ماركس ضد سبنسر
نوبل الفيزياء 2024: الاشتراكي الذي أطلق العنان للذكاء الاصطناعي
«أعتقد أن الملكيّة الخاصّة لوسائل الإعلام، ووسائل الحوسبة، ليست جيّدة».
جيفري هينتون
أثار منح جون هوبفيلد وجيفري هينتون جائزة نوبل للفيزياء 2024 الاستغراب لدى البعض من الفيزيائيين، وفي المقابل لا بدّ أنه لقي الارتياح لدى علماء الكمبيوتر والذكاء الاصطناعي. تساءل الفيزيائيون وغيرهم ما علاقة الذكاء الاصطناعي بالفيزياء. أمّا علماء الذكاء الاصطناعي فقد فرحوا ربّما لسببين: الأول، انهم استطاعوا أن يخرقوا الجائزة الأكثر هيبة بين كلّ جوائز نوبل، والتي فاز بها أمثال آينشتاين وبوهر وشرودينجر. والثاني، لأن هذا الخرق أعطى حقلهم المكانة العلمية، وليس التطبيقية فقط، في مفصل تاريخي حقّق فيه الذكاء الاصطناعي خطوات كبيرة، تجلّت مؤخراَ بالنماذج اللغوية الكبرى، وأكثرها شهرة بين عامّة الناس الـ Chat GPt. وفي الوقت نفسه، طرحت هذه الخطوات أسئلة وجودية واجتماعية تتراوح بين تأثيرها مثلاً على البطالة، وصولاً إلى كونها قد تشكّل خطراً وجودياً على الإنسانية. وفي هذا الإطار، يمكن اعتبار جائزة نوبل خرقاً دعائياً للذكاء الاصطناعي لا بأس به.
لكن الحدث أيضاً لم يمر من دون احتمالات جدل من نوع آخر، إذ أن إعطاء جيفري هينتون هذه الجائزة، على الرغم من أن لجنة نوبل تكون بذلك قد أعطتها لأحد أهم العلماء في هذا المجال الذي عُرِف بأنه عرّاب الذكاء الاصطناعي (The Godfather of AI)، فهي أعطتها أيضاً لأحد العلماء المثيرين للجدل في هذا المجال. وقد تبيّن هذا الأمر مباشرة في ردّة فعله بعد تلقيه خبر فوزه بجائزة نوبل، إذ قال إنه فخور بتلميذه السابق في إشارة إلى إيليا ساتسكيفير، الذي كان الرئيس العلمي في شركة OpenAI المصنّعة للـ GPTs، والذي كان أحد الذين قادوا الانقلاب الفاشل في 17 تشرين الثاني/نوفمبر 2023 للإطاحة بسام آلتمان ليعود بعد أيام إلى سدّة الرئاسة. أشاد هينتون بساتسكيفير، ليس لأن تلميذه قد «طرد سام آلتمان» في صراع شخصي أو علمي بحت، بل بسبب آراء هينتون المختلفة بشأن طبيعة الذكاء الاصطناعي ومستقبله، ومن يجب أن يكون لديه السيطرة على هذا المستقبل، ولمن تذهب منافعه، أو الاقتصاد السياسي للذكاء الاصطناعي، فهو أردف «مع الوقت تبيّن أن سام آلتمان مهتم بالأرباح أكثر من السلامة». قبل الغوص في إبعاد إثارة جيفري هينتون للجدل وحتى ندمه جزئياً على الاختراعات التي حقّقها، فلنرى أولاً إذا كان الفيزيائيون وغيرهم الذين تفاجؤوا على حقّ.
