indicators.
منشورات الجامعة اللبنانية، 1970 – لبنان: مباحث علمية واجتماعية. بتوجيه من حاكم جبل لبنان، اسماعيل حقي بك في 1918.
نحّاس شربل، 2003 – حظوظ اجتناب الأزمة وشروط تخطّيها. دار النهار.
- 1غطّى جبل لبنان أو متصرفية جبل لبنان (1861-1915) ثلث مساحة لبنان الحديث وكان منطقة تتمتّع بنوعٍ من الاستقلالية ضمن السلطنة العثمانية، أنشأت في العام 1861 نتيجة حرب 1860 الأهلية بين الموارنة والدروز.
- 2تتوقّع المحاكاة باستخدام بنية العام 1912 انخفاضاً في الأسعار المحلّية وزيادة في الصادرات تُخفّف من تراجع الناتج المحلّي الإجمالي. في الواقع، في العام 1912، بلغت نسبة الصادرات أكثر من 60% من الناتج المحلّي الإجمالي (أنظر/ي الجدولين رقم 2 و3). في العام 2019، كانت الصادرات 21% فحسب من الناتج المحلّي الإجمالي، وارتفعت الأسعار المحلّية بسبب الزيادة الهائلة في المعروض النقدي، والأهم من هذا كلّه، هو التقلّبات الهائلة في تأمين الخدمات - بما فيها نقص الطاقة - التي منعت الاقتصاد من تحويل الانخفاض في سعر الصرف الحقيقي إلى فرصة لوضع تنافسي أفضل.