أزمة الرأسمالية اللبنانية: مِن، مَن؟

"إنّ المسألة الأساسيّة هي من سيتغلّب على من"

فلاديمير لينين

يستمر الحديث في لبنان بشكل متسارع عن أشكال عديدة من الصناديق التي تهدف إلى "إعادة تكوين الودائع" وفي كل أشكال هذه الصناديق يبقى السؤال الأول الأساسي: من سيدفع؟ والثاني من سيقبض؟ وهذه الحاجة إلى الانتقال من "من سيدفع" إلى "من سيقبض وكمّ" يمكن نمذجته عبر بناء الأداة الرياضية أو المصفوفة التي سوف تتحكّم بكيفية الانتقال من الأول إلى الثاني. وكما في المصفوفات فإن البحث عن عناصرها يجعل الأمور معقّدة جدّاً. فعلى الرغم من أن الحلّ يمكن أن يكون سهلاً من الناحية المحاسباتية أو حتى القانونية (مثل مشروع قانون علي حسن خليل-ناصر جابر) ولكنّه في الواقع مُعقد اقتصادياً بل أكثر اقتصادياً-سياسياً.

الصراع... صراع طبقي

إذا وضعنا جانباً الحلول البسيطة، فالبعض يظن أن هناك سوء إدارة للأزمة من الحكومات التي تعاقبت منذ بداية الأزمة، أو من مصرف لبنان (الذي يدير الأزمة من الناحية التقنية: تعاميم، صيرفة، أسعار صرف عدّة، تدخّل في الأسواق في الوقت المناسب)، أو أن هناك تأخّر على "الطريقة اللبنانية"، لكن الحقيقة ليست هذه ولا تلك لأن الصراع على توزيع "الخسائر" لم يحسم بعد، وهذا الصراع ليس تقنياً ليكون صراعاً بين الخبراء أو الحلول النقدية بل صراعاً طبقياً.

الصراع ليس حول إعادة تكوين الودائع بل "إعادة تكوين الطبقات". فبعد الأزمة النقدية والمصرفية حصلت انهيارات لقيم وثروات تشكّل مداخيل وثروات الطبقات المختلفة، وهذا بالطبع أمر يحصل في حالات التضخّم وانهيار النقد. ونعيد هنا التذكير بقول جون ماينارد كينز إن "التغيّر في الأسعار والمكافآت، كما تُحْتَسَب بالنقد، يؤثّر بشكل عام على الطبقات بشكل غير متساوٍ، وينقل الثروة من طبقة إلى أخرى، يُعطي الغنى هنا ويُعطي العوز هناك" (أنظر هنا). بالطبع المسألة ليس محصورة بالمودعين و"أعدائهم" المحتملين، بل تتخطّاها لتطال العمّال والموظّفين والمتقاعدين والمودعين بالليرة اللبنانية (الذي لا يتحدّث عنهم أحد للمفارقة) والمقرضين والمقترضين من شبكة الطبقات المرتبطة بميزانيات الأصول والمطلوبات في الاقتصاد التي تغيّرت قيمها بشكل غير متساوٍ نتيجة انهيار النقد.من سيربح على حساب من؟ هذا هو السؤال الأساسي الذي يتحكّم بأية حلول سوف تتخذ في المرحلة المقبلة

فضاء الحلول المُمكنة

في التالي بعض الحلول الأساسية التي يمكن أن تنفّذ.

أوّلاً، تليير الودائع، أي أن تحوّل جميع الودائع بالدولار إلى الليرة اللبنانية. وهذا ما حصل في الأرجنتين في ظروف مماثلة للبنان عام 2001، بعد أن ثُبِّتت العملة الأرجنتينية لمدّةٍ أقل من تلك في لبنان.

ثانياً، إعادة الودائع جميعها بالدولار، وإن على فترات، وهذا يتطلّب عملاً جبّاراً. وهنا الأسواق تفشل، إذ ليس هناك ميكانيزم سوقي لعودة المساواة بين الدولار في السوق أو الدولار النقدي وبين الدولار الموجود في المصارف، وبالتالي أتت الحلول لمحاولة "إيجاد" الدولارات النقدية في مكان آخر، وعلى رأسها عن طريق الصندوق السيادي الذي يعني تحويل موارد الدولة وممتلكاتها إلى تلك الدولارات. وهذا الحلّ من أصعب الحلول حتّى تقنياً كون الودائع كانت بالدولار الأميركي، وانهيار القيم طال كل المصارف وكل الودائع، ولم يعد الأمر مجرّد إعادة أموال لمودعين في مصرف واحد أفلس كما كان يحدث في السابق. الآن ليس هناك من إمكانية أوتوماتيكية أو قانونية لإعادة أموال كلّ المودعين، إذ إن قيمها أمام الدولار الحقيقي انخفضت وبشكل كبير و"إعادتها" يعني استبدالها بالدولار الأميركي الحقيقي، وهو ما لا يمكن حدوثه حالياً إلّا بالكمّيات المحدودة والمتباعدة زمنياً، كما يفعل تعميم 158، وهو يعني تمديد العمل بالتعميم لسنوات عديدة، ويعني أيضاً أنها لن تعاد بالكامل لأنها ستخضع لخفض قيمها بفعل التضخّم على سنوات طويلة. كما أن هذا الحل هو أكثر الحلول تعقيداً طبقياً كما سنرى.

ثالثاً، نزع الموجودات المتهالكة ومن ضمنها ودائع المصارف الصافية لدى مصرف لبنان ونزع الودائع مقابلها وتحويلها إلى أسهم في المصارف، فتعود المصارف إلى العمل ولكن بملكية مختلفة بما يشبه "سوليدير مالية"، وتتحوّل الأرباح إلى مالكي الأسهم الذين يستطيعون أن يبيعونها في الأسواق أيضاً.

كما يمكن أن يتبع مزيج فيما بينها أو نسبة منها (مثلاً إعادة بعض الأموال وليس كلّها).

الفضاء vs الصراع

جميع هذه الحلول، أو حتى غيرها مما يمكن استنباطه محاسباتياً أو مالياً أو اقتصادياً، تتضمّن بعداً توزيعياً أي انتقال الثروة أو المداخيل من شخص إلى شخص أو خسارة في القيم للكثيرين أو للجميع. مثلاً، الحلّ الأول يطال الطبقات جميعها بشكل متساوٍ ويتطلّب هذا الأمر إما سلطة فوق الطبقات على غرار نوع من "البونابارتية" أو أن تكون مصالح الطبقات غير أساسية تجاه التغيّر في القيم، فمثلاً في الأرجنتين كانت الودائع بالدولار الأميركي تمثّل نسبة 14% من الدخل الوطني عام 2001 وبالتالي كان الدفاع عنها أضعف. في لبنان، من الصعب اقتصادياً سياسياً أن يؤخذ هكذا قرار على الرغم من كونه الأمثل اقتصادياً. فنسبة الثروة المالية في المصارف كانت تشكّل أكثر من ثلاث مرّات الدخل الوطني في 2019.

أمّا الحل الثاني فيكمن بأن المسألة التوزيعية حادّة، لأن انتقال الثروة سيتم من الأملاك أو الثروات العامة التي هي بالأصل موزّعة يشكل متساوٍ بين الناس (مؤشر جيني= صفر) إلى المودعين حيث التركّز كبير في الثروة (مؤشر جيني على الأقل أعلى من 0.8). أمّا الحل الثالث، فيقضي بأن يكون الخاسرون هم جميع المودعين كما أصحاب المصارف لأن قيمة المصارف المُنقذة وحصّة أصحاب الأسهم ستكون أقل بكثير من قيمهم الاسمية.

من سيربح على حساب من؟ هذا هو السؤال الأساسي الذي يتحكم بأية حلول سوف تتخذ في المرحلة المقبلة، وبالمناسبة كل هذا يحدث تحت ضغط الاتفاقية مع صندوق النقد الدولي الذي لا تجعله نظرته الماكرواقتصادية يهتم كثيراً بمآل طبقة الرأسمال الريعي، التي تُصارع من أجل البقاء بعد أن انهارت ثروتها، وتحاول بالتالي السيطرة على الثروة العامة. فهل يُستبعد صندوق النقد وتصبح السيطرة هي المهمة وتنطبق مقولة لينين المختصرة بـ: مِنْ، مَن؟ (Who, Whom؟) وتنتقل أيضاً من  الساحة الاقتصادية إلى الساحة السياسية كما أراد لها ستالين بعد 1929؟ وللذكرى وأخذ العِبر أتى بعد ذلك تصفية الكولاك كطبقة. وفي لبنان أي طبقة ستهزم؟ أم سيستمر ترنّح الطبقات إلى ما لا نهاية؟ إذا أردنا أن نراهن فالرهان سيكون في النهاية على أن الذي سيحكم المرحلة المقبلة هو ضعف الطبقات جميعها ومن هنا سيتسلل صندوق النقد الدولي.