نحن أمام مفترق طرق، ستكون للطريق التالية المأخوذة تأثيراً كبيراً على الإنسانية، وأيضاً على ما إذا كان قرار لجنة نوبل صائباً من الناحية العلمية البحتة
هل نماذج الذكاء الاصطناعي فيزياء؟
إذا كان علم الفيزياء هدفه تفسير العالم المادي وقوانينه، فإن الذكاء الاصطناعي بالتأكيد ليس فيزياء، لأن الذكاء الاصطناعي هو اختراع إنساني وليس جزءاً من الطبيعة المادية، كما أنه، حتى الآن، لا يخضع لقوانين عامة، بل أن «قوانينه» مُحدّدة بكيفية بناءه ويختلف باختلاف أنواع هذا الذكاء. وفي هذا الإطار، فإن نماذج الذكاء الاصطناعي السائدة اليوم مبنية على الشبكات العصبية (Neural Networks)، التي ساهم هينتون وهوبفيلد في تطويرها عبر «استخدام أدوات من الفيزياء لاستنباط طرق ساهمت في بناء أسس التعلم الآلي الفعّالة الحالية»، كما ذكرت لجنة نوبل. وتقع هذه النماذج في مجال «الذكاء الاصطناعي التجريبي»، وليس الجيل الأول من الذكاء الاصطناعي الذي بدأ في خمسينيات القرن الماضي، وحاول محاكاة الذكاء الإنساني عبر النماذج الرمزية والمنطقية. اليوم، الذكاء الاصطناعي التجريبي هو النوع الذي بُنيت عليه أكثرية النماذج التي نراها من ChatGPT وغيرها. فمثلاً «نظرية» (أو نموذج) هينتون، التي ذكرتها لجنة نوبل، هي «آلة بولتسمان»، وهي طريقة محدّدة تستخدم مفهوماً محدّداً من أعمال الفيزيائي لودفيغ بولتسمان في القرن التاسع عشر، لإيجاد طريقة للتعلّم في الشبكات العصبية. وعلى الرغم من كلّ الانجازات اللاحقة للذكاء الاصطناعي، والتي ابتدأت فعلياً في السنوات القليلة الماضية، في التعرّف إلى الصور وإنتاجها وإنتاج الفيديوهات والنصوص والبرمجة واكتشاف الأنماط في المعطيات، وحتى التنبؤ ببنية 200 مليون من البروتينات المكتشفة (وهي التي فاز بسببها بجائزة نوبل للكيمياء هذا العام أيضاً عالم الذكاء الاصطناعي ديميس هاسابيس)، إلا أنه يبقى نموذجاً مُحدّداً لا يحمل في طياته نموذجاً أو قانوناً عاماً للذكاء الاصطناعي. وفي هذا الإطار، يعتقد هينتون عكس ذلك، إذ يقول «كان والدي عالم أحياء، لذلك كنت أفكّر من منظور بيولوجي... ومن الواضح أن التفكير الرمزي ليس في صميم الذكاء البيولوجي... يمكن للغربان حلّ الألغاز، وليس لديهم لغة. إنهم لا يفعلون ذلك عن طريق تخزين سلاسل من الرموز والتلاعب بها. إنهم يفعلون ذلك عن طريق تغيير نقاط القوة في الاتصالات بين الخلايا العصبية في أدمغتهم. وبالتالي، يجب أن يكون من الممكن تعلم أشياء معقّدة عن طريق تغيير نقاط القوّة في الاتصالات في شبكة عصبية اصطناعية».
وهنا نحن أمام مفترق طرق، ستكون للطريق التالية المأخوذة تأثيراً كبيراً على الإنسانية، وأيضاً على ما إذا كان قرار لجنة نوبل صائباً من الناحية العلمية البحتة. الطريق الأول هو أن يصل تطوّر الذكاء الاصطناعي إلى حائط مسدود على الرغم من تطور قدراته التجريبية، والتي يأمل البعض أن تحقّق اكتشافات حتى في الفيزياء (مثلاً الاختيار بين الاحتمالات شبه اللامتناهية في النماذج الحالية في نظرية الأوتار بشأن توحيد قوى الطبيعة String Theory - أو حتى استنباط نظرية جديدة)، والتي يمكن أن تحل ما يسميه البعض «أزمة الفيزياء» (للمفارقة) عبر الإجابة على الأسئلة الأساسية بشأن الطبيعة، إلا أنه لن يصل إلى الذكاء العام أو الشبيه أو الأعلى من الذكاء الإنساني، ويبقى كما يسميه البعض «ببغاءً إحصائياَ» يستطيع أن «يتكلّم» ويُكمل الجمل، ولكنه يقلّد ولا «يفهم» ما يقوله أو يختاره أو يستنبطه. فهذا «الفهم» يتطلب إعمال العقل (reasoning) الذي يجزم البعض إن لا إمكانية لهذا الذكاء التجريبي أن يصل إليه. وهذا كله سيعني أن الذكاء الاصطناعي التجريبي ما هو إلا إنجاز هندسي يستخدم، أو استخدم، أدوات فيزيائية، وليس فيزياء. أما الطريق الثاني فهو أن يتحوّل الذكاء الاصطناعي الحالي إلى ذكاء عام شبيه أو أعلى من الذكاء الإنساني، وقد بدأت إرهاصاته مع نموذج o1 Open AI الذي أطلق في أيلول/سبتمبر الماضي، وتدّعي الشركة أن لديه القدرة على إعمال العقل. وإذا كان هذا صحيحاً، قد تكون هذه الخطوة الأولى إلى بلوغ هذا الذكاء العام وصولاً إلى إنتاج فصيلة جديدة كما ذكر هانز مورافيك، وبالتالي يصبح لدى الإنسانية (أو الفصيلة ذاتها إذا قضت على الإنسان) فصيلة جديدة قوانينها عامة، وعندها يصبح الذكاء الاصطناعي العام جزءاً من العالم المادي بحاجة إلى تفسير، وبالتالي تكون نماذج هينتون وهوبفيلد أولى النماذج لهذه «الفيزياء» (أو البيولوجيا!).
هينتون الاشتراكي والاقتصاد السياسي
في أيار/مايو من العام الماضي، قدّم هينتون استقالته من شركة Google لكي يحرّر نفسه من التزامات ارتباطه بالشركة، وبالتالي لكي يستطيع أن يبشِّر بحرّية عن مخاطر الذكاء الاصطناعي. ويعتقد هينتون أن المخاطر حاضرة الآن وليست من الخيال العلمي، لأنه من المعتقدين أن الذكاء الاصطناعي الحالي «يفكّر»، وبالتالي نحن على الطريق نحو الذكاء الاصطناعي العام. وقد دخل هينتون في جدال عنيف مع الذين ينكرون ذلك، خصوصاً مع عالم الإدراك غاري ماركوس. في هذا الإطار، يؤكّد هينتون إن أنظمة الذكاء الاصطناعي الحالية تفهم ولا تتنبأ فقط بالكلمة التالية في الجملة. إن اعتقاد هينتون أن الذكاء الاصطناعي الحالي يفهم، جعله يخاف من هذا الاختراع وصولاً إلى أن جزءاً منه يندم على هذا الاختراع. بالنسبة إلى هينتون فإن هذا الخوف ليس نابعاً فقط من السيناريوهات الأبوكاليبتية التي يخاف منها البعض، ومنها استعباد فصيلة الذكاء الاصطناعي للبشر أو الصراع المالتوسي بينها وبين الإنسان بشأن الموارد وصولاً إلى إبادة الإنسان، على الرغم من أنه يعتقد ذلك أيضاً، إذ أنه حذّر من أن أنظمة الذكاء الاصطناعي قد تقع في أيدي «الجهات الفاعلة السيئة» أو الحكومات لتحقيق هدف معيّن، ويعطي أمثلة على ذلك، منها أن بوتين قد يصنع روبوتات فائقة بهدف «قتل الأوكرانيين»، أو أن أنظمة الذكاء الاصطناعي ستحاول توجيه الطاقة الكهربائية الموجودة في العالم نحو استخدام الطاقة الخاصة بها.
بالنسبة إلى هينتون هذا الخطر ليس معزولاً عن الاقتصاد السياسي، إذ له علاقة اليوم بالرأسمالية نفسها وعلاقات الإنتاج الرأسمالية المسيطرة حالياً. وبالمناسبة ترك هينتون الولايات المتّحدة الأميركية في عام الثمانينيات، حيث كان يعمل في جامعة كارنيغي ميلون، إلى كندا احتجاجاً على الغزو الأميركي لنيكاراغوا عبر أدواتهم الكونترا ضدّ النظام السانديني اليساري الذي أتى إلى السلطة في العام 1979، قائلاً «أكثرية الناس في الجامعة اعتقدوا أنه من المناسب أن تغزو الولايات المتحدة نيكاراغوا. اعتقدوا بطريقة ما أنهم يملكونها». كما اعتبر أن بقاءه في الولايات المتحدة كان يعني أن يقبل أموالاً للأبحاث من إدارة ريغان، وبالتالي فضّل الذهاب إلى كندا على ذلك. في سياق آخر، يقول هينتون «أنا اشتراكي… أعتقد أن الملكية الخاصة لوسائل الإعلام و«وسائل الحوسبة» ليست جيدة، و«إذا نظرت إلى ما تفعله شركة غوغل في سياق النظام الرأسمالي، فسوف تجد أنها تتصرف بمسؤولية كما قد تتوقع. ولكن هذا لا يعني أنها تحاول تعظيم المنفعة لجميع الناس: فهي ملزمة قانوناً بتعظيم المنفعة لمساهميها، وهذا أمر مختلف تماماً». وهنا يمكن استشراف ما يمكن أن يحصل عند الوصول إلى الذكاء العام في ظل سيطرة شركات التقانة الكبرى على «وسائل الحوسبة». وهذا الأمر يحصل اليوم ولا يتطلّب حتى ذكاءً عاماً إذ تكون الرأسمالية قد وصلت بسبب سيطرة شركات التقانة الكبرى إلى التقنية الإقطاعية، بحسب يانيس فاروفاكيس في كتابه «التقنية الإقطاعية: قتل الرأسمالية»، حيث الرأسمال السحابي (Cloud Capital) يُخضع الرأسمال المنتج ويحوّل الطبقة العاملة إلى أقنان في هذا التنظيم الجديد «للرأسمالية» أو بالأحرى ما بعد نهايتها.
اعتقاد هينتون أن الذكاء الاصطناعي الحالي يفهم، جعله يخاف من هذا الاختراع وصولاً إلى أن جزءاً منه يندم على هذا الاختراع
إذاً، إن تطور الذكاء الاصطناعي ليس أمراً علمياً بحتاً، وهو مرتبط بالاقتصاد السياسي. فحتى على مستوى الجائزة نفسها لا يمكننا أن نتجاهل أن قرار لجنة نوبل قد يكون نابعاً من الأهمية الاقتصادية والاجتماعية للذكاء الاصطناعي، كما بسبب الانبهار المجتمعي به، خصوصاً مع بدء مرحلة الـ ChatGPT. ونستطيع هنا ان نُقيم المقارنة مع جائزة نوبل 2021 التي أعطيت لفيزياء النظم المعقّدة (مناصفة مع ديناميات المناخ المعقّدة)، التي تعود بعض جذورها إلى «نظرية الفوضى» التي ابتدأت بشكل أساسي مع نموذج لورنز بشأن دينامية الطقس في الستينيات من القرن العشرين. لم يحصل إدوارد لورنز على الجائزة قبل وفاته في العام 2008، ربما لأنه لم يكن فيزيائياً بالمعنى البحت. لكن في العام 2021، أصبح موضوع المناخ (و«تأثير الفراشة») مهماً سياسياً، وبالتالي يمكن الاستنتاج أن الجائزة أتت متأخّرة وفاتت لورنز.
في النهاية قد تكون أحسنت لجنة نوبل بإعطاء هينتون وهوبفيلد الجائزة، فنماذجهما تعتمد على الفيزياء وقد تكون اللبنات المؤسِّسة للذكاء العام. لكن المستقبل سيكون مرتبطاً ليس بالتطوّر التقني للذكاء الاصطناعي فقط أو إذا كان الذكاء الاصطناعي فعلاً فيزياء أم لا، وإنّما بالعلاقة بين التكنولوجيا والرأسمالية. وقد يكون للذكاء الاصطناعي التأثير الكبير على الإنتاجية والوصول إلى مجتمع الوفرة وتغيير طرق العمل وحتى وصولاً إلى انتفائه، وهو بالتالي قد يكون الأساس التكنولوجي للانتقال الإنساني، كما قال ماركس، «من عالم الحاجة إلى عالم الحرية». وهذا بالنهاية سيعتمد على الاقتصاد السياسي، وإذا ما كانت الرأسمالية ستبقى إلى الأبد أو حتى تتراجع إلى الإقطاعية التقنية، وهنا تكمن الأسئلة الأهم